المنشور

نوال السعداوي وإرثها الخالد في النضال النسوي

رحلت نوال السعداوي، الطبيبة والمفكرة والروائية الجريئة، رحلت تاركةً إرثاً كبيراً لا يستهان به في مجال العمل والنضال النسوي. رحلت ابنة كفر طحلة تاركة خلفها فكراً انسانيا حجز مكانه في الذاكرة، حتى إذا ما تكلم المرء عن رموز النضال النسوي في العالم العربي لا يسعه إلا ذكر نوال السعداوي كأبرز هذه الرموز وأكثرها تأثيراً.
في الحقيقة، أرجعني خبر رحيلها بالذاكرة سنوات للوراء، عندما كنت في الثامنة عشر من عمري، حيث شاهدتها لأول مرة متحدثة على إحدى المحطات التلفزيونية، وكانت التعليقات الصادرة من الجالسين حولي بين ناعتٍ لها بالجنون، ومتهمٍ إياها بالتعصب، بينما كانت بالنسبة لي المرة الأولى التي استمع فيها لإمرأة تتحدث بهذه الجرأة تكسر التابو تلو الآخر.
تجمدت أمام التلفاز متساءلة من هي هذه المرأة التي أثارت جدلاً واسعاً في الجلسة. بانصات تابعت ما تقول، سجلت اسمها في مذكرتي، وأردت أن أعرف المزيد.
لم يطل الأمر حتى اقتنيت الكتاب الأول، “الأنثى هي الأصل” الذي تذهب فيه نوال السعداوي بعيداً إلى عمق التاريخ بحثاً عن حقيقة المرأة ومكانتها ما قبل الاديان، وما قبل تشكل الأسرة “الأبوية” كما تسميها. بشغف قرأتُ الكتاب، وأعدت قراءته للمرة الثانية، سجلت في مذكرتي المعلومات كحجة لخوض النقاشات عن سطوة المجتمع الذكوري على رقاب النساء. كتاب واحد كان كافياً لإحداث ضجيج مدوي في داخلي، كان كفيلاً بكسر العديد من المعتقدات وذلك في ذروة تمردي على السائد والموروث على القيود الاجتماعية تحت مسميات عدة، تمردي على الأغلال التي كنتُ ومازالتُ أرى أنها تهدف لإبقاء المرأة في مرتبة أقل من الرجل.
من “الأنثى هي الأصل” إلى “المرأة والجنس”، “الرجل والجنس”، ومن ثم الروايات الواحدة تلو الأخرى، فكانت تغذي تمردنا بالافكار.
بمجرد أن نكبر، تتراجع حدّة تمردنا، أو ربما يهدأ اندفاعنا، ولكن لا نتنازل عن حرية أفكارنا، والحقيقة أن هذه المرأة الحديدية المتمردة التي لم تتنازل عن أفكارها وحريتها نجحت في فتح ثغرة في جدار الموروث، وكسر الكثير من التابوهات التي ظلت جاثمة على صدور النساء في العالم العربي لسنوات طويلة.
بصوت عالٍ ودون مواربة قالت “لا” عاليا، وعندما قالوا لها “أنت امرأة وحشية وخطيرة” ردت: “أنا أتكلم الحقيقة، والحقيقة هي وحشية وخطيرة”.
مازالت أتذكر كيف تحوّلت نوال السعداوي إلى تهمة بمجرد أن كنا نتحدث عن حقوق المرأة وضرورة مساواتنا بالرجل، أتذكرا جيدا ما قيل لي من قبيل: “أنت متأثرة بنوال السعداوي”، ” يا عمي عورتو راسنا بأفكاركم”، ولكن في جوهر الحقيقة أن نوال اتخذت من اسلوب الصدمة منهجاً، فصدمت المجتمع الذكوري بما لم يعتد على سماعه، فكيف لو كان ذلك من امرأة، كما صدمت المجتمع النسائي الذي لم يعتد على خوض المعارك على طريقتها. معارك شرسة بثمن باهظ، معارك من أجل الحرية والمساواة.
لقد تعرضت نوال السعدواي لأبشع حملة تشويه من المجتمع الذكوري ومن رجال الدين على وجه الخصوص، اُتهمت بالإلحاد وخدمة الماسونية وازدراء الأديان، وغيرها من التهم، حرب نفسية من أشخاص عجزوا عن مواجهة الفكر بالفكر.
إذ من المؤسف في مجمتعاتنا العربية التي يسيطر عليها التعصب والعصبيات، عندما تعجز عن مواجهة الفكر بالفكر، تلجأ إلى خوض حروب نفسية من قبل الإزدراء والتنمر والإتهام بالزندقة والإلحاد والتكفير، بل ما هو مؤسف أكثر أن الكثيرين استسلموا للدعاية السلبية التي اطلقت ضدها دون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء الإطلاع على كتابتها، ونقدها علمياً.
فأين الانحراف الفكري، عندما تقول إن قضية تحرير المرأة قضية سياسية بالدرجة الأولة، لأنها لا تمس حياة المرأة فحسب وأنما تمس حياة المجتمع بأكمله وإن تخلف المرأة وتكبيلها لا يؤخر النساء فحسب بل ينعكس على الرجل والأطفال ويقود إلى تخلف المجتمع.
وأين الزندقة والكفر عندما تقول إن أي دين من الأديان لا يمكن أن يتعارض مع العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، ولا يمكن أن يتعارض أي دين مع الصحة الجسدية والنفسية لجميع أفراده رجالاً ونساءً؛ ولهذا ليس علينا إلا أن نعرف الطريق الذي يقود إلى صحة الإنسان (رجلاً وامرأة) فيكون هو طريق الدين، لأن الدين خلق لسعادة الإنسان وصحته ولم يخلق لتعاسته ومرضه.
نوال السعداوي التي دافعت بقوة عن تحرر المرأة، رفضت بنفس القوة تسليعها واستخدام جسدها في السوق كسلعة وإهانة قدارتها الفكرية وإمكانياتها وحصرها في بعدها الجسدي.
لقد واجهت قضية ختان الاناث بجرأة قلّ نظيرها، ناضلت من أجل تحرير النساء من قيودهن مع ذواتهن قبل أن يخضن معركتهن مع المجتمع، فاحترام المرأة لذاتها وتقدريها لمكانتها هي الخطوة الأولى نحو فرض هذا الاحترام على المجتمع، إذ لا طائل من محاولة تحرير المرأة، اذا ما كانت هي نفسها تعتقد بأنها أقل من الرجل، أو “أنها ناقصة عقل ودين” أو أن أمرأتين تساويان في الكفة قيمة رجل واحد. باختصار تحرير المرأة يبدأ من المرأة ويمتد للمجتمع.
لقد شكلت هذه المرأة حالة فريدة من نوعها لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها حتى في اللحظات الاخيرة قبل رحيلها عندما كتبت: “أنا بنت الله، وتفكيري حر”، لقد اختصرت نوال السعداوي نفسها في هذه الجملة. التفكير الحر، أليس هذا ما تحتاجه المجتمعات للتقدم وتتطور؟!