المنشور

تراثنا النسوي ما قبل نوال السعداوي!

تحسست في الكتابة نوع من الفن، وفي الفن ما يشبه فعل الكتابة، إنهما لا يعتمدان فقط على قوة العقل، بل على تلك الطاقة الروحية التي تتسرب إلينا من روح الفنان في لوحاته أو موسيقاه، ويحدث ذات الشيء حين يتعلق الأمر بروح الكاتب. كلاهما يجعلنا ننظر للعالم بدهشة وحس مرهف اتجاه القضايا الإنسانية واتجاه كل ما هو رتيب وعادي من حولنا رغم أنه لا يجب أن يكون عادياً بالنسبة للفنان والكاتب. لم أجد في الكتابة غرضا يعالج المشكلات العلمية في البدء، بقدر ما يعالج المشكلات النفسية والروحية للإنسان طوال تاريخه. أحمل دفترا خاصاً أدون فيه الشعر حين اشعر بالألم، وأكتب النثر حين أشعر بالغربة، وأبحث في تاريخ الإنسان، فعرفت أن العلم والأخلاق يتقدمان دائماً ليفندا الكذب الذي ينتهك الروح، ويقيد العقل عن السؤال بحبل دائري من المسلمات يلتف حول أعناقنا.

قرأتُ لأولئك الذين قرأوا التاريخ الإنساني بمنهجية مادية تاريخية. منحتني هذه المنهجية القدرة على الاعتراف بحدود الفكر الانساني: الدين، الفلسفة، العلم، اللغة، وكل حدث في تاريخ الإنسان أياً كان، فإن علاقة كل تلك الأشياء بما يحدث على الأرض أكبر بكثير مما يحدث في السماء، بل نحن نفهم ما في السماء من خلال حدود الأرض التي نسكنها، ولو غبت عن هذه الحدود لتغيرت السماء وتغيرت أسماؤها وطريقة نظرك إليها. ولأن القراءة المادية التاريخة تجعلنا نفهم حدود كل فكرة وكل حركة تاريخية فهي بالتالي تفتح الباب لعقلنا أن يحكم على الأفكار خارج نطاق التقديس، ولمشاعرنا للتعامل مع القضايا الإنسانية بشكل أكثر حرية وموضوعية.

أُكِنُّ مشاعر حب عظيمة لنساء عظيمات في حياتي، أولهن أمي التي تعبت في تنشئتنا وصبرت على تربيتنا، وأيضاً زوجتي التي قررت أن تعتمد على نفسها مبكراً وتتحمل جزءً من المصاريف الجامعية عن والدها. وبالرغم من أنني لا أفضل أن أنجب أحداً لهذه الحياة، لكن إذا قدِّر ذلك فإني أفضل أن تكون ابنة قوية وليس ابناً كما يحلم معظم الآباء. أجد الحب أنثويا، وأجد المرأة أكثر احتضانا لخصائصه، فهي الأكثر عاطفة والأكثر تعبيرا عن ضعفها الإنساني أمام المواقف التي تتطلب المحبة والرحمة، وربما هذا هو مصدر قوتها الذي نفتقر للقدرة على الاعتراف به. إذا كتب لهذه الابنة أن تجيء يوماُ فإني أريد لها أن تكون حرة، بعيدة عن الأخلاقيات التي تشجع على التحرش من الباب الخلفي المقدس، أو تحاكمُها على مظهرها أو خياراتها الفكرية.

من حبي لتلكم النسوة في حياتي أحببت كل النساء اللاتي دافعن عن حقوق النساء، ومَقَتُّ تلكم اللاتي يقفن كغصة في حلوقهن. وأنا أقرأ في التاريخ انجذبت نحو أولى النسويات في تاريخنا العربي الإسلامي (زرين تاج) أو قرّة العين القزوينية، كانت فقيهةً، شاعرةً، مُدرِّسةً، وباحثةً في العقائد، كل ذلك في زمن كان الفقه والعلم لا يراد لهما أن يخرجا من مجلس الرجال، تخيلتُها وهي داخلة على مجمع فقهاء فارس منتصف القرن التاسع عشر كاشفةً وجهها وهي تحدثهم عن فقه المرأة، إن كشف الوجه بالنسبة للمرأة أنذاك كان يعد نوعاً من السفور. تخيلت المشهد بينها وبين أولئك الذين سحبت عنهم بساط سُلطتهم، سلطة العلم واحتكارهم لحق التصرف فيه وتفسيره. لم يجابهّا أحد ولم يتمكنوا من رد حججها، فما كان منهم إلا توجيه التهمة التاريخية الجاهزة لأمثالها “الهرطقة والخروج عن الدين” فوضعت تحت الإقامة الجبرية، ثم قُتلت.

أحببت الرجال الذين نظروا للمرأة كروح لا جسد، أحببت ابن عربي الذي رأى بأن كل ما يصلح للرجال فإنه يصلح لما شاء الله من النساء، وقال: “إن الرجال والنساء يشتركان في جميع المراتب حتى في القطبية –وهي أعلى المراتب العلمية في التصوف- ولما اصطدم بالحديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة رد ذلك بقوله: إننا نتكلم في تولية الله لا تولية الناس”[مدارات صوفية ص87] وكان ذلك في زمن يردد فيه الناسُ مقولات مثل: “جنبوهن الكتابة والقراءة” كيف لا وقد درس على يد شيخته فاطمة بنت المثنى زماناً وأكن لها احتراماً وتقديراً كبيرين. وفي الوقت الذي كرر فيه الآخرون من شعراء وفقهاء: “إنَّ النّساءَ شياطينٌ خُلقنَ لنا ” كان جلال الدين الرومي يدافع عن مشاركتها للحياة العلمية والعملية، يقول في كتاب فيه ما فيه: “أنت ليلاً نهاراً تحارب طالباً تهذيب أخلاق المرأة وتطهير نجاستها بنفسك، أن تُطهر نفسك بها خيرٌ من أن تطهرها بنفسك”[فيه ما فيه: الفصل العشرون].

لقد صرح الرومي قبل أكثر من سبعة قرون بأن احتجاب المرأة عن الحياة إنما هو إفساد لمن يظن أنه يُصلح، لأن المسألة هي مسألة تربية جوهر الإنسان وليس قطيعة واحتجاب وعزلة، ذلك نوع قسري يفرض تهذيبا شكليا لا يحترم الذات الإنسانية، ففي نص آخر من ذات الكتاب يقول: “كلما أمرت المرأة أن احتجبي ازداد تلهفها إلى أن تظهر نفسها، وازدادت رغبة الخلق بتلك المرأة. وهكذا تجلس أنت في الوسط، وتزيد الرغبة عند الطرفين كليهما، وتظن أنك تصلح. ذلك عين الفساد. إذا كان لديها جوهرٌ يمنعها من أن تفعل فعلاً سيئاً، فسواء منعتها أم لم تمنعها ستمضي وفق طبعها الجيد وجبلتها الطاهرة…وإذا كانت على عكس هذا، فستظل تمضي في طريقها أيضاً، لا يزيدها المنع إلا رغبة على الحقيقة”[فيه ما فيه: الفصل العشرون]. قد يصدم البعض سماع هذا من رجل مسلم عاش في القرن الثالث عشر، لأننا اعتدنا على ترديد مقولات رجال الدين. للمرأة عند الأقطاب موقع أفضل مما هي عند رجال الدين، ولا يصدمك حين تقرأهم ما يصدمك حين تقرأ رجال الدين من أمور تمس المرأة وجوهريتها. لقد نظر الرومي لحجاب المرأة على أنه أمر جوهري وليس قطعة مادية، وهكذا نظر لآية الحجاب وإلى الله الذي خلق الإنسان وميزه بالعقل عن سائر المخلوقات. وإنه لمصيب تماما في فهمه للدين الذي يرتقي بالإنسان ويعبر عن تكريم الله له، وفهم الإنسان لمقاصد الله.

وُصفت قرة العين بالهرطقة وأُعدمتْ، لكنها في الجانب الآخر تسمى الطاهرة، واتخذها البابليون واحدة من ضمن أكثر الشخصيات قدسية، وبسببها تحتل المرأة مكانة رفيعة في البابية. ووُصِفَ ابن عربي في بعض الدوائر الدينية بالزنديق، والكافر الضال، ليس نتيجة رؤيته للمرأة، بل نتيجةً للطريقة التي رأى فيها لله على أنه الواحد الكثير في تجلياته، والحاضر بأسمائه في كل مِلَّة، فلم يحتمل ضيق الله في أذهان البعض تلك السعة الإلهية عند ابن عربي، فهو يمثل في الجانب الآخر وللكثير من الناس داخل التصوف وخارجه قدوة حسنة وقطب من أقطاب الله، وواحداً من ضنائنه على الأرض.

إن سفر العقل هو سفر الآحاد، لا تسافر الجماعات نحو الحقيقة. في يوم وفاة نوال السعداوي أذكر كل هؤلاء وإن كانوا يختلفون معها في الطريق، وفي بعض القيم، إلا أنهم كلهم نالوا ما نالت وعانوا ما عانت نتيجة دفاعهم عن حقائقهم، فرغم ازدراء الكثير وتصفيق الكثير، إلا أنها كانت كما أرادت أن تكون، لا تعيش حياة مزدوجة واحدة في الخفاء وأخرى في العلن، فذلك عندها مناقض للشرف. وذنبها كذنب أولئك أنها تكلمت بحقيقتها في زمان أراد لها أن تصمت وتذعن، ولكن التاريخ يثبت أنه ليس من نصيب هؤلاء إلا الخلود.