المنشور

انفجار وانفلاش «داعش»

لم يكد
الأردن يعلن يوم الأربعاء 2 مارس/ آذار 2016 عن إحباط مخطط إرهابي كبير
حاولت خلايا نائمة تابعة لتنظيم «داعش» الإرهابي، تنفيذه في عدد من المواقع
المدنية والعسكرية المختارة، حيث نجحت أجهزة الأمن الأردنية في تنفيذ أكبر
عملية أمنية منذ سنوات استمرت من مساء يوم الثلاثاء حتى فجر الأربعاء في
مدينة إربد بشمال البلاد المحاذية للحدود السورية، تمكنت خلالها من قتل 7
من أفراد الخلية ومصادرة كمية من الأسلحة والمتفجرات والأحزمة الناسفة كانت
معدة للاستخدام – حتى أعلنت الحكومة التونسية عن قيام تنظيم «داعش» بعملية
غزو إرهابية كبرى في مدينة بن قردان الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي
المحاذي لليبيا، حاولت عناصره التي اقتحمت المدينة بسيارات رباعية الدفع
وبكامل عتادها واستعراضاتها الإرهابية المعروفة، فجر يوم الاثنين 7
مارس/آذار الجاري، احتلال مقار حكومية وأمنية وعسكرية بينها قاعدة للجيش
التونسي ومركز الشرطة في المدينة. وقد منيت العملية بالفشل الذريع، حيث
نجحت قوات الجيش والأمن التونسية في القضاء على جميع الإرهابيين ومطاردة
الفارين منهم على مدار الأيام التي تلت العملية، حتى ارتفع عدد القتلى في
صفوفهم حتى اليوم الثالث من العملية إلى 46 إرهابياً، والعدد آخذ في
الارتفاع مع تقدم عملية التمشيط والملاحقة لفلولهم.


في نفس الفترة
تقريبا، يوم 7 مارس تحديداً، كان جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، يوجه
كلامه لمئات الجنود الأمريكيين الذين التقاهم خلال زيارته للمنطقة، قائلاً:
«علينا أن نسحق «داعش» في العراق وسوريا، لئلا يتمكن (التنظيم) من
الاستمرار في بث سمومه في المنطقة والعالم، القتال سيستغرق وقتاً، إلا أننا
ملتزمون بإتمامه حتى نقضي على هذا الشر، وسنقضي على هذا الشر».


هذه
وتلك من العمليات الكبرى التي بدأها تنظيم «داعش» منذ أعلن عن نفسه في عام
2014 حين دشن أُولى «غزواته» الكاسحة، الرامية لإقامة ما أسماه بدولة
الخلافة، والتي فاقت في طموحاتها طموحات «شقيقه» قبل الانفصال، تنظيم
القاعدة، والتي لم تتعد الفوز بحيز من الأرض في بعض مجاهل أفغانستان
وباكستان وبعض «الغزوات» العدمية التدميرية، وأشهرها «غزوة واشنطن
ونيويورك» – وذلك باحتلال ميليشيات «داعش» لمحافظات ومدن بأكملها في
العراق، وصولا إلى تهديد العاصمة بغداد نفسها، والتمدد والزحف، توازياً،
داخل سوريا المجاورة واحتلال مدينة الرقة بكاملها واتخاذها مركزاً رئيسياً
له معادلاً لمركزه الرئيسي في مدينة الموصل بشمال العراق، إلى جانب سيطرته
على أجزاء واسعة من الأراضي السورية تشمل مدناً رئيسية مثل حلب وإدلب ودير
الزور. 


ولذلك فإن تنظيم «داعش» ب«غزوتيه» المحبطتين (بفتح الباء) في
كل من إربد الأردنية وبن قردان التونسية، يكون قد انقلب على استراتيجيته في
احتلال المواقع المستهدفة، من التمهيد للاستيلاء على المدن بإنشاء مراكز
سرية تبشيرية، أولا، لإلقاء المحاضرات على الجمهور حول الإسلام وتقاليده
وإخفاء هدفه في إقامة «دولة الخلافة»، كما هي مدونة في توجيهات مؤسس
التنظيم سمير عبد محمد الخليفاوي، العقيد السابق في مخابرات سلاح الجو
العراقي في عهد صدام حسين، والمعروف باسم «الحاج بكر» (مجلة دير شبيغل
الألمانية الأحد 19 أبريل/ نيسان 2014) – إلى التوجه مباشرة للاستيلاء
عليها من دون المرور بمرحلة التمهيد. 


فما الذي دفع التنظيم للقيام
بهذه النقلة في عملياته التي تتخذ طابعاً دراماتيكياً، واستعراضياً، بل
وانتحارياً، على طريقته الأثيرة في الانتحار الفردي، إنما هذه المرة،
الانتحار جماعياً؟


واقع الحال يقول بأن «داعش» واقع تحت الضغط، فهو لم
يعد يحظى بامتياز استخدامه، من قبل القوى المشغلة له، كورقة ضغط رئيسية
وفاعلة في تغيير موازين القوى على الأرض، باعتباره سلاحاً فتاكاً يندرج ضمن
أسلحة الدمار الشامل غير المتوجة رسمياً، وذلك بعد أن تحولت بوصلة التركيز
العالمي في محاربة الإرهاب، عليه، وبدرجة أقل على نسختيه الأخريين الأقل
شأنا، النصرة وشقيقتها الكبرى القاعدة، وأجبرت هذه القوى بقية المنظومة
العالمية على الحذو حذوها للعمل على إنهاء ظاهرة «داعش».


فهل هي زفرة
المذبوح، باعتبارها رداً فورياً مرتجلاً ومرتبكاً، على توافق القوى العظمى
لشطبه من معادلة ميزان القوى، وتفرغها كليا لهذه «المهمة الخاصة»، والتي من
تمظهراتها اليائسة والمجنونة، قيامه في الأسبوع الأول من مارس الجاري بقصف
بلدة تازة بمحافظة كركوك بالقذائف الصاروخية المحملة بغاز الخردل المحرم
دولياً انطلاقاً من قرية بشير الواقعة على بعد خمسة كيلومترات من البلدة؟ 


الثابت، على نحو ما هو بائن، أن التنظيم مضغوط حاليا بالقصف الجوي
الأمريكي غير المنتظم ولكن المفاجئ على المواقع التي يحتلها في العراق. وهو
بات الآن هدفاً حصرياً تقريباً للهجمات الجوية الروسية والأمريكية على
مواقع تواجده في سوريا. ويدرك قادة التنظيم أن أياماً صعبة تنتظرهم،
فالتنظيم سوف يخسر ملاذاته المتبقية في العراق وسوريا. فلابد، والحال هذه،
أن يكونوا قد فكروا في البحث عن ملاذ أقل استهدافاً في ليبيا وتونس مثلا،
وربما في مناطق إفريقية أخرى صحراوية صعبة الاستهداف، كما فعل القاعدة حين
حوصر في ملاذاته في أفغانستان ووزيرستان بباكستان. ولن يكون مفاجئاً إذا ما
عاد التنظيم للتركيز على العمليات الفردية الانتحارية في مناطق حساسة
لإحداث الدوي الإعلامي المطلوب للتخفيف من وطأة انكساراته على معنويات
ونفسيات أنصاره ومريديه.. تماماً كما حدث في بروكسل مؤخراً.