المنشور

الفساد حين يكون محنة شعوب ..!!


نستأنف الحديث عن «الفساد» فهذا الذي يجري في بعض البلدان، وتحديداً في العراق، واكرانيا، والبرازيل، يستحق التوقف ويقتضي انتباهاً وتركيزاً لعلنا نفهم ما بات يجوز الطموح اليه من مواجهات صريحة وكلام جدي في معرض الحديث عن هذا الملف، لأن اي كلام عن إصلاح او تجديد او تطوير او تحديث او ديمقراطية لن يكون له معنى او اعتبار، طالما ظل الفساد  يطل برأسه في واقع اي مجتمع، وبقي الفاسدون يتسابقون يميناً ويساراً على حنفيات المال الخفي، ويجرون وراء عمولات وامتيازات ومنافع شخصية ومقاعد ومناصب، يغتالون القيم ويضربون المعايير ويغيبون المبادئ، ويضعون الأخلاق في قفص اتهام، ويكبلون إمكانيات الفعل البناء الحقيقي ويجعلونه سلعة في سوقهم السوداء ..!!
 
من الحواري، الى الشوارع، الى الميادين الصغيرة، ثم الكبيرة خرج المواطنون في تلك البلدان يهتفون ضد الفساد، يحملون لافتات لا لسرقة اموال الشعب والوطن، داعين الى محاسبة الفاسدين مهما كان شأنهم، وحجمهم  ومقامهم، ونفوذهم، وسيرتهم، ومن كانوا محنكين باستغلال المناصب، او مدججين بالتسلط وقدرتهم على جعل  الدولة مجرد مطية، وجعلوا الفساد في كل مكان، في الفكر والتطبيق، في الهدف والأسلوب وفي السياسة والمنطق، والضمير، في أساس البناء، في المقاول والمتعهد، في الحكومة والنظام والدولة، ولهذا كان لابد من حالة استنفار، فقد ضج الناس من الفساد وسوء الادارة الحكومية، طالبوا بمحاربة فعلية للفساد والفاسدين وعدم جعل هذا مجرد طقس يضاف الى الطقوس التي تقزم او تميع او تضيع هدف محاربة الفساد الذي يجعل الأوطان والشعوب تعاني، مما لا يحتاج الى معرفة او تعريف ..!!
 
فى العراق الشقيق، انفجر الشارع العراقي، استشعر أبناءه بان الفساد يكاد ان يجعلهم عصفاً مأكولاً، سئموا تمادي الفاسدين، ضجوا من التهاون والتواطئ واللامبالاة بالمسؤولية، فاض بهم الكيل، خرجوا في مظاهرات عارمة في مناطق شتى أعلنوها صرخة مدوية بوجه سياسيين وسراق المال العام ومنهم من فعلوا ذلك تحت عباءة الدين، لذلك لم يكن مستغرباً ان يحمل البعض لافتات «باسم الدين باكونة الحرامية» .. نددوا بكل مظاهر الفساد الفجة، بكل هذا التدني فى الخدمات جراء الفساد، أصروا على حقهم في محاسبة المقصرين والمخطئين ومن يتستر عليهم ومن ينتمي اليهم، وكل من جر البلاد والشعب الى الويلات من وزراء ونواب ورؤساء أحزاب ومحافظين وأعضاء مجالس محافظات، ومن وزعوا المناصب كحزمة محاصصات حزبية او فئوية او طائفية بائسة وقبيحة، واهتموا بالولاءات وأبعدوا الكفاءات، وسيسوا القضاء ومسوا استقلاليته. وأعاقوا تكريس مبدأ العدالة بين المواطنين، أليست هذه هي المطالب المعلنة التي أدت الى ما سمي بالانقلاب الأبيض لرئيس الوزراء العراقي حين تجرأ واعلن عن إصلاحات لافتة أقرها مجلس النواب. 
 
ربما من المناسب ان نلتفت الى قائمة أغنى 17 شخصية سياسية في العراق الذي نشرته مؤخراً جي بي سي نيوز، وكيف ان كل واحد من هؤلاء امتلك عشرات المليارات من الدولارات نقداً، وأموال غير منقولة على شكل سندات وعقارات داخل وخارج العراق، ومزارع ومعامل وفنادق وقصور، وخيول عربية واستثمارات في شركات نفطية، وهو الأمر الذى آثار العشرات من التساؤلات المشروعة التي تفرض نفسها، والتي لا تخفى على ذوي الألباب والفطنة، ولعل ذلك احد اهم الأسباب التي جعلت جموع العراقيين بكل أطيافهم يخرجون رافضين النهب دون رقيب، استمرار منطق العشيرة والقبيلة والطائفة، وهو المنطق الذي رأوه بانه أدى الى الانغماس في مشاريع الفساد والتعايش معه ، والتي تجلت في التهم بالمحسوبية، سوء الخدمات والسرقة لكل من واتته الفرصة من حيث لا يحتسب.
 
ذلك حدث ويحدث في العراق، والنتيجة اجراءات اعلن عنها بدءاً من تقليص المناصب ، وفتح الملفات بصورة جدية غير مسبوقة – هذا ما قيل – ما يعطي بارقة أمل بوجود إصلاح – هذا ما قيل أيضاً – ولكن أسوأ وأخطر ما في المشهد العراقي هو ظهور من هم أطراف في معادلة الفساد بمظهر المصلحين والمطالبين بالإصلاح، والمدافعين عن مصالح الشعب، وجعلوا محاربة الفساد مجرد ظاهرة صوتية ..!!
 
نأتي الى أوكرانيا ، التي هي سباقة بالثورات والابتكارات، فقد اقدم الشعب الأوكراني على سلوك لم يسبقهم إليه أي شعب في العالم، فبعد ان طفح بهم كيل الفاسدين، وانتشرت مظاهر الفساد والرشوة في بلادهم ووصلت الى مناحٍ شتى في مسار حياتهم، ومعيشتهم واعمالهم، وبعد ان بات المسؤولون الفاسدون معروفين جيداً عندهم، قاموا بجمع المسؤولين الفاسدين ولصوص المال العام وقاموا بإلقائهم في صناديق القمامة وتصويرهم بالصوت والصورة ونشروها عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، باعثين رسالة لها معنى ومغزى، من لا تطله يد القانون من الفاسدين فان صندوق الزبالة فى انتظاره ..!!
 
أما في البرازيل، فقد كان لافتاً ذلك الخبر الذي نشر مؤخراً ومفاده ان سكان بلدة «ماطا غراندي» بولاية دي لاكوس البرازيلية استاءوا من الحكم القضائي الذي برأ مستشارا برلمانيا من تهمة اختلاس المال العام، فقرروا القصاص منه بطريقتهم، حيث عمدوا الى ربطه بعمود كهرباء وسط البلدة، بواسطة حبال قوية حتى يكون عبرة لمن يعتبر ..!! واعلن هناك بان الناس تعبت من هذا التهريج، واذا استمر الحال على ما هو عليه، واستمر الفاسدون في السرقة فسيلزم المزيد من أعمدة النور في المدينة ..!! ذلك أمر قد يؤذن بانه لن يكون امام الفاسدين في هذا البلد او ذاك ممن تفوح رائحتهم الا أكوام الزبالة وأعمدة الكهرباء ..!!   
 
الفساد محنة بلدان، يؤخر مجتمعاتها، ويشكل أخطر التحديات التي تواجهها، ويعيق نمو اقتصادها، ونحن لسنا بمنأى عنه، يكفي التمعن في حيثيات تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية، المؤسف حقاً اننا لازلنا نتعاطى مع كل التجاوزات الفجة التي تكشفها هذه التقارير على انها مجرد ملاحظات ستخضع للدراسة، والمؤسف أيضاً أن أي حديث يفرض عن نفسه عن أي فساد هنا أو هناك لا يتطرق او لا يشير بأصابع اتهام الى فاسدين ..!! فهل نجعل محاربة الفساد على رأس الأولويات .. ليس أمامنا إلا أن نظن خيراً بالآتي من الأيام ..
 


حرر في 18 أغسطس 2015