المنشور

الصرخة

تتوالى صرخات الفنان تبعات تبعات، هل هي صرخات استنجاد أو صرخات قلق من واقع متعب؟

لم تخفَ علينا هذه اللوحة الشهيرة للفنان النرويجي إدوارد مونش التي تمّ إعادة استخدامها في كثير من الأفلام السينمائية والمسلسلات. لا نستطيع الوقوف أمام لوحة كهذه دون انفعال، فما أن تقع العين عليها، حتى تشرع بالذهول، لتبدي اتصالها بحال بطل اللوحة المذعور.

يرجح رسم إدوارد مونش لهذه اللوحة بين العامين ١٨٩٣ و ١٩١٧، مع أربع نسخ أصلية، منجزة على مراحل مختلفة، و كأنها أتت لتؤكد استمرار الصراخ الخارج من أعماق الفنان، هو نفسه ذات الصراخ الذي يجسد الطبيعة القلقة للإنسان المعاصر، و لكن الذي لا يقوى على الإعلان عنه، فيحبسه بالداخل، ليجعله يتكاثر كالخشب المتراكم، بانتظار الاشتعال.

أول ما يشدّ انتباهنا في اللوحة، هو الرجل الذي يعكس وجهه مشاعر الرعب، واقفاً على جسر وهو يمسك رأسه بيديه ويطلق صرخة، على خلفية من الأشكال المتماوجة وتدرجات اللون الأحمر الصارخة.

إن أكثرنا التمعن في الخلفية، سنرى مضيق أوسلو البحري الذي يطل عليه المارة من حي ايكبيرغ ذائع الصيت، و يُحكى بأن مونش استوحى الإطار من غروب الشمس، و حاول تسليط الضوء عليه ليس من خلال اللوحة و حسب، بل كذلك بواسطة أبيات من الشعر المسطورة على طريقته:

كنت أسير على طريقٍ مع صديقين،
كانت الشمس تغرب،
سرعان ما تحولت فجأة إلى دم أحمر
توقفت ، تعبت ، واتكأت على السياج
رأيت في الأعالي دماء
وألسنة من النار فوق مضيق المدينة الأزرق والأسود
واصل أصدقائي ، وبقيت هناك ، أرتجف من شدة القلق
شعرت بصراخ لا نهاية له يمر عبر الكون
و يمزق الطبيعة

نجمع بأن اللوحة تجسد حقا أيقونة الذعر الوجودي في تأمل عواقب تقييد الإنسان عرش الرب، والمسؤولية اللاحقة التي ألقيت على كاهل الإنسان – الأوروبي – في إيجاد مغزى ومعنى للحياة بنفسه، من خلال شطب قول سيدنا المسيح عليه السلام: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ليصبح كل شيء لقيصر مع الأسف.

نحن لا نستغرب، إذن، إن تعالت الصرخات، فلا عدالة في يد قيصر، ولا حكمة في أن يكون كل إنسان قيصر نفسه. صعب جدا ان يعلن الإنسان إحلال عرش لا يقوى على تحمل مسؤوليته، فيذعر. ما أكثر الذعر في هذه الأيام، بعدما خلّفت جائحة “كورونا” عواقب وخيمة، وحملت على الحكومات والناس أجمع مسؤولية إصلاح الضرر الناتج، وإنقاذ أكبر عدد ممكن من البشر. هناك من نجح وهنالك من أخفق ولم تتوقف الجائحة انتشاراً بعد، لا بل توالد الفيروس نسخاً أخرى. لقد توحدنا جميعاً في الضرر، والكل منا أبدى في لحظة أو في أخرى رغبته بالصراخ، و لو من الداخل، على غرار لوحة مونش.

أما عن عوامل الإلهام، يذهب دونالد أولسون ، أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة تكساس، بفرضية احتمال أن يكون سبب الغروب الأحمر الحارق هو الرماد المنبعث أثناء ثوران بركان كراكاتوا عام 1838، فيما يشير المؤرخ روبرت روزنبلوم إلى استيحاء الفنان مونش هيئة بطل اللوحة من مومياء معروضة على ذات الشكل، استوقفته خلال زيارته لمعرض في باريس واستلهم منها رسم النسخة الأولى من لوحته.

يذكر بأن لوحة الصرخة نجحت كذلك في إلهام العديد من المؤلفين، أمثال الكاتب الكندي فينسينت تيبو الذي وظف اللوحة لإنتاج قصته القصيرة ” حمل الفنان مونش الثقيل” ، أو لورانت غراف الذي لم يتأخر كثيراً عن تأليف رواية “الصرخة الهاوية” معنوناً على غلافها العبارات الآتية: “إنها قصة نهاية العالم، متلخصة في نهاية عالم إنسان”.