المنشور

صداقات الأدب

كان جان جاك روسو يقطع كيلومترات طويلة مشيا على الأقدام لزيارة صديقه دنيس ديدرو، كلاهما كان لديه عقلا نقديا جامحا، ونظرة فلسفية عميقة للحياة. كانا في الثلاثين من عمريهما حين جمعتهما الأقدار، وظلاّ صديقين طيلة العمر.
بعد وفاة روسو عاش ديدرو ست سنوات بدون صديقه، كانت أقسىى سنوات حياته، قبل أن يغادر هذه الحياة هو الآخر.
هذه الصداقة الفريدة بين مفكرين عظيمين اتفقا في بعض الأفكار واختلفا في بعضها كان لها تأثيرا كبيرا على مسار الثورة الفرنسية، لكن الأكيد أنهما دفعا الثمن غاليا بسبب أفكارهما تلك، فقد تقدما عن مجتمعهما بسنوات كثيرة، أمّا شهرة كل واحد منهما فقد كانت وليدة اجتهاد شخصي، فقد رسم كل واحد منهما خط حياته قبل اللقاء بالآخر.
ظلّت صداقة الرجلين على هامش المهتمين بالأدب، مثلها مثل غيرها من الصداقات التي تميزت في تاريخ الزمالة الأدبية. ولعلّ الكراهية بين الأدباء هي التي أخذت حيزا أكبر من الإهتمام، أمّا الحب فقد كان سيد الأعمال الأدبية، سواء كموضوع مطروح أدبيا أو كموضوع محوري في العلاقات الرومانسية التي عاشها الأدباء سرا وعلانية في أزمانهم.
شهدت الساحة الأدبية الكثير من الثنائيات المتنافرة، قامت بتبادل الشتائم وأقسى عبارات القذف، فيما بعضهم استعمل قبضته لتصفية حساباته مع غريمه، مثلما فعل ماريو فارغاس يوسا حين لكم إرنست همينغواي، هذا الأخير الذي كان يشرب حتى الثمالة، كثيرا ما أنهى جلساته النقاشية في بارات باريس بمشاجرات كالتي سجلها التاريخ ضده حين وجه ضربات لصديقه اللدود فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، وظلّت صداقتهما تتأرجح حتى انتهت نهائيا، وما عاد هناك أمل لإنقاذها، فقد استنفذ كليهما حماقاته المراهقاتية مع الآخر.
بعض تلك العلاقات المتوتّرة نجدها مبثوثة في مقالات كثيرة هنا وهناك، تروي تفاصيل تلك الكراهية التي تجاوزت استعمال قبضة اليد إلى استعمال السلاح لتصفية حسابات وهمية ربما أساسها الغيرة والتنافس والشهرة. فيرلين ورامبو، بروست وجين لوريان نماذج جيدة لتلك القصص المؤسفة التي وثقها التاريخ تحت عنوان الكراهية بين الأدباء.
الموضوع المنسي إذن بين تلك العلاقات المتوترة هو موضوع الصداقة، والتوافق الفكري، والإنسجام الأدبي، ربما لأن النّاس ميّالين لسماع قصص الكراهية أكثر من قصص الصداقة، تماما كميْلهم لقصص العشق الممنوع أكثر من قصص الأزواج المملة.
وربما في مناسبة كهذه واحتفاء بالصداقة الأدبية النادرة، وجب علينا أن نتذكّر صداقة يوهان غوته أشهر أدباء ألمانيا في القرن التاسع عشر بالشاعر المسرحي فريدريتش شيللر، والتي استمرت أيضا حتى وفاة هذا الأخير، ويذكر التاريخ كم حاول بعضهم الإيقاع بينهما دون تحقيق أدنى نتيجة، فقد كان ما يربطهما متينا وفريدا من نوعه، وظلّ علامة فارقة في حياة غوته نفسه، إذ اعتبرها مرحلة جديدة في حياته، كانت أكثر انتاجية، وأكثر سعادة كما وصفها بنفسه. وقد شهد لهما النقاد بعظمة صداقتهما، وأنها حدث استثنائي وجميل أثرى المسار الجمالي الفكري للأمة. يختصر ريتشارد فريدنتال أن صداقتهما ” تنافس ناجح، أو هدنة بين قوتين عظيمتين عبر خط ترسيم لحدود نهائية لا تشكيك فيها.
امتدت المراسلات بين غوته وشيللر لمدة عشر سنوات، ضمت الكثير من الرؤى الإبداعية، في نقطة التحوّل الكبرى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في ألمانيا، والتي تميزت بشكل خاص بتطور الفلسفة وشهدت ولادة النظريات الجمالية…
أهمية تلك الرسائل أيضا كشفت حجم التّبصّر المدهش في مجالات أخرى علمية، من علم الأحياء إلى علم الفلك والفيزياء والبصريات التي أسس لها غوته على وجه الخصوص.
ثمة من كتب آنذاك أن عشر سنوات فترة قليلة جمعت بين مفكرين بحجميهما، وثمة من اعتبرها على قلّتها اتّسعت لمعارف كثيرة، فتحت أبواب العصر كله على حقبة مثمرة لا تزال ألمانيا تستثمر فيها، ومنها العالم بأسره.
في عالمنا العربي تميز أدباء بصداقاتهم الجميلة، مثل صداقة عبد الرحمان الأبنودي وأمل دنقل رغم أنهما شاعران، وأهل الحكمة قالوا “عدوّك ابن كارك” لكن رقة الرجلين خالفت السائد، ومثلهما يوسف القعيد وجمال الغيطاني، ففي مقابلة مؤثرة جدا، يبوح القعيد أنه كلما رن هاتفه في الصباح ظنّ أن الغيطاني يطلبه كعادته، وأنه غير مصدّق رحيله وغيابه.
ولدي شعور عميق جدا أن ما تناقلته بعض المواقع عن هذه المقابلة التلفزيونية يخفي الكثير مما لا نعرفه عن هذه الصداقة، ويخدم الواجهة الثقافية للأدب العربي، فقد تعاون الرجلان فيما بينهما فكرييا وأدبيا، وكلاهما تميز في كتابة الرواية، وإن اختلفا في توظيف عناصر بنائها كرموز نقدية للماضي والحاضر المصري.
ولعلّ الكلام نفسه يقال بشأن المراسلات التي كانت بين عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، والتي قدّم لها الدكتور فواز طرابلسي، وصدرت بعد وفاة منيف، وقد صدرت طبعته الأولى العام 2012، عن دار التنوير، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر.
نبدأ قراءة الكتاب فتقشعرٌّ أبداننا، أو هذا ما شعرت به، وأنا أقاوم ارتعاشتي منذ مقدمة طرابلسي “تبدأ القصّة بروائي يفقد ثقته بالكلمة، إلى حد اعتبارها تعهرت، فيتمنى لو أنه يرسم.بل هو يحاول في الرسم. من جهته، فنان مغترب، لم يعد يكتفي بلغة الخط واللون والكتلة، يريد “البوح” حسب تعبيره بالكلمات. يتقاطع الصديقان عند هم كبير.فنان يبحث عن طرق تعبيربالكلمات، وروائي مهوس بالفنيجرب في طاقة الكلمات، على تعبير عن الخط واللون والكتلة”. يجتمع الإثنان على حقول فسيحة يزرعانها بكل أشكل الفنون الممكنة، ولا يمكننا سوى أن نرى بوضوح ما تخبئه النصوص الأدبية القاتمة من رقة لا مثيل لها، وصفاء جميل في المشاعر ظلّ حبيس ستائرنا الإجتماعية الغريبة، التي تضع الأدباء في قوالب خشبية صلبة، وتحشر الفنان في قماشة تشبه الكفن.
في هذا الكتاب نتعرّف على “عاشق البنفسج” كاتبنا منيف، وصديقه الرّسام والنحات السوري مروان قصاب باشي، الذي يصمم بنفسه غلاف الكتاب، ويسعد بتقاسم نبض تلك الصداقة مع قراء منيف وقرّاء جدد. بعد صدور الكتاب بأربع سنوات يرحل هو الآخر، يلتحق بصديقه الذي سبقه إلى الرّفيق الأعلى بإثني عشرة سنة.
في هذه الرسائل رأيت الجسر بين عالمين، بين عالم يهوي في الشرق، هو عالم منيف، وبين عالم قصاب باشي الأوروبي المتربع على واجهة تشرق عليها الشمس، وتهب عليها نسائم الحياة. رأيت ما يمكن أن يمنحه صديق لصديقه يعاني الخواء والتعب النفسي من قوة تمنعه من التّداعي والانهيار. رأيت أيضا الكثير من العشق الشّامي الدفين للكاتب الذي وجد ضالته في صديقه ليقول ما يسكنه من هواجس تجاه دمشق التي يحبذ أن يسميها الشام. نكاد نرى بوضوح قراءته العجيبة لتعثرات الأفكار وتوعُّكاتها الإيديولوجية التي نعيش نتائجها اليوم.
كل الحقائق تخرج من بطون الكلمات طازجة كأنّها لم تكتب فقط بين مبدعين من كبار مبدعي هذا الشرق الحزين، ولكنّها كتبت لنا، في كل الأزمنة العربية، منذ هزيمة 67 إلى هزائمنا اليومية الحالية. نتكئ على أطراف الرسالة الأخيرة للقصاب باشي، دون رد من صديقه، نفتح فصلا من الرسائل الملونة بالألوان المائية، بخط يده، نشعر أن الكتاب فيه روح، ويتأهب لعناقنا. نشعر بحرارة الصداقة، وبحقيقتها الملموسة، مثل كائن حي …
نشم روائح الأزهار المزروعة في الصفحات الأخيرة، وقد اصبنا بشلل الدهشة والإعجاب، من الكاتب منيف أم قصاب باشي؟ من الرّسام بينهما؟ ما كل ذلك الإبداع الذي لم يصلنا منه غير أربعمائة صفحة من أجمل ما كتب في صداقات الأدب بين كاتبين عربيين. عظيمان مثل غيرهما من عظماء الأدب. صنعا لنفسيهما وطنا إسمها “الصداقة”.