المنشور

خذ ما قلته لك بعناية

وفاءً للأستاذ الذي لم تجمعني به قاعة درس.. حسن عطية (ملاحظة للمخرج: ليست عنواناً، بل توضع في مقدمة المقال ببونط صغير مختلف)

هل ترى صورتي ضبابية؟ أسود وأبيض أم الاثنين معاً؟ في كل الأحوال، لن تتمكن من إدراك معالم واضحة للألوان وتمييزها قبل بلوغك العام! إنها سمرة “أسوانية”، ولكنك ولدت هنا في القاهرة التي ستعيش حياتك القادمة بها. سيسمونك “حسن”، اسم يطلق على حسن الخلقة والخلق، ولن تُخيب ظنهم باختيارهم للاسم، بل ستغدو نجماً في مسارك؛ “النقد”، تذكر هذا المصطلح جيداً، سيكون لك شأن كبير فيه، لأنك ستؤمن أنه موهبة وثقافة وحرفة ورؤية للحياة.
وبسبب إيمانك المطلق هذا؛ سيكون منطقك يسيراً في إقناع الآخرين بأهمية ما تخصصت فيه، رغم يقينك المطلق أيضاً بأن النقد موهبة وملكة فطرية لابد أن تُدعم بالثقافة والعلم. لذا ستتحمس كثيرًا حينما تلاحظ باحثاً لديه استقلالية في الفكر، ستدعمه بكل طاقتك، كأنها إحدى مسئولياتك غير المبروَزة: أن تدفع بآخرين ليخوضوا تجربتهم بتحريض منك. أستاذ واثق لا يخشى المنافسة – كما آخرين – تتشارك جنباً إلى جنب بتواضع العلماء المحبب، مع أحد الذين اهتممت بهم على مقاعد الدراسة أو خارجها، ولعلك تعتقد أنها في صميم مهام الأستاذية، لكن وقتها ستكتشف أن أمثالك ليسوا أغلبية!
ستكون أكثر الناس حظاً بلقاء شريكة عمر حقيقية، اسمها الأول “عايدة”، تشاركك شغف الفنون وحب الحياة. شرارة المحبة الأولى ستكون في مؤتمر عام، وسيكون للقاء النقد والسينوغرافيا حوار طويل بعدها. هذه الرفقة لن تتبدل بعد سفرك إلى مدريد بإسبانيا. ستصر ألا تكون الشريكة “زوجة مرافقة”، وستصر أن تصعدا معاً سلم الحياة، حتى عودتكما إلى القاهرة مجدداً، بعد أن حصل كلاكما على الدكتوراه. ستعيشان حياة ممتلئة وسعيدة، حتى لو اكتست ببعض الخيبات، لكن من منا حياته خط مستقيم رائق؟ لا بد أن تنال قسطاً منها، لكن اطمئن؛ فمثلك قادر على التكيف مع كل عقبة باعتبارها مطباً مؤقتاً وزائلاً.
علاقتك بالقراءة والكتابة ستتبعها بالتأكيد مكتبة كبيرة، بها كل أنواع المعرفة لراغبيها، تحتل كل غرف بيتك المفتوح. وهذا البيت، المسكون بحب وتفاهم مع رفيقة الدرب، سيكون مزاراً لطلبة العلم من تلاميذك وغيرهم، زائرين جدد، وأصدقاء الأصدقاء، ملتقى للأصدقاء، وصالوناً أدبياً غير رسمي للنقاش حتى مع الذين لا يتفقون معك. ستكون واعياً لدرجة كبيرة حتى تفصل بين الاختلاف في الرأي والمهنية في العمل، والعلاقات الإنسانية التي تتفوق فيها دائماً، لأنك تجنِّب نفسك الصدام المنتهي بشروخ في النفوس، لا بسبب ضعف في الحُجة، لكنها القوة في التصالح مع النفس، وتجاوز خبث الآخرين، الذين تستقبل سلوكهم كما تتلقى عرضاً مسرحياً، بتفاعل عاطفي، وتأجيل الحكم العقلي، انطباعياً في تلقيه، ومنهجياً في تحليله وتفسيره. الحياة قصيرة مع حكاياتهم، والوقت الذي ستمضيه: إما في إنجاز، وإما مع من تحب، فتلكما غايتان لم تتوانَ عنهما، ولن يتخليا عنك حتى بعد عبورك هذه الحياة.
مرة؛ سوف يثير آخرون، نهشهم الإجماع على محبتك، على أن تخص الاهتمام بفئة “قد” تأتي لك بمكاسب ما، فيما يشبه الطرفة! هم أنفسهم يعلمون أنك أنظف الأيادي في بيئات تحوّل المستقيم فيها إلى متصيد، والمعاملة الجيدة صارت تعني خططاً مدروسة للوصول إلى مكسب مؤقت لا يدوم. لا ملائكة بين البشر الخطائين بطبعهم، لكن سيراك كثيرون هكذا، تحديداً وقتما تنأى بنفسك عن الدخول في متاهات العراك مع آخرين، إحدى هواياتهم الرئيسية: تصيّد هفوات غيرهم، والتعامل بنضج ملفت في التجاوز، وتمرير العيوب بصبر مبالغ فيه!
وصمودك سيكون مدهشاً أمام تصغيرك من آلام مرض خبيث يفتك بأي إنسان آخر غيرك في وقت قصير، لكنك مقاتل عنيد، ومهادن، وهادئ، تثير غضب المرض أكثر ليبدأ معك جولة مؤلمة أكثر من التي سبقتها، فتدخل لتقاتل وحيداً، شجاعاً، وتخرج كأنه تمكن من جسدك، ولكنه لم يتمكن من نهش روحك المحبة للحياة، حتى آخر يوم. ستتألم كثيراً، ولكنه سيظل طي الكتمان برغبتك. أنت لن ترغب بأن يراك الآخرون ضعيفاً، وستحافظ على سرك لوقت طويل حتى تفضحه فترات إقامتك بالمستشفى، وظهورك للعامة في المناسبات المسرحية بوزن مثير للتساؤل؛ عن هذا النحول الذي تسببت به جلسات الكيماوي الحارقة لكل ما هو حي في الجسم.
الاحتفاظ بسر المرض، والغيابات القسرية عن الملتقيات المسرحية، ستكون عبئاً على رفيقتك التي تعاني آلام حالتك المرضية، وآلام حفظ العهد، بأن لا تشغل الآخرين بالتفاصيل المثيرة للشفقة على عزيز يمرّ بوضع حرج. “عايدة” ستبادر دائماً بالإجابة النموذجية التي تفضلها “أنك بخير”، مع شكر شديد للسؤال، في تأكيد بيِّن أنه حدث عابر، فلا داعي للقلق على صحة الأستاذ. وأقدارك التي شاءت لك بمعاناة مرضية أرهقتك، ستضنُّ عليك بآفة أكبر من هذا المرض الجسدي، ستحرمك ثقل القلب والكره والتعصب الخاوي، والنظر إلى الأمور بمنطق الاعتدال الذي لن تحيد عنه منذ وعيك الأول؛ ميزانك عقلك، وهو حكمك. ليس هذا فحسب، فحبك للمسرح سيكون باب شفائك في فترات متقطعة، ستنجو من مطبات جسدية كثيرة بسبب حماسك للعمل في أقسى حالاتك المرضية، سيكون لك أصدقاء ومحبون يقدرون مكانتك وإنسانيتك، ويلتفون حولك بقدر صلة رحمك وأكثر.
حياتك قد تتشابه مع كثيرين في هذه الحياة، لكن الفرق بينك وبينهم “الأثر” الذي ستتركه إرثاً غير محدود، أولها بسلوكك المباشر الذي ينمُّ عن نبل وخير متأصلين، وثانيها بمنجزك في كتاباتك تحديداً – باعتبارها الأبقى- لن تنفصل عنك، ما ستكتبه في أبحاثك وموادك المنشورة في المسرح والسينما والفنون الشعبية، وحتى السير، هو ما ستؤمن به في الحياة حقاً، لا ازدواجية ولا شيزوفرينيا، لا تترفع على الواقع، ولا تلقي بنظريات مشتقة من الكتب غير قابلة للتطبيق. دراستك للنقد السسيومسرحي ستعود عليك بفائدة عظيمة، حيث التعامل بتطويع الفن للحياة بموضوعية تحقق الفائدة المرجوة منها.
سيكون لك محبون كثر، ومريدون كثر، ليس في بلدك وحدها. إخلاصك في عملك، وحبك له، سيبقيانك سيرة حية لوقت غير محدود من الزمان. وبعد انتهاء رحلتك، سيحزن من أحبوك بصدق، فتجاوز فكرة فراق الأحبة هي مهمة البالغين جداً.. البالغين أكثر من اللازم، الذين يتجاوزون الألم، بأنها الحياة، وأن الراحلين قد عبروا إلى الضفة الأخرى، حيث سيلتحق الجميع بهم في وقت ما. وسواء قبلت هذه الفكرة أو قاومها محبوك، ستكون هي الواقع الجديد الذي يجب عليك التعامل معه، الإنكار سيكون في أول الأمر، ثم يأتي الوقت الذي تذكر فيه المتوفى في سياق الحديث. سيكون هناك ألم بالتأكيد، لكنه أخف من المرة الأولى، وستعيش بأثرك وقتاً طويلاً؛ قيمة، وقامة نقدية، وإنسانية أيضاً.
هذا كل شيء للآن، كل ما أخبرتك به ستنساه حالما تخرج من غرفة الولادة، ولكنه سيتحقق بالكامل.. خذ كل ما قلته لك بعناية. سيتهيأ لك أنك تتذكره في فترات منقطعة غير واضحة. لا تتمسك بهذه الفكرة.. اتبع عقلك، وأشرِك قلبك في قراراتك.
– ولن أتذكره؟
– أبداً، ولكنك ستعيشه بالكامل، وتتذوق مرارته وحلاوته معاً. أطلق صرختك الأولى حتى يتأكدوا من سلامة رئتيك بعد خروجك من رحم والدتك.. هذه هي المرة الأولى التي تتنفس خارج جسدها.. استعدَّ لخوض رحلة الحياة.. ثم.. نم بسلام.
– متى ستنتهي الرحلة؟
– ………..
***
انتهت الرحلة في 27 يوليو 2020.