المنشور

عندما أحبّت جان

كُثر هم الكتاب الذين يدينون بنجاحهم لزوجاتهم، ولكن قلة من النساء قد تتحمل متاعب كاتب لم يكن يقرأ له إلا قلة القلة و لم يكن يجني غير الكرامة شيئاً. تلك هي قصة الكاتب الفرنسي ليون بلوا وزوجته جان اللذين التقيا في منزل الشاعر المتواضع فرانسوا كوبيه ووقعا في شباك الغرام، فتزوجا في نفس السنة. كانت هي قد بلغت الثلاثين من عمرها و كان هو قد دخل نضج الأربعين.

عندما التقى ليون بلوا بجان، لم يكن يملك الكثير، وكان الكتاب الفرنسيون يدعونه بالكاتب المتعجرف بسبب صراحته العنيفة في الكتابة. لم تترجم بعد كتاباته إلى العربية إلا أنني أكاد أقسم بشبه في أسلوب السخرية بينه و بين محمد الماغوط، خصوصا عندما يتناول الاثنان خبث صهاينة اسرائيل رغم أنها لم تكن دولة حينها.

تنبأ بلوا بتأسيس “كارثة يعتلي أهلها سلم القوة لدهس الانسانية أجمع”. كان ليون بلوا مسيحياً متشدداً ويستلهم كتاباته من شعوره الديني، حتى أنه لم يتوقف يوما عن ترديد كلمات القديس بولس “نرى كل شيء من خلال مرآة”، في إشارة إلى وظيفة الكاتب التي تكمن في مساءلة المرآة، تلك التي نظن أنها واضحة، رغم أنها مليئة بالألغاز. روح بلوا كانت بمثابة الروح المصنوعة من النار عند الكتابة، روح مؤلفة من إيمان وحماس شديدين، يشعلها الحب ويحركها التعصب من أجل إعلاء صوت الحق.

فلنعد الى جان، لأن كل ذلك لم يكن ليحدث من دونها. تلك المرأة تركت دراسة الفلسفة ووطنها الأم، الدنمارك، حتى تكون مصدر إلهام لزوجها ومرافقته في عوالمه الكتابية. قد يجد بعض مناصري المرأة في ذلك سذاجة عمياء، الا أن جان كانت قوية جداً وفي كامل قواها العقلية عندما أقبلت على الزواج من ليون بالرغم من سوء أحواله ومهاجمة الطبقة البرجوازية له.

كانت جان أو التي لقبت لاحقاً بلقب “المرأة والزوجة الرائعة” تبحث عن الهدوء والتأمل في كل ما تفعل. لم يكن ذلك مدهشاً بحكم أن أباها الشاعر الدنماركي الشهير كريستيان مولبك. كان بحث جان أعمق من أشعار والدها بكثير. عن ماذا كانت تبحث؟ عن الحب في كنف رجل مثل باقي الفتيات؟ لا. كانت تبحث عن الله، و”الذي يبحث عنه ويجده مرة، يعود ويجده في كل مكان” . هكذا كانت جان، التي حين تعرفت على ليون بلوا، وجدت الله في عينيه، و كان بالنسبة لها الزواج الوحيد الذي قد يمنحها الحياة الروحانية التي كانت تحلم بها، فيكون ليون مرشدها وملهمها. المضحك في الأمر أن العكس هو الذي حدث لاحقاً.

في ذات الأمسية التي جمعتهما لدى فرانسوا كوبيه، كانت جان تتحرى لقاء بلوا التي كانت قد قرأت كتابه “المراسلات”، ووضعت خطين تحت عبارة “أنا في بحث مستمر عن توأم الروح الذي يفهمني”، وأحسب أنها قالت في نفسها: لماذا لا أكون تلك المرأة بالنسبة للكاتب الذي أقرأ والذي أحب؟!

التفت الشاعر فرانسوا كوبيه الى الاثنين وعرّف بلوا على جان تحت مسمى “الكاتب المتسول”، بسبب فقره المدقع. تزوجته بالرغم من كل العوائق واختلطت حياتها بحياة ليون بلوا الكاتب. ثلاثة كتب كتبهم بلوا و كان الفضل يعود إلى جان التي لم تبخل بأفكارها يوماً على زوجها؛ ألا وهي “المرأة الفقيرة”، “البائس”، “المذكرة”.

عندما كان يلتقي ليون بلوا بأصحابه لا ينسى ذكر جان. “هي المرأة الوحيدة التي تفهمني، و تعرف بأنني لا أكتب لأحد غير ربي الأعلى”. و لذلك عرفت جان كيف تمده بأفكار رواياته، إن لم تكن جميع الكتابات التي تلت زواجهما.

توفي ليون بلوا عن عمر يناهز الواحد والسبعين عاماً، و لتعويض فقده، أقبلت جان على كتابة القصص القصيرة والمسرحيات، خصوصاً بعد تأثرها بمحاضرات نيقولا برديائيف و اصدارات دستويفسكي.

جديرة بالاهتمام المراسلات التي كانت تدور بين جان و ليون بلوا قبل الزواج وخلاله. فيما نتواصل اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي، كان الزوجان يكتبان لبعضهما بعضاً بشكل شبه يومي على الرغم من أنهما لم يفترقا. يذكر بأن جان كتبت لليون مرة: ” لم أقابل أبداً أي شخص يتطابق عقله مع ما أحتاجه سواك”، فردّ عليها: “الكلمات التي تسطرينها لي والتي قد يضحك عليها العالم هي بالضبط ذات الأحاديث التي كنت سأكتبها لك بنفسي …”.