المنشور

كيف عَلّمَ جيفارا كوبا مواجهة فايروس كورونا (2 -2)

بقلم: Don Fitz*
ترجمة: غريب عوض
عندما كان رافئيل كوريا Rafael Correa رئيساً للأكوادور، كان أكثر من ألف طبيب كوبي يشكلون العمود الفقري لنظام الرعاية الصحية هُناك. تم انتخاب لينين مورينو Lenin Moreno رئيساً للأكوادور في عام 2017 وتلى ذلك طرد الأطباء الكوبيين، مما ترك الطب العام في فوضى. قام مورينو بتنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بتخفيض ميزانية الصحة في الأكوادور بنسبة 36%، مما تركها دون أخصائي الرعاية الصحية، وبدون مُعدات الوقاية الشخصية وقبل كل شي، بدون نظام رعاية صحية مُتماسك. وفي حين كان لدى فنزويلا وكوبا 27 حالة وفاة من مرض كورونا COVID-19، كان لدى Guayaquil أكبر المُدن السلفادورية ما يُقدر بـ 7,600 حالة وفاة.
الإستجابة الطبية الدولية: ربما اشتهر الطب الكوبي بأُمميتهِ. والمثال الواضح على ذلك هو الزلزال المُدمر الذي عصف بهايتي Haiti في عام 2020. أرسلت كوبا بطاقم طبي الذي عاش أفرادهِ بين الناس في هايتي وبقوا هُناك لعدة شهور أو سنوات بعد الزلزال. غير أن الأطباء الأمريكيين لم يناموا بين مجاميع الضحايا الهايتيين. بل عادوا إلى الفنادق الفاخِرة في الليل وقادروا بعد بضعة أسابيع. وضع John Kirk مصطلح “سياحة الكوارث” يصف بذلك الطريقة التي استجابت بها الكثير من الدول الغنية للأزمة الصحية في البُلدان الفقيرة.
الإلتزام الذي يظهره الطاقم الطبي الكوبي دولياً هو أستمرار للجهود التي يبذلها نظام الرعاية الصحية في البلاد في قضاء ثلاثة عقود في إيجاد أفضل طريقة لتقوية الروابط بين المتخصصين في تقديم الرعاية ومن يخدمونهم. وبحلول عام 2008، كانت كوبا قد بعثت بما يزيد على 120,000 من المتخصصين في الرعاية الصحية إلى 154 بلداً، وأعتنى أطباؤها بما يزيد على 70 مليون إنسان في العالم، وما يقرب من مليوني شخص يُدينون بحياتهم للخدمات الطبية الكوبية في بلادهم.
أفادت وكالة أسوشيتيد برس أنهُ عندما أنتشرت جائحة كورونا COVID-19 في جميع أنحاء العالم، كان لدى كوبا سبعة وثلاثون ألف عامل طبي في سبعة وستين دولة. وسرعان ما نشرت أطباء إضافيين في سورينام، وجامايكا، ودومينيكا، وبليز، وسانت فنسنت، والجرينادين، وسانت كيتس ونفيس، ونيكاراغوا. وفي 16 نيسان/أبريل، ذكرت Granma جريدة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي أنهُ “تم نشر 21 كتيبة من المُتخصصين في الرعاية الصحية للإنضمام إلى الجهود الوطنية والمحلية في 20 دولة”. وفي نفس اليوم أرسلت كوبا مائتي موظف صحي إلى دولة قطر.
وبما أن شمال إيطاليا أصبح بؤرة حالات فيروس كورونا COVID-19، كانت كريما Crema في منطقة لومباردي Lombardy من أكثر المُدُن تَضرراً. امتلأت غرفة الطوارئ في المستشفى حتى كامل سعتها. وفي آذار/مارس، بعثت كوبا إثنان وخمسون طبيباً ومُمرضه الذي أقاموا مستشفياً ميدانياً بِهِ ثلاث أسِرة في وحدة العناية المُركزة واثنين وثلاثين سريراً آخر بالأُكسجين. كانت الدولة الكاريبية الأصغر والأفقر من بين الدول القليلة التي تُساعد قوة أوروبية كُبرى. كان لتدخل كوبا أثرهُ. فبحلول 17 نيسان/أبريل، ثبتت إصابة 30 من المتخصصين الطبيين مِن الذين سافروا إلى الخارج بفيروس كورونا COVID-19.
جَلّبْ العالم إلى كوبا: الجانب الآخر من إرسال كوبا للعاملين الطبيين إلى جميع أنحاء العالم هو الأشخاص الذين جلبتهم إلى الجزيرة من الطلاب والمرضى. عندما كان الأطباء الكوبيين في جمهورية الكونغو في عام 1966، رؤوا الشباب يدرسون بمفردهم تحت ضوء مصابيح الشوارع أثناء الليل ورتبوا لهم للقدوم إلى هافانا. وحتى أنهم جلبوا معهم مزيد من الطلاب الأفارقة خلال الحروب الأنغولية من عام 1975-1988 ثم جلبوا أعداداً كبيرة من طلاب أمريكا اللاتينية لدراسة الطب إثر هبوب الإعصارين ميتش Mitch و جورجيز Georges. حتى أن عدد الطلاب الذين قدِموا إلى كوبا للدراسة ازداد في عام 1999 عندما افتتحت فصولاً في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب (ELAM). وبحلول عام 2020، دربت مدرسة ELAM ثلاثون ألف طبيب من حوالي مائة بلد.
كما أن كوبا لديها تاريخ في جلب المرضى الأجانب للعلاج. بعد الإنهيار النووي عام 1986 في تشيرنوبيل في الإتحاد السوفيتي، جاء خمسة وعشرون ألف مريض، معظمهم من الأطفال، إلى الجزيرة لتلقي العلاج، وبقي بعضهم لأشهُر أو سنوات. فتحت كوبا أبوابها وأسرة المستشفيات، ومُعسكر صيفي للشباب.
في 12 آذار/مارس، ما يُقارب خمسون من البحارة والرُكاب على متن الباخِرة البريطانية MS Braemar أما مُصابين بفيروس كورونا COVID-19 أو ظهرت عليهم الأعراض حينما اقتربت الباخرة من جُزُر البهاما، دولة الكومنولث البريطاني. ونظراً لأن الباخرة Braemar ترفع علم جُزُر البهاما كسفينة تابعة للكومنولث، يجب أن لا تكون هناك مشكلة في إنزال من كانوا على متنها للعلاج والعودة إلى المملكة المتحدة.
ولكن وزارة المواصلات في جزر البهاما أعلنت أنهُ لن يُسمح لسفينة الرحلات البحرية بالرسو في أي ميناء في جُزُر البهاما “ولن يُسمح لأي شخص بالنزول من السفينة”. وخلال الأيام الخمسة التالية، رفضتها الولايات المتحدة وبربيدوس (دولة أُخرى من دول الكومنولث) والعديد من دول الكاريبي الأُخرى. وفي 18 آذار/مارس أصبحت كوبا البلد الوحيد التي سمحت لما يزيد على ألف من بحارة ورُكاب الباخِرة Braemar بالرسو. أُتيح العلاج في المستشفيات الكوبية لهؤلاء الذين شعروا أنهم غير قادرين على السفر بالطائرة. أغلبهم ذهبوا بالباصات إلى مطار جوزي مارتي الدولي ليغادروا إلى المملكة المتحدة. وقبل المُغادرة، وضع بحارة الباخرة Braemar لافتة كُتِبَ عليها “نحنُ نُحِبُكِ يا كوبا”. أحد الرُكاب وأسمها Anthea Guthrie كتبت في صفحتها على Facebook: “لقد جعلونا لا نشعر برحابة الصدر فحسب، بل جعلونا موضع ترحيب بالفعل.”
الدواء للجميع: في عام 1981، كان هناك إنتشار سيء بشكل خاص لحُمى الضنك التي ينقلها البعوض، والتي تضرب الجزيرة كل بضع سنوات. في ذلك الوقت، عَلِمَ الكثيرون لأول مرة بالمستوى العالي جداً لمعاهد الأبحاث الكوبية التي ابتكرت مُضاد للفيروسات ألفا 2B لعلاج حُمى الضنك بنجاح. وكما تُشير هيلين ياف Helen Yaffe، ” لقد أظهر عقار الإنترفيرون الكوبي فاعليته وسلامته في علاج الأمراض الفيروسسية بما في ذلك إلتهاب الكبد B و C والقوباء المنطقية وفيروس نقص المناعة المُكتسبة الإيدز وحمى الضنك.” وتم تحقيق هذا من خلال منع المُضاعفات التي قد تؤدي إلى تفاقم حالة المريض وتؤدي إلى الوفاة. استمرت فاعلية الدواء لعقود من الزمن، وفي عام 2020، أصبح لهُ أهمية حيوية كعلاجاً مُحتمل لجائحة كورونا COVID-19. وما بقي أيضاً هو حُرص كوبا على تطوير العديد من الأدوية ومُشاركتها مع دول أُخرى.
لقد سعت كوبا للعمل بشكل تعاوني تجاه تطوير الأدوية مع دول مثل الصين وفنزويلا والبرازيل. ونتج من التعاون مع البرازيل لقاحات إلتهاب السحايا وبتكلفة بلغت 95 سنتاً بدلاً من 15 إلى 20 دولاراً لكل جرعة. وأخيراً، تُعلم كوبا الدول الأُخرى إنتاج الأدوية بنفسها حتى لا يعتمدوا على شراؤها من الدول الأغنى.
من أجل التعامل بشكل فعال مع المرض، كثيراً ما يتم البحث عن الأدوية لثلاثة أهداف: فحوصات لتحديد المُصابين؛ علاجات للمُساعدة في درء أو علاج المشاكل؛ واللقاحات لمنع الإلتهابات. وبمجرد توفر الفحوصات السريعة لتفاعل البوليميراز المُتسلسل، بدأت كوبا في استخدامها على نطاق واسع في جميع أنحاء الجزيرة. طورت كوبا كُلاً من Interferon Alpha 2B (بروتين مؤتلف) و PrevengHo-Vir (دواء منزلي). وأفادت قناة teleSUR التلفزيونية أنهُ بحلول 27 آذار/مارس، طلبت أكثر من 45 دولة عقار Interferon الكوبي من أجل السيطرة على الفيروس ثم التخلص منه.
يسعى مركز كوبا للهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية إلى ابتكار لقاح ضد فيروس كورونا COVID-19. أكد مُدير أبحاث الطب الحيوي، الدكتور Gerardo Guillén، أن فريقهُ يتعاون مع باحثين صينيين في يونغزو Yongzhou بمقاطعة هونان Hunan، لإبتكار لقاح لتحفيز جهاز المناعة والذي يمكن تناوله عن طريق الأنف، وهو طريق انتقال فيروس كورونا COVID-19. وأياً كان ما تُطوّرهُ كوبا، فمن المؤكد أنهُ ستتم مُشاركتهُ مع دول أخرى بتكلفة مُنخفضة، على عكس الأدوية الأمريكية الحاصِلة على براءات اختراع على حساب دافعي الضرائب، بِحيثُ يمكن لِعمالقة الأدوية الخاصة أن تبتلع أُولئك الذين يحتاجون إلى الدواء.
البُلدان التي لم تتعلم كيف تُشارك: تُظهِر بعثات التضامن الكوبية إهتماماً حقيقياً الذي غالباً ما يبدو أنهُ غير موجود في أنظمة العناية الصحية في الدول الأُخرى. غالباً ما تكون الجمعيات الطبية في فنزويلا والبرازيل ودول أُخرى مُعادية للأطباء الكوبيين. ومع ذلك، لا يمكنهم العثور على ما يكفي من أطبائهم للسفر في ظروف خطرة أو الذهاب إلى المناطق الريفية والفقيرة، على ظهور الحمير أو في الزوارق إذا لَزِمَ الأمر، كما يفعل الأطباء الكوبيون.
عندما كُنتُ في البيرو Peru في عام 2010، قُمتُ بزيارة المركز الصحي في مدينة بيسكو Pisco. وشرح لي مدير المركز الكوبي ليوبولدو غارسيا Leopoldo Garcia بأن الرئيس ألان غارسيا Alan Garcia في تلك الفترة لا يُريد أطباء كوبيين إضافيين و يجب عليهم الصمت أذا أرادوا البقاء في البيرو. تُدرك كوبا جيداً أنهُ يتعين عليها تعديل كل بعثة طبية لِتُلائم المناخ السياسي.
هناك استثناء واحد على الأقل للأطباء الكوبيين الباقون في بلد وفقاً لنزوة القيادة السياسية. بدأت كوبا تقديم العناية الطبية في الهندوراس في عام 1998. وخلال الثمانية عشر شهراً الأولى من جهود كوبا في الهندوراس، انخفض معدل وفيات الأطفال في البلاد من 80.3 إلى 30.9 حالة وفاة لكل 1000 ولادة حية. تغيرت الأجواء السياسية، وفي عام 2005، قررت وزيرة الصحة الهندوراسية ميرلين فرنانديز Merlin Fernadez طرد الأطباء الكوبيين. ومع ذلك، أدى ذلك إلى مُعارضة شديدة لدرجة أن الحكومة غيرت مسارها وسمحت للكوبيين بالبقاء.
هُناك مِثال كارثي وجدير بالمُلاحظة عندما رفضت دولة ما عرض المُساعدة الكوبية في أعقاب إعصار كاترينا. بعد ضربة الإعصار في عام 2005، كان هناك 1,586 من المتخصصين الصحيين الكوبيين على استعداد للمُغادرة إلى نيو أورلينز New Orleans. إلا أن الرئيس جورج دبليو بوش George W. Bush، رفض العرض، مُتصرِفاً كما لو كان من الأفضل أن يموت المواطنون الأمريكيين بدلاً من الإعتراف بجودة المُساعدة الكوبية.
على الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة لا تتعامل بلطف مع الطلاب الذين يدرسون في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM، إلا أنهم لا يزالون قادرين على تطبيق ما تعلموه عندما يعودون إلى الوطن. في عام 1988، أسست كاثرين هول تروجيلو Kathryn Hall-Trujillo من مدينة الباكركي، في نيو مكسيكو مشروع الميلاد الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يُدرب المؤيدين للعمل مع النساء الأمريكيات من أصول أفريقية ويتصلوا بهم من خلال العام الأول من حياة الطفل الرضيع. إنها مُمتنة لشراكة مشروع الميلاد مع كوبا والدعم الذي قدمه العديد من طلاب مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM. في عام 2018، أخبرتني: “نحنُ مكان عائلي لطلاب مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM الذين يرون العمل معنا كوسيلة لتطبيق ما تعلموه في مدرسة أمريكا اللاتينية للطب.”
استرجع الدكتور الكوبي جوليو لوبيز بنيتيز Julio Lopez Benitez في عام 2017 بأنهُ عندما قامت الدولة بتجديد عياداتها في عام 1974، كان نموذج العيادة القديم المرضى يذهبون إلى العيادات، ولكن النموذج الجديد كانت العيادات هي التي تذهب إلى المرضى. وبالمثل، عندما نظرت الدكتورة ميليسا باربر Melissa Barber، خريجة مدرسة أمريكا اللاتينية للطب ELAM، إلى حيها في جنوب برونكس خلال جائحة كورونا COVID-19، أدركت أنهُ في حين طلبت معظم الولايات المتحدة من الناس الذهاب إلى الوكالات، فإن ما يحتاجه الناس هي مُقاربة مُجتمعية تُجند المنظمين للذهاب إلى الناس. تعمل الدكتورة باربر في تحالف مع اتحاد جنوب برونكس South Bronx Unite، وموت هافن ماماس Mott Haven Mamas ، والعديد من جمعيات المُستأجرين المحلية. وكما هو الحال في كوبا، إنهم يحاولون تحديد أُولئك من هم في المجتمع الذين هم عِرضة للمرض، بما فيهم “كبار السن، العوائل التي لديها أطفال رُضع، وأطفال صغار، الأشخاص الذين لا يُغادرون البيت، الأشخاص الذين يعانون من اعتلالات مُتعدِدة ويكونون عرضة بالفعل لفيروس مثل هذا. “
عندما يكتشفون من يحتاج إلى المُساعدة، فإنهم يبحثون عن الموارد لمُساعدتهم، مثل البقالة ومُعدات الوقاية الشخصية والأدوية والعلاج. بإختصار، تتمثل مُقاربة التحالُف في الذهاب إلى البيوت لضمان عدم إخفاق الناس. هُناك فجوة هائلة مع مجموعات كبيرة تتجه نحو الحافة. إن ما تحتاجة البُلدن التي تتبني إقتصاد السوق هو إجراءات مثل تلك في جنوب برونكس وكوبا التي يتم تنفيذها على نطاق وطني.
كان هذا ما تصورهُ تشي جيفارا في عام 1951. قبل عقود من انتشار فيروس كورونا COVID-19 من شخص إلى آخر. أنتقل خيال تشي من طبيب إلى آخر. أو رُبما شارك الكثيرون رؤاهم الخاصة على نطاق واسع لدرجة أنهُ بعد عام 1959، جلبت كوبا الطب الثوري في أي مكان تستطيع. من الواضح، أن تشي لم يقُم بتصميم الإجراءات الداخلية المُعقدة للنظام الطبي الحالي في كوبا. ولكنهُ تبعهُ مُعالِجون نسجوا تصميمات إضافية في نسيج يتكشف الآن عبر القارات. وفي أزمنة مُعيّنة في التاريخ، آلاف أو ملايين الناس ترى صور مُشابهة لمستقبل مختلف. إن انتشار أفكارهم على نطاق واسع بما فيه الكفاية خلال ساعة تفكك الهياكل الإجتماعية، عندها يمكن أن تُصبح الفكرة الثورية قوة مادية في بناء عالَمٌ جديد.

Don Fitz* هو من ضمن أعضاء هيئة تحرير مجلة Green Social Thought وكان مُرشح حزب الخُضر لحكم ولاية ميزوري لعام 2016. وكِتابهِ “الرعاية الصحية الكوبية: الثورة المُستمرة” قادمٌ من مجلة Monthly Review.