المنشور

مآل الهبة الشبابية الفلسطينية


لم يضرب شباب القدس وشباب الضفة الغربية موعداً محدداً لانطلاق حركتهم الاحتجاجية ضد جور وطغيان الاحتلال «الإسرائيلي»، على نحو ما فعله شباب «الربيع العربي» مطلع عام 2011. فلقد تحرك المقدسيون من تلقاء أنفسهم بعد أن فاض بهم كيل السخط والغضب الساطع على المحتل الذي لم يعدم وسيلة لاضطهادهم عنصرياً وإذلالهم وتطفيشهم بتسليط قطعان المستوطنين عليهم من آن لآخر بقصد إنهاء ما تبقى لهم من وجود داخل الجزء الشرقي من مدينتهم الذي تحتله «إسرائيل» منذ 7 يونيو/حزيران عام 1967 لإلحاقه بقسمها الغربي الذي احتلته في عام 1948، رغماً عن صدور قرار من مجلس الأمن الدولي في عام 1967 تحت رقم 242 قضى بوجوب انسحاب القوات «الإسرائيلية» من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في حرب 1967، والذي لم يجد طريقه للتنفيذ «بفضل» الاعتراض الأمريكي!
الآن، وفيما يشغل المحللون و«المراقبون» أنفسهم بالانخراط في جدل حول ما إذا كانت هذه الهبة الفلسطينية التي عمّت كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك أراضي فلسطين التاريخية، ستستمر وتتطور إلى انتفاضة ثالثة أم أن مصيرها سيكون مصير هبات «الربيع العربي» التي انطفأت جذوتها بصورة كلية، مخلفة وراءها فوضى عارمة طاولت تقريباً كافة أرجاء المعمورة العربية – فيما يندلع هذا الجدل، يواصل الشباب الفلسطيني في كافة أرجاء فلسطين، انتفاضتهم ضد المحتل وممارساته العنصرية بنفس الزخم وبنطاق جغرافي أوسع ومشاركة جماهيرية أكبر.

«إسرائيل» التي أخرجت كل مخزون جبروتها وطغيانها وغطرستها، تبدو مفزوعة من هذه الموجة المتصاعدة من الغضب الفلسطيني.. حكومتها منخرطة في اجتماعات استثنائية الواحد تلو الآخر. وفي كل واحد منها يأمر رئيسها نتنياهو بمزيد من القمع الفاشستي الذي يتجاوز هدم منازل الفلسطينيين من دون السماح لهم بأخذ ولو ما يسترهم في العراء من أساسيات حاجياتهم قبل عملية هدمها.. إلى الترخيص بإطلاق الرصاص الحي على الصبية رماة الحجارة.. إلى فتح جبهة حرب جديدة ضد العرب الفلسطينيين سكان ال48.. وصولاً، وليس انتهاءً، إلى ابتزاز رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس وإرهابه، وذلك باتهامه بأنه يقود التحريض والتشهير ضد «إسرائيل». وذلك من أجل الضغط عليه ودفعه لاتخاذ إجراءات تطفىء لهيب الانتفاضة، رغم كل ما يبذله من جهود للتهدئة بشهادة جهاز الأمن العام (الشاباك) في جلسة الحكومة الأسبوعية الأحد 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، التي كشف موقع «واللا» الإخباري «الإسرائيلي» بعدها أن (الشاباك) أطلع الوزراء على التقديرات والمعلومات الاستخبارية الأخيرة حول الوضع في القدس والضفة، والتي أشارت إلى أن «رئيس السلطة، أبو مازن، يعمل ضد الإرهاب»، وأن هناك مسؤولين في حركة فتح وفي السلطة يعملون ضد «إسرائيل»، لكن أبو مازن نفسه يرفض الإرهاب وأمر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالعمل على إنهاء العنف، وأن معظم الناشطين والعمليات التي سجلت في اليومين الماضيين، جاءت بقرارات شخصية من أفراد قرروا هم تنفيذها، ولم تكن مدفوعة من قبل تنظيمات».

ولأنها مفزوعة ومضطربة، فإن «إسرائيل» مرشحة للولوغ في حماقات تزيد الطين بلة وتحرج حماتها الأمريكيين والأوروبيين الغربيين. لذا فقد سارع «الرعاة الرسميون» لإعادة حقن الفلسطينيين والعرب بمخدر الوهم الذي ظلوا يحقنونهم به على مدار 67 عاماً من خلال إحياء اللجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والتي كانت قد تأسست في عام 2002 بهدف القيام بدور الوساطة في عملية السلام على المسار «الإسرائيلي»- الفلسطيني. وهو دور غير مفعل في ظل انفراد واشنطن بملف قضية الشعب الفلسطيني، حتى إن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي تم تعيينه كمبعوث خاص لهذه اللجنة في يونيو/حزيران 2007 وأوكلت إليه مهمة تنظيم المساعدة الدولية للفلسطينيين والإشراف على المبادرات الرامية إلى دعم الاقتصاد والمؤسسات الفلسطينية تمهيداً لقيام الدولة الفلسطينية، استقال من منصبه في شهر مايو/أيار الماضي. ومع ذلك فقد ألغت اللجنة زيارتها إلى «إسرائيل» والضفة الغربية التي كانت مقررة الأربعاء 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وذلك بطلب من «إسرائيل»، والولايات المتحدة بطبيعة الحال، رغم أن الزيارة كانت على مستوى المندوبين لكل من أعضاء اللجنة الأربعة وبهدف محدد وهو إطفاء حريق الانتفاضة. وكما جرت العادة في كل عدوان تشنه «إسرائيل» ضد العرب والفلسطينيين، تفضل واشنطن إطلاق يد «إسرائيل» الإجرامية لتبطش وتخلق وقائع ميزان قوى على الأرض، بالتوازي مع إطلاقها وعود بتحرك دبلوماسي لحل «الإشكال» على نحو وعدها بإرسال وزير خارجيتها جون كيري الى المنطقة من دون تحديد موعد زمني للزيارة. هو الآخر سوف يأتي – إذا ما أتى أصلاً – ليقوم بدور الإطفائي لاحتواء ثورة الفلسطينيين على الاحتلال الذي ترعاه واشنطن إذا ما تبين احتمال غرق «إسرائيل» ورئيس حكومتها نتنياهو في ورطة محاولته تغيير الواقع الديني للمسجد الأقصى.

من هذه الزاوية يمكن القول إن استمرار وتصاعد زخم الانتفاضة الشبابية الفلسطينية الشاملة، مضمون ومؤمن وقوده «بفضل» فيض جنون نتنياهو وحكومته. وأنه رغم هذا الجنون القمعي المتصاعد الذي يواجه به نتنياهو هذه الانتفاضة الجديدة، إلا أنه وحكومته مرعوبان من مجاهل تطوراتها، وذلك برسم رسائله المستعجلة التي قيل إنه أرسلها عبر وسيط ثالث إلى رام الله وغزة، ومفادها أن «إسرائيل» غير معنية بتصعيد أمني مع القطاع تحديداً، إضافة إلى إعادة عرض الوعود المعسولة على رام الله بتقديم «تسهيلات» اقتصادية للفلسطينيين في سياق سياسة العدو المتعلقة بالسلام الاقتصادي مقابل الحفاظ على الهدوء في الضفة، وتشمل مجموعة من المشاريع مثل تشغيل خدمة ال 3G لشركات الاتصالات في الضفة الغربية، وكذلك الموافقة المبدئية على تشغيل ال2G في غزة، وتفعيل محطة الغاز في جنين، وتوقيع مذكرة تفاهم مشتركة حول إيصال الغاز الصناعي من خلال أنبوب إلى قطاع غزة، وبناء مدينة جديدة في الضفة (روابي)، والموافقة على إنشاء مدينتين جديدتين في شمالي الضفة، وغيرها من المشاريع الخدمية التي تنتهي عادة بلهاث الناس وراء لقمة العيش ورغدها ولو بالغرق في دوامة قروضها وأثقالها الطاردة للمزاج المقاوم.

بهذا المعنى فإن الخطر على هذا الحراك يأتي أولاً من مزيج القمع الهمجي المشدد والكيد «الإسرائيليين»، ويأتي ثانياً من حجم الضغوط الدولية والإقليمية التي بدأت تمارس على السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها أبو مازن، ويأتي ثالثاً من اعتماد الشباب الفلسطيني على خزين حماستهم لتغذية استمرارية حراكهم، على غرار شباب «الربيع العربي»، من دون أن تتوفر لهم قيادة مسؤولة وقارئة جيدة لميزان القوى وفرص إحداث تغيير فيه، فضلاً عن توفرها على رؤية واضحة لما هي تستهدفه في برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى.
 


حرر في 23/10/2015