المنشور

كارهو الذاكرة


قارئو تاريخ أوروبا الحديث يعرفون قصة الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن العشرين، يوم قاتل الجمهوريون مدعومين من أحرار أوروبا الذين ذهبوا للذود عن إسبانيا الحرة ضد فاشية فرانكو. لم يكلل كفاح الجمهوريين الإسبان ومناصريهم بالنصر. لقد أمكن للفاشية يومها أن تئد الجمهورية الوليدة، وانتصر فرانكو الذي مهَّد بنصره لصعود الهتلرية في ألمانيا وغزوها لأوروبا.
 
يذكر المؤرخون أن أحد أسباب هزيمة الجمهوريين الإسبان هو أن فرانكو اتخذ من المتاحف والأبنية الأثرية درعاً، ولم يكن لدى الثوار استعداد لقصف تاريخهم ومستقبلهم. لقد آثروا الإبقاء على هذه المتاحف والأبنية حية خالدة، أما الفاشية فليس من عادتها أن تقيم اعتباراً كبيراً لهذه الأمور.
 
قريباً من هذا تبدو أجواء مسرحية ألفها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي في روما عام 1956، ويصف فيها ليلة في مدريد المحاصرة، حيث أخفى مناضلو الجيش الجمهوري لوحات برادو الثمينة في متحف عميق تحت الأرض خوفاً عليها من قنابل وقاذفات الفاشيين. ويُقال إن ألبرتي نفسه وزوجته كانا من ضمن من شاركوا في عملية إنقاذ هذه التحف.

وقد ذهب خيال الشاعر بعيداً وهو يكتب مسرحيته، حين تخيل شخصيات اللوحات تخرج من الإطار لتشارك في الحرب، دفاعاً عن حرية إسبانيا. ومن ضمن هذه الشخصيات الإسبان الذين حاربوا ضد جيوش نابليون الذين رسمهم غويه عام 1908 يتوجهون نحو السلاح ويقيمون المتاريس لحماية المدينة من جحافل فرانكو المدججة بالأسلحة.

سيعطي التاريخ فيما بعد أمثلة حية على أن قوى الحرب المعادية للحضارة الإنسانية مجردة من أي حساسية تجاه التاريخ ورموزه، ومن هذه الأمثلة قيام قوات التحالف في حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات الماضية بقصف الجسور المعلقة في بغداد، ومن بينها جسر الشهداء الذي يعرف بالجسر القديم، وهو من أجمل جسور المدينة وفي اتجاه واحد، لأنه لا يحتمل عبور السيارات في اتجاهين. 

هذا الجسر بالذات دخل في الحيز المضيء من الذاكرتين العراقية والعربية، فعليه سقط شهداء انتفاضة 1947 الذين قدموا حياتهم فداء لاستقلال العراق وحريته، وبينهم كان جعفر الجواهري شقيق شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي خلد ذكرى شقيقه في المرثية الشهيرة.

سيتكرر المشهد ذاته لحظة وقف الجنود الأمريكان يتفرجون، باسمين، على الرعاع وتجار الآثار وهم ينهبون مقتنيات المتحف الوطني العائدة لآلاف السنين، فيما كانت دباباتهم تطوق وزارتي النفط والمالية مانعة الاقتراب منهما.


 
17/12/2015