المنشور

الببغاوات ملت من ترديد كذب الحراس الذين لا يفهمون لغتهم*

تمرُّ على العامة كل يوم عشرات الأخبار العادية والمدهشة، مروراً يكاد يكون عابراً، سيأخذ وقته في لحظتها ويمضي. وحدهم النابهون سيلتفتون إلى ما يمكن أن يأخذهم إلى أفكار ناتجة من نضوجهم وقدرتهم على الرؤية بأكثر من شكل لا يخطر ببال الآخرين، يمكن أن يكون نوعاً من استشراف القادم. ولأن لكل خبر أو حادثة مغزى، أو هدفاً مكشوفاً أو مخفياً ينتظر الاستنباط من المطلع عليه، يتعين على المطّلعين أن يظهروا نتيجتهم الخاصة بهم إن فكروا خارج ما أراد لهم سياق الخبر. فكم من هذه الأخبار يمكن أن تكون ملهمة للكتاب والفنانين لإعادة صياغتها واظهارها للنور بشكل مختلف مجددا؟

لفتت نظر الكاتب المسرحي المصري إبراهيم الحسيني حادثة عنونت ضمن أغرب القضايا حول العالم في العام 2008، جاء فيها أن سيدة انتقلت إلى منزل جديد بمنطقة دورست في إنجلترا، تملك ثلاث ببغاوات من مدة طويلة، تناهز العشرين عاماً أو أقل، وقد وضعتهم هذه السيدة في قفص بحديقة البيت، حتى اشتكى الجيران من الأصوات العالية التي تصدر من الطيور، والتي تنغّص عليهم أوقاتهم وتمنعهم من النوم ليلاً، حتى قام مجلس المدينة بالطلب من السيدة أن تقوم بخفض صوت ببغاواتها. فقامت بطلاء القفص باللون الأخضر ليشبه الغابات، وغيرت طعام الطيور إلى الفاكهة، وإلى أفضل أنواع الخضراوات، ولكن ظل صوت الطيور عالياً. فخاطبها مجلس المدينة مجدداً لإرغامها على إسكات الطيور، أو تخفيض أصواتها على أقل تقدير، ولكن السيدة استأنفت الحكم، فألغي باعتبار أنها لا تستطيع ولا تملك أن تفعل شيئاً.

كلفت هذه القضية المجلس ستة وعشرين ألف جنيه استرليني! هل توقف العناد إلى هنا؟ ليس بعد، لأنه لا قواعد ولا حدود لهذه اللعبة الطفولية المكلفة! فالسيدة رهنت بيتها مقابل عشرين ألف جنيه استرليني حتى تقوم بدفع الرسوم وأتعاب المحاماة! وكذلك الأطراف الأخرى المتمثلة في الجيران، حتى تكلف الطرفان مبلغ خمسة وأربعين ألفاً وسبعمائة جنيه إسترليني، وأيضاً ستكلف سبعين ألفاً أخرى لإعادة النظر في القضية، ويجب أن تتوقف الخصومة، لكن شيئاً لم يتغير، لأن السيدة أسرَّت للقاضي بأنها رهنت بيتها لتثبت للمجلس البلدي أنه لا يستطيع إرغام الناس أو الببغاوات على الصمت!

هذه الحادثة ألهمت الحسيني ببناء نص مسرحي لا يبتعد كثيراً عن هذه الحدث المثير. لكن ما أضافه الكاتب من أبعاد وعمق لشخصيات نص “قضية إسكات الببغاوات” الذي توحي عتبته الأولى بعبثية ملفتة في ارتباط “القضية” بـ”الببغاوات”، مما يستدعي الانتباه، وكيف للببغاوات أن تسكت إن لم تكن تتكلم أصلاً؟ ولا يبتعد المتن عن العنوان كثيراً. فالخط الرئيسي الذي استنبطه المؤلف هو عبثية الصراعات البشرية بكل أشكالها، صغرت أم كبرت، احتوت على خلافات حقيقية أو ساقتها الظروف الخاطئة نتيجة سوء فهم ما، هي صراعات لا معنى لها سوى تضييع الوقت/ الحياة، ودفع ثمن الأحقاد والخصومات مادياً ومعنوياً.

وكما تقنية مسرح داخل المسرح، ابتكر الحسيني نصاً قصيراً مكتملاً في البداية، استخدمه لاحقاً في عنونة أجزاء النص بشكل يضيف معنى أعمق، ويبعد التصنيف الرقمي الخالي من الروح، ذلك أن جمل النص لم توزع بشكل عشوائي، بل بما يشير لتقدم الحدث في متن نص “الببغاوات”. وليس هذا غريباً على كاتب مبتكر مثل إبراهيم الحسيني، الذي يحوي تاريخه المهني في مجال الكتابة المسرحية عشرات الجوائز من مختلف البلدان، وليس داخل دولته فحسب. ولا يعتبر الأمر مجرد اختيار لجان تحكيم مكونة من أفراد -حتى لو كانوا مختلفين في كل مرة دخل الحسيني فيها مسابقة ما- لكن الدلائل الأخرى المتمثلة في تنفيذ عروض كثيرة، وبرؤى مختلفة لنفس النص المختار، يدل على قدرته في الوصول إلى ذائقة أكبر عدد من المخرجين، وبالتالي الجماهير التي تتنوع من المناطق الصغيرة في مصر والبلاد العربية، حتى العرض في الولايات المتحدة الأمريكية. وبعيداً عن التميز الذي حصده نظير إنجازاته؛ يشتغل إبراهيم الحسيني على أفكار متنوعة في نصوصه المسرحية، كما يعتني عناية خاصة بتسمية هذه النصوص بعناوين لافتة، وقوية، وجاذبة للقراءة.

ثم لماذا الببغاوات تحديداً؟ لِمَ لَمْ يعمل الحسيني على تغيير الطيور، أو استبدالهم بحيوانات أخرى لها صفات واضحة؟ أغلب الظن أنه اختار الببغاوات لأنها “ظاهرياً” مطيعة، تفلح في ترديد الكلام مع أي تدريب لمدة زمنية محددة، وهو ما كانت مالكتهم”هويدا” تطلبه، حتى وإن لم تصرح به، رغبة منها في سماع ما تود أن يقوله لها الآخرين. لذا تردد وراءها الكلام الذي ترغب به، فهو يشعرها بالرضا/السيطرة، وبالجو العائلي الذي طالما رددته هي على طيورها. أما المسألة الأخرى، فهي المتعلقة بالصوت، إذ تعد الببغاوات من أكثر الكائنات المزعجة بحدة صوتها التي يبلغ (132) ديسيبل، فيما يبلغ الصوت البشري العادي (60) ديسيبل!

زارا، وجيكا، وسندس هي الببغاوات التي استنطقها المؤلف من أجل التعبير عن دواخلها. ذكرين وأنثى، حوارها مستمر طوال الوقت، لكنه ليس حواراً يخص سيدتها التي تمنحها الرفاهية – من وجهة نظرها – وتنسى الأساس في كون زارا عازباً في قفص زوجين محبين، يطالب بزوجة بدل أن يشارك جيكا سندسه! وهو حق كل كائن حي، خصوصاً في حال كونه محبوسا في قفص وله كفيل يتولى أمره.

وقياساً على ذلك، يمكن إدراج الإنسان تحت هذا المفهوم؛ حيث تتعدد الأقفاص التي تحوطه وتمنعه من عيش الحياة التي يرغبها: قفص الأعراف، وقفص العادات والتقاليد، وقفص أولوية اختيار الأهل، وقفص الصفات الشخصية للفرد نفسه التي تعرقله؛ كالتردد، والضعف، والخوف، حتى يأتي آخر قفص يضمه في رحلته الأخيرة للحياة التي ضيعها.

ولم يكتفِ الحسيني باستنطاق الببغاوات، بل أسبغ عليها صفات إنسانية -على حد علمنا – لأن عالم الطيور والحيوانات له نظامه وقوانينه التي يشرحها علم خاص بها. هنا كان الصراع الغريزي من أجل أنثى، هذه الأنثى مرتبطة أصلاً بأحد الذكرين، لكن غريزتها أيضاً تقرأ أن ثمة صراعاً عليها/ على امتلاكها، فتصهل بغنج مفضوح لإذكاء المنافسة عليها! بل وتصرح بها علنا: “أحب أن يتقاتل الذكور بسببي.. هيا، مزِّقا بعضكما من أجلي”! يعلو صوت الشجار ليحدث ضجة كبيرة، فينزعج الجيران ليعودوا للشكوى على صاحبة الببغاوات، محدثين دائرة عبثية تبدأ وتنتهي عند نقطة معينة، ولا شيء يدعو للتقدم، بالإضافة إلى أن لكل شخصية منطقها “العادل”: هويدا وحيدة، وتجد في الببغاوات مع العشرة الطويلة بديلاً للعائلة، وطبطبة عاطفية، وحرمانها منها يعني التخلي عن الأجواء الأسرية.. الجيران من حقهم التنعُّم بالهدوء في مساكنهم، وأي إزعاج متواصل يخولهم للشكوى بدون ملامة من أحد.. والببغاوات، مصدر الحدث، لها حق الحياة الطبيعية في إطلاق أصواتها التي خلقت بها، بالإضافة إلى حق توفر الشريك من قبل المالك/الكفيل حتى تكون حياتها طبيعية.

هكذا يأخذنا النص إلى فسحة مغايرة عن شجار بين سكان مكان واحد بسبب قضية نعتبرها تافهة! رغم تحفظ “هويدا” على اللفظ، حتى استبدلها الضابط بالقضية “البسيطة”! وماذا عن أنواع التفاهات الأخرى التي تخترق الأسر لأسباب أصغر من هذه؟! وخلافات أصدقاء عِشرة طويلة على موقف طارئ؟ أو حتى صراع زملاء عمل على منصب وظيفي مؤقت؟ كان الحسيني يدفع قارئه إلى التأمل ملياً قبل الإقدام على خلاف يظنه هيناً، ويكلفه من العمر والوقت والأعصاب وغيرها ما لا يمكن حصره، والذي يأتي غالباً من مستصغر الشرر، وكلها أسباب مؤقتة لا تستحق الصراع الذي تناله. وفي سبيل إظهار الأبعاد الأخرى لشخصيات النص، لن يمنع الاحتداد في حجب فضول الجار لطفي، وإلحاحه في معرفة الكلمات البذيئة التي تقولها الجارة الأخرى “ليلى” لزوجها أثناء علاقتهما الخاصة، “وقاحات وشتائم عنيفة وسادية”، وهكذا يظل لطفي يسأل بإلحاح طول الوقت عن هذه الألفاظ التي لا تضيف للقضية الأولى محل اهتمامهم شيئاً، بينما زوجته في المنزل “صامتة كحجر!”، ونموذج لطفي المتلصص على التفاهات موجود في الواقع، ويتكاثر بشدة مدهشة.

وبينما تشعر “المالكة” هويدا أن الببغاوات هي أسرتها/شعبها – كما تسرد لنا الأقصوصة في بداية النص -، وحتى تحل هذه المشكلة، يبادر الضابط بمركز الشرطة القاضي/ الحاكم/ رمز العدالة/ صاحب السلطة، في إلقاء بعض الحلول العقلانية الممكنة، والعامة أيضاً، من حيث إمكانية تطبيقها من نموذج الأسرة الصغيرة مروراً بكل النماذج التي تكبرها، وحتى نموذج الدولة والشعب، وشكل العلاقة بين طرفين يجمعهما نفس المكان، وبالتالي تسري عليهما نفس الأحكام، وتتلخص هذه الحلول في منح الببغاوات مزيداً من الوقت والاهتمام/ التعرف على مشاكلها عن قرب/ تقديم الطعام الجيد لها/ إسماعها بعض الموسيقى/ عدم إرغامها على ترديد كلماتها/ ومنحهم بعض الرفاهية التي ستغير في سلوكها العدواني حتماً، وهي نصائح ثمينة تستحق الإنصات والتأمل لإنقاذ علاقات كثيرة تكاد أن تهدم في مجتمعاتنا. ومن الملاحظ هنا أن العلاقة تشعبت عند هويدا إلى شقين: مشكلتها القائمة مع جيرانها، وعلاقتها مع الببغاوات التي باتت تحتاج إلى مد جسور جديدة في علاقتها بها، وهذا يعني تصدّع جدار الاستقرار “المتخيل” لديها من الداخل والخارج، ومعركتها التي حميت أكثر.

ومن المهم ملاحظة أن المؤلف لم يُشِر بتاتاً إلى العلاقة “الأسرية” التي تجمع هويدا بـ”ممتلكاتها” من الببغاوات المستاءة من رائحة المعقم القوية ورذاذ العطر الذي خنقها. أما الطعام الفاخر الذي أتى به العامل، فقد أكل معظمه خلسة، لأنه خارج الرقابة! مشكلة هويدا أنها “سلطة” تصدر الأوامر لأفراد لا علاقة لهم، ولم تجرب أن تقترب مادياً وشعورياً من أسرتها، ولو فعلت لكانت ستشعر بوحدة “زارا” لأنها ستلاحظ ببساطة أنه الوحيد دون الطيرين الآخرين، وربما ستسعفه بأنثى جديدة تشاركها القفص، كانت ستحس نفورها من رفاهية العطر الذي لا يتناسب مع طبيعتها الحرة، أو أقلها لن تضعها في أيدي عمال يشتهي أحدهم أن يتذوق لحم الببغاء على طبق غداء مع حساء لسان العصفور!
****
أي هويدا:
افتحي لببغاواتك الأبواب.. قبل فوات الأوان.