المنشور

ورطة تركيا

   لم تدم فرحة جماعة الاخوان المسلمين الحاكمة في تركيا
بوصول فروعها في تونس ومصر وليبيا الى قمة السلطة فيها، طويلا. فسرعان ما غادروها
بنفس السرعة التي وصلوا اليها، ليتبخر الحلم الامبراطوري العثماني المتجدد الذي
أسكر حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان لحد التوهان في وهم استعادة
المجد العثماني التليد، وعماده الباب العالي في اسطنبول وولاته في الأمصار بحاكمية
المماليك الجدد أحزاب الاخوان المسلمين في هذه الأمصار، لاسيما ولاية مصر أكبر
تابعيات الدولة العثمانية في المشرق والمغرب العربيين.


     لا جدال في مكر ودهاء قيادات وزعماء جماعة الاخوان
المسلمين في العالم. فبفضل هذه الخصال التي استعاروها، على ما يبدو، من “طقوس”
وتقاليد عمل وتنظيم وإدارة المحافل الماسونية، في طريقة التغلغل وممارسة التأثير
والسيطرة والاستحواذ الهادىء والمتدرج غير اللافت للنظر أو غير المحسوس – بفضل هذه
المقاربة، استطاعت السيطرة  على قطاعات
واسعة من الجمهور، خصوصا جمهور الدهماء المعوز. وتراءى لها، وهي في ذروة نشوة
“انتصاراتها” الشرق أوسطية، أن تنظيمها العالمي، صار يقترب أكثر فأكثر
من بلوغ مراده الأممي بعد النجاح في غزو كبريات المدن الأوروبية والأمريكية مؤسسيا
وتنظيميا وماليا.


     ولكن كل شيء انهار في لمح البصر أمام أعين التنظيم
الأممي للإخوان وأمام فارس الأممية الإخوانية 
وحصانها الأسود رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم في تركيا. لقد تقمص الرئيس
التركي دور المقامر الجسور الواثق من قدرات وامكانيات بلاده في الكسب على مائدة
القمار الغاوية بجاذبية مغانمها. فكان أن راهن ومجموعته الحاكمة بالكثير من أجل
الفوز بكل شيء خيلت له نفسه الظفر به. فبادرا منذ البدء لفتح حدود بلادهما أمام
السوريين للفرار اليها كمناطق آمنة منذ اللحظة الأولى لإشعال فتيل الأزمة السورية.
وأتبعا هذه الخطة بأخرى أكثر جسارة، أو مقامرة إن شئتم، وذلك بتحويل تركيا الى
حصان طرواده للتمرد المسلح في سوريا. فقد كرت السبحة، إذ أخذت تركيا على عاتقها
تحويل مدنها الجنوبية الى جبهة خلفية وخطوط إمداد نشطة للجماعات السورية المسلحة لتمكينها
من اسقاط  النظام السوري.


     في الأثناء قامت تركيا، أو بالأحرى حزب العدالة والتنمية
الحاكم بعمل بهلواني، بأخذ انعطافة براغماتية باتجاه الأكراد هدفها المعلن التصالح
معهم وهدفها المضمر تحييدهم في العملية الكبرى (المقامرة) التي انخرط فيها. ولأن
“انعطافته الودية” المفاجئة هذه لم تكن مبدئية وإنما أملتها حسابات
سياسية وانتخابية..أيضا، ولأن نزعة الأكراد نحو الاستقلال هي اليوم في أوج
عنفوانها، ناهيك عن كون القضية الكردية، ورقة اقليمية ودولية، فكان لابد أن يُمنى
الثنائي أردوغان-أوغلو بالفشل في هذا التكتيك، حيث اشتعلت الحرب من جديد بزخم أكبر
بين الأكراد وقوات الجيش التركي.


     اليوم تجد تركيا نفسها في ورطة حقيقية. فهي من جهة تواجه
خطر تحول “مظلة” رعايتها للمجموعات المسلحة التي تضم خليطا من حملة
السلاح السوريين وغير السوريين ذوي الانتماءات “الجهادية” المختلفة، الى
حاضنة وقاعدة انطلاق لعمليات ارهابية موجهة بصورة مباشرة ضد الدولة التركية
ومصالحها ورعاياها، انتقاما منها لإدارة ظهرها لهم حين تضع اللعبة الدولية
والاقليمية “أوزارها”. ومن جهة ثانية، هي تواجه  سيل النازحين السوريين الى أراضيها الذين يقدر
عددهم بأكثر من مليوني نازح يتوزعون على الولايات التركية لاسيما الجنوبية منها،
فيما أكدت دراسة مشتركة أعدها اتحاد جمعيات أصحاب الأعمال (TİSK) التركي ومركز أبحاث
السياسات والهجرة في جامعة هاجيتيبه (HÜGO) في ديسمبر الماضي بأن عدد اللاجئين السوريين في
تركيا قد يتجاوز 3 ملايين لاجئ في المستقبل القريب، مردفةً بأن ” أكثر من 300
ألف عامل سوري يعملون دون تسجيل وبالتالي دون ضمان اجتماعي، وان تكلفة استضافة
اللاجئين على الحكومة التركية بلغت 7,6 مليار دولار، تحملت تركيا 95 بالمئة منها،
في وقت تحول فيه الرأي العام التركي نحو السلبية تجاه عمل اللاجئين السوريين في
بلادهم، مع وصول نسبة البطالة في تركيا إلى 10.1% بالمئة.


     وهي تواجه اليوم أيضا موجة نزوح جماعي لسكان المناطق
السورية المحاذية لحدودها، لاسيما حلب، على وقع تقدم القوات السورية النظامية
المدعومة بغطاء جوي روسي كثيف، فتحاول احتجازهم داخل الشريط الحدودي لبلادهم
ومنعهم من العبور الى داخل الأراضي التركية. فهي تبغي احتجازهم في بقعة ستعتبرها
المنطقة الآمنة التي طالما هددت وطالبت بإقامتها. ولكن ذلك أغضب أوروبا التي راحت
تضغط على الحكومة التركية عبر المناشدات العلنية والتقريع عبر قنوات الاتصال
الدبلوماسية على سلوكها هذا الذي اعتبرته أوروبا انتهاكا لاتفاقيات جنيف وميثاق
حقوق الانسان. وقد تفاقمت ورطة تركيا بعد اسقاطها لطائرة سوخوي 24 الروسية
الثلاثاء 24 نوفمبر الماضي، حيث قررت روسيا انهاء مخلب القط التركي الذي مثلته
مناطق الشمال السورية المحاذية للحدود التركية، لاسيما مدينتا حلب واللاذقية، مرة
والى الأبد

 في مقال سابق حمل عنوان “هل تقتفي تركيا أثر
باكستان”، ذكرنا أن تركيا تقامر بالضبط كما قامرت من قبلها باكستان حين وافق
جنرالها الراحل ضياء الحق على تخصيص أراضي في بلاده ومنها ما هو محاذٍ لأفغانستان
لإقامة معسكرات للجهاديين لمقاتلة واخراج القوات السوفييتية التي اجتاحت واحتلت
أفغانستان في عام 1979، مقابل تدفق “خيرات” المساعدات المالية والعينية
على بلاده وعلى اقتصادها الضعيف البنية. فكان أن انتهى الأمر على النحو الذي نعرفه
اليوم عن باكستان التي كانت تسمى يوما أرض الطهور فإذا هي اليوم غابة موحشة أهلها
وعمرانها مهددان بالقتل والدمار على مدار الساعة من قبل أولئك القوم الذين
استأمنتهم يوما مؤسسة الحكم الباكستانية الفاسدة وأفردت لهم مساحات ومكانة خاصة في
حياة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي سياساتها الداخلية والخارجية،
إلى اللحظة التي انقلب فيها السحر على الساحر. تدور الدوائر وتقتفي تركيا أثر
باكستان. فمقابل العطايا التي عوّلت عليها تعويضا عن الخسائر الكبيرة التي تكبدها
اقتصاد بلاده جراء خسارته لأسواق ليبيا ومصر وسوريا – سمح اردوغان وحزبه الحاكم
للإئتلاف الدولي المصمم على اسقاط النظام في سوريا، بفتح الأراضي التركية، لاسيما
الحدودية مع سوريا، لإقامة مخيمات للاجئين ومعسكرات تدريب وتجهيز المقاتلين،
واستقبال وتسهيل مرور عشرات الآلاف منهم عبر أراضيها باتجاه الأراضي السورية
للمشاركة في الحرب ضد النظام. فكان أن تحولت مدن الجنوب التركي الى محطات ترانزيت،
على غرار بيشاور الباكستانية، لإيواء مقاتلين من مختلف الجنسيات وأغلبهم ينتمون
الى تنظيم القاعدة وتفريعاته الاقليمية. هذه هي الورطة الكبرى التي أوقعت تركيا
نفسها فيها. وهي أسست، بمقامرتها سالفة الذكر، لحاضنة ارهابية، على غرار ما فعلته
باكستان-ضياء الحق، لن تستطيع الفكاك من براثنها على مدى سنوات طويلة.