المنشور

موسم التغيّرات الكبرى

فجأة انهارت دعامات “السوشل ميديا”. انهارت دفعة واحدة، بعد أن كشف الحجر الصحي هشاشة علاقاتنا الإلكترونية والإفتراضية، وأعادنا إلى فرضية أرسطو مئات السنين قبل الميلاد. لقد أصبنا بقلق البقاء في البيت، ضجرنا من الأمن الذين تمنحه لنا بيوتنا وأفراد أسرنا، بلغ بعضنا حالات اكتئاب حادة، وقد تحدثت في مقال سابق عن تزايد العنف المنزلي لدرجة دق نواقيس الخطر في بلدان عديدة، لأجل حماية النساء والأطفال من هذه الظاهرة، وأكثر من ذلك عبّر البشر في أوساط مختلفة أن الإحتكاك البشري وجها لوجه أهم بكثير من التواصل الإجتماعي عبر الهواتف الذكية ووسائل إلكترونية أخرى.
لم يصمد الإنسان أسبوعا واحدا أمام الحجر المنزلي، كسرت قواعد الحجر في العراق والجزائر ومصر ودول أخرى، تماما كما في بلدان اعتقدنا طويلا أن شعوبها دجنتها التكنولوجيا، وأصبحت غير اجتماعية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وحتى سويسرا…
تمرّدت الطبيعة البشرية على النمط الحياتي الجديد، على الرغم من أنه مؤقت، رفضت الحصار بكل مميزاته الآمنة، بحيث غامر أفراد كثر بحياتهم من أجل رؤية صديق، أو قريب، أو فقط من أجل رؤية الغرباء في الشارع. مع أن الأمر لا يستحق المغامرة.
استعملت أنظمة خلاصة حكمتها فأنزلت فرقًا من الشرطة بعصيّها لزرع الرعب بالضرب في مواطنيها للسيطرة على الوضع، فيما أقامت أخرى حواجز أمنية وألزمت المتمردين على الحجر بغرامات مالية عالية لإجبارهم على الإلتزام. تفننت الحكومات في إيجاد الحلول اللازمة كل حسب أمزجة شعوبها، فيما انتبهت حكومات أخرى مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا إلى الكم الهائل من “المشردين” الذين لا بيوت لهم ، ووجب إيواؤهم بسرعة. وبين من لديهم بيوتا ولا يريدون المكوث فيها، ومن يحلمون ببيوت تأويهم، أُبتُكِرت قوانين، وأفكار بعضها قمة في الغرابة حتى تمر هذه الجائحة بأقل أضرار ممكنة.
بعد أسبوعين من الحجر، ملّ الناس من هواتفهم الذكية، سقطت “معلومة مواقع التواصل الإجتماعي” رغم تناقلها بشكل عفوي، وأصبح البحث عن مصدر المعلومة هو المهم.
فشل كثيرون في الترويج للمعلومة الخاطئة بعد أيام فقط من تصاعد أرقام الإصابات والوفيات في العالم، لم تعد الغرغرة بالماء والملح وأكل الفول المدمس مع تتبيلة جيدة من الحامض والثوم، والملوخية المصرية علاجات ناجعة لهذا المرض الغريب الذي لا تنفع معه المواجهة البطولية بولائمنا وأطباقنا التقليدية، بل تستلزم مواجهة من نوع آخر، تتمثل بالمكوث في البيت، واحترام الإجراءات الوقائية اللازمة.
صاحب هذه الظاهرة الجديدة رواجًا واسعًا لمقاومة الحجر بالقراءة أو بمشاهدة أفلام سينمائية مرتبطة بالأوبئة والكوارث، لم يكتف البعض بالجلوس أمام الشاشة ومشاهدة الحكايات المؤلمة لأبطالهم، ولد لديهم فضول غريب لمعرفة أصول الحكاية، وكمِّ الوقائع الحقيقية فيها، بعض الأفلام أحالت متابعيها مباشرة إلى روايات وكتب تاريخ وأبحاث في الأوبئة والطب والإكتشافات العلمية، وهكذا في غضون الأزمة عاد كثر إلى البحث عن المصادر، لأن المعلومة الخاطئة لم تعد قادرة على تلبية الحاجة للمعرفة.
حدث هذا في عدة أسابيع قليلة، وقد تجاوز الأمر عمليات البحث والتنقيب الفكرية هذه إلى تعلُّم أمور جديدة في الحياة، البعض سارع إلى زرع مساحات كانت جرداء على مدى سنوات أمام بيوتهم، بدأوا بأحواض صغيرة في شرفاتهم، ثم توسعت بهم الهمّة لتشمل مساحات أخرى. أدهشتني شخصيا طريقة زرع البطاطا في أكياس القماش، وزراعة شتائل الفراولة في براميل مثقوبة وفي علب الحليب الفارغة في عملية تدوير جميلة.
في ريبورتاج أثار حماسي، تعمل عائلة بريطانية على استقطاب الناس إلى مزرعتها، عبر الترويج لها عن طريق فايسبوك، الزوار يتأملون الدجاجات وأطفالهم منبهرون بمنظرها، يقتنون خضروات وفواكه وبيضًا طازجًا في منظر استثنائي كسر تماما صورة التسوق النمطية التي سيطرت على المدن في العالم أجمع، إنّها طريقة التسوق الآمنة بعيدا عن الأسطح التي تتربع عليها الكورونا في انتظار ضحاياها.
وفي ظاهرة أخرى تقدّم فرنسا إحصاءً غريبا عن أربعة ملايين شاب وصبية، عادوا إلى عائلاتهم، تاركين خلفهم حياة الإستقلال والحرية، وأغلبهم فسّر ذلك على أنّه الحاجة للشعور بالأمان مع الأهل، أو الشعور بالمسؤولية تجاههم، فيما قبل الكورونا كان الأمر وإن خطر على بال هؤلاء، يكون عابرا دون أية قرارات جادة.
تستمر الأرض في دورانها الروتيني، فيما تشق الأزمة طريقها غير آبهة بالتغيرات، أمّا الإنسان فقد أدهش نفسه بمدى قدرته على الإبتكار، وكسر روتين يومياته، وهزم عدوانيته في كثير من الأحيان.
من قال إن الرجال سيقتحمون المطابخ؟ لقد فعلوها حتى في عقر مجتمعاتنا المحافظة، بعضهم نشر مفتخرا صور إنجازاته، وقد روّج البعض إلى أن المنتجات الغذائية حققت أرباحا عظيمة وسط الكساد الإقتصادي العالمي، لأن الرجال خلال الحجر يستهلكون ضعف ما تستهلكه النساء من الطعام، وأيًا كانت هذه التغيرات، فإنّ بعضها جيد، والبعض الآخر سيء، لكن دعاة انتصار العالم الإفتراضي والتعلم عن طريق الأونلاين، إمّا انهارت أو على وشك، لقد ثبت أن الأطفال لا يمكن ضبطهم وإيصال المعلومات إليهم عبر الأونلاين، إذ يحتاجون إلى احتكاك مباشر بأساتذتهم وزملائهم وفضاء المدرسة لأنه أكثر تحفيز على التعلم.
ولعلّ موضوعا كهذا يحتاج لمساحة أكبر لمناقشته ومعالجته، لكن بالمختصر لقد احتاجت الدراسة عن بعد لتلاميذ دون الثامنة عشرة إلى عمل إضافي يمارسه الأساتذة والأهل معا، وهذا أيضًا إكتشاف بالنسبة للأطراف جميعها. تلاميذ المدارس أًصبح حلمهم الوحيد أن تنتهي أزمة كورونا ويعودوا لمقاعد الدراسة، كونهم افتقدوا للأجواء المدرسية الحقيقية.
لم تعد هذه الحياة الثانية، الموازية للواقع مقنعة، لقد تقلّصت أهميتها اليوم، لكنّها في الوقت نفسه صححت الكثير من العلاقات، وأكّدت أن المسافات جيدة للإبقاء على حرارة المشاعر بين الناس.
بالتأكيد تحققت لكثيرين أمكانية العمل من البيت، لكن هذا لا يعني أن الإنسان قد يتحوّل ذات يوم إلى كائن متوحّد قد تعوّضه أجهزته عن الإجتماع ببني جنسه. تحقق له ايضا أن يعرف الخبر في لحظة حدوثه، لكنه لن يستغني أبدا عن التأكد من صحبته بالإتصال بأحدهم، لقد أثبت صناع الصورة، ومهووسي مواقع التواصل الإجتماعي أن التلاعب بأي خبر ممكن وسهل، لذا يصعب الوثوق بسيل الأخبار المنهمرة من قنواتها التي لا تعدّ ولا تحصى.
بقي أن نسأل في الأخير، هل يمكن أن تتغير أحوال المكتبات بعد جائحة الكورونا؟ هل سيدخل القارئ المخدوع بمعلومات تلك المواقع المزيفة إلى المكتبات بحثًا عن أمهات الكتب؟ هل سيبرر بعده عن القراءة بقلّة الوقت؟ بعد أن بلغ حالة التخمة في زمن الكورونا، تخمة من فائض الوقت، وتخمة من المعلومات الزائفة التي أحرقت أعصابه. أليس إذن ما نعيشه اليوم تعويضا جيدا لكل الوقت الذي أهدرناه ؟ ثم ألا نشعر بنوع من النضج الذي لم يسبق لنا أن شعرنا به سابقا في خضم دوامتنا اليومية المتكررة دون توقف؟
ما ندركه حتما هو أن الوعي تقدّم خطوات جبارة نحو الأمام، فقد توصلت البشرية جمعاء إلى أهمية الجماعة، والعائلة، والأمورالجادة في حياتنا، وأكثر من ذلك، برزت مفردات ميّزت القاموس اللغوي اليومي لفئات واسعة بين الناس، أهمها مفردة ” أخوة” و”تعاون” و”محبة” أليست هذه نعمة من نعم الله علينا؟ في ظرف ثلاثة أشهر أصبحت اللغة أكثر لينًا بين الناس، وأًصبحت الأفعال أكثر من الأقوال على الميدان.