المنشور

الديمقراطية الهشة

فاجأ ترامب وأنصاره من الحزب الجمهوري الديمقراطيين والشعب الأمريكي والعالم باقتحامهم مبنى الكونجرس عشية اجتماعه للتصديق على نتائج الانتخابات التي فاز فيها جو بايدن بغالبية أصوات حاسمة.
غير أن بعض المحللين والمتابعين للشأن السياسي الأمريكي منذ وصول ترامب لرئاسة الجمهورية الأمريكية لم ينصدموا بالفعل الشنيع لترامب برفضه للخسارة في الانتخابات الرئاسية ونزوله إلى مستوى هابط في خطابه السياسي وخروجه على الأعراف الدبلوماسية في تواصله مع الأصدقاء والخصوم على مستوى الداخل والخارج. فقد كان الرجل معتوهاً ومصاباً بداء الجنون والعظمة بما يدفعه لفعل ذلك وأكثر.
ولذلك دعت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى محاكمة ترمب أمام الكونغرس ومنعه من مزاولة العمل السياسي، وأشارت إلى مساعيه للتدخل في نتيجة الانتخابات وعلى وجه الخصوص محاولته لإقناع المسؤول الأول عن الانتخابات في ولاية جورجيا لتغيير نتيجة انتخابات الولاية والعثور على 11780 صوتاً لصالحه بما يكفي لاعتباره فائزاً بأصوات الولاية.
لكن ليس هذا موضوعنا في هذا المقال، بل ما أريد أن أسلط الضوء عليه، هو أطروحة (الديمقراطية الأرفع) التي توجد في الولايات المتحدة الأمريكية كما زعم الكثير من السياسيين والمثقفين، وما عمل على تثبيته الإعلام الرأسمالي في وعي الدول والشعوب. منذ عقود وهذا الإعلام يتغنى بالديمقراطية الأمريكية وما وصلت إليها من تفوق على كل أشكال الديمقراطية، حتى بلغ الحال بالفيلسوف السياسي فوكوياما بالقول بفكرة نهاية التاريخ كنتيجة لوصول الإنسان(الأمريكي/الغربي) إلى أعلى مستوى من الرقي والتفوق في التاريخ البشري.
لا ننفي الإرث التاريخي والتجربة الغنية للديمقراطية الأمريكية، ولكن أليست هذه الديمقراطية ذاتها من انتهكت حقوق السود ومارست العنصرية ضدهم قديماً وحديثاً؟ أليست هي الديمقراطية التي تزداد فيها ثروات الأغنياء على حساب اتساع قاعدة الفقراء؟ وأليست هي الديمقراطية التي سمحت لنظامها واقتصادها وجيشها بغزو البلدان وتدميرها ونهب ثرواتها؟ أو فرض الحصار الاقتصادي وتجويع الشعوب؟
على الكثيرين إعادة النظر في تحديد النماذج الديمقراطية الأفضل والأرفع في تاريخنا المعاصر، فنماذج ديمقراطية مميزة لدول، مثل سويسرا والنرويج والسويد، تستحق من كافة المؤسسات المحلية والدولية الاهتمام بها والاستفادة منها في بناء وتطوير التجارب الديمقراطية في الشرق والغرب.
فدولة كسويسرا بها تعدد هائل على المستوى الديني والعرقي والقومي والثقافي، ومع ذلك يعيش الجميع في أمن وسلام وحرية ومستوى معيشي جيد. أما عن السياسة الخارجية لدولة سويسرا فتقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وإن كان يؤخذ عليها المسايرة لسياسات الدول الكبرى أو عدم الاعتراض عليها، وذلك تحاشياً للاصطدام بها.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى كذبة التمييز بين الجمهوريين والديمقراطيين، ووصفهما بالنقيضين في سياساتهما داخل أمريكا وخارجها. فمن الملاحظ التشابه الكبير في استراتيجيات وخطط الحزبين إلى درجة التطابق. فهما لا يختلفان من ناحية العمل على زيادة تراكم المال في يد طغمة صغيرة من عُتات التجار الرأسماليين، وعلى حساب ملايين الأمريكيين الذين يعانون من مشاكل عديدة كالبطالة والعنصرية والعنف والمخدرات. كذلك لا يختلف هذان الحزبان في سياستهما الخارجية تجاه الشرق الأوسط ودول شرق آسا وأمريكا الجنوبية وقارة إفريقيا. فالعداء تام تجاه روسيا والصين وإيران وكوبا وفنزولا وكوريا الشمالية وفلسطين. قد تختلف الأساليب إلا أن الاستراتيجيات والأهداف واحدة.
ومن المثير للانتباه الحديث المتكرر من الجمهوريين والديمقراطيين في دعم الشعوب في الحصول على الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان والتنمية فيها. غير أن الواقع يُشير إلى وقوف الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الأنظمة المستبدة في إفشال كل حركة وليدة نحو تحقيق الديمقراطية، وذلك من أجل المحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية التي تتناقض مع الطموحات التقدمية العادلة لهذه الشعوب.
لقد أثبتت العقود الأخيرة من القرن العشرين، والعقدين الماضيين من القرن الواحد والعشرين على هشاشة الديمقراطية الأمريكية، فقد سجلت حضوراً سيئاً في إيجاد الحلول لمشكلتي البطالة والعنصرية وتضييق الفجوة الواسعة بين الأغنياء المترفين وعامة الأمريكيين. بينما شكَّل الحضور الخارجي للإدارات الأمريكية الحاكمة وصمة عار في تعاملها مع قضايا الشعوب والدول المختلفة، حيث أشعلت العديد من الحروب ونشرت الدمار في مختلف قارات العالم، بدلاً من المساهمة في إيجاد الحلول الناجعة لها.
والغريب أن العديد من المثقفين والسياسيين من العرب وغيرهم يُريدون أن يقنعوا الرأي العام الدولي وكافة الدول والشعوب بالاقتداء بالديمقراطية الأمريكية حصراً، وبلا خجل.