المنشور

الميزانية بوصفها أداة في السياسة العامة للدولة

صدرت الميزانية العامة لعام 2021-2022 في ظل ظروف الجائحة الصحية وفي ظل تنامي الدين العام والعجز. وفي استعراض الميزانية نتساءل ماهي اهدافها والمبادئ التي قامت عليها؟ وماهي السياسات التي تريد الحكومة ان تدعمها من خلال الميزانية؟ وما مدى ارتباط الميزانية ببرنامج الحكومة والرؤية؟ وماهو تاثيرها على رأس المال البشري؟ وما علاقتها بالنشاط الاقتصادي؟ وماهي خيارات الحكومة ومجلس النواب والمجتمع لتقليل العجز والدين العام؟
الميزانية هي أداة سياسية اقتصادية اجتماعية ترتبط بالخطة التنموية طويلة المدى (الرؤية) وبالخطط والبرامج المرحلية (برنامج الحكومة والخطة الاستراتيجية). وبالتالي فإنها أداة في السياسة العامة للدولة وتحدد توجهاتها. فهي سياسة مالية تعكس تاثير الحكومة في إدارة وتحريك الاقتصاد، وهي أداة لتوزيع الدخل والثروة لتحقيق مساواة وعدالة اجتماعية أكثر، وهي أداة لخلق توازن بين مختلف المصالح والطبقات في المجتمع بما يخدم التنمية الاقتصادية بشكل عام، وفي نفس الوقت هي اداة لاحداث توازن بين الحاجة الانية والتطلعات المستقبلية.
ووفق وزير المالية فإن الميزانية تقوم على مبادئ ثلاثة هي: الحفاظ على الدعم الاجتماعي للمواطنين الأكثر احتياجا، واستمرار تحسين كفاءة الخدمات الحكومية وتقليل مصروفاته الإدارية، ومراعاة الاستخدام الأمثل للموارد المالية.
من مراجعة الميزانية نجد أن ما قدمته الحكومة لا يتسق بشكل واضح مع هذه المبادئ. فمثلا بالرغم من ارتفاع بند دعم الأسر محدودة الدخل بمقدار 14 مليونا، أي بنسبة (11.3%) إلا إنه تمّ تخفيض الضمان الاجتماعي ككل بنسبة 10% ودعم التقاعد بنسبة 12.6% وهذا يتعارض مع المبدأ الاول الذي يرى ضرورة دعم الفئات الاكثر احتياجا. كذلك زادت نفقات الحكومة الإدارية بنسبة 8% وهذا يضع تساؤل حول المبدأ الثاني في رفع كفاءة الخدمات الحكومية وتقليل مصروفاتها الادارية. أما قضية الاستخدام الأمثل للموارد فنرى أن الصحة والتعليم هما أفضل استثمار للمال العام، وهذان البندان تقلصا بواقع 3% للصحة و7% للتعليم، اما الدعم الحكومي فقد انخفض من 585 مليون في 2019 الى 402 مليون في 2022، منخفضا بنسبة (31%).
لعرض بعض جوانب الميزانية نذكر أن الإيرادات النفطية المتوقعة (45 دلار للبرميل) لعام 2021 كانت 1.4 ملبار دينار منخفضة عن ايرادات 2020 بواقع 33% والتي كانت 2.14 مليار دينار. اما الايرادات غير النفطية فبلغت 580 مليون دينار في 2022 بانخفاض قدره 4.3% عن 2020 (او 25 مليون دينار). بلغ اجمالي الايرادات في 2022 مبلغ 2.3 مليار دولار مقارنة ب 2.9 مليار في 2020 بانخفاض 26% (او 600 مليون دينار). وبالرغم من هذا الانخفاض الكبير نسبيا نجد أن المصروفات لم تتغير كثيراً، حيث كانت 3.55 مليار في 2020 انخفضت الى 3.48 في 2022 بواقع اقل من 1% (او 62 مليون).
أما نسبة العجز في الميزانية (بين الايرادات والمصروفات) فقد بلغت 35.8% (1.27 مليار) في 2021 وانخفض الى 33% في 2022 (1.14 مليار). وتمثل فوائد الدين العام نسبة كبيرة من العجز فقد بلغ 708 مليون دينار في 2021 ارتفع الى 756 مليون في 2022. مرتفعا عن 2020 بواقع 8.6%، و 18% عن 2019. وان اكثر البنود التي تعرضت للتخفيض هي علاوة تحسين المعيشة للمتقاعدين، واعانة المواد الغذائية، وبرامج الاسكان (علاوة الايجار)، ودعم هيئة الكهرباء.
يثير استعراض الميزانية عدد من القضايا والتساؤلات. القضية الاولى هي ان الميزانية تصدر كل سنتين وبرنامج الحكومة كل اربع سنوات وبالتالي فالميزانية تطرح رؤية برنامج الحكومة لاربع سنوات في اول المدة، وتعتبر تقرير لمنتصف المدة لبرنامج الحكومة، وعليه ينبغي ان تشرح ماذا تحقق من البرنامج وماذا بقي وماهي العقبات او المعوقات وكيف سنتعامل معها؟ وكذلك تعتبر الميزانية تقريرا عن استراتيجية الحكومة طويلة المدى وكيف ستؤثر فيها. لذلك تبرز الاسئلة التالية:
1. ماهي المشاكل والقضايا التي ستعالجها هذه الميزانية؟ وكيف ستكون المعالجة والتاثير؟
2. ماهو مستوى الانخفاض في معدلات البطالة الذي نسعى الى تحقيقه؟ وكم هي الوظائف التي ستخلق وكيف وفي اي مجال؟
3. ماهي القطاعات الاقتصادية التي ستستفيد من الميزانية ولماذا هذه القطاعات، وكيف ستستفيد؟
4. ماهو الارتفاع (او الانخفاض) في معدلات مستوى المعيشة؟ وماهي الشرائح التي ستتاثر (محدودة الدخل، متوسطة الدخل، الغنية)؟ وكم نسبة التغيير؟
5. كيف ستؤثر الميزانية في مستوى التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والامن والدفاع وكيف توازن بين هذه المتطلبات ولماذا؟
6. ما هي الانجازات بشكل عام وكيف ساهمت الميزانية السابقة في تحقيقها؟
7. ماهي خيارات الحكومة وخطتها في زيادة الايرادات؟
8. كيف سيكون التعامل مع العجز (او الفائض) في الميزانية ومع الدين العام وتاثيره على الاقتصاد والاستثمارات الاجنبية؟
9. ماهي المعايير التي تقاس بها التنمية والتي ستتحقق وكيف ستكون المساءلة على هذه المعايير؟
10. ماهو النمو الاقتصادي المتوقع في المرحلة القادمة؟ وفي اي القطاعات سيكون النمو اكبر؟ وكيف سينعكس على مستوى معيشة المواطن؟
القضية الثانية تتعلق بتاثير الميزانية على رأس المال البشري والاجتماعي. تقتضي التنمية والاستقرار الاجتماعي الاهتمام بالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي عير ان هذه البنود تاثرت سلبا في الميزانية. فقد بينا اعلاه ان مخصصات الضمان الاجتماعي انخفضت بواقع 10% والتعليم 7% والصحة 3%. السؤال لماذا تنخفض هذه المصروفات الضرورية والهامة للتنمية والمتوافقة مع الرؤية وبرنامج الحكومة في حين ترتفع نفقات اخرى بما يتعارض مع مبدأ الاستخدام الافضل للموارد. بناء الموارد البشرية يقتضي الاهتمام بالتعليم والتدريب وخصوصا التعليم العالي والبحث العلمي، فقد بقيت ميزانية الجامعة 38 مليون دينار لا تمكنها من التعاون مع القطاع الانتاجي ودعمه بالابحاث، حيث هذه هي مقومات الابتكار وزيادة الانتاجية ورفع مستوى المعيشة. لم تنصف الميزانية هذه العناصر مما يثير تساؤلاً حول كونها ميزانية تنموية.
القضية الثالثة هي مدى توفر المعلومات والشفافية. فمثلاً لا تذكر ديباجة القانون أية تفاصيل، ولا تتعرض لأي فرضيات ولا تجيب عن أي من التساؤلات حول أداء الميزانية السابق، أو توقعات المستقبل. الفرضية الوحيدة تتعلق بسعر النقط الذي بنيت عليه الميزانية وهو 45 دولار للبرميل. السؤال الذي يقلق الكثيرين هو ما هو تصور الحكومة لضريبة القيمة المضافة، وكيف تفسر الحكومة ارتفاع ايرادات (الجهاز الوطني للايرادات) الضرائب من 213 مليون دينار الى 360 مليون (بزيادة 70% تقريبا)، وهل سترتفع الضريبة أم ستبقى كما هي. لم يتعرض مشروع الميزانية الى ذلك. ارقام تتغير من عام الى اخر دون ان تعطي الحكومة شرح او تبرير للتغيير واسبابه وتداعياته. فمثلا هنات تخصيص 48 مليون دينار دعم الكهرباء في 2021، وتوقف في 2022، ادى ذلك الى تضارب في تصريحات النواب بين من يقول بوقف دعم فواتير الكهرباء وبين من يرى استمرارها الى ان اكدت الحكومة الاستمرار.
القضية الرابعة هي ما علاقة الميزانية بالشركات المملوكة للحكومة والشركات الاجنبية التي يعمل مجلس التنمية الاقتصادي على جذبها وكيف تسهم في الميزانية؟ ولماذا تبقى بعض الايرادات خارج الميزانية؟ فمثلا ممتلكات تساهم في الميزانية بواقع 10 مليون دينار، فما هو المنطق والسبب في ذلك؟ وهل هي نسبة من الارباح ام رقم مناسب فقط؟
القضية الخامسة هي ما علاقة الميزانية بالنشاط الاقتصادي. في الوقت الحاضر ترتبط الميزانية بهذا النشاط بشكل محدود من خلال الرسوم لفتح السجلات، وخلق فرص عمل تستفيد منها في الغالب عمالة أجنبية تمول مشاريع تمكين ودفع ضرائب قيمة مضافة على مشترياتهم المحدودة جداً، وتأجير عقارات تستفيد منه البلديات. أما الانفاق الحكومي في المشاريع فإنه لا يخلق فرص عمل للمواطنين بما يكفي، وتستفيد منه العمالة الاجنبية بشكل اكبر، وفي الحالتين فإن التأثير الإيجابي لذلك على الميزانية محدود. وكذلك الحال بالنسبة للاستثمارات الاجنبية. وبالتالي فإن مستوى النشاط الاقتصادي لا ينعكس على الميزانية بما يكلفي كما هو الحال في الدول التي تفرض ضرائب دخل وثروة تعزز الميزانية. أما ضريبة القيمة المضافة فهي تضر بالطبقة العاملة ومحدودة الدخل بشكل أكبر وبالتالي فهي تضر بقدرتها الشرائية، في حين لا يتاثر بها الأغنياء بنفس القدر.
تقوم الميزانية على فرضية أن الإيرادات هي عنصر يكاد يكون ثابتاً، ولا مجال لزيادته. هذا يضعنا أمام خيارات صعبة في تنويع ايرادات الحكومة وتنويع الاقتصاد. يتطلب الأمر إعادة النظر في ايرادات الدولة وليس الميزانية فقط. فهل ضرائب الدخل والثروة (التصاعدية في الحالتين) على الطبقة الغنية والدخول العالية والشركات هو أحد هذه الخيارات؟
فرض أو زيادة الضرائب في وقت الركود امر ليس مستحب. والفرضية هنا هو أن ذلك يسحب سيولة من السوق فيضعف الطلب الكلي (aggregate demand) ويقلل الإدخال الممكن للاستثمار. كذلك إذا فرضت الضرائب على دخل الشركات فيمكن أن يؤدي إلى هروبها إلى دول مجاورة، كما قد يضعف الحوافز لاستثمارات جديدة سواء كانت محلية أو أجنبية. لذلك فإن هذا الخيار يفضل أن يكون قراراً خليجياً إن امكن.
مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، فإن الضرائب هي مصدر إيراد الحكومات في جميع الدول التي ليس لها ايرادات نفطية او غيرها (مستقلة عن المجتمع وعن النشاط الاقتصادي) وبالتالي فإن المحاذير المذكورة أعلاه تؤثر في معظم دول العالم. تقوم الدولة بتعويض نقص السيولة الناتج بزيادة انفاقها على المشاريع والضمان الاجتماعي للحفاظ على مستوى الطلب الكلي. لذلك فإن السياسة المالية، (التي تعبر عنها الميزانية) تضع نظام ضريبي ياخذ هذه المحاذير في الحسبان. كذلك تسعى الحكومات إلى تحقيق توازنات في المجتمع وتقليل الفجوة بين مستويات الدخل العليا والدنيا لتحقيق عدالة اجتماعية، والحفاظ على الرفاه وجودة الحياة. وبالتالي فإن ضرائب الدخل والثروة إذا فرضت على الطبقة الغنية (وعلى أرباح الشركات) وعلى الثروات المنقولة وغير المنقولة مثل الأراضي، واستخدمت إيراداتها لتحسين مستويات المعيشة والاستثمار في المشاريع الانتاجية وتطوير البنى التحتية، فإن ذلك قد يرفع الإنتاجية، والتأثير على الطلب الكلي قد لا يتاثر وسيعتمد على كيفية التعامل مع سياسة الضرائب والإنفاق الحكومي. أما من حيث هروب الشركات ورؤوس الأموال فهذه ظاهرة عالمية اليوم، يمكن للدولة أن تحدّ من تأثيرها بوضع ضرائب على الثروة سواء كانت في البلد أو خارجه (ازدواج ضريبي لمعاقبة التهرب).
الفائدة الأخرى من الضرائب هي فرصة للمطالبة بمزيد من الشفافية في إدارة المال العام، وأوجه انفاقه وبالتالي ترفع حصة الميزانية من الإيرادت العامة للدولة. في النهاية فإن هذا دور التخطيط الاقتصادي والسياسية المالية والميزانية ينبغي أن تعكس كل المصالح وتوازن بينها.