المنشور

البيت الإسرائيلي: مُجتمعٌ مُنقسم

Avraham Burg أبراهام بورغ، هو مؤلف وسياسي ورجل أعمال إسرائيلي من مواليد القدس 1955؛ وكان عضوٌ في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) وعضو في حزب العمال الإسرائيلي وينتمي إلى اليسار.
نُشِر هذا المقال في مجلة Eurozine الإلكترونية في يوليو 2020
(المُترجم)

إن الصراع حول الأرض الإسرائيلية هو قضية تاريخية حساسة. ولكن هل ينبغي على المظالم السابقة والخوف أن تُضفي الشرعية على الجرائم الأخيرة ضد الإنسانية؟ في كِتابهِ “حقائق الوطن” حول التقسيم المجتمعي الإسرائيلي الراهن يُقيّم الكاتب Avraham Burg القضايا الأيديولوجية والإقتصادية والدستورية الحاسِمة.
يتكون البيت الإسرائيلي من أربعة طوابق مجازية مُشتركة. خلافاً للبيت الإعتيادي، في هذهِ المُقارنة يضطر كل مُستأجر العيش في وقت واحد في جميع الطوابق الأربعة، وهو ليس دائماً أمراً سهلاً ومُمكناً. وإسرائيل هذهِ قُطبين: خلاقة ومُحافِظة، مُتغطرِسة وخائفة، خاصة ولكنها بارِزة. إما أن تُحِبُها أو تكرهها؛ بالكاد تستطيع تجاهلُها.

الطابق الإجتماعي
وكغيرها من الكثير من المجتمعات في العالم، تظهر إسرائيل توتُرات مُتأصِلة وطبيعية. فالإحتكاكات موجودة بين السُكان المحليين والمُهاجرين، ومجموعات عرقية من أصول مُختلفة (يهود من الدول الإسلامية، وأُولئك من الدول المسيحية) والمجتمعات الوطنية (اليهود والعرب)، المُتديّنين والعلمانيين، وأُولئك الذين في الوسط وأُولئك الذين في الأطراف، الذين يملكون بعض الشيء والذين لا يملكون شيئاً. وعلى عكس التوترات المُماثِلة الموجودة في أماكن أُخرى، خاصة في عالم الغرب، فإن لدى إسرائيل خاصية إضافية خاصة، تم دمج مُعظم توتراتها في إنشقاق مُتزايد واحد قام بتشريح المجتمع بشكل عميق ومؤلم على أُسُس طائفية/دينية تقليدية، وخطوط إقتصادية وأيديولوجية. وعلى جانبي الحاجز الإجتماعي السياسي، يمكن للمرء أن يجد صورة مرآة مُتعارِضة تقريباً: على الجانب الأيمن من الخريطة، المُحافظون الدينيون والقوميون، عادةً من الدول الإسلامية الأسيوية والأفريقية ذات الوضع الإقتصادي الإجتماعي المُنخفض، يُقيمون في المُحيط؛ والعلمانيون، المُتعلمون، الراسخون، الليبراليون، المُهاجرون من الغرب الذين يتمتعون بوجهات نظر عالمية أكثر إنسانية والشطر المسيحي يتمركزون على الجانب الآخر.
ينبغي على كلُ من يحاول التعامل مع أي من التوترات الاجتماعية المذكور أعلاه في إسرائيل أن يواجه ’الحِزمة‘ بأكملها: الدين والدولة، الفجوات الإقتصادية، والإمتيازات والحرمان، وأنماط التصويت في الإنتخابات العامة. يتمُ دمجها معاً، وعلى ما يبدو لن يتمُ فصلها أبداً. وتحديد الحدود السياسية لإسرائيل، على سبيل المِثال، هو في المقام الأول مسألة دينية وليس سياسية أو عسكرية، بسبب الأعتقاد السائد بأن الله وعد بهذهِ الأرض بالذات للشعب اليهودي. كما أن أنماط التصويت في الإنتخابات العامة مُتورِطة مع الإقتصادي الإجتماعي المُرتبط ببلدان الأصل والمُعتقدات الدينية. وتتأثر تكلفة المعيشة، التي يتم تحديدها من خلال التكاليف الباهِضة لآليات الحُكم في الشريعة اليهودية، هي بالمثل تتأثر بالوضع الإجتماعي للفرد.

الطابق الأيديولوجي
وكأن هذا لم يكُن كافياً، فإن هذا المجتمع المُجزأ يتأثر بطبقة أُخرى من الإنقسامات. تنقسم إسرائيل الأيديولوجية إلى أربع ’غُرف‘ ترفض التوحد في كيان عائلي كامل.

الغُرفة الدينية
تحتوي الغُرفة الدينية على مؤمنين من ديانات مختلفة ، سواء كانوا يهود أو مسلمين (ليس للكنائس والمؤمنين المسيحيين تأثيراً يُذكر هُنا)، الذين مبدئياً ينظرون إلى أنفُسهم أنهم مواطنون مُتدينون يلتزمون بالأوامر والشخصيات والمؤسسات الدينية. مُلصقات يهودية تقول، “لا يوجد أحدٌ غيرهُ، تتنافس مع نظائرها المُسلمة، “لا إله إلا الله”.قد تتغيّر الهوية السامية ولكن ديناميات المؤمنين الذين يرفضون سُلطة وشرعية محاكم البدن والدم لا تتغيّر. إنهم يعتبرون أنفسهم خاضعين فقط للمَثل الأعلى. وكانت أزمة الكورونا مِثالاً على ذلك. عندما اشترطت الدولة العُزلة والتباعد الإجتماعي، أنتهك بعض الحاخامات علانية التعليمات. وواجه العديد من المؤمنين خياراً بين الحاخام والدولة اختاروا إتباع الأول بغض النظر عن العواقب الصحية.

الغرفة الإقليمية
أُولئك الذين يُكرسون الأرض المُقدسة على استعداد للتضحية بأنفُسِهم من أجل قضيتهم الإقليمية. إنهم يُريدون المُلكية وبشكل حصري على هذهِ الأرض حتى على حساب إراقة الدِماء، وفقدان السيادة أو إنكار حقوق وحُريات أي شخص لا ينتمي إلى “دولتهم المُتكاملة” ومُلكيتها. بعض اليهود سوف يفعلون أي شيء من أجل نكران وجود فلسطيني “أجنبي” فوق “أرضهم”. إذا انسحبت الدولة من أراضي الكتاب المقدس، فإن المتدينين سيؤسسون ’مملكة يهودية‘ الجديدة، ويؤمنون بأن الأرض المُقدسة تنتصر على الدولة. وفي المُقابل، هناك مسلمون.يرغبون في أن يختفي اليهود من ’أرضهم‘ دار الإسلام.

غُرفة الدولة
هذهِ ’الغُرفة‘ يسكُنها هؤلاء الذي يُركز كيانهم الكامل على الدولة الإسرائيلية، تاج التاريخ اليهودي. إن خطابهم يرفع إلى حد كبير من مجدهِ أن الدولة ومؤسساتها تُعتبر مُقدسة، فالجذور والفاكِهة، والمصدر والواجهة، هي قمة كل الإنجاز. تبدو جميع المبادئ الأُخرى غير مُهمة وتم رفضُها. سوف يقتِلون أو يُقتَلون من أجل الحفاظ على قيم الدولة.

الغُرفة الإنسانية
هذا هو بالفعل أصغر جزء مُتناقص من إسرائيل. لا يزال المثصلحون الإجتماعيون يعتقدون أن حقوق الأفراد وحريتهم يجب أن تُشكل الأساس المدني للمجتمع والدولة. جميع القيم المدنية والقومية الأُخرى مبنية على أُسُسُها. لكن كلُ من المجموعات الثلاث الأُخرى تخوض صِراعاً ضد أُولئك الموجودين في المجال الإنساني، وتُهاجم قيمها ومبادئها.
هذهِ المواقف الأيديولوجية الأربعة ليست مُترابطة. المصلحون الإجتماعيون والدُعاة الدينيون لم يكونوا على علاقة جيدة مُنذُ فترة طويلة. أُولئك الذين يؤيدون الدولة يتصادمون مع الإقليميين، وخاصةً أُولئك الذين يُروجون لموقف عدواني من المُستوطنين، حول الحدود والسُلطة. إن الديمقراطية الإسرائيلية في طلاق قبيح بين الديمقراطيين الليبراليين، وبين آراء الأغلبية ومُساواة الأقليات. وحقوق الإنسان تتآكل وتُتلف في هذهِ العملية.

الطابق الهيكلي
الطابق الهيكلي ليس مرئياً دائماً ولكنهُ ضروري لفهم نقاط الضعف والمخاطر التي تواجه ديمقراطية إسرائيل في المستقبل. كلُ ديمقراطية تعمل أُفُقياً تقريباً. إن سلسلة السُلطة الديمقراطية هي مُحادثة مستمرة بين مُتَساوين تهدفُ إلى إيجاد إتفاق عام وإجماع. يقوم على الإستماع إلى الآخرين الإستماع إلى المواطنين الشُرَكاء في الوطن المُختلفين ولكن مُتساوين تماماً في المجتمع المدني والحقوق الدستورية. يوجد في إسرائيل ما وراء التمييز المبني بين اليهود والعرب هيكلان غير أُفقيان وغير ديمقراطيان مُهمان ومُأثِران للغاية: الجيش والحاخامية (سُلطة رجال الدين اليهود).
الجيش هو بوتقة الإنصهار الذي يتحرك من خلالهِ مُعظم المواطنين للدخول في المجتمع المدني المسؤول. وبالفعل الكثير من القادة العسكريين يتولون مناصب سياسية ضمن الدولة والنُظُم البلدية عند نهاية خدمتهم العسكرية. إنهم يغرسون استخدام الأوامر القيادية من أعلى إلى أسفل في الخِطاب المدني بدلاً من زِراعة وتشكيل اتفاقيات وتفاهم ديمقراطي من أسفل إلى أعلى.
إن الحاخامات والمؤسسات الحاخامية – الرسمية وغير الرسمية على حدٌ سواء – هي مصدر السُلطة التي يُطيعُها لها الكثيرون قبل النظر في الدستور وأخلاقياتهِ أو القانون وإرشاداتهِ. لقد أعطت سُلطات نظام الدولة الإسرائيلية المسؤولية لتفسير يهوديتها للقادة والمؤسسات الدينية التي لا تخضع تبعيتها الأولى للإنسانية والديمقراطية بل تخضع لله ورجال الدين.

سقيفة الخوف
تمّ بِناء سقيفة رائعة وفريدة من نوعها في الجزء العلوي من هذا الهيكل. لحظات قليلة فقط من الأمل والنور انتشرت في التاريخ الإسرائيلي: إنشاء الدولة ذات السيادة في عام 1948، الإنتصار الساحق لعام 1967، مُبادرة الرئيس المصري أنور اسادات المُفاجئة للسلام، الإبتكارات المُدهِشة لإتفاقيات أوسلو التي خلقت جواً شبه مُفجع من النشوة. ولكن هذا كل ما هُنالك. كانت جميع اللحظات الأُخرى رمادية، مُتعرِقة وطبيعية تماماً.
لم يتعلم المجتمع الإسرائيلي تقدير هذا الوضع الطبيعي والاحتفال بهِ. حتى ألآن لم نُطور لغٌة مُستقِرة؛ يبدو الإنتظام غريباً بالنسبة لنا. لم نقم حتى الآن بالتحول النفسي الكامل من الشتات المُتناثر إلى الحكومة المركزية، ومن مُغترب إلى سيادة ومن تاريخ من الخوف والإضطهاد إلى سياسة الثقة والثقة بالنفس. وقادتنا، وهم ساخرون مثل جحافل القادة السياسيين الآخرين، يستغلون نقطة الضعف الجماعية هذهِ ويُديمون التوتر من أجل مكاسبهم.
إن قُدرَة القائد على نشر الخوف تعتمد إلى حدٌ كبير على استعداد عامة الناس أن يكونوا خائفين. ويحتضن اليهود الإسرائيليون الخوف – إنهم مُدمِنون عليهِ. وعلى الرغم من القوة الهائلة التي نمتلكها، أكثر من أي زمنٌ مضى، إلا أننا لسنا على استعداد بعد التخلي عن مكانة إسرائيل كمجتمع من الضحايا. يعرف الكثير منا الخوف المُستمر باعتبارهِ صِلة طبيعية وأصلية بالتاريخ اليهودي كما لو تم حرقهُ في أذهاننا. إذا كان هُناك أي شيء نجح نظام التعليم الإسرائيلي في غرسِهِ، فهو الإعتقاد بأن جيلاً بعد جيل من اليهود قد تعرضوا لحملة كراهية كبيرة ومُستمرة. تاريخها قديم قِدم الأعمال العدائية بين إسحاق وإسماعيل، ويعقوب وعيسو. كُلُ خصمٌ هو ظالم، وكلُ ظالم مثل هتلر، وكُلُ ناقد شرعي مُعادٍ للسامية.
ومع ذلك، كان مُعظم التاريخ اليهودي هادئاً نسبياً. ولم تكُن استمرارية الوجود اليهودي في أماكن مُبعثرة أكثر صعوبةً من استمرار وجود الجيران الذين كُنا نعيش بينهم. تم استهدافنا واضطهادنا وقتلنا عدة مرات فقط في هذا التاريخ الطويل. في باقي الزمن، كان الكُل يقتل بعضه البعض بسخاء قاتل. ولم يكُن اليهود استثناء منذلك.
“مُتلازمة الضحية الأبدية” تُعفينا من أي مسؤولية، في جولة العُنف الأخيرة في غزة، نزلتُ إلى الشارع مع أصدقائي احتجاجاً عل هذهِ الحرب غير الضرورية. في نهاية المُظاهرة، تجمع بعض البلطجية اليمينيين من حولي. تأثرت مُحدثتنا بتهديداتهم المُخادِعة وانتهت على هذا النحو:
“أفرهام بورغ، لماذا أنت ضد الحرب في غزة؟”
“لأنني أنا دائماً ضد الحرب وضد الحصار اللا إنساني في غزة على وجه الخصوص”.
“أعرفُ أنهُ ليس تفكيراً طيباً، ولكننا لم نُنشئ غُرف الغاز في غزة، أليس كذلك؟”
“أأمل أن لا يكون كذلك. بالطبع كلا.”
“إذن، كلُ شيئاً على ما يُرام، اليس كذلك؟”
ذلك هو السر – دور الضحية يُحرِرُنا من كل المسؤولية. لا شيء يمكن مُقارنتهِ بما فعلوه بِنا. ونتيجة لذلك، يُسمَح لنا أن نفعل أي شيء بخلاف ما فعلوه بِنا. جدلياً، تُصبِح أفعالنا شرعية. إن المحرقة هي سقيفتنا وسقفنا، إنها أرضية العواطف التي تُبرر كُلُ شيء، تُمكِنُنا من فعل أي شيء تقريباً ولا ندفع الفاتورة.
إن الإنقسام الإجتماعي الإسرائيلي، والتفتُت الإيديولوجي والديمقراطية المُتآكِلة بتقع في خوف مُزمن. فلاعجب في أن الكثير من الناس يعتبرون إسرائيل العالم المُصغر للغرب. إذا كُنت تُريد أن تفهم الغرب، تعال لزيارتنا. كُلُ شيءً مُركز وموجز ومُكثف في إسرائيل. فبمُجرد أن تفهمنا نحنُ الإسرائيليون، سوف تفهم التوتُرات والإتجاهات البشرية في جميع أنحاء العالم.