المنشور

أوروبا والكأس المُرّة

إن استمرّ الرئيس دونالد ترامب في التصرف مع حلفائه الأوروبيين بالطريقة الحالية، والتي وجدت أكثر صورها فجاجة، في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع التي عقدت مؤخراً، فمن المنطقي أن تذهب الأمور إلى تصدع إضافي، جديد وخطير، في النظام الدولي الذي نشأ بعد انتهاء الحرب الباردة، والذي لم يعد جديداً على نحو ما بشّر به الرئيس الأسبق، جورج بوش الأب.
سرعان ما «شاخ» هذا النظام الدولي «الجديد» تحت ضغط مستجدات التوازنات الدولية، وخاصة بعد «نهضة» روسيا من كبوتها، التي حسب الغربيون أن بعدها لن تقوم لموسكو قائمة، وأيضاً بعد أن ابتدأت «البيروسترويكا» الصينية الهادئة، المتزنة، وبعيدة النظر، تعطي أُكلها، على صعيد مضاعفة دور وزن الصين في الساحة الدولية، وهي التي استفادت من نزق وتهور بيروسترويكا جورباتشوف، التي هدّت كل شيء قائم، دون أن يملك صاحبها تصوراً عن البديل، فشاعت الفوضى والخراب والتفكك.
قلنا قبل أيام إن أوروبا أظهرت ضعفها إزاء الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وجدت نفسها حائرة في الذي عليها أن تقوم به إزاء إجراءات ترامب التي لم تقم اعتباراً لمقتضيات واستحقاقات التحالف مع أوروبا، وهو تحالف مركب، متداخل العوامل، سياسياً واقتصاديا وأمنياً.
من الجهة الأخرى، فإن هذا «الضعف» إزاء الأمريكي المتحصن خلف المحيط، ليس قدراً على أوروبا أن تتجرع كأسه المرة حتى النهاية، دون أن تحرّك ساكناً، فكأن ترامب، من حيث لا يحتسب، وضع الأوروبيين أمام تحدي بلورة مفهوم جديد لأمنهم، وعلى الصعد كافة، لا يركن إلى الدعم الأمريكي، الذي اتضح أنه ليس صلباً وأبدياً، كما كانوا يظنون. وبالتالي فإن عليهم التفكير جدياً في أن يكونوا مستقلين ومعتمدين على قواهم الذاتية في المقام الأول، وأن يكون التعاون مع الولايات المتحدة، إن توفّر، مجرد عامل تقوية، لا أن يكون قاعدة للأمن الأوروبي، بدونه لا يستقيم.
هناك مستفيد كبير، وإن لم يكن الوحيد، مما يجري، هي روسيا. ولعلنا هنا نعثر على جواب لغز ظلّ محيراً، جوهره السؤال التالي: أين تكمن مصلحة بوتين في دعم ترامب في الوصول للبيت الأبيض، وهو دعم ما انفكت الأدلة عليه تتوالى؟
وسنجيب على هذا السؤال بسؤال، قد يسعف في الوصول للإجابة: أبلغ دهاء بوتين درجة أدرك فيها أن مجيء رجل مثل ترامب سيؤدي إلى الصدع الحاصل اليوم في العلاقات الأوروبية – الأمريكية، وبذلك يتحقق لموسكو ما عجزت عنه: أن تُوقع بين أطراف «الناتو»، فتصبح معركتها داخلية، فيما كانت الغاية مواجهة روسيا وتطويقها بالعقوبات وبالصواريخ، التي باتت تنصب على أراضي بلدان كانت قبل عقدين أو ثلاثة أعضاء في «حلف وارسو» المرحوم.
المؤشرات تفيد بشيء من هذا، حتى وإن صعب الجزم به، لكن إن استمرّ هذا الوضع، فالأمور سائرة في هذا الاتجاه، حتى وإن لم يكن بوتين خطّط لها.

madanbahrain@gmail.com

 صحيفة الخليج الأماراتية

الثلاثاء 27 رمضان 1439 هـ ، 12 يونيو 2018 م