المنشور

الدولة المدنية في البلدان العربية

كثيراً ماكُتب عن الدولة المدنية وأهميتها، وهل تختلف عن الدولة العلمانية أو تتقاطع وتتداخل معها في كثير من المقومات والشروط، وماهو النموذج الافضل لبلداننا في الخليج والوطن العربي عامة، الدولة المدنية أم الدولة العلمانية، فالأولى تبدو مقبولة من بعض التيارات الفكرية والسياسية في بلداننا التي ترفض أي توجهات علمانية لأسباب عدة، وبعض الأحيان ممكن تتغنى بشعار الدولة المدنية وهي لا تؤمن به، ولكن لمقتضيات الحاجة والضرورة، ولمسايرة الأطراف الأخرى في المجتمع، وربما لتعزيز التحالفات مع بعض من القوى المدنية والعلمانية لصالح تحقيق أهدافها الاستراتيجية البعيدة، ونجد مثالاً واضحاً في ذلك أداء حزب النهضة “الأخوان المسلمون” في تونس، الذي يتعاطى مع الأمور ببراغماتية هناك، لكي لا يخسر مواقعه السلطوية مستفيداً من تجربة الأخوان المسلمين في مصر، متحاشياً تكرار سيناريو ماحدث هناك، فيعمل بالتكتيك السياسي ليخدم الاستراتيجية، حدّ القبول بفكرة الدولة العلمانية طالما تحقق أهدافه البعيدة المدى .

هل يمكن الدولة المدنية أن تتحقق في بلداننا الخليجية والعربية بعيداً عن حسابات وأهداف القوى الإسلامية بكل الألوان والتنوعات المذهبية التي ممكن أن تتفق عليه؟، إذا كانت السلطات الحاكمة تريد إحداث التغيير والإصلاح والتصدي لقضايا الفساد وسارقي المال العام والتوجه نحو بناء دولة القانون والمؤسسات والمشاركة الفعالة للمواطنين في القرار السياسي من خلال تشكيل المجالس النيابية والبلدية المنتخبة صاحبة الصلاحيات الواضحة، تضع حجر الأساس لولادة الدولة المدنية، التي لها مقومات رئيسية لا يمكن تجاوزها مثل السماح بحرية الرأي والتعبير والحريات العامة ووجود صحافة حرة وتشكيل منظمات وهيئات المجتمع المدني “الأحزاب السياسية، الاتحادات العمالية النقابية والنسائية والطلابية والثقافية”، ومشاركة المرأة في الحياة السياسية، التسامح والتعايش بين أفراد المجتمع والدولة، وبدون ذلك لا يمكن أحداث التغيير والإصلاح الجاد في أي بلد خليجي أو عربي.

ربما يقول قائل إن الأمور تأتي خطوة خطوة، ولا يمكن للتغيير أن يحدث دفعة واحدة في بلداننا التي يغلب عليها الطابع القبلي والأبوي، وهي محكومة بالعادات والتقاليد ولم تتطور فيها علاقات الإنتاج، وتترسخ فيها مفاهيم الحداثة والتغيير الجذري، واقتصادها ريعي غير منتج، ولكن عملية التغيير لن تحدث سواء كانت سياسية أو اقتصادية، إذا لم يسبقها تغيير في مناهج التعليم، لتواكب هذا العصر وتطوراته وأحداثه، ففي بعض البلدان الخليجية تشكل مناهج التعليم الحالية عائقاً لما تحتويه من معوقات في إحداث الإصلاح والتغيير المنشود، لابد من خطوات عملية في هذا المسار الأهم للارتقاء بالوعي المجتمعي، ومن ثم التوجه نحو وضع الأسس الديمقراطية وترسيخ مفاهيم الواجبات والحقوق للمواطنين، وفصل السياسة عن الدين، واحترام كل الديانات والمذاهب وحرية الرأي والمعتقد وعدم التمييز، وتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية، فكلها ركائز أساسية في قيام الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

كتب بعض الباحثين العرب عن الدولة المدنية، كلٍّ حسب فكره وتوجه السياسي يقرأ الواقع في بلاده، فعلى سبيل المثال فإن حسني الخطيب كتب في عام 2018 عن خصائص الدولة المدنية قائلاً: “أهم خصائص الدولة المدنية هو التمييز بين المجال العام والمجال الخاص، وعدم خَلْط الدين بالسياسة، وليس من وظائفها أيضاً مُعاداة الدين كما يذهب إلى ذلك خصومها، لكن من واجباتها وضع مسافة واحدة بينها وبين الأديان، وعدم السماح باستغلال الدين أو استخدامه لأغراضٍ خاصةٍ أو سياسيةٍ، مع تأكيد الاحترام لجميع الأديان وحق الإنسان في العِبادة وممارسة الشعائر والطقوس بحريةٍ ومن دون قيود، وذلك بما يُحدّده القانون العام الحاكِم، أي عدم التجاوز على حقوق الغير.

فيما يقول الباحث المغربي أحمد عصيد :”يدفع أنصار فكرة الدولة المدنية التي لا تعتمد في تشريعاتها على الإسلام كمصدر للتشريع، بأنها هي الضامن للاستقرار وأنها تستوعب معتنقي كافة الديانات المختلفة والتيارات الفكرية المتعددة بعكس ما يمكن أن تفعله دولة تقوم على أسس دينية أو يحكمها الإسلام السياسي. وفي حواره مع DW عربية، يقول عصيد : “إن الإطار السياسي الوحيد الذي يمكن من خلاله وجود تعددية دينية أو فكرية هو الإطار الديمقراطي العلماني، أما خارجه فلا يمكن احتواء هذه الصراعات بشكل سلمي “لأن الأنظمة الدينية تغذي الكراهية باسم الدين، بعكس الإطار العلماني الذي يساوي بين المواطنين”.

أما الباحث المصري أحمد بان، فيرى أن المشكلة الحقيقية هي في بنيوية تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي والتي لديها خطابان، “خطاب تصدّره للمجتمعات الغربية وللنخب الليبرالية والعلمانية وتتحدث فيه عن فكرة التعايش والقبول بالآخر وقبول التنوع وخطاب آخر داخلي فيه تعالٍ على الأفكار الأخرى، وهي نفسها لم تقبل التنوع داخلها لكي تقبل بتنوع آخر”.

هل تصبح الدولة المدنية الديمقراطية في بلداننا فقط فكرة لن تتحقق في المنظور القريب أو فكرة مؤجلة في ظل العديد من المعوقات والموانع، لأن مقومات وشروط قيامها لن تتوفر في الوقت الحالي والمسارات والتوجهات السياسية مختلفة في أكثر بلد عربي تتزايد فيه الخيارات الأمنية ومظاهر الاستبداد والقمع، والتضييق على الحريات العامة والديمقراطية وتنتهك فيه حقوق الإنسان وينتشر الفساد وتزداد أعداد الفاسدين وسارقي المال العام، ويبرز التطرف والغلو وكراهية الآخر في المجتمع.