المنشور

لعبة نيوتن

حين تنبعث كلمة صادقة من فم محبّ يرتد أثرها على المتلقي بحسب حميمية نبرتها لديه ومكانتها في قلبه. ألا يشبه هذا التصور الرومانتيكي «قانون نيوتن» الثالث في الحركة؟ الذي يشير إلى أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الإتجاه..

يجد هذا القانون تفسيرات منطقية للطائرات في الفضاء، والألعاب النارية في الهواء.. ففي الهواء والفضاء لا توجد «أرض ثابتة» تنطلق فوقها أو تتمسك بها فتطلق نفاثات من ورائها كي تنطلق للأمام برد فعل معاكس. صحيح أنها «نظرية فيزيائية» وخاصة بحركة المادة؛ ولكن بإمكاننا تطبيقها على العلاقات الاجتماعية. إذْ يمكن ملاحظة نتائج هذا القانون حتى في تربية الناشئة، حيث ينسل من بين فظاعة الشدّة والقسوة ردود فعل عكسية ماثلة على شخصية الطفل حين يستقل بذاته وحين يمعن أحدهم في العطاء وهو يستذكر فصول حرمانه!

في النهاية نحن بشر وتشكيلنا الجوانيّ يحمل الكثير من المتناقضات والمفارقات العجيبة، لسنا عملية حسابية محكمة أو طائرة بوينغ.. فنحن نملك إرادة تلقائية يمكنها التأثير على «قانون نيوتن» وتخلق حالات استثنائية يثبت فيها البعض على مواقفهم رغم ردود تواتر الأفعال داخلهم.. غير أن «قانون نيوتن» خارق جداً لدرجة أن الأغلبية تتراجع وتعود لسابق عهدها في رد فعل معاكس!

أحدث مسلسل «لعبة نيوتن» تبايناً فارقاً في التلقي، ومنذ حلقاته الأولى يمكن أن تستشعر بمزاجه المختلف وبخصوصية تعلن عن نفسها من دون أن يستنبط المشاهد سياقاً أو نهاية. تتقمص الممثلة المصرية منى زكي دور المرأة الخاضعة التى لا تملك قوة فاعلة تؤهلها للانتصار في صراعات الحياة، أو ربما هذا ما تتخيله هي ونتخيله نحن كمشاهدين؟

أمام علاقة تقليدية يطغى عليها الرجل الذى يشعر بالمسؤولية المطلقة تجاه كل جوانب الحياة وانعدام الثقة في حسن تصرف الزوجة وكياستها، وبالتالي تسعى لانتهاز الفرص لتبرهن لمن حولها أنها جديرة بالثقة، وفي ظل ذلك يخططان لولادة طفلهما الأول في أمريكا طمعاً في حصوله الجنسية، ولكن المغامرة تتعقد وتأخذهما إلى مواطن لم تكن في الحسبان، خاصة بعد سفر «هنا» إلى أمريكا منفردة بعد فشل محاولات. شكل التوتر سمة افتتاحية لاهثة جعلتنا نتابع بشغف الرحلة الغامضة. ثمة عمق زمني في التصوير لكل مشهد نعيشه مع «هنا» منى زكي في نيويورك، حيث تعود للزمن الماضي للقاهرة في نفس اللحظة لاستقرائه بناءً على المعلومة الحديثة التي قدمها السيناريو.

الغربة والشتات يخبرانها أنها تملك الكثير وبأن الإنسان عند المواجهة الحاسمة يتفاجئ بقوة كامنة لم يكن يتصور بأنه يمتلكها. تتوالى الأحداث في كل مشهد وفق ميزان ذهبي شديد الحساسية؛ لا يتحمل إيحاء بل قصد ولا تلعثم بلا حشرجة أو نظرة بلا هدف، وهكذا تنسجم الدراما بكل أبعادها البصرية والمسموعة.

يأخذنا السرد بين الماضي القريب والحاضر للتعرف على تفاصيل الإنجاب الصعبة التى واجهت الزوجين، مع الحفاظ على زيادة التعقيد بدخول تفاصيل وشخصيات جديدة إلى السياق، سواء مع حازم فى مصر مثل بدر «سيد رجب» و«أمينة» عائشة بن أحمد، أو في أمريكا مثل مؤنس «محمد فراج» وزوجته سارة. لنجد أنفسنا أمام معالجة مبتكرة وذكية ذات عمق اجتماعي عبر مجموعة من الشخصيات المرسومة بمهارة شديدة، وبسرد يغلفه التشويق والتوتر والتلاعب بالخطوط الزمنية كعوامل جذب رئيسية، وهى العوامل نفسها التى ستتحول لهدف محوري لاحقاً.

اتخذ المسلسل محاور صادمة عقب ولادة هنا، ومنها قرارها المتسرع بالزواج من «مؤنس» المتشبث بأهداب الدين والذي يرتدي الساعة فى اليد اليمنى مخالفةً لليهود، ولكنه فى الوقت نفسه لا يتورع عن الكذب والخداع والانسياق لمآربه الشخصية. اعترف «مؤنس» بحبه لـ «هنا» بعد أيام قليلة قضتها في ضيافته بعد مواجهة انفعالية بينهما، تلاها تطليق حازم لـ«هنا» وتهديده لها والتشكيك في شرفها وبحثه عن حبّ جديد مع أمينة، وهي أحداث حافظت مجملاً على عنصر التشويق؛ حيث يبنى الصراع بين الزوجين على سوء فهم كل منهما للآخر والمبالغة فى رد فعله رغم عمق الحب بينهما وكأن المسألة لا تعدو كونها شجاراً طفولياً بين عاشقين، وهو ما رصده المسلسل في رحلة تحولهما بعد عودة هنا إلى القاهرة بعد زواجها من مؤنس مرتدية الحجاب تتلمس اهتمامها بالمادّة فيما يتحوّل حازم بشكل عشوائي ويتجاوز حادثة قتل شاهين ولا يبقى معه منها سوى الرنين الصوتي لصوت النحل، حيث جعل النحل يتسبب فى موت شاهين، ويتجاوز أزمته الأخلاقية فى إنتاج العسل بالأفيون بل إنه يتجاوز علاقته الدافئة بابنه الذىي انتظره لسنوات وهو الذي يمثل دوره لمحور الارتكازي الذي تتقاطع عنده جميع خيوط اللعبة.

تفاصيل العناصر الإخراجية كانت جلية في التمثيل وإدارة الممثلين ليخرجوا أفضل ما يملكون من مهارات في الأداء بحسب تغيّر الموقف وموقعه العاطفي لتوظيفها بأقصى حد. هذا لا ينفي ضعف بعض الخطوط، إذ لم تنلْ «سارة» زوجة «هنا» بمساحة تمثيلية أكبر باعتبارها حلقة مهمة في «اللعبة». كما لا يُبرر كيفية إرسال «حازم» رسالة صوتية يُطلق فيها «هنا» ثم يدّعي بأنه لم يستطع حذفها، رغم أن هذا متاح بكب بأسرع بديهية إلكترونية؟ كيف يتورّط في جريمة قتل ولا يحدث إثرها أي تتبع جدي من السلطات الجنائية؟ كيف تُعالج عقدة القتيل بكل خفة؟

على الرغم من الهشاشة في هذه المواضع لكن المسلسل، يمثل خروجًا على التقليدية تحليقاً نحو الابتكار على مستوى البناء المركب، والأسلوب السردي ورسم الشخصيات وغيرها من الأسباب التى تؤكد أنه عمل مهم وجدير بالاستيقاف. إذْ شكّل المسلسل بناء درامي مركب متعدد الطبقات وحبكة مثيرة تنمْ رؤية إخراجية واعية لتامر محسن أكد فيها على قدرات إبداعية وهوية خاصة. ويبدو أن كون تامر محسن شارك في تأليف المسلسل جعله يكمل تلوين الصورة الذهنية للأحداث على الشاشة بشكل يحقق هدفه ورسالته وحلمه كما تمنى.. لا كلوحة باهتة بل أشبه بصورة فوتوغرافية حقيقية!