المنشور

السفر الذي يُغيّر

في “موت طفيف” للروائي والقاص البحريني أمين صالح، يستوقني ضمن كثيرٍ من المقاطع التي احتوى عليها الكتاب ما نصه: “الجهات ليست صديقة المسافر”، ربما لأنها في ما يشبه درس الضياع، ذهبت تلك الكتابة، وفي بلادٍ لا دليل لديها عليه. ليست كل الجهات بتلك الصفة التي نحتها أمين صالح ضمن مجال شعري لا حجة لنا عليه. هناك جهاتٌ صديقة له، وليس بالضرورة أن يكون قد ألف المكان في السفر الذي هو فيه، وليس بالضرورة أن يكون بشر تلك الجهات والمكان قادرين على أخذه إلى الألفة التي يحتاج أو يفتقد، فيدخل في مصالحة مع نفسه ومع كل ذلك.

المسافر بطبعه يقلق من المكان الأول الذي يصله. لا يرى جهات فيها أصلاً، كل الجهات متشابهة، وأحيانا كل البشر متشابهون، حين لا يأتيها مشحوناً بذلك القلق.

لكن نفس المسافر يملك القدرة على أن يجعل الأمكنة الجديدة التي تصلها روحه، تتطوع في تقديم جهاتها له، بحيث يحفظ ملامحها ودهاليزها كما يحفظ ملامح أبنائه أو أصدقائه، أو حتى العابرين في البلاد التي جاء منها.

كيف يمكننا من دون السفر أن نكتشف جهات جديدة تعلمنا إعادة النظر في الجهات التي جئنا منها. بمعنى أن نقف عليها طويلا. أن نفهم قدرتها على احتوائنا، وقدرتها أيضا على تنفيرنا منها، بموهبتها الطاردة لكل من تراه غريبا. يحدث ذلك في الأمكنة التي ننتمي إليها .

الجهات لها حاستها من الغرباء. لها حاستها أيضا أمام أهل الأرض. ولهم عندها مراتب ومقامات. منهم من يستوى على أرائكها، ومنهم من تخصص له مساحة على رصيف، ومنهم من تراه أهلا لأن يفترش العراء وهو محاصرٌ بالوحوش وقطاع الطرق والباحثين عن مواضع النهب.

لا درس أعمق من السفر. لا درس أقدر على أن يربي فينا التمسك بالجهات التي جئنا منها مثلما يفعل السفر. الحنين الذي نصاب به في ذلك الانتقال الذي يشبه تحرك الروح من مركزها، هو الذي يضاعف قيمة التفاصيل في أمكنتنا التي تركناها وراء ظهورنا لأكثر من سبب. ربما بسبب رفاهية منحناها لأنفسنا. ربما هرباً من جحيم لا نعرف اسمه، ولكن يكفي أن نضعه في ذلك التصنيف. ربما بحثا عن ذواتنا القلقة والوجلة التي تحتاج في ظروف ما إلى أن تقسو على نفسها بشكل مضاعف بالنأي والابتعاد، كي نرى بشكل أكثر وضوحا وصدقا.

لا معنى للسفر إن لم نكتشف حجم أخطائنا وخطورتها، وأثرها على من حولنا. لا معنى للمسافر أيضا إن لم يعد بدرس لمكانه الأول. ولا معنى للمسافر الذي يعود كمن لم يغادر. ولا معنى للسفر الذي لا تعود منه بحصيلة خبرتك عن نفسك، قبل خبرتك عن البشر والأمكنة التي عاينتها ووقفت عليها. وبالنتيجة، لا معنى لتلك الجهات.

وفي العودة إلى الجهات. كل الجهات تتشابه خارج الحدود التي تنتمي إليها ما لم تكتشف علاقة البشر بها، والأثر والتحول الذي تحدثه في المكان والمحيط من حولها.

جهات المسافر أن يتذكر، وعجز منه أن ينتظر تذكرها لها، ليس باعتبارها جمادا، وهي ليست كذلك بالمناسبة، بدليل قدرتها على إحداث التغيير داخلنا.

وأجمل الجهات تلك التي لا تغير الجميل عندنا. وقدرتنا على تغيير القبيح عندها. تبدو وصفة صعبة، لكن من قال إن الإنسان ولد سهلا كي يكون على علاقة من السهل؟