المنشور

حسين غباش

في سنواته الأخيرة عكف حسين غباش على مبحث، أراده رداً على موجة التطرف والتكفير والإرهاب التي أقحمت الإسلام تعسفاً في خطاباتها، فكان كتابه عن نبي الإسلام محمد – “قراءة حديثة في سيرة رسول النور والسلام”، مسعى لنزع ما أقحم على هذه السيرة، وهي نفسها الفكرة التي عكسها في كتابه الآخر عن التصوف الإسلامي، الذي أبرز فيه قيم التسامح والعيش المشترك بين مختلف الأديان والملل في إطار الحضارة الإسلامية.
يبدو ذلك متسقاً مع فكر وسلوك حسين غباش، الذي لمسه كل من يعرفه عن قرب، أو قرأ مؤلفاته، فهو ينتمي إلى الجيل المخضرم الذي أدرك بدايات تأسيس دولة الإمارات، وطنه، وعاش التحولات المهمة التي عرفتها المنطقة الخليجية عامة، لا من موقع المراقب، وإنما من موقع المشارك، كناشط وكاتب وباحث وأكاديمي ودبلوماسي، عرف بقوة تأسيسه الثقافي، ورؤيته الوطنية والقومية، هو الذي كان دائماً منشغلاً بالهم العربي ومتابعاً له في كتاباته ونشاطاته، وبرحيله فقد الوسط الثقافي والأكاديمي الخليجي من وجوهه المهمة، ترك أثراً مهماً في المنجز الثقافي والبحثي في وطنه والمنطقة.
إضافة الى كتاباته في الصحافة فإن حسين غباش كان باحثاً دؤوباً ترك مؤلفات هي بمثابة مصادر في مجالها، خاصة منها تلك المتصلة بتاريخ وراهن منطقة الخليج العربي، ومن أهم هذه المؤلفات كتابه عن سلطنة عمان الذي تناول فيه “تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث”، متتبعا تحولات هذا البلد الخليجي المهم على مدار قرون.
ومن مؤلفاته في الشأن الخليجي أيضاً كتابه المهم الذي درس فيه “الجذور الثقافية للديمقراطية” في المنطقة، متخذاً من تجربتي الكويت والبحرين نموذجاً، في نطاق ما وصفه ب”تاريخ الشعوب الصغيرة”، حرصاً منه على مراعاة الخصائص التاريخية والنفسية التي تميّز هذا النوع من الشعوب، بالقياس إلى الأقوام والأمم الكبيرة.
وفي مؤلفه هذا، كما في مؤلفه عن سلطنة عمان، أولى الباحث عناية كبرى لتفاصيل التطور التاريخي في المنطقة من زواياه المختلفة، مرتكزاً على قاعدة منهجية رصينة، وأدوات تحليل علمي، وهو الأكاديمي الذي نال درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من فرنسا.
أهم ما في كتابه: “الجذور الثقافية للديمقراطية في الخليج”، هي المقاربة الجديدة، ذلك أن الباحث اشتغل على ذات المادة التاريخية التي سبق أن تناولها باحثون آخرون، عاد غباش إلى دراساتهم، لكنه اختار لبحثه مدخلاً مختلفاً غير مسبوق، ليضع القارئ أمام أسئلة كبيرة حول آثار الهيمنة البريطانية المديدة على بلدان الخليج العربية على مسار التطور السياسي لهذه البلدان، أتنطبق عليها الفرضية التي ذهبت اليها دراسات مشابهة على بلدان خضعت للاستعمار الغربي طويلاً، في أماكن أخرى من آسيا وأفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية، حيث جرى النظر إلى أن الهيمنة الغربية كانت عاملاً مسرعاً، في انفتاح هذه البلدان على العصر، أم أنها، في حالنا الخليجية تحديداً، لعبت دوراً كابحاً لهذه السيرورة، وأعاقت النمو التاريخي الطبيعي الذي كان يمكن لهذه البلدان أن تقطعه دون محفزات أو تدخلات خارجية.
ما أراد المؤلف البرهنة عليه أن لفكرة المشاركة أسساً راسخة في البنى التقليدية لمجتمعات الخليج، فكل الثقافات تحمل قيم مشاركة ومساواة، تؤهلها لأن تطور ديمقراطيتها الخاصة النابعة من ملابسات تطورها التاريخي والثقافي. ومن هنا كانت عناية المؤلف بدراسة الثقافة التقليدية، قبل أن تقع بلدان الخليج تحت الهيمنة البريطانية، من أجل تقصي ما يعده الكاتب جذوراً ثقافية للممارسة الديمقراطية، حالت هذه الهيمنة دون تطورها في مساراتها المفترضة، لأن الاستعمار أعاق التطور الطبيعي لهذه البلدان. إن مسار انتقال مجتمعات الخليج للحداثة والمشاركة كان يمكن أن يتم من داخلها، بما يتلاءم وخصوصياتها، لولا أن التعامل الاستعماري، أو الكولونيالي بتعبير الكاتب، أدى إلى إجهاض محاولات النهضة واحدة تلو الأخرى، مما أفقد المجتمعات الخليجية من روافعها وقوى نهوضها لتتحول إلى محميات بريطانية مفرغة من هويتها الوطنية والثقافية.
حدث ذلك لأن المستعمر بعد أن هيمن على المنطقة سعى لتفكيك نسيجها الاجتماعي، مما أدى إلى انقطاع السيرورة التاريخية الطبيعية، كأن الباحث يأخذنا الى الاعتقاد بأن الديمقراطية قبل أن تكون ممارسة سياسية، هي في الأصل قيم ثقافية، يعبر عنها نمط حياة، وبالنتيجة، لا يمكن اختزالها إلى آليات ونظم سياسية، فهذا، برأيه، تبسيط يفقدها دلالتها ويُعرضها للتشويه.
من المنطقي والحال كذلك، ألا يعتد الباحث بالنموذج الأوروبي للديمقراطية بصفته النموذج الأوحد لها، فكل الأمم قادرة على أن تبتكر صيغتها الخاصة، رغم أن القيم المطلقة للديمقراطية تبقى واحدة بالطبع. وهي خلاصة مهمة تذكرنا بمقولة للمفكر الراحل اسماعيل صبري عبدالله الذي قال مرة إنه لا مانع من التطوير التدريجي للآليات الديمقراطية في بلداننا العربية، وأن تكون لها صيغتها الملائمة لظروفنا، شريطة ألا يكون بديل رفض الديمقراطية الغربية، هو رفض الديمقراطية ذاتها كثقافة وكعلاقة بين الدولة والمجتمع، ففي الغالب الأعم جرى توظيف هذا القول كذريعة لرفض فكرة المشاركة السياسية بحجة أن الديمقراطية بضاعة أجنبية لا تلائمنا، وتكريس أشكال الاستثار بالقرار وبالثروة في أشد صورها إستبداداً.
ويمكن لنا أن نجد في سلسلة من المقالات نشرها الفقيد في “الخليج” في التسعينات الماضية، وحواها كتاب صادر عن “دار الخليج” تحت عنوان: “الإمارات والمستقبل – نحو رؤية وطنية جديدة” في عام 1999، نموذجاً على بانورامية نظرته لمختلف القضايا، فالكتاب ضم مجموعة مقالات تتصل بالشان الإماراتي من زوايا الهوية والاقتصاد والثقافة والبنية الدستورية والتشريعية، كما ضمّ في قسم ثان قضايا المنطقة الخليجية من منطلق ايمان غباش بوحدة دول الخليج، وبما تواجهه من قضايا وتحديات مشتركة، ولم ير الشأنين المحلي والخليجي بمعزل عن أفقهما العربي فتناول كذلك مجموعة من القضايا العربية لا تقف عند حدود المشرق وحده وانما تبلغ المغرب العربي ايضا.