المنشور

النسوية في موجتها الرابعة .. أين نقف منها!

تعيد الحركة النسوية في الآونة الأخيرة إنتاج نفسها في العالم، أو ما يعرف بالموجة الرابعة لهذه الحركة التي بدأت موجتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من رحم البيئة السياسة الإشتراكية اللبيرالية والتي هدفت إلى فتح الفرص للنساء مع التركيز على حق الإقتراع.
التحرك عملياً بدأ في مؤتمر سينيكا فولز في 1848، ثم صاغت مبادئه إليزابيث كادي ستانتون فيما يسمى إعلان سينكيا فولز، وتزامنت هذه الحركة مع دعوات حق المرأة في التصويت بالإضافة إلى حركات مطالبة بإلغاء الرق.
الموجة الثانية بدأت في الستينيات من القرن الماضي واستمرت حتى التسعينيات، بالتزامن مع صعود الحركات المناهضة للحرب والمطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الأقليات في العالم، غير أن هذه الموجة أتسمت بخطاب متشدد وراديكالي بحسب وصف الكثير من المهتمين بالحركات النسوية، كما أن الموجة الثانية كان خزّانها الرئيسي من النساء ذوات البشرة السوداء تحت شعار التضامن، وأن الصراع طبقي ورفعوا حينها شعارات مناهضة التمييز.
أما الموجة الثالث فجاءت مكملة لمبادئ الموجة الثانية مع صبغة شبابية أكثر، لكونها مرحلة نضالات فردية أكثر منها حركة جماعية تحت عنوان “لم نعد بحاجة للنسوية”.
أما الآن والعالم يشهد صعوداً للموجة الرابعة، التي تبدو أكثر وضوحاً وتحمل إمتدادات أكثر عمقاً وتجذراً من سابقتها، فيجدر بنا السؤال عن مفهومنا المحلي للنسوية، عن مدى ابتعادنا أو قربنا من هذا المفهوم، عن قبولنا أو رفضنا له ولماذا، أيضا من المهم أن نسأل عن مدى فهمنا الصحيح للنسوية وقدرتنا على فصل الأهداف عن الخطابات، خصوصا أن هذا المفهوم ارتبط في العديد من المراحل بخطابات وشخصيات نسائية راديكالية أثرت على تبني أو قبول العديد من المجتمعات لهذه الأهداف، ما يحتم علينا ضرورة وضع الأهداف على الطاولة وقياس مدى قدرة مجتمعاتنا على استيعابها وقبولها.
تهدف النسوية بطبيعة الحال إلى الدفاع عن حقوق المرأة، والمساواة بين الجنسين في السياسية والاقتصاد والحياة الإجتماعية. وفي مسألة المساواة تحديداً هناك خلط كبير في المفاهيم. خلط أو لبس بين مفهومي المساواة والتماثل، كأن نقول المرأة “نفس” أو “مثل” الرجل، وعلى اعتبار أن الرجل يمتلك قدرات جسدية أكبر، فبالتالي لا يمكن للنساء أن يكنّ مثل الرجال، وهنا يكمن الخلل أو التضليل الحاصل في المفهوم، الأمر الذي أوقع بعض النسويات أنفسهن في الفخ ودفعهن إلى خوض معارك لا معنى لها في تحدي اجسادهن من باب اثبات القدرات الجسدية عبر العمل في مجالات الأعمال الشاقة وغيرها، ورغم أن هذا خيارهن ولكن من المهم أن ندرك أن “نفس” لا تعني “متساوٍ” لأن عدم المساواة الجسدية لا تعني عدم الحصول على حقوق متساوية.
على سبيل المثال طفلاك من نفس الجنس ويتمتعان بقدرات ذهنية ومؤهلات شخصية متساوية ولكن أحدهما أقل في قدراته الجسدية هل يصح منع الطفل الأضعف من الحصول على حقوق متساوية مع الأقوى بنية؟!
مثال آخر، طالبان في نفس الصف أحدهما لديه قدرات جسدية أكبر من الآخر، هل يصح منع الضعيف من الحصول على الموارد التعليمية وفرص تطوير المهارات بسبب ضعف قدراته الجسدية؟ إذا كيف لنا أن نعمق فهمنا لمسألة المساواة؟
اعتقد، أولاً، من المهم أن نتجاوز حصر مسألة المساواة في المرأة فقط، كطرف مازال هو الأضعف في المجتمع طبعا، إلى الإيمان بجوهر المبدأ أن كل إنسان، يستحق حقوقًا متساوية وفرصاً متساوية بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه أو عرقه، وإذا كان هناك من تثير هذه الفكرة مخاوفه، فعليه أن يكون صريحاً مع ذاته عن منبع هذه المخاوف ودوافعها، وربما هي الخطوة الأولى في مسار أحداث أي تحول في نمطية التكفير لدى الأفراد والجماعات.
ومن ثم يأتي السؤال الآخر للمعارضين، لماذا تعارض أن تحصل المرأة على حقوق متساوية بالكامل على كل الاصعدة. هل من العدالة أن تحصل مجموعة على كل الفرص، وتحرم فئات أخرى فقط لأن هناك اعتقاداً بأنها ضعيفة، ما سبب ضعفها هل هو ضعف أصيل أم هو نابع من منظومة المجتمع، وبصراحة علينا أن نكون صادقين مع انفسنا قبل الإجابة على هذه الأسئلة.
وأخيرا، هل المساواة تمنع وصول المجتمعات إلى تنمية حقيقية أم أنها الاستثمار الأول في التنمية البشرية؟!
الإجابة على هذه الاسئلة كفيلة بأن تساهم في وضع أسس ننطلق منها في تبني أو رفض أي تحرك نسوي.
من جانب آخر، لابد من تسليط الضوء على الأسباب التي دفعت مجتمعات وأشخاصاً إلى رفض أي حركة نسوية أو حتى التعاطي مع هذا المفهوم، وعلى رأسها الصورة النمطية المتمثلة في ارتباط الحركة النسوية بالمرأة القوية والمناكفة للرجل وذات الشخصية الصدامية، بالإضافة إلى وجود إعتقاد أن المرأة تريد إزاحة الرجل من واجهة المجتمع بغرض سحب بساط التأثير والسيطرة منه، والأهم الذي يمسّ مجتمعاتنا هو الاعتقاد أن النسوية ستقلب العادات والتقاليد رأساً على عقب، وستغير طبيعة الأدوار الراسخة بين الجنسيين وستمسّ المعتقدات الدينية، وهذا أمر لابد من وضعه في الحسبان عند مخاطبة المجمتعات.
عموماً، هذه المخاوف والمواقف المسبقة من شأنها أن تتلاشى إذا ما وضعنا مسألة المساواة في نصابها الصحيح، وصححنا المفاهيم والصور النمطية والمعتقدات الخاطئة التي صاحبت النسوية. حينها سنكون أكثر استعدادا للاستقبال الصحيح. وفي نهاية المطاف احترام المعتقدات والقيم والمثل العليا في المجتمع عندما توضع في عين الاعتبار خلال أي تحرك أو نشاط مدني يكون له تأثير أكبر من التحركات التي تجنح للتصادم مع القيم الاجتماعية الراسخة. هذا ما أثبتته العديد من الدراسات مؤخراً.
وختاماً، أمام كل التحركات العالمية من أجل تمكين المرأة ووضع هذا الملف ضمن الأهداف العالمية للتنمية المستدامة وفي ظل صعود الموجة الرابعة للحركات النسوية للعالم أين نحن؟ وماذا أعددنا لها على صعيد المجتمع النسائي الناشط؟ ما هي المعوقات والتحدّيات وكيف يمكن مواجهتها للسير على الخطى العالمية؟!