المنشور

تحطيم التماثيل والتاريخ الموازي

إذا كانت جائحة كورونا “كوفيد – 19” قد جاءت لتعري بامتياز أخلاق الدول الرأسمالية الكبرى اللاإنسانية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولتكشف عجزها حتى عن التعاون فيما بينها، سواء على مستوى حلف الأطلنطي أو على مستوى الأتحاد الأوروبي لمواجهة الوباء، فإن الاحتجاجات على مقتل المواطن الأميركي من أصل أفريقي، جورج فلويد، في مايو/ ايار الماضي تحت ركبة الشرطي الأبيض اختناقا طوال ما يقرب من عشر دقائق أمام الملأ.

هذه الاحتجاجات التي عمّت العالم ضدالممارسات العنصرية في الولايات المتحدة وفي الدول الرأسمالية الاخرى – كبريطانيا وفرنسا واستراليا – قد جاءت لتعري بدورها حقيقة التاريخ المسكوت عنه المزيّف والذي ما فتئت هذه الدول تعتبره مقدساً لا يجوز مسه ولا مس رموزه التاريخية المخلدة بتماثيل تم نصبها في أشهر شوارع عواصمها ومدنها.

وفي كل بلد من تلك البلدان الرأسمالية قامت ثلة واعية من المحتجين السلميين بالتعبير عن احتجاجها بتحطيم تلك التماثيل بغية تذكير شعوبها وشعوب العالم بأن ثمة تاريخاً آخر موازياً يُراد طمسه وتشويه وعي الشعوب بالتاريخ التي تحاول الأنظمة الرأسمالية فرضه. ولعل من أهم التماثيل التي جرى تحطيمها وارتبطت بالعبودية أو الاسترقاق الاستعماري تلك التي جرت في الولايات المتحدة، ومنها: تمثال الرحالة الإيطالي كريستوفر كولمبوس في مدينة فرجينيا الأميركية في العاشر من يونيو/ حزيران الماضي، ثم مرة اخرى جرى تحطيم تمثال آخر له في مدينة بالتيمور في الرابع من يوليو / تموز الماضي أثناء احتفالات ” الاستقلال “.

ونعلم بأن هذا الرحّالة وُصف بأنه “مُكتشف” ذلك العالم الجديد الذي وصلت سفينته إلى سواحله إثر تيهه في المحيط الأطلسي ضالاً الوصول إلى الهند على طريق رأس الرجاء الصالح؛ وما كانت حقيقة هذا “الاكتشاف” المزعوم سوى فتح لتاريخ مظلم جديد من العنصرية في ذلك العالم ليس ضد السود فقط ، كما جرى لاحقاً؛ بل بدءاً بسكان ماسُمي ب “العالم الجديد” الذين اُطلق عليهم “الهنود الحُمر”.

وكما يقول الباحث البلغاري تزفيان تودروف : إن كلمة ” اكتشاف ” تتضمن عنصرية وتمحوراً غربياً ومركزية غربية. فالمكتشِف ( بكسر الشين ) أوروبي والمكتشَف (بفتح الشين) القارة التي كانت حينذاك مجهولة بالنسبة لاوروبا والعالم القديم. لكن هذا “الإكتشاف” لا يعني شيئاً لسكان القارة الأصليين من ذوي الحضارة العريقة من أمثال الأزتيك والإنكا والمايا وغيرهم، والذين تمت إبادة مالايقل عن 112 مليوناً منهم عن بكرة أبيهم على أيدي الرجال البيض الاُوربيين الذي دشن لهم كولمبوس طريق الهجرة والاستيطان الجديد، ولم يتبق اليوم منهم سوى أقليات معزولة داخل الولايات المتحدة المتحدة نفسها؛ أو متوزعة في بلدان أميركا اللاتينية (إنظر: تودو روف، فتح أمريكا، مسألة الآخر، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر، القاهرة ، 1991 ) .

كما جرى تحطيم تمثال البرت بايك، وهو التمثال الوحيد في واشنطن العاصمة، لاتهام صاحبه بأنه من مؤسسي منظمة “كوكلاكس كلان” العنصرية. وفي بريطانيا تم تحطيم تاجر الرقيق إدوارد كولستون في مدينة بريستول البريطانية، وفي فرنسا جرى تشويه تمثال للرئيس شارل ديجول في مدينة “لأنوار” باريس، بتهمة أنه كان تاجر رقيق ولمسؤوليته أيضاً عن الجرائم التي ارتكبت في عهده بالبلدان التي استعمرتها بلاده؛ لا سيما الجزائر.

وفي الوقت الذي أبدى فيه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون استنكاره لتحطيم تمثال ديجول بدا كمن تناسى أن بلاده مازالت تحتفظ في متحف التاريخ جماجم ما لايقل عن 36 قائداً وطنياً من رموز المقاومة الوطنية الذين فصلت قوات الاحتلال الفرنسي رؤوسهم عن أجسادهم منذ أكثر من قرن ونصف! وفقط لاحقاً كُشف الغطاء عن هذه الفضيحة المدوية من سجل الاستعمار الفرنسي؛ واستجاب ماكرون لطلب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون حينما وجد هذا الأخير الفرصة مؤاتية لتقديم هذا الطلب وتم إعادة جماجم الشهداء إلى الجزائر ليدفنوا في ترابهم الوطني.

سُئل المفكر الأميركي التقدمي نعوم تشومسكي بأن الممثل جورج كلوني قال في مقال له في صحيفة (الديلي بيست) تعليقاً على مقتل جورج فلويد: أن العنصرية هي وباء أميركي، وأننا خلال 400 عام لم نجد لها لقاحاً، فلماذا تبدو العنصرية راسخة ومستعصية إلى هذا الحد ؟ فأجاب تشومسكي بالرد المسهب التالي: “الاجابة موجودة في ما حدث خلال الـ 400 سنة هذه، لقد تمّ البحث فيها وعرضها من قبل، لكن بالنسبة لي فإن الأمر يستحق بعض الدقائق للتفكير من خلالها بالأمر مرة أخرى حتى ترسخ في عمق الوعي.

السنوات الـ 250 الأولى صنعت أكثر أنظمة العبودية شراسة في تاريخ الإنسانية بمجرد أن حصلت المستعمرات على حريتها. وقد كان هذا النظام العبودي فريدا لا بقسوته البشعة لكن أيضا لكونه كان يعتمد على لون البشرة. ولهذا لم يكن استئصاله ممكنا، بل هي لعنة تصل الى الأجيال المستقبلية.

العبودية الرسمية في الولايات المتحدة انتهت قي عام 1865، ومنح للسود عقد كامل من اعادة الانشاء، والذي استغلوه بصورة مثيرة للإعجاب في فعاليتها وتأثيرها، نظرا لميراث الرعب الذي يحملونه. لكن حتى هذا انتهى، حيث ان اتفاقية بين الشمال والجنوب سمحت للعنصرين في الجنوب أن يقتلوا ويقمعوا وأن يحولوا السود الى قوة عمل بالسخرة لتحرك الثورة الصناعية الجنوبية، وكل ذلك بواسطة “تجريم” السود وسجنهم بشكل جماعي وسلبهم حقوقهم.
هذه الوصمة في التاريخ الأمريكي دامت حتى الحرب العالمية الثانية تقريبا، حينما احتاجت صناعة الحرب الى العمالة الحرة .. غير أن عراقيل جدية بقيت موجودة. الفرص التعليمية التي منحت بعد الحرب أنكرت على المواطنين السود بواسطة قوانين معينة. ملكية المنازل، أساس الثروة لمعظم الناس، تم حرمان السود منها بواسطة القوانين الفدرالية. وفي الوقت الذي سحبت فيه هذه القوانين العنصرية تحت ضغط نضال حركة الحقوق المدنية في الستينيات، كانت الفرصة قد ضاعت على الكثير من المواطنين السود.
الاقتصاد عانى من الكساد في فترة السبعينيات وعندها انقضت النيوليبرالية وسيطرت على الاقتصاد، حيث صممت بالأساس لابقاء المواطنين الفقراء والعمال في مكانهم، وكالعادة فالمجتمعات السوداء كانت الأكثر تأثرا بشكل وحشي. وهذا العدوان النيوليبرالي الاقتصادي على السود جاء مجتمعا مع الموجة الجديدة من تجريم السود بواسطة إدارة ريغان العنصرية، وهي السياسة التي عُززت بواسطة بيل كلينتون تحت عباءة “أنا واحد منكم”، وحتى جورج فلويد اليوم. ليس من الصعب اذن الإجابة على السؤال، على الأقل على مستوى واحد. أما على مستوى أعمق فيمكن أن نسأل لماذا يصعب علينا معالجة هذا المرض ؟” (” طريق الشعب” العراقية ، 23 يونيو/ حزيران 20 20 ).
وفي تقديرنا أنه بالرغم من تلك الاحتجاجات العارمة ضد الرأسمالية في الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الاخرى، وما تضمنته من صراع ايديولوجي علني تجسد في تحطيم تماثيل الرموز العنصرية التاريخية؛ إلا أن تلك الاحتجاجات لا تكفي لحمل تلك الدول على اجراء إصلاحات جذرية ؛ فمالم تقُد تلك الاحتجاجات قوى طليعة مُنظِمة من قوى ديمقراطية ويسارية واجتماعية قادرة على استقطاب أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة؛ من طبقات وشرائح اجتماعية عريضة متضررة من شرور الرأسمالية، وبما يمكنها من ممارسة أقصى درجات الضغط على أنظمتها الرأسمالية ، فإن التغيير لن يأتي سريعاً ولربما أثمر في أحسن الحالات عن تغيير شكلي. بيد أن تلك القوى الطليعية للأسف مازالت بحاجة إلى إعادة ترتيب بيوتها من الداخل بما يمكنها من أخذ زمام المبادرة التاريخية مجدداً.