المنشور

ما هو جيد للعدالة الاجتماعية جيد للاقتصاد والدولة

إذا كانت أهم مؤشرات الاقتصاد العالمي تشير بوضوح منذ العام 2017 إلى أنه متجه نحو أزمة عامة من طراز جديد هذه المرة، وأن موعد انفجارها العظيم لا يتعدى نهاية العام الحالي 2020، أو بداية العام القادم، فإن جائحة كوفيد – 19، جاءت إضافة ثقيلة لتُعجِّل أوان الإنفجار. ولنستعد نحن، فستكون التبعات وخيمة على الاقتصاد العالمي: مالا وإنتاجا واستهلاكا، والمجتمعات: تشغيلا ومعيشة واستقرارا، وعلى البلدان: ديونا وأمنا وسيادة، وعلى العلاقات الدولية: انتهاكا للقانون الدولي، وبروزا للتكتلات الإقليمية، وتحضيرات لإعادة اقتسام العالم. بالنسبة لبلداننا فقد رمانا السقوط “الحر” لأسعار النفط بثالثة الأثافي ليجعل مصائبنا أضعافا. أضف إلى ذلك: بُنانا الاقتصادية هشة، أوضاعنا الإقليمية شديدة التوتر وخللنا السكاني خطر للغاية وقنوات الاستنزاف المالي تعمل ليل نهار. وحفرتنا عميقة، بلا قرار.
الدول الكبرى مشغولة بحالها، وببعضها، أكثر مما تستطيع التعامل مع مشاكل البلدان الضعيفة، إقليمنا المحيط راكم من المشاكل ما يقلص إمكانيات مدّ يد العون للبلدان الأقل قدرة. وعلى بلادنا أن تواجه مشاكلها منفردة. لكن، رب ضارة نافعة. فالأجدى دائما أن تبدأ الحلول من داخلك، بإمكانياتك المادية، بطاقاتك البشرية الإبداعية. أستطيع القول جزما إن بلادنا الآن في قبضة هذه القاعدة السليمة، بحكم الواقع، وليس الخيار الواعي. لكن ماذا بعد ؟
كلمة السر للحل هي الإصلاح الجذري وليس أي “إصلاح”. الحركة نحو الإصلاح الحقيقي لا تقاس بسرعتها فحسب، بل وباتجاهها المصوب للهدف الصح. أي، بأية أبعاد يتحرك هذا الإصلاح، الإنسان أم الاقتصاد أولا ؟
تجربة الصين مع جائحة كوفيد – 19 قريبة وتبعث على الفخر. رفعت شعار “الإنسان قبل الاقتصاد”. بل وسخّرت المال والاقتصاد وكل القاعدة التقنية – التكنولوجية لمزيد من النهوض بالقطاع الصحي وسرعة تعافي الإنسان. لم يتعذر على أحد الوصول إلى العلاج النوعي. لم يمت أحد جوعا أو على قارعة الطريق بلا سكن. هذا البعد كان مُودَعاً في طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي أصلا. وكسبت الصين المعركة: استعاد الإنسان عافيته، والآن يعيد الإنسان للاقتصاد حيويته. وتستعيد الدولة قدراتها وجبروتها. تماماً بعكس الحال في أميركا، العاجزة عن التصدي للوباء بالكفاءة اللازمة والتعامل المتساوي مع المواطنين. انفجر مُرَكَّب هذه المشاكل وغيرها في وجه النظام حراكا اجتماعيا – سياسيا لم تشهد له أميركا مثيلا منذ الحرب الأهلية.
نعود إلى واقعنا. لم يرتق الأداء في مواجهة الجائحة إلى الجودة التي بلغتها الصين، لكن نظامنا الصحي لم يواجه تهديد الإنهيار كما في بعض الدول “المتقدمة”. والواقعية تقتضي الاعتراف بأن الفضل في ذلك يعود لبقايا مزايا دولة الرعاية الشاملة، التي، على كل نواقصها، نوَدِّعها الآن بحسرة، مرتمين في قبضة الأسوأ – الليبرالية الجديدة، الثقيلة الوطئ على الناس، وأناس العمل خاصة.
النيولبرالية طرحت علينا “الإصلاح الإقتصادي” من منظور التوازن المالي لميزانية الدولة، أي من منظور محاسبي بحت، دون إعطاء الاعتبار اللازم للعدالة الاجتماعية. وبدون الخوض في التفاصيل يرى الجميع أن الخصخصة وتقليص النفقات على الخدمات الضرورية وتعدد أشكال الضرائب غير المباشرة أنهكت الغالبية الساحقة من المواطنين والشركات الصغيرة والمتوسطة. هذا قبل الجائحة التي زادت الوضع سوءا على سوء. الآن، ضعفت قدرات المواطن الشرائية وقدرته على تلبية الكثير من حاجاته الضرورية، فقَلَّ الطلب وبالتالي ضاقت السوق. وضعفت قدرة الشركات على التوظيف وعلى الوفاء بالالتزامات الضريبية وأصبح الآلاف منها يستعد لإشهار الإفلاس. طبعا موجة الإفلاسات ستعم العالم. وتشير دراسة قريبة لشركة التأمين “يولر إرميس” أن زيادة عدد الشركات التي ستعلن إفلاسها عالميا 35% بين عامي 2019 و2021. أعلاها في أميركا 57% وأدناها في الصين 20% فقط (وهنا أيضا تستعرض الصين أفضلية). أما لدينا فنحن لحدّ الآن لا نعرف الأرقام والنسب التي تعتمل في الاقتصاد والمجتمع قبل أن يتصاعد دخانها يوما.
الذي نعرفه جيدا هو نتيجة “الإصلاحات” على وجه العموم: خسر الإنسان وخسر الاقتصاد ولم تُنمِّ الدولة مواردها، إذ لم تكن هذه هي الوجهة الصحيحة المطلوبة للإصلاح. نعم، هذا هو “الإصلاح” المطلوب من وجهة نظر صندوق النقد والبنك الدوليين، بهدف مزيد من تمركز الثروات لدى الأوساط الاجتماعية الدائرة في فلك رأس المال المالي العالمي. وهاهي دراسة لشركة بوسطن كونسلتينج جروب تشير إلى أن أصحاب الملايين استحوذوا في عام 2019 على حوالي 68.8% من الثروة في البحرين، وأن عدد هؤلاء سيزداد بنسبة 1.1% في الأعوام القادمة (“الأيام”، 21 يوليو). لكن مثل هذه الإصلاحات، التي تسبب مزيدا من إفقار الفقراء، تشكل صدمة مفاجئة وقوية للطبيعة التي بني على أساسها النظام الاقتصادي الاجتماعي لدينا على مدى عقود. وكان لمقاربة أخرى للإصلاح من منظور مصلحة المجتمع ككل أن تعني إصلاحا حقيقيا يخدم الإنسان والاقتصاد وقدرات الدولة. وهذا موضوع بحث مستقل.
ذات السؤال بالنسبة لموضوع اللحظة – إصلاح نظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية. كان واضحا منذ زمن حجم المشكلة وخطورتها وأهمية إصلاحها. لكن من جديد أي إصلاح ؟ في أي اتجاه ؟ نخشى أنه إن سار كما يُعَدُّ له الآن، من جنس التوازن المالي، فحتما ستكون النتيجة من نفس الجنس أيضا. مزيدا من إفقار المتقاعد الفقير، مزيدا من تقليص المساهمات التقاعدية للمؤسسات الاقتصادية. ومزيدا من سوء استثمار أصول التقاعد ومزيدا من سوء توزيع الدخل بين المتقاعدين. ولنبدأ بالأخيرة. الحد الأقصى المقر (4000 دينار) يفوق الحد الأدنى (350 دينار) بأكثر من 11 ضعفا !!! وهو فوق حاجة أي متقاعد لم يعد مهموما بتكوين عائلة أو بناء سكن أو تربية أو تعليم أبناء. فما بالك بالمعاشات التقاعدية الفاحشة التي لا تزال تتجاوز الحد الأقصى بأضعاف. كل ما يعنيه هذا هو خرق فاضح لمبدأ العدالة الاجتماعية ونسف للفكرة التكافلية للنظام التقاعدي. إن هناك حاجة ماسة لإعمال العدالة في التوزيع بخفض الحد الأقصى للمعاش التقاعدي، والعمل به فورا، بما في ذلك تطبيقه على قدامى المستفيدين.
ليس بكاءً على اللبن المسكوب، إنما من أجل المستقبل نذكر أن في عام 1986 وبضغط من غرفة التجارة والصناعة تم خفض نسبة المساهمات التقاعدية من 21% (14% أصحاب العمل + 7% العامل) إلى 15% (10% + 5%). وكان هذا القرار بمثابة انحياز طبقي لمصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا. وبعد قرابة عقدين من سنوات تطبيق هذا الانحياز أحست الدولة بمدى إجهاد هذا الإجراء للنظام التقاعدي فذهبت بحجم المساهمات في عام 2007 إلى “حل” وسط 18% (12% + 6%). خسر النظام التقاعدي بنتيجة هذه “الإصلاحات” ما قُدِّر بحدود 7 – 8 مليار دينار (+ عوائد استثمارها المفترضة). هذه “الإصلاحات” ليست خرقا لمبدأ العدالة الاجتماعية فحسب، بل وللنموذج المصمم أصلا لتمويل الصندوق. لو لم يكن هذا “الإصلاح” لاستطاعت هذه الأموال أن تلعب دورا أكبر بكثير من صندوق التعطل لمواجهة تبعات الجائحة الآن. إذن، فحال الصندوق والعدالة الاجتماعية تقتضيان العودة إلى النظام الأصل للإشتراكات التقاعدية.
قس على ذلك حجم الخسارة التي ألحقها “إصلاح” عام 1977 بوقف التأمين الاجتماعي على العمالة الأجنبية. أيضا لن تصعب معرفة لمصلحة من هذا “الإصلاح”. قيل حينها أنه إجراء مؤقت، ليقترح النائب محمد عيسى ورفاقه الآن، بعد أكثر من أربعين عاما، إلغاء هذا “المؤقت”، وإعادة الأمور إلى نصابها. والحقيقة أن الخبير الأكتواري قد أوصى عام 2017 بإعادة هذه الاشتراكات، على أن يتم الشروع في ذلك بعد عودته من السفر. ترى هل ذهب الخبير ولم يعد؟! توجد مصلحة وطنية ملحة بإعادة العمل بإدراج الأجانب الذين يزيد عددهم على 600 ألف في نظام التأمين الاجتماعي. وعلى نواب الشعب أن يمضوا في هذا بإصرار.
وماذا عن إلغاء “الزيادة” السنوية بنسبة 3% ؟ هي في الحقيقة ليست زيادة، ولا مكافأة كما قيل، بل تعويض عن التضخم وللحفاظ على مستوى القوة الشرائية للمعاش التقاعدي كي لا تبتعد قيمته الفعلية عن قيمته الإسمية مع الزمن. هذا كل ما في الأمر. هنا يكفي أن نورد فقرة من تقرير للبنك الدولي في ابريل 2019 تقول عن البحرين: ” … ومن المتوقع أن يرتفع معدل التضخم إلى 3% في 2019-2020، بالنظر إلى فرض ضريبة القيمة المضافة في عام 2019 والزيادات الإضافية المقترحة في أسعار الطاقة”. أرأيتم ؟ هذا هو مغزى نسبة زيادة 3%، لكن التضخم قد يزيد عن هذا الحد أو ربما زاد !!
الحديث يطول عن سوء استثمار أموال نظام التقاعد والفرص الضائعة. أُنشِأ النظام التقاعدي عام 1976 . لكن قانون إنشائه هو الإبن الشرعي للبرلمان الذي حُل عام 1975. تصادف ذلك مع أثر طفرة أسعار النفط الكبرى وتَشَكُّل “الفوائض” المالية. وعلى خلفية ذلك انصرف التفكير التنموي في البلاد من الاستثمار في مجالات الإنتاج إلى عالم المال والعقار. وأُخذِت أموال التقاعد إلى هذا المنحى أيضا. وبالنتيجة صار النظام التقاعدي باستثنماراته المالية الضخمة من أكبر ضحايا الأزمة المالية العالمية والمحلية. وبدون الخوض في تفاصيل أكثر نؤكد الآن على ضرورة أن يعاد النظر بشكل جذري في فلسفة السياسة الاستثمارية لأموال التقاعد باعتبارها مصدرا حيويا من مصادر التمويل الداخلي للاستثمارات الإنتاجية التي تولِّد أماكن عمل حقيقية تقوي الاقتصاد وتشكل بدورها إسهاما إضافيا كبيرا في الاشتراكات التقاعدية.
أخيرا، وليس آخرا. الخشية كل الخشية أن تُحدِثَ الحلول الترقيعية وغير الجذرية سباقا حثيثا في الخطين البيانيين النزولنيين لموارد الأموال التقاعدية وللدخول والمزايا التي يحصل عليها المتقاعدون. نزولا .. وصولا إلى الترويج لقناعة ألا فائدة من نظام التقاعد بمظلة الدولة، وأن الحل في الخصخصة العتيدة. هذا بالضبط ما حدث في تشيلي عام 1981 بإيحاء من مدرسة “فتية شيكاغو” الاقتصادية و”اتفاق واشنطن” ووصايا صندوق النقد والبنك الدوليين. وبعد أن سلكت تشيلي ومعها بضع عشرات من الدول درب الآلام العسير هذا، وما أدى إليه من فقد للعدالة الاجتماعية وتدهور شديد للاقتصاد، وبالتالي احتجاجات اجتماعية – سياسية هزت أوضاعها، عاد معظم هذه البلدان بعد أزمة 2008 – 2009 المالية الاقتصادية إلى إبطال خصخصة النظم التقاعدية وتأميمها من جديد. وعليه فليس من المصلحة الوطنية، خصوصا في ظروف الليبرالية الجديدة، خصخصة النظام التقاعدي ووضع المتقاعدين تحت رحمة رأس المال الكبير.
القاعدة البسيطة، والدرس الكبير في نفس الوقت، هي أنه، وخصوصا في ظروف انهيار الطبقة “الوسطى” سيبقى المواطن البسيط، عامل أو متقاعد، في مجموعه الإحصائي هو المستهلك الأساسي في الاقتصاد. إن زاد دخله اتسعت السوق المحلية وتحرك الاقتصاد، وإن قلَّ دخله ضاقت السوق وتراجع الاقتصاد. فهلا وعينا أن ما هو جيد للعدالة الاجتماعية جيد للاقتصاد وللدولة ؟