المنشور

كلام في البديهيات!!


ها نحن مجددا نقع في أسر الكلام البديهي الذي لا يتوقف عن اعادة تدوير نفسه، وكأننا نمتلك موهبة طرح وتداول البديهيات، وهو أمر يتجلى بكل المستويات والتبريرات والشعارات الفارغة من مضامينها في كل شأن ومجال.. نكررها، نعيدها، نستثمرها، ونحسب ان هذا أحد أوجه الخلل الكثيرة التي لا تنضب في واقعنا، وتخلق مناخات تمسنا في العمق ..!!

هي مشكلة حقاً ان نجد انفسنا مضطرين الى إثبات البديهيات، ومشكلة ايضاً ان يغيب عن فطنة هؤلاء الذين يمعنون ويتمادون في المضي الى اثبات البديهيات انهم يجيزون لأنفسهم الغفلة عن حركة العالم وعدم ادراك ما للوقت من أهمية على واقع الحال ومجريات الأمور، وأسوأ ما في الإنسياق وراء البديهيات انها تعطلنا عن تقدم يفيد، تجعلنا نغرق في الاجترار والمراوحة والتوهان في الكلمات الفضفاضة التي اتقن البعض في طرحها للتلطي وراءها واخفاء عجزهم في الانجازات المطلوبة، ما اكثر البديهيات التي جعلتنا نتعايش مع الأخطاء، ومع الكلام المراوغ الذي يترتب عليه تغييباً للمسؤوليات، او التفافاً على حقائق، او استدراجاً لفخاخ منصوبة، لذلك لم يكن غريباً انه في كثير من الحالات، بل في معظم الحالات من ظهر وهو كمن يداوي كل علة بالكلام في البديهيات، ووجدنا من يتجشم عناء الكلام والشرح في البديهيات من دون ان يتقن التصرف في موارد الزمن وذكاء الناس ..!!

لنتفق أولاً، ان البديهيات هي التي لايمكن النقاش او الجدال فيها، او هي التي لا تستحق الطرح أساساً، او هي التي لا تحتاج الى دليل او تحليل، او هي التي في حكم الروتين لا يمكن الاختلاف عليها، او لا تحتمل ان تكون ملتبسة او حمالة أوجه او موضع صراع من أي نوع بين أصحاب الأدوار او غيرهم ممن لم تنفك النيات الخفية تصطرع بينهم ..!! 

على هذا الأساس ، نقول ان من البديهي – مثال ليس إلا – ان موضوع الحريات لا يقبل القسمة، فإما ان نكون مع الحريات، وإما نكون ضدها، وان كل خطوة تتخذ للتضييق على الحريات هو مشروع مواجهة فى أي بلد كان..، هذا كلام بديهي بقدر ما هو بديهي الكلام عن أحقية الاختلاف، بديهي جداً ان نختلف، وقيل ان الاختلاف نعمة، وبديهي ان يكون هناك مختلفون لا يقبلون او يتقبلون اختلافنا، وبديهي ان هناك في أي مجتمع من لا يسمع الا ما يريد ان يسمعه، ولا يرى الا ما يريد ان يراه ولا يقرأ الا ما يريد ان يقرأه، ولا ينظر الى أي قيمة او معيار مهني لأي شيء الا من زاويته وإلا فالتصنيف والتهمة على الرف.

أيضاً وكمثال آخر، من البديهي القول إن الشخصية العامة ليست محصنة من النقد، بل ان الشخصية العامة أشبه بمنطقة حرة يمكن ان يواجه بكل صور النقد والانتقاد، وعلى من لا يتحمل النقد، ويضيق صدره بكل رأي ان يبتعد عن العمل العام، وطالما انه شخصية عامة فعليه ان يتحمل تبعات هذا المنصب، في الدول المتقدمة الشخصية العامة لا يحميها القانون من اي نقد، بل ان القانون يجعل حماية الشخصية العامة مستحيلة، ليس فقط حفاظاً على حرية الاعلام وحرية التعبير، بل لارتباط ذلك بثقافة المساءلة والمحاسبة وتقييم الأداء ودعم قيم الشفافية، وخلق بيئة تكون فيها المعلومات المتعلقة بالظروف والقرارات والسياسات والاعمال متاحة ومفهومة للرأي العام. واحسب ان هذا يعني اولاً وأخيراً انهم بذلك لا يمارسون ترويض الفشل والإبقاء عليه ..!!

النائب فى البرلمان شخصية عامة وليس محصناً من النقد – ها نحن نعود الى بديهية جديدة لعلها بيت القصيد -، وطالما ان النائب الذي يفترض ان يمثل الشعب شخصية عامة فعليه ان يتحمل تبعات هذا المنصب، بل هو اول من يفترض ان يتقبل النقد ويشجع عليه، واذا كنا نعلم – وهذا موثق ومنشور – بان نواباً في فترة من الفترات اتهموا بعض من انتقدهم بأنهم مزايدون، ولا يقدرون التضحيات التي يقوم بها النواب، كما نعلم ان هناك نواباً اتجهوا لمقاضاة بعض من رأوا بانهم تجاوزوا حدود النقد وحدود العمل والأداء الى التطاول والشتم والسب والشخصنة، وما يمس العوائل والزوجات والبنات بالتجريح والخوض في الأعراض وقبيح الكلام وكل ما يدل عن عفونة نفوس وعقول وأحلام مريضة، ويدخل في حيز المخالفات القانونية، وهو كلام لايمكن قبوله بأي حال ولا يمكن ان يصنف في دائرة النقد، الا ان هذا لا ينبغي ان يكون مبرراً لأمانة مجلس النواب او اي جهة كانت بان تتحول الى فزاعة لكل من يتناول مجلس النواب او أعضاءه في الصحافة المحلية، والتأكيد لنا دوماً بان نواب الشعب يؤدون دورهم بكل امانة ووطنية ومسؤولية غير قابلة للتشكيك ..!!، وكأن ثمة محاولة للإيحاء تعطي معنى يقول، بات واجباً عليكم التوقف عن انتقاد النواب حتى وان كان في حدود النقد المباح، بذريعة ان أداء النواب غير قابل للطعن والتشكيك ..!!، أليس الحكم على اداء النواب من حق الناس، فهم الرقباء على أداء نوابهم، وهم ليسوا بحاجة الى من يحدد سيرهم حين يبدون النقد او الرأي فيهم كممارسة ديمقراطية يفترض ان تتعزز. 

لابد من مراجعات، ولابد من تجاوز ثقافة البديهيات.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن مستعدون لذلك ..؟ !! 


 
حرر في 11 أغسطس 2015