المنشور

أحمد طريقنا إلى السؤال الصعب

في صباح السبت الثامن من يوليو لعام 2006 كانت عناوين الصحف وبالبنط العريض تفيض بخبر صاعق، وفاة أحمد الذوادي، لا شئ في الأفق إلا الخوف الذي سرق الفرحة من كل العيون التي كانت تتوجس من هذا الخبر.

الناس المتأهبة للذهاب إلى أعمالها تحاول أن تميز وقع هذا الخبر، وسط فوضى المفاجأه، في ذلك الفجر الذي لم ينبلج تماماً وبتلك العناوين المحزنة، وقع الخبر كالصاعقة على كل من يعرف أحمد. تجمع الناس في أماكن مختلفة وهم يهمسون بألم الفجيعة وقد تحلقوا حول تلك الجرائد يقرأون تفاصيل الخبر بشغف ليتأكدوا مما حدث، إذن تأكد الخبر، في ذلك اليوم الإستثنائي بدت البحرين غريبة كأنها تصحو من كابوس طويل، عمّ الحزن والأسى المدن والقرى.

على الرغم من أن ذلك لم يكن مفاجئًا، حيث أن أحمد كان يرقد في المستشفى بعد أن تمكّن منه المرض، وأخذ السرطان يتمدد بعد أن إنتقل من القولون إلي مواضع أُخرى كالرئة والكبد، إلا إن خبر الوفاة فجع محبيه وترك حسرة ولوعة، ظلوا ينتظرون في توتر منكسين الرؤوس، وبعد أن ألقوا عليه تحية الوداع تعانق الجموع دون أن يقوى أحد منهم على قول شيْ ما وشرعوا في البكاء الصامت.

بقيت على هامش الحديث الذي دار بين المشيعين بعد تفرقهم، وفي قلب كل واحد منهم أسئلة كثيرة لم يجدوا لها مسلكاً، كيف أمكن لهذا الرجل البسيط، اللطيف المفعم بالود أن يشكل رعباً للمستعمر وأعوانه وإنه كان من المحال تصوّر أن يصبح أحمد هو أكثر رجل مطلوب من أجهزة الأمن السري في البلد لدوره الوطني البارز في اذكاء شعلة النضال مشتعلة حتى خروج المستعمر.

ما الذي يختفي في ظل هاتين العينين وهذا اللطف الودود؟ ما الذي يفكر فيه؟ ما العقيدة التي يعيش عليها وما الأفكار التي يؤمن بها، من هو هذا المدهش المتدفقة في عروقه دماء الفتوة، الممتلئ قلبه بالإيمان بعدالة قضيته، والمتوهجة روحه بالنضال؟

أسئلة عديده تدور في مخيلتهم، قال أحدهم.

عليّ أن أنبش وأفتش عن أجوبة لدى رفاقه، فراح يتقصى عنه كما لو أن حماساً مباغتاً قد بعث فيه روح الحياة وودّ لو تعرّف على أفكاره عن قرب، أحببت أن أعرفه بالرجل، استعدت في لمح البصر لحظات تلك الليلة، فقلت بأنني تشرفت بمعرفته والجلوس معه وسماع محاضراته، حيث شاءت الصدف أن التقي به لأول مرة في منزل رفيق دربه محسن مرهون، إنها الصدفة الجميلة بلا ريب.

وجدته رجلاً في هيئة وقورة، ضئيل البنية، نحيل الجسد، أسمر البشرة، قوي الشكيمة والبأس، منصتاَ لمحدثيه، كيساً في أخلاقه، مفعماً بالحيوية والأمل، مطمئناً إلى ما يقول، متواضعاً، دمث الخُلق، بشوشاً، طلق المحيا، دقيق اللسان، له قلب طفل ممتلئ بالنور والوجد، يدخل القلب دون استئذان مسبق، هذا هو أبو قيس وقد حدثنا عن أشواقه وانكساراته، عن بعض من رؤاه عن أوضاع البلد، فقال: “خطوتي الأولى باتجاه الحياة الواقعية، أيها الرفاق، كانت اكتشافي سرّ النضال من أجل تحرير شعبي من ربقة الاستعمار ونيل الحرية والعيش الكريم في ظل حكم ديمقراطي يكون فيه للعمال وغيرهم نقاباتهم وفعاّلياتهم المستقلة إلى جانب علنية العمل السياسي وتعددية الحياة الحزبية والعدالة الاجتماعية والتخلص من الظلم والتخلف وإعطاء المرأة حقوقها كاملة.

في الأثناء فهمت بأن كل رحلة خلًّفت فيه دروس حياة، ربطته بمشوار نضال طويل امتدّ لأكثر من خمسين عاماً خُلّد في ذاكرة الوطن، ومن خلال هذه الخبرة الطويلة عرف كيف يكسب المعارك، وكأن معاركه ذائبة في حساء الحياة اليومية، وتيقنت بأن البحرين التي دخلها عاشقاً بعد طول غياب لم تتخلّ عنه أبداً، فكان يردد على مسامعنا مقولة منسوبة للينين (إذا أنت لم تحشر نفسك في السياسة، فإن السياسة ستحشر نفسها فيك)، وبأن الذي يحب الحياة، عليه أن يعرف كيف يموت من أجلها، فتجربته النضالية تلك خلقت لديّ شعور بأن الوحيدين الذين بدا أنهم يعملون بشعور سياسي هم أحمد ورفاقه في التنظيم الذي كان على رأسه: جبهة التحرير الوطني، فأخذني شعور بالنشوة والفخر والإمتنان لهذا الرجل المعطاء، والذي هو مثال للتضحية والعزيمة التي لا تلين.

كسياسي مخضرم كان مُطلعاً على مجريات الحياة السياسية بكل تفاصيلها، ترك لتحليلاته الواقعية أن تأخذ مجراها، فعلى هدى هذه التحليلات بنى نضاله السلمي لتحقيق أهداف خطه السياسي بروحٍ كفاحية مبدئية ذات نفس طويل. فقصة كفاح أبي قيس ليست قصة من تلك التي تبتدع على الورق، بل تبتدعها الحياة بشكل يكاد يكون دائم الاستمرارية وبلا توقف، رغم الصعاب الجمة التي واجهته فذاق طعم التشرد والنفي والسجن والمرض.

من الواضح أن الموهبة وسعة الإطلاع والنباهة من السمات البارزة التي أهلّته لأن يكون القيادي الأول لتيار وطني عريق، فشقَّ طريق حياته النضالية بالكفاح والمثابرة والإخلاص، وبنى تنظيمه السري لبنة لبنه إلى أن استوى عوده وأصبح سنديانة راسخة الجذور في تراب الوطن.

هذا الإنسان أمثولة، فهو لهب يضئ العتمة فعندما تقرأ له تشعر بصدق ما يقول لدرجة أن الحياة تزداد اتساعاً معه، كما أن كلماته تحمل إلى من يسمعه الهدوء والحافز للنضال دون يأس أو كلل.

صورة أحمد ترقد في ذاكرتي، صوته، إبتسامته، شروحاته وكلماته فائقة القوة، بساطته، برحيله بدا وكأن نجماً هوى بعد طول عناء، وبقت ذكراه ساطعة لا تغيب عن مخيلة كل من عاشره، وهنا أستشهد بشعرعلي الجلاوي عنه:
أيا أحمدُ العربي
وقفنا نلمُ لك الموت
يا أيها الواحد المتعددُ
كيف سنقنعك الآن بالموت عنّا
وتقنعنا بالمزيد

أقول بيني وبين نفسي إن كل المشاكل التي كانت تواجه الحياة السياسية، والتي يصعب حلّها قد حلّها هذا الرجل بألمعية تفكيره وببصيرته النافذة، فالفكرة لديه هي كل شيء، وإذا ما آمنت بها تصبح واقعاً ملموساً وعندما تتخذ قراراً، لا تخف، وإلى الأمام.
كان يقول: ثمة رغبة حارة قد عذبتني دوماً أن أرى وألمس أكثر ما يمكن، الأرض والبحر قبل أن أموت والحمد لله تحققت أمنيتي، وهآنذا عدت إلى وطني، وحمل الاستعمار عصاه ورحل، وتحققت بعضاً من الأمنيات، ولو كانت صغيرة لكن خطوة على الطريق الطويل الذي سلكناه.

وكما يقول عنه الشاعرعلي الشرقاوي:
وكنت يا أحمد
طريقاً للسؤال الصعب
في أيامنا الأولى
وكنت كتابنا الأحمر

رجل في منتهى البساطة والذكاء والأريحية، حارب على جبهتين: جبهة المرض الذي أكل جسده النحيل وجبهة الظلم والطغيان والعسف والاضطهاد والغربة والتنقل من سجن إلى منفى، ومن منفى إلى سجن، حياة أليمة وصعبة عاشها، ومع ذلك ظلّ في المقدمة يحدوه الأمل في الإنتصار على هذين العدوين اللدودين: المرض والظلم. وككل الرجال الذين يتمتعون بقدرات تفوق متطلبات الإنسان العادي كان أبو قيس ينسج آماله باليقين الثابت الذي لا يتزحزح بأن النصر قادم ولو بعد حين، فبالنضال الصبور، والعمل الدؤوب نحقق المستحيل.

بعد كل تلك الشروحات قلت أيضاً: أحمد لا يستسلم لصنمية أفكار، وعبودية أشخاص ولا يقبل بطقوسية، فهو رجل واجه سخط الاستعمار وأعوانه عليه بالإزدراء، واستمرّ طوداً شامخ الثبات والعلياء غير عابئ بهم.

وماذا لديك أيضاً عن أحمد؟ قلت كانت الرحلة النضالية التي بدأها أحمد يافعاً استمرت خمسين عاماَ، ولا يزال ذلك النهر المتدفق حتى آخر يوم من عمره، وربما لو طالت به السنون لأعطى المزيد، وكان يقول أيضاً إن يكون السياسي داخل اللعبة وإلا سيكون على هامشها متفرجاً، تكون أو لا تكون، وهذا منطق الأشياء.

قال بعد الذي استفضت في شرحه عن أحمد أحسست بكثير من الإرتياح، وعرفت بأنه أكثر إنسانية وذو وجدان عميق وفكر أصيل وقدرة عظيمة على تحليل الواقع ووضع الحلول، كان ينظر إلى البعيد ويبدو كمن يرى أبعد من الأفق وأبعد من الزمن، فلربما كان العملة النادرة في هذا الزمن وكأنما خُلق للعذاب ليرتاح غيره، عاد أدراجه منتشياً بالمعلومات التي حصل عليها شاكراً، وممتنا وفخوراً بعظمة هذا الرجل العصامي الذي عاش الحياة في وجه الموت، والآمل في وجه اليأس، والمناضل الصبور والقابض على الجمر لآخر رمق في حياته، وقال مودعاً: سيرة أحمد العطرة بهذا المشوار النضالي الطويل أصبحت حكاية طويلة لن ينتهي رجع صداها لأنها في وجدان الناس وقلوبهم.