المنشور

البياض المرعب

بالصدفة وقعتُ على مقال لنيران العبيدي عن العجز عن الكتابة، قرأته لأن الموضوع يؤرقني شخصيا، لأني بدأت نصًا طويلًا، كتبت فيه الكثير، ثم ركنته جانبا، مضت سنة، ثم سنتان، وها نحن في الثالثة ولا شيء ينبئ أنني سأتممه، مع كل الزخم الذي يعشش في رأسي من أفكار، مع كل الرغبة التي تحثني لإتمامه، إلا أني كلما جلستُ إليه انطفأت الكلمات، وحلّت العتمة في رأسي، تخبو المشاهد التي كانت تملأني وأنا أسوق سيارتي، تختفي تماما كل الإيحاءات الجميلة التي تسكنني وأنا مع العمل أو مع الأصدقاء، لكن كلما اختليت إليه خبا كل شيء.
من بين الأشياء التي وردت في المقال السابق الذكر إعتراف لكاتب منعته الأدوية المضادة للإكتئاب من الكتابة. قال: “إنها تمنعني عن الكتابة، تسلبني مشاعري، تجمد الدموع في أحداقي، أنا بحاجة للدموع وإلى المشاعر في كل لحظة أعيشها….”، ويصف لحظة العجز تلك: “إنها لحظة الشعور بالعوق عن الكتابة، العجز الذي انتابني من البوح”. و يبدو أن المقارنة بين عجز وعجز تقودنا لذكر عمالقة الأدب الذين أنهوا حياتهم حين توقفت أقلامهم عن الكتابة لأسباب عديدة، لكنها حتما ليست السبب الذي أعاني منه ولا أعرفه.
يقال إن مراحل القحط هذه عادية، وإن الكاتب الغزير الكتابة عمره قصير، ليس بمعنى عمره المحسوب بالسنوات، بل العمر المحسوب بأمد قراءته… فالكاتب أيضا يعيش فصول عطائه كما تعيش الطبيعة كلها تلك الفصول، والأكيد أن فاكهة أفكاره تحتاج لوقتٍ كاف لتنضج، أما السلق السريع لها، فلن يعطينا المذاق المطلوب.
يعيش الكاتب عمرين، عمره كإنسان، وعمره ككاتب، أما نقاط التلاقي بين الإثنين فإنها تظل سراً يخصّ كل كاتب، ويصنع تميّزه عن غيره. ترتبط الكتابة بالتجربة اللغوية، والموهبة، والمغامرة لخوض معركة الظهور، لكنّها قبل كل هذا ترتبط بلحظة التورّط في الكتابة، وعدم القدرة من الخلاص منها، أستعمل كلمة خلاص لأني أراها مغامرة، قد تكون نهايتها غير مرضية، كما قد تكون نتائجها جيدة، تلك اللحظة التي تلقي فيها الكتابة القبض على أهدافها، قد تمر بلحظة تخلٍ، حين يقف سيل الكلمات عن التدفق في رأسه، حين يصمت ذلك الصوت الذي يسكنه ويوشوش كل الوقت له بما يجب فعله، تلك الرفقة العجيبة بين إنسان ولغة قد تنتهي بكارثة الحبيب الفاقد لمحبوبه، دون أن تكون انتحارا بالضرورة، لكنها في كل الحالات موت ما …!
إرتباط الكاتب بالكتابة، قضية حياة أو موت، عقد أبدي، إن أخلّ به أحد الطرفين خسر الآخر بالضرورة، ثم انعكست تلك الخسارة على الإثنين.
في تاريخ الأدب والأدباء، مرّ كثيرون بفترات قحط موجعة، جفّت فيها أقلامهم، ونضب فيها نتاجهم، بعضهم يصف تلك الفترات بفترات مرض حقيقية، “المرض المخزي للكاتب” و”شبح البياض المرعب” مرض تلف الأعصاب، الجنون والإنهيار والصدمة في خلطة واحدة، أمام ذلك العجز الذي لا وصف له، وقد لا يكون عجزا بل قلّة تقدير، أو لنقل تحقيراً لكل كلمة نكتبها، فتبدو لنا باهتة، وضيعة، مجرّدة من أي معنى، خاوية من الإحساس الذي نشعر به، يصف البعض الآخر هذه الحالة بمرض الشك، أو الوسواس ، كونه يشكك في كل كلمة يكتبها، فيكتب غيرها عشرات المرات، قبل أن يتوقف عن البحث عن المزيد.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بهذه المصيبة، ولا أحد بمأمن منها. حدث مثلا أن أصيب كاتب عظيم مثل جاو كسينجيان بهذا المرض، مباشرة بعد نيله جائزة نوبل سنة 2000، وقد صرّح قائلا “ثقل جائزة نوبل سحقني تماما، لقد أنهيت كتابة مسرحية خامسة بعنوان “القصة الليلية” سيتم نشرها من طرف ناشر أكاديمي صغير، أمّا كتابة الرواية فقد أصبحت مستحيلة ” لنا أن نتخيل حجم المعاناة التي حلّت به، وهي معاناة مضاعفة، منها ما يشعر به، و منها ما يمارسه الآخرون من ضغط عليه، بالأسئلة المتكررة ، هل كتبت اليوم؟ حاول، ننتظر منك رواية أجمل …إلخ
تجربة جاو تظل أخفَّ من تجربة الكاتب الإيطالي “إيتالو سفيفو” الذي قبل أن يكتب رائعته “ضمير السيد زينو” ظلّ عاجزا عن الكتابة لأكثر من عشرين سنة، العجز لازمه مع تأنيب ضمير، كما يلازم آخرين عبر كل الأزمنة، لأنه يشبه الخيانة، ويشي بالفشل مع أن الأمر لا يتعلّق أبدا بالفشل، بل بتقييم ذاتي واهم…
المختصون أمام هذا كله، يشرحون سر المعضلة، وأنها تتعلّق بالدرجة الأولى بعلاقة الكاتب بالكتابة، فقد تنجح هذه العلاقة وقد تفشل، إنطلاقا من زاده الخاص لغويا وفكريا. ثم بالدرجة الثانية تتعلّق بالمتلقي السلبي الذي يهرس كاتبه بالإنتقاد السلبي الذي قد يصل إلى تخوينه وطنيا أو اتهامه بالإلحاد كما حدث كثيرا في عالمنا العربي، ما جعل أسماء تختبئ مؤقتا، وقد أصيبت بخرس مؤقت من هول التهديدات و التحذيرات والرسائل السلبية معتقدة أنها غير صالحة للكتابة، لنتذكر بعض الجمل القاتلة التي تضع كاتبها في القبر مباشرة وتدفنه حياً، حدث ذلك لنصر حامد أبو زيد، وعبد الله القصيمي، وسيد محمود القمني، ووجدي الأهدل، ورشيد بوجدرة، وآخرين .
لقد كان النقد اللاذع السلبي أكثر الأسباب التي أدخلت بعض الكُتَّاب في حالة عجز عن الكتابة، لأن تلك الكلمة الجارحة، الخطيرة، التي توجه لكاتب بعينه، تشبه مشنقة سرعان ما تحيط برقبته، وتضع حياته على المحك.
أخيرا نسأل أين عامل الإلهام بين كل هذه العوامل؟ مع أنّه لا يخفى على أحد أن “الحب” هو الملهم الأول والأخير للكاتب، حب القضية، حب الآخر، حب النجاح والشهرة.
وقد تنتصر المرأة بين كل هذه العوامل، لهذا تختبئ “الحبيبة الملهمة” في كواليس حياة بعض الكتاب، كما قد تصبح إدمانا مثل الإدمان على الكحول، وتدخين الحشيش، التي تطلق عنان اللغة وتقلل من خوف المواجهة. ولنا في هذا الموضوع بالذات قصصا لا تنتهي، عن زيجات فاشلة، وخيانات ترمم ما تصدّع، وعلاقات غير مستقرة وسلوكات مهينة أحيانا يقع فيها البعض فقط من أجل إنقاذ شغف الكتابة، وجذوة الروح .
أمور معقدة تحدث، والسبب هذا البياض الذي يلتهم الكاتب حين يعجز عن الإنتصار عليه، البياض/ الكفن المنبئ بالموت، والذي يجعله يتصرف مثل تلميذ مشوش، لأن أهم عوائق الكتابة قد ترتبط بتجارب الطفولة، والصدمات الصغيرة التي تسبب فيها البالغون بانتقاداتهم الجارحة، والقسوة المرافقة لها، والإصرار على بلوغ الكمال وإلا فأي إنجاز يعتبر فاشلا.
يقضي “كاتب الكمال” هذا الكثير من الوقت باحثا عن الصيغة الصحيحة، ويعود إلى ما يكتبه، فيشطب ويغير، ويضيف، ولا يتحرّك العمل إلى الأمام أبدا، فيبقى حبيس عدم الرضى.
خلاصة القول هي إن الصعوبات والصدمات التي نواجهها، تقودنا إلى تكوين معتقدات حول أنفسنا، وعن الآخرين، وعن العالم. تصبح هذه المعتقدات مرجعنا ويبدو أنها تحمينا من تكرار الآلام التي عانينا منها. لكن هذه المعتقدات هي وسائل حماية زائفة تمنعنا من المضي قدمًا والإستفادة من مواهبنا.