المنشور

بريطانيا مع الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي وضد استقلال اسكوتلندا !

كان مقررا أن يجري استفتاء شعبي في بريطانيا لتحديد بقاء
بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من عدمه، في عام 2017. ولكن يبدو أن الأحداث
وتداعياتها محليا وأوروبيا، قد فرضت على الحكومة البريطانية التي يقودها حزب
المحافظين، إعادة جدولة أولوياتها، وتقديم موعد اجراء الاستفتاء الى الثالث
والعشرين من شهر يونيه/حزيران القادم.


لقد كانت الاعتراضات البريطانية على سياسات الاتحاد
الأوروبي المتعلقة بالهجرة، منصبة في الأصل على “تسكين” وتمكين مواطني الاتحاد
الأوروبي من الدول المنضمة حديثا للاتحاد الأوروبي، وتحديدا مواطني بلدان أوروبا
الشرقية والوسطى، من الوصول الى كافة المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي يتمتع
بها مواطنو الدول الأعضاء في بلدانهم، على اعتبار أن ذلك يضيف أعباءً غير محتملة
في الموازنة البريطانية، فضلا عن مزاحمتهم للأيدي العاملة البريطانية في سوق العمل
البريطاني وتضخيم مستوى البطالة. إنما الذي أملى على الحكومة البريطانية تصدير هذا
الملف أولوياتها، هي الظروف الديموغرافية الاستثنائية التي تمر بها أوروبا منذ
أواخر العام الماضي، حين دوهمت بلدانها بموجة غير مسبوقة من تدفق اللاجئين عليها
من منطقة الشرق الأوسط، لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. حيث قدرت المنظمة
الدولية للهجرة عدد الفارين من الحروب والفقر في الشرق الأوسط وأفريقيا عبر تركيا،
إلى أوروبا، بأكثر من مليون نازحاً قسرياً. وخلال شهرين فقط، أي منذ بداية العام
الجاري وصل الى أوروبا حوالي مائة ألف نازح مقارنة بنفس العدد الذي وصل اليها في
العام الماضي ولكن في ستة أشهر.


ولأن القضية فرضت أولويتها، فقد كان متوقعا تبكير الحملة
البريطانية الحكومية المنظمة لتهديد وابتزاز مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل
والدول الأعضاء فيه، لاسيما تلك التي تتخذ مواقف متشددة من الطلبات البريطانية
باحترام “خصوصيتها” واستثنائها من حزمة الامتيازات (الحقوق) الاجتماعية الممنوحة
لمواطني الاتحاد الأوروبي. وذهب ديفيد كاميرون الى أكثر من دولة أوروبية، مركزية
وطرفية، للحصول على دعم حكوماتها للمطالب البريطانية. وعُقدت القمة الأوروبية التي
خصصت لهذا الموضوع وموضوع موجة النازحين من الشرق الأوسط، وحصل كاميرون فيها على
بعض التنازلات التي اعتبرها كافية لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ودعا
البريطانيين للتصويت على ذلك في الاستفتاء الذي قررته حكومته في 23 يونيه/حزيران
القادم. فقد تحصل على: استثناء رعايا الاتحاد الأوروبي الى بريطانيا من مزايا معونة
العمل بشكل تلقائي، ولمدة 4 سنوات اعتبارا من اليوم التالي لإجراء الاستفتاء، من
دون الاخلال بميثاق الاتحاد حول حرية التنقل وعدم التمييز؛ استمرار السماح
للمهاجرين بتحويل أموالهم الى ذويهم في بلدانهم ولكن بكمية أقل مما هو حادث حاليا؛
احتفاظ بريطانيا بالحق في توقيف المشتبه بهم بالارهاب والاجرام حتى لو لم يكن
تهديدهم حالّا؛ عدم قبول الزواج المرتب من بريطانيات الهادف للحصول على جنسية
الاتحاد الأوروبي والعمل في بريطانيا. كما تنص الوثيقة التي حصل عليها كاميرون،
على أن بريطانيا غير ملزمة بخطوات تكامل سياسية للاتحاد الأوروبي؛ وحصول مجلس
العموم البريطاني على حق استخدام “الكارت الأحمر” بالتضامن مع







برلمانات “الدول المتماثلة في التفكير” (




(Like-minded





لمنع تمرير أي تشريع
تصدره المفوضية في بروكسل، والاعتراف قانونا لأول مرة بأن الاتحاد الأوروبي لديه
أكثر من عملة، وذلك حمايةً للجنيه الاسترليني؛ وأن لا تكون أموال دافعي الضرائب
البريطانيين خاضعة لدعم منطقة اليورو؛ وان أي قضية تمس كافة الدول الأعضاء يجب أن
تناقش من قبل كافة الدول الأعضاء في الاتحاد (الـ 28 دولة) وليس فقط الدول الأعضاء
في منطقة اليورو (18 دولة)؛ وأن يقوم الاتحاد الأوروبي ببذل الجهود لخفض
بيروقراطية مؤسساته خصوصا الصغيرة والمتوسطة التي تقول الحكومة البريطانية أنها
أضرت بقطاعات الأعمال البريطانية.


تدرك بريطانيا أهمية عضويتها الكبرى في الاتحاد
الأوروبي. فهي تحل ثانيةً بعد ألمانيا في حجم الأقتصاد، بإجمالي ناتج محلي يبلغ
2.945 تريليون دولار مقابل 3.859 تريليون دولار لألمانيا (المصدر: البيانات
الاقتصادية العالمية لصندوق النقد الدولي، أبريل 2015)، ناهيك عن قوتها العسكرية،
والتي من الصعب، إن لم يكن من الاستحالة بمكان للاتحاد الأوروبي أن يهدرها.
فالاتحاد الأوروبي هو في الواقع ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا
وهولندا، والباقي مجرد أعضاء عاديين تستقوي بلدان المركز بأعداد سكانهم ومساحاتهم
الجغرافية وترتيبا أسواقهم الاستهلاكية. ولذلك تستطيع بريطانيا ابتزاز كبار
الأعضاء والحصول على الاستثناءات التي ترومها. وقد حصلت عليها بالفعل تقريبا.
إنما سوف نرى هذه الدولة التي تهدد في كل مرة بالخروج
و”الاستقلال” عن الاتحاد الأوروبي – سنراها على مقلب آخر وهي ترفع
عقيرتها دفاعا عن وحدة وسيادة الأراضي البريطانية والتحذير من مغبة النزعة
الانفصالية لاسكوتلندا التي كانت مستقلة حتى 1 مايو 1707، والتي تشكل إحدى الدول
أو الأقاليم الأربعة للمملكة المتحدة (بريطانيا) الى جانب كل من إنجلترا، وأيرلندا
الشمالية، وويلز، المنشأة في عام 1800 ضمن إطار نظام ملكي دستوري. فقد قامت الدنيا
ولم تقعد في لندن حين قرر الاسكوتلنديون اجراء استفتاء للاستقلال عن بريطانيا.
وجرى الاستفتاء في 18 سبتمبر/أيلول 2014 في أجواء مشحونة بالتشنج والانفعال الناتج
عن تهديدات لندن لإدنبرة بالنتائج الاقتصادية الوخيمة لانفصالها عن بريطانيا، فكان
أن حصل معارضو الانفصال على 55.3% بينما كانت نسبة المصوتين لصالح الاستقلال
44.7%. ولكن المسألة لم تنتهِ بعد، فلقد حقق الحزب الوطني الاسكوتلندي

The
Scottish National Party – SNP)





) الداعي للاستقلال فوزا ساحقا في الانتخابات
البرلمانية التي جرت في 8 مايو/آيار 2015، بحصوله على





64






مقعدا من إجمالي المقاعد البالغ





128





، ليجدد العهد باجراء استفتاء ثاني وتحقيق حلم
الاسكوتلنديين في الاستقلال عن بريطانيا خصوصا اذا لم يوفِ ديفيد كاميرون بوعوده
التي أعطاها للاسكوتلنديين عشية الاستفتاء بمنحهم المزيد من الحكم الذاتي.


وكما أن من الصعب، إن لم يكن من الاستحالة بمكان انسحاب
بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأن بريطانيا لن تجد بكل بساطة من يفتح لها ذراعها
الدافىء سوى “شقيقتها الكبرى” الولايات المتحدة، إنما البعيدة عنها
بآلاف الأميال، فإن من الصعب أيضا، اقتصاديا وجيوسياسيا وأمنيا، على الاسكوتلنديين
اتخاذ قرار مصيري وخطير بحجم الانسحاب من كيان المملكة المتحدة والاستقلال التام
عنها. فالمسألة هنا ليست محض استطلاعية للآراء، كما تبدو في الظاهر، وكما يتم
ترتيبها، وإنما هي خاضعة بالكامل لإدارة مراكز قوى جبارة تقيس مصالحها بالقلم
والمسطرة.