المنشور

شفرة «تعليق» تُُعنون أزمات منطقتنا


لماذا يتعين على أزماتنا أن تمتد إلى الأمد الذي تقرر خاتمته مشيئة القوى الدولية الممسكة بمفاتيح حلها؟
سؤال سيتبادر إلى ذهنك لحظة تأملك التفكّري في روتينية صحوك ومنامك على نفس الأخبار ووقائعها التي تقدم وكالات الأنباء وجباتها اليومية لك عبر محطات البث الإذاعي والتلفزيوني ووسائط الإعلام المقروء.
 
أسماء مدن، وأسماء بلدات، وأسماء شوارع، وأسماء جسور، وأسماء منشآت بنى تحتية، من مدارس، ومستشفيات، ومطارات، وموانئ، ومصافٍ، وحفارات نفطية، وسدود، وخزانات مياه، ومخازن غلال، ومحطات تزويد وقود، ومحطات توليد طاقة وغيرها.

وبالموازاة يجري تدوير أسماء أحزاب وأسماء ميليشيات وأسماء شخوص، سرعان ما تذوب وتذوي وتختفي من التداول الإعلامي اليومي الرتيب، تماماً كما تختفي العملات الورقية من التداول العام ما أن تهترئ، فيعمد البنك المركزي إلى سحبها تدريجياً من التداول وإحلال عملة نسخة جديدة مطابقة لها في القيمة محلها. وهو ما ينطبق، على ما يبدو، على تلك الأسماء الدوارة التي يستنسخ الجديد قديمها، أيضاً بعقل فاعل كما هي حال البنك المركزي.

وكي لا يسرح بك الخيال وتشطح بك التوقعات، نسارع للقول بأن ذيوع صيت تلك المدن وتلك البلدات وتلك الحواري والنواحي، وأسماء تلك الأحزاب والميليشيات والأعلام، ليس بسبب مآثر أبدعتها أو فرادة أعمال وإنجازات آسرة للألباب والقلوب، سطَّرتها. كلا، فمأثرتها وفرادتها الوحيدتان أضحت أمكنة للخراب والدمار وسفك الدماء والأعمال الوحشية التي تشكل العنوان الرئيس للحروب الأهلية المندلعة في عديد البقاع العربية، من مصر والسودان والجزائر وتونس والصومال وليبيا في القارة الإفريقية، إلى سوريا والعراق ولبنان واليمن في القارة الآسيوية، إضافة إلى فلسطين (مشروع صدام مؤجل بين حماس وفتح ، وبين حماس وخلايا التنظيمات السلفية التي قويت شوكتها) ، بالإضافة إلى المغرب (الصراع المسلح المعلق مؤقتاً مع جبهة البوليساريو على الصحراء الغربية).

تمر الأيام والأسابيع والشهور وتمضي السنون، ولا شيء يتغير!.. مؤتمرات أصدقاء ومؤتمرات مانحين ومؤتمرات تعقد في الإقليم وفي عواصم ومدن الغرب والشرق، ويتم تعيين مبعوثين خاصين للأمم المتحدة لمتابعة ملف هذه الحروب، ويفشلون أو يتم إفشال مهمّاتهم من قبل أطراف النزاع المسلح المباشرين أو الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة بصورة غير مباشرة في معمعان هذه الحروب، ثم يجري استبدالهم بآخرين يستهلكون جل مدة تكليفهم في إعادة إنتاج ما كان بدأه أسلافهم، في التنقلات بين أطراف ومناطق النزاعات التي تتبادل، بدورها، السيطرة عليها، والتنقلات الخارجية على محاور الفرقاء الإقليميين والدوليين المؤثرين في هذه الأزمات الحربية الأهلية، وإطلاق رشقات من حين لآخر في صورة مبادرات يتكفل الإعلام «المعني» بترويجها لإشاعة أجواء طمأنة تستوعب احتمالات تنبه الرأي العام إلى كارثة تعمد إطالة أمد هذه الحروب على المستوى الإنساني.

ومع ذلك تستمر هذه الحروب والأزمات المرادفة لها تراوح مكانها، بل ويتصاعد زخمها، في مغالبة من أطرافها للإشارة إلى أنه ما زال في جعبتها من خزين الطاقة ما يسعفها على مواصلة مغامرة التدمير الذاتي، غير مكترثة، حتى اللحظة على ما هو بائن، بقانون الطاقة القصوى للتحمل التي ستؤول في نهاية المطاف إلى الاضمحلال بعد أن يهدها التعب وخوار القوى.

لقد أخذ اللبنانيون كل وقتهم الذي استغرقوه في حربهم الأهلية قبل أن تضع أوزارها عقب خمسة عشر عاماً من التطاحن البشع. واحتاج الجزائريون لنفس الفترة الزمنية، أي 15 سنة، لكي يضعوا رسمياً حداً لحربهم الأهلية وإن كان بعض شذراتها ما زال يطفو على السطح من آنٍ لآخر، بسبب استمرار رهان «التحالف المقدس» لمراكز القوى المالية، على إضعاف ومن ثم كسر شوكة الوجهة الاستقلالية للجزائر من حيث سيطرتها على عملية التراكم الأوّلي لرأس المال وإدارتها لمواردها وأصولها الوطنية. واستمرت الحرب الأهلية في السودان بين قوات الحكومة المركزية في الخرطوم وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي حرب بين شمال السودان وجنوبه، زهاء 20 عاماً (من 1985 إلى 2005)، انتهت بقبول الخرطوم مطالب الجنوبيين بالانفصال وإنشاء دولتهم المستقلة.

العراق دشن عملياً حربه الأهلية في إبريل/ نيسان عام 2003 مع بداية حرب الاحتلال الأمريكي للعراق ودخول القوات الأمريكية بغداد في 20 إبريل/ نيسان 2003. وما زالت الحرب تتوفر على مقومات استمرارها وتصاعد وتيرتها. وقد تضرب رقماً قياسياً في طول الفترة التي ستبلغها قبل أن تصل إلى خواتيمها. و«تحتفل» أطراف الحرب الأهلية في سوريا بذكراها الخامسة، وهي لا تزال في «عنفوان شبابها». وهذه، كما الحرب الأهلية في العراق، أمامها مشوار طويل لتقطعه قبل أن تضع أوزارها (آلاتها وأثقالها).

لو ترجمنا هذه الحروب المدمرة إلى أرقام فقط للضحايا من البشر، والممتلكات العامة والخاصة، فضلاً عن تكلفة المعاناة الإنسانية للسكان التي تعجز الأرقام عن رصدها، لأصابنا الدوار. فمن الاستحالة بمكان للعقول السليمة أن تستوعب صدمة هذه الأكلاف المفزعة، التي هي في ذات الوقت، لا قيمة لها بالمطلق لدى الأطراف المتطاحنة. وبالطبع لدى الأطراف الدولية ذات التأثير المباشر في مسار هذه الحروب.

الأطراف الدولية هذه هي بالذات التي أعطت إشارة البدء لاندلاع شرارة هذه الحروب، وهي بالذات من يملك إعطاء إشارة نهايتها، متى ما ضعفت أو زالت عوامل الاستفادة من استمرارها، وذلك وفقاً لحسابات العائد والتكاليف.

أما الآن فهي موضوعة ضمن الملفات المصنفة لدى وزارات خارجية تلك القوى العظمى النافذة، تحت عنوان «ملفات أزمات معلقة» (Pending Crises folders). وحتى لو بادرت قوى إقليمية أو دولية لمحاولة فك عقد استمرار هذه الحروب وحلحلتها بغية وضع نهاية للأضرار الجسيمة التي تتكبدها قطاعات المال والأعمال في البلدان المرتبطة خصوصاً بعلاقات أسواق مع هذه البلدان المنكوبة، فإن محاولاتها ستبوء بالفشل لا محالة إذا لم تنل موافقة القوى الدولية الممسكة «بمفاتيح» هذه الحروب. طبعاً المأساة الإنسانية، لا أحد يتحدث عنها هنا، فهي لا قيمة لها في عرف أباطرة الحروب وسماسرتها.


31/07/2015