المنشور

دماء في بروكسل

إراقة دماء البشر، خاصة حين يكونون مدنيين أبرياء، جريمة بالمعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية وما إليها، بصرف النظر عن جنسية وقومية ودين الضحايا الذين يتحولون في ومضة عين إلى أشلاء ممزقة بفعل تفجير إجرامي يقدم عليه انتحاري موتور جرى إيهامه بأن جريمته تلك ستأخذه إلى أحضان الحور العين.


ومن حيث الغاية والجوهر لا يختلف تفجير انتحاري في مطار أو محطة قطار في أية عاصمة أوروبية، كما حصل مؤخراً في بروكسل وقبلها في إسطنبول وباريس، عن أي تفجير مماثل وسط أسواق أو مساجد بغداد أو حلب أو غيرهما.


المنهج واحد، والأسلوب واحد، والغاية واحدة، لكن ثمة فارقاً في مستويات الإرهاب، فما جرى في عواصم ومدن أوروبية، على فظاعته، وعلى إدانتنا القاطعة له، لا يقارن بما تشهده بلدان عربية مثل العراق وسوريا وليبيا وسواها من ممارسات إرهابية أسقطت دولاً وخربت مدناً وبلدات، وشردت الملايين، وقتلت مئات آلاف القتلى، وأضعافهم من المصابين والجرحى والمشردين بلا مأوى.


بشيء من الحذر، نقول إن الغرب، في أمريكا وأوروبا، حكمته نظرة لا مبالاة بما يجتاح بلداناً عربية مفصلية من دمار وقتل وفوضى، لا بل إنه كان، وفي حالات كثيرة، سبباً رئيسياً فيما يجري. 


كيف لنا إزاء المشهد الدامي في العراق اليوم أن ننسى أن بداية الفوضى العارمة كانت في الاحتلال الأمريكي – الأطلسي لأراضيه، وحل جيشه الوطني، وتفكيك مؤسسات الدولة، ليتحول البلد إلى غابات تصول وتجول فيها الميليشيات المذهبية على تلاوينها؟


وكيف لنا أن ننسى أن «سيناريو» مشابهاً جرى في ليبيا حين دكت القاذفات الأطلسية طرابلس والمدن الليبية الأخرى، وأسقطت السلطة المركزية في البلد، ليتحول، هو الآخر، إلى غابة صراعات دامية بين زعماء القبائل والجهات.


وشيء مثل هذا، مع اختلاف في التفاصيل، يمكن أن يقال عن سوريا، ما شكل البيئة المثالية لاستشراء نفوذ الجماعات التكفيرية، التي سيكشف الزمن، آجلاً أم عاجلاً، بالأدلة والوثائق، دور أجهزة الاستخبارات الخارجية في تمكينها، إن لم يكن في صنعها.


ظنَ صناع الإرهاب أو المحكومون بنظرة اللامبالاة تجاهه، أنه ظاهرة محض عربية – إسلامية محصورة في فعلها ونتائجها في الجغرافيا البعيدة عنهم، لكن لعبة بهذا الحجم، هي أشبه ما تكون بإخراج ساحر من قمقمه، فلا يعود بالوسع إعادته إليه ثانية، ولا احتواء ما يفعله.


دماء بروكسل برهان جديد، وليس الوحيد، على أن ما من أحد بمنجاة من هذا الجنون، إلا بقطع رأس الأفعى، لا الاكتفاء بذيلها، الذي يعود للنمو كلما قُطع.