المنشور

البائع الذي أصبح كاتباً

ها نحن قد وصلنا ربيعاً، بعد أن ارتوت الأرض من ماء السماء فصلاً كاملاً، لتنبت الأشجار والورود مرة أخرى، وتكتسي الأرض خضرة، معلنة عن اعتدال الطقس. ها هي الأعين ترتوي أملاً، والحواس تستريح بجمال الطبيعة وبتجدد مظاهر الحياة، وها هو الأمل ينبعث مجدداً، ليعلن عن بدايات جديدة.

لا أعرف إن كان هذا الربيع بالذات يبشرنا حتماً ببدايات جديدة، ولكن لنكن متفائلين ولنحصر آمالنا في الكلمات، بعد أن أصبحت هذه السنة، سنة الكتابة، بلا منازع، للكثيرين، بعدما اجتاحت العزلة حياتنا، وأعطت الفرصة للذين لم نتوقع قط أن يبوحوا لنا بالقلم بما تخفيه أفكارهم من خيال.

لنا أن نضرب المثل بجمال الشريقي، شاب أمازيغي جزائري الجنسية ويبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، لم يسبق له أن كتب مقالاً أو نشر رواية، و لم يحالفه الحظ أن يكمل تعليمه، لا بل وأنه قضى جزء كبير من السنين العشر الأولى من شبابه وهو في حيرة من أمره، لا يعرف ما يريد وما عليه أن يفعل، حتى ساعده أهله قبل عدة سنين في شراء بقالة تقع في أحد المدن غير المعروفة في الشمال الفرنسي، فبدأت سنوات الملل والعزلة لجمال، وسط الزبائن الذين يدخلون صامتين لشراء حوائجهم ويخرجون مع قليل من الكلام، هي سنوات لم يكن معتاداً عليها، ذلك الشاب الثرثار، الذي لم يعرف التخلص من الفراغ دون الانكباب على القراءة والكتابة.

ليس كل الروائيين مُدرسين أو صحفيين. بعضهم روائيون بالإرادة والبعض الآخر أطباء، مهندسون، أصحاب أعمال أو حتى عاطلون عن العمل. ما يعدّ غير الدارج، هو أن يكون الكاتب بائع مواد غذائية، وأن يكتب أولى رواياته خلف منضدة العداد، بحضور الزبائن الذين يشغلونه باستمرار عن الكتابة. خارج ساعات الذروة، قضى جمال معظم وقته وهو يقرأ بنهم أنجح الروايات التي عرفها الأدب الفرنسي من القرن التاسع عشر حتى قرننا هذا، ليعرف كيف يمهد لحصاده الأول، أو ما أطلق عليه “شبه سيرة خيالية”، قصة الشاب الذي يكتشف نفسه ويبدأ في إيجاد ذاته قبل اكتشاف العالم.

تحكي الرواية التي عنونها جمال ب: “الراتب المقدس”، كل الأفكار الشيطانية المرئية أو المحسوسة التي تعبر محيطه وهو واقف خلف المنضدة، فيتمنى لو أن حاضره كان أفضل مما هو عليه. “لماذا لا أسرد قصة حياتي بصورة أكثر إثارة؟” كان يقول لنفسه ربما هي الإثارة التي كانت ستعطي لحياته منحى آخر وتجعل منه شخصاً آخر.

على كل حال تبدأ الرواية بحكاية تشبه حكايته، وهي قصة طالب يتم طرده من قبل أبيه، بعدما صارحه برغبته في ترك الجامعة من أجل تكريس كامل وقته للكتابة، فما كان منه إلا أن يصرخ على ابنه طالباً منه الخروج من المنزل، ليرى الراوي نفسه والجاً بقالة آلان باسيل، الذي لا يتردد في تعيينه. لم يكن آلان باسيل هاوياً للكتابة، كان بائع مواد غذائية مع طموح واحد مصاحب له: أن يصبح مليونيراً. كان مستعداً لأي شيء ويحتاج إلى شريك، فقام بتجنيد بطل الحكاية من أجل المشاركة في تجارة المخدرات، لتقلب حياته رأسا على عقب، و يدخل في سلسلة مغامرات ثنائية حاسمة، مليئة بروح الدعابة، ساعدته في كتابة ما كتب اليوم، وما وضع للرواية نهاية.

الرواية تجسد الفرق ما بين الأفكار والأفعال. على سبيل المثال، قد تدفع الرغبة في الحصول على المال إلى التفكير بالسرقة أو الغضب إلى الرغبة في الضرب، ولكننا لا نحوّل، لحسن الحظ، كل الأفكار إلى أفعال. كان بإمكان جمال البائع أن يتواطىء مع شبكة مافيا لجني المزيد من المال ولكنه لم يفعل، واختار بدل ذلك أن يوظف خياله لخدمة الأدب وحثّ الشباب في سنه على الكتابة.

بعدما أنجز الرواية، راح جمال الشريقوي يرسل المجلد إلى عدة دور نشر، غير آملا كثيراً في أن يرد عليه أحد. كان يهمس لنفسه: “من سيرغب في نشر رواية بائع مواد غذائية ؟ لا أحد !” شاء الحظ أن يبتسم له ببداية جديدة، بعدما اتصل فيه ناشر، طالبا التحدث مباشرة مع تاجر المخدرات آلان باسيل، لينفجر جمال ضاحكا: “هل هذه سخرية ؟”. ما كان سخرية، أصبح واقعاً، حيث تمكن الشاب المبتدأ من نشر روايته الأولى الشهر الماضي، معطياً المساحة للكثير من الاعلاميين لزيارته في بقالته، من أجل سرد قصة البائع الذي أصبح كاتباً.

اقرأ المزيد

نساء على دروب غير مطروقة

د. حسن مدن

خصوم ومنتقدو نوال السعداوي ليسوا قلة، فهي كانت هدفاً لسهام معارضيها، بمن فيهم بعض من يتفقون معها، ولكنهم يأخذون عليها ما يحسبونه غلواً منها، ولكن عدد مناصريها، خاصة من النساء، في مختلف البلدان العربية ليسوا قلة أيضاً، وأظهرت ردود الفعل بعد وفاتها، قبل يومين، هذا الانقسام في الموقف من شخصها وآرائها.
هذا شأن كل الشخصيات الإشكالية في أي مجتمع، وتوخياً للدقة علينا أن نقول هذه حال الشخصيات التي تقارب القضايا الإشكالية، برؤية مختلفة غير معتادة، فلا بد أن يختلف في أمرها المختلفون، وتاريخنا الثقافي والفكري العربي حافل بمثل هذه الشخصيات، وحسبنا هنا أن نذكر اسم طه حسين، كمثال، فما بالنا بالأمر حين تكون الشخصية المثيرة للجدل امرأة، كما هي حال السعداوي التي تحسب لها جسارتها في اقتحام المسكوت عنه دون وجل أو خوف.
ما يحسبه خصوم ومنتقدو نوال السعداوي غلواً وخروجاً على الثوابت هو نفسه ما يحسبه مريدوها جرأة واقتحاماً للتابوهات التي يجب مقاربتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية المرأة في مجتمعاتنا العربية، وجميعنا يعلم أن تناول هذه القضية بمنظور مختلف، لم يبدأ بنوال السعداوي، وحسبنا هنا أن نذكر كتابي قاسم أمين: «تحرير المرأة» (1899)، و«المرأة الجديدة» (1901)، وكذلك كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الصادر في عام 1930، للتونسي الطاهر حداد، خريج جامع الزيتونة، والذي نال في حينه إعجاب طه حسين، حتى قال عن مؤلفه: «لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنين”.
ويعرف تاريخ مصر نساء رائدات شجاعات اقتحمن دروباً غير مطروقة محفوفة بالمخاطر، بينهن سيزا نبراوي، هدى شعراوي، نبوية موسى، وفي فيلم أعدّته الأديبة إنعام كجه جي عن حياة أول وزيرة في العالم العربي الطبيبة العراقية نزيهة الدليمي، التي توفيت، وحيدة، في صقيع المنفى، نفاجأ بجرأة وإقدام هذه المرأة، التي حكت في الفيلم أنها استقلت حافلة النقل العام، متوجهة إلى القصر الجمهوري في بغداد، حين استدعاها أول رئيس للجمهورية، عبدالكريم قاسم، ليبلغها بأنه اختارها لتصبح أول امرأة وزيرة في البلاد.
ولا يمكن أن نغفل هنا الكاتبة والنسوية المغربية الشجاعة فاطمة المرنيسي التي عرفت بأبحاثها الفكرية والاجتماعية لخدمة قضايا تحرير المرأة، صاحبة العديد من المؤلفات، من بينها “الحريم السياسي”، و”هل أنتم محصنون ضد الحريم؟”، و”ما وراء الحجاب”، “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، و”أحلام الحريم”، “نساء على أجنحة الحلم”، ما شكلَّ تراثاً مهماً ومرجعاً أساسياً ونصيراً للحركة النسائية المغربية والعربية، فضلاً عن إثرائه لفكر الحداثة والتقدم الاجتماعي والفكري في المغرب والعالم العربي.
على خطى هؤلاء سارت نوال السعداوي، الطبيبة بدورها، ولكنها جمعت بين الأدب والطب ووظفتهما في مقارعة كل ما تعدّه معيقاً لتقدّم المرأة ومساواتها بالرجل، غير آبهة بالتحديات، وأصدرت عشرات الكتب، تُرجم بعضها للغات أجنبية، بينها: “مذكرات طبيبة” عام 1960، و”مذكرات في سجن النساء”، ومسرحية “الزرقاء”، ورواية “سقوط الإمام” عام 1987، و”أوراق حياتي” عام 2000. ومن رواياتها أيضاً “امرأة عند نقطة الصفر” المستوحاة من قصة حقيقة لامرأة التقتها وكانت تواجه عقوبة الإعدام.

اقرأ المزيد

مسافة

الحبُ قريب وحاسم جداً..
حدّ التعثر الوشيك والمتكرر لطفل مضحك يتدرب على المشي
حدّ دخول النسيم الخفيف ما إن تُفتح نافذة
حدّ خطوة أسير قد حان موعد إفراجه
حدّ قبلة عشاق لم يلتقوا منذ زمن بعيد
حدّ احتراق بصلة مفرومة على مقلاة ساخنة
حدّ انتشار عطر البخور على جمرة تشتعل
حدّ تلمس الموت لامرأة في غرفة المخاض
حدّ اقتراب قذيفة النهاية من رأس مقاتل أضاع خوذته بين الحقول
حدّ تكبد النجوم في مخيلة القصيدة
حدّ العناق الذي يجب أن يكون كلما توحدت النظرات الندية بالعشق
ككل صور الحياة القريبة المسافة.. تلك الصور السريعة والصارمة ..(هكذا يولدُ الحب)..

اقرأ المزيد

واقع التعليم عن بعد في البحرين

بلمحة سريعة على مكونات مدرسة المستقبل، والمراحل التأسيسيّة للمشروع، الذي تم تطبيقه الشامل عام 2008 ، والذي استمر حتى اليوم، فأصبح عمره ستة عشر عامًا، وخلالها حسب الخطة المعدّة له، نشر في جميع مدارس البحرين، ولجميع المراحل، وعلى جميع المستويات والأصعدة، أفقيًا وعموديًا، بدءًا بالمستوى الإداري التنظيمي، إلى المستوى الفني التقني، إلى المستوى الاتصالي التواصلي، فالمستوى التعليمي التعلمي ثم المستوى التنموى المهني، وأخيرًا المستوى التقييمي التقويمي، كما جاء في أدبيات وزارة التربية والتعليم. وبالاضطلاع إلى تصريحات وزير التربية والتعليم، في الاجتماع الاستثنائي للمؤتمر العام لوزراء التربية والتعليم لدول مجلس التعاون الخليجي، والذي عُقد باستخدام تقنية الاتصال المرئي عن بُعد في 10 يونيو 2020، استعرض الوزير فيه تجربة مملكة البحرين في تفعيل التعلم عن بُعد.

من خلال البحث في البوابة الإلكترونية لوزارة التربية والتعليم، والتحقق وبالبحث في موقع الوزارة، نجده مخططًا واضحًا ومتسلسلا؛ لكن هناك الكثير، من وجود عناوين رئيسية جميلة خالية من أي محتوى، ونرى أنّ مقدار جذب الطالب لتلك البوابة التعليميّة ضعيف جدًا، مقابل الكم الهائل الذي يقدمه google من طرق تعلم واسعة ومنوعة وسهلة الاستخدام، ربما تربك التلميذ وولي الأمر في ذلك.

من خلال استطلاع أوليّ قامت به الباحثة، وقدّمته في ندوة الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، بتاريخ 21 يوليو، كانت النتائج:

‌أ- “رب ضارة نافعة” أزمة جائحة كرونا، أوضحت ما هو مخفي من إيجابيات لتعزيزها، وسلبيات، لمعالجتها، فعمر مشروع مدارس المستقبل حتى اليوم، ستة عشرة سنة، يفترض أن يكون الجميع مؤهل… وهنا التساؤل؟؟؟؟ أين المراقبين على القائمين على المشروع.
‌ب- عدم وجود وضوح رؤية في القطاع العام، والدليل تغير القوانين والارشادات الموجهة للمدارس الحكومية أكثر من مرة، فما هو ممنوع، يصبح بين ليلة وضحاها مطلوب بل ويكافأ عليه.
‌ج- عدم متابعة لحضور حصص التعلم عن بعد؛ لقصور في البرنامج الذي يقدّم من خلاله الدروس، وبالتالي كيف يمكن قياس عملية التعلم، خاصة لتلاميذ المرحلة الابتدائية والإعدادية؟
‌د- التقويمات والنتائج التي تحصّل عليها الطلبة في التعليم العام، أغلبها غير صحيحة ولا تعطي القيمة الفعلية لمستواهم الأكاديمي، خاصة للمرحلة الابتدائية والاعدادية، فالنتائج كما عبّرت عنها فكاهيات الرسوم المتحركة والطرائف التي نشرت وقتها عبر التواصل الاجتماعي، ما هي إلا نتائج الأمهات. وهي جهد أولياء الأمور، حيث كانت إجابات الامتحانات جماعية، فكيف يكون مقياس النجاح للفرد.
‌ه- طلبة التعليم الخاص، لم يعانوا من التعلّم عن بعد، مقارنة بطلبة التعليم العام؛ والسبب تعودهم على التفاعل معه قبل الجائحة.
‌و- وجود النتائج المرتفعة لبعض التلاميذ بشكل عام، أراح نفسية أولياء الأمور، وأوهم البعض نفسه بأن الانجاز الذي تم، قد تم بجهود الأبناء.
‌ز- إذا كانت الرغبة بتعليم جاد وحقيقي، فلا بد من الاعتماد على الكفاءات العلمية الوطنية فقط.

يمكن أن نوجز ذلك في أنّ التخبط الذي حدث للعملية التعليميّة برمتها خلال الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي 2019 – 2020، كان راجعًا لعدم الاستعداد، فضلا عن أن ما يُنعَت به مشروع مدارس المستقبل لم يكن بتلك الصورة المنمقة والجميلة، التي صرف عليها آلاف الدنانير على مدى ستة عشرة سنة؛ لتهيئة المؤسسات التعليميّة البحرينية، والغريب أنها أتت بصورة هزيلة، تنم عن عدم المتابعة وإهدار المال العام فيها، كما أنّ هناك أسبابًا عديدة لسنا بصددها الآن…. لقد كشفت جائحة كرونا المستور.

كان أمام القائمين على التعليم وقتًا يستطيعون خلاله تدبر الأمر، حيث كانت عطلة الصيف الطويلة أمامهم، ويمكنهم تقييم ما مروا به لتلافي كثير من الاشكاليات، التي وقعوا فيها. ولتلمس الواقع عن قرب، والتعرف على التهيئة للعام الدراسي 2020 – 2021، وجب النزول للواقع الميداني مرة أخرى، وعمل مسوحات أوليّة للعاملين في الميدان التعليمي ولآراء المستفيدين من طلبة وأولياء أمور، لقد جاءت العينة مقصودة شملت عموديًا وأفقيًا من لهم علاقة بالعملية التعليميّة، وجاءت النتائج كالتالي:

‌أ- لا زالت الضبابية وعدم وضوح الرؤيا في مدارس التعليم العام موجودة، ووجود التخبط منذ بداية اقرار استمرار التعلم وعدم توقفه للفصل الدراسي الأول 2020 – 2021.
‌ب- بطء الإنترنت يشكل عائق كبير في عملية التعلم عن بعد خاصة للتعليم العام، وعدم وجود التفاعل بين الطالب ومعلمه عائق آخر، … فلابد من تقوية شبكة الإنترنت من قبل وزارة التربية والتعليم، والحضور للدروس إجباريًا – تسجيل الحضور.
‌ج- إرهاق ميزانية المعلمين من الصرف على توظيف الإنترنت الخاص بهم في خدمة الطلبة؛ لضعف خطوط المدارس الإلكترونية، وكذلك في مستلزمات الرعاية الأولية كوجود المهرات والكمامات… إلخ
‌د- الدورات التدريبية والورش التي قدّمت للمعلّمين لم تكن كافية، كما أنّها ليست بالمستوى المطلوب كما ونوعا وكان على المعلم أن يتعلم ذاتيا بشكل أكبر، كما أن متابعة المشروع من جهة صيانة السبورة الذكية تسير ببطء.
‌ه- على الرغم من ترتيب الوزارة بجعل معلم يلقي ويشرح، وآخر معاون له سيستقبل الأسئلة؛ إلا أن تساؤلات الطلبة وعدم قدرتهم على التواصل المباشر مع المعلم الأساسي بشكل فاعل، خصوصًا أن المعلم المعاون لا يستطيع الرد على استفسارات والتفاعل مع العدد الكبير من الطلبة أثناء البث.
‌و- عملية التعلّم لم تأخذ أحقيتها من مختلف الجوانب، حتى وإن كانت اكتملت من الجانب المعرفي؛ إلا أنها كانت قاصرة بل ومفقودة من حيث الكفايات الأخرى المهارية والسلوكية والاجتماعية… إلخ
‌ز- إن عملية التدريب على استخدام التكنولوجيا والبوابة التعليمية والسبورة الذكية والسبورة التفاعلية والأدوات الرقمية عملية مستمرة لجميع المعلمين والمعلمات كانت جيدة. ويبقى السؤال الذي يلح عليهم، كيفية التطبيق.
‌ح- التقدم المحرز من تدريب ذاتي وتعلم برامج إلكترونية من قبل المعلمين والطلبة أنفسهم التي تستخدم عن بعد، كانت في فترة وجيزة جدًا، إذن أين منها القائمين على مدارس المستقبل.
‌ط- ترك خيار حضور الطلبة للمدرسة لأولياء الأمور، أدخل أغلبية أولياء الأمور في حيرة، فبعضهم غير مؤهل على اتخاذ القرار الصحيح.
‌ي- ليس كل أولياء الأمور على درجة من المعرفة العلميّة التي تمكنهم من تعليم أبنائهم وسد الحاجات المعرفية لديهم. كما أنّ أولياء أمور آخرين يعملون – الأم والأب – وهذا سبب سيسبب إشكالا عليهم…
‌ك- عدم انتباه بعض التلاميذ، الذين لا يهتم أولياء أمورهم بمتابعة دروسهم عبر الوسائل الإعلامية والتكنولوجية لأميتهم التكنولوجية في استخدام الأجهزة الإلكترونية المتمثلة في الحواسيب أو الهواتف الذكية بخلاف التلفاز أو الإذاعة.
‌ل- عدم جدية بعض الطلبة في متابعة محتوى الدروس والمواد الدراسية التي تقدّم عبر المنصات التعليميّة، وتراخي البعض عن المشاركة عن طريق التعليم عن بعد. وعدم وجود التفاعل الإيجابي في طلب إعادة ما لا يفهم لأن لمحدودية الوقت للتعلّم إلكترونيًا في التعليم عن بعد.
‌م- انقطاع الشبكة الإلكترونية لبعض الأجهزة أو عدم وصولها أو انقطاع الكهرباء أو فقد الاتصال أو عدم الوضوح للصوت أو الصورة مما يشوش على العملية التعليمية. بشكل عام
‌ن- عدم توفر الأجواء الدراسية للبعض داخل المنازل والتي تشغل البعض أمورًا أخرى مشاغبة ومشوشة على انتباه التلاميذ لدروسهم التعليمية، بسبب ضيق المكان، أو وجود أكثر من تلميذ في مراحل مختلقة.
‌س- التعليم عن بعد يركز على التعليم دون التربية في ظل الأزمة والتي قد تعوض فقط في ظل الإطار الأسري حيث كانت المؤسسة التعليمة مساهمة في العملية التربوية للطالب مع المؤسسة الأسرية والمجتمعية.
‌ع- عدم توفر الأجهزة المطلوبة للتعليم عن بعد سواء كانت الأجهزة الإلكترونية أو الشبكة الإلكترونية أو الأجهزة التلفزيونية للأسر الفقيرة في حال لديها أكثر من طالب في مراحل مختلفة.
‌ف- صعوبة على المعلم في إعطاء مادة التعليم عن بعد دون تفاعل الطلبة معه – يستغرق عمل المعلم إلى ست ساعات متواصلة – ما يؤدي إلى إجهاد مستنزف من المعلم للطالب ولا تفاعل من قبل الطرف الآخر، والذي يرجعنا إلى أسلوب التلقين بدلاً عن أسلوب التفاعل الإيجابي.
‌ص- التأثير على الجانب الصحي للطلبة من كثرة استخدام الأجهزة الإلكترونية بدافع التعليم والتثقيف والترفيه، حيث أصبح الطالب يقضي وقته وحياته داخل هذه الأجهزة ومع هذه الوسائل دون أن يغفل عنها لحظة. أصبحت عبئاً مالياً يتحمله الأهالي ذوي الدخل المحدود لتوفير أجهزة إلكترونية للمنظومة الإعلامية بدل الكراسات والأوراق والأقلام.
‌ق- التأثير على الجانب الغذائي على الطالب والذي يجعل حياته مقيدة بالجلوس أمام شاشة تلفاز أو كمبيوتر أو متابع عبر الأجهزة الذكية بمختلف البرامج والتطبيقات التي يحملها، واستمرار لتناوله الوجبات الخفيفة والغير صحية.
‌ر- القضاء على المواد الدراسيّة المهارية مثل التربية الرياضية والموسيقى وغيرها من المهارات مما ينقل الطالب لأن يكون نظرياً فقط دون أن يستخدم المهارات الحركية.
‌ش- بدأ التعليم في بعض المدارس الخاصة، بحضور الطلبة جميعهم، وفي كل الأيام المدرسية، مع اتخاذ مختلف الإجراءات اللازمة، بينما مدارس أخرى رتبت بحضور الطلبة ووزعتهم على فترتين وقللت من زمن اليوم المدرسي، كما طبقت برامج يكون فيها الطالب متفاعلا مع المعلم، ومرتبطًا به… المدارس الحكومية لا زالت الصورة غائمة عند المعلمين فكيف واقعها عند أولياء الأمور.
‌ت- أغلب الجامعات الخاصة استغلت جائحة كورونا من أجل التملص من القيام بدورها، وأصبحت الشهادات للبيع، مقابل ذلك لا إجراءات من مجلس التعليم العالي حيال ذلك، بل محاولاته بفرض درجات ٢٠ درجة للاختبارات النهائية و٨٠ درجة على الواجبات والانشطة الشكلية التي تعطى للطالب وإعطاء الطلية يومين أو أكثر لحل الامتحان، يمكنهم ذلك أخذ الأسئلة للمكاتب أو لأفراد للإجابة عنهم، وتبريرهم في ذلك مساعدة الطلبة ونفسياتهم في ظل الجائحة… إنّ ما يحدث جريمة في التعليم الجامعي.
‌ث- أصبح ما يقدم عبر التعليم عن بعد هو مجرد محاضرات صوتية ومتابعة الطلبة لها غير ذات أهمية، باعتبار أن المحاضرة تسجلت ويمكنهم الرجوع لها في أي وقت، وليس على الأستاذ أن يتأكد من تفاعل ومشاركة هذا الطالب أو غيره من دون أن يعرف له شكلا أو هيئة.
‌خ- زادت اللامبالاة للطلبة ناحية التعلم، بالسماح لهم بالإجابة عن الاختبارات والسماح لهم بتسليمها بعد يومين أو ثلاثة وحتى أسبوع، فالنجاح مضمون حتى وإن لم يجهد الطالب نفسه.

مدى جاهزية البحرين للتعليم عن بعد، خاصة لأطفال العائلات غير المقتدرة

معظم المدارس الحكومية تم جرد أعداد التلاميذ المحتاجين إلى الحاسوب، ولا يستطيعون توفيره في المنزل؛ لمتابعة الدروس عن بعد – من المنزل، خطابات عدّة رفعت، ولم ترد عليهم الوزراة، بل رفعت الموضوع إلى حملة “فينا خير” (مثال على ذلك، إحدى المدارس وصل عدد التلاميذ المحتاجين = 250 تلميذ، ورفع الموضوع إلى وزارة التربية والتعليم، ورفعت خطابات عدّة إلى وزارة التربية، طالبين إمدادهم بحواسيب إلكترونية للمحتاجين من التلاميذ وتقوية شبكة الانترنت الضعيفة في المدرسة، لكن دون رد)، وأخيرًا حملة “فينا خير” زودت المدرسة بعدد من الحواسيب للمحتاجين جاءت بأسماء مرصودة على دفعتين، الدفعة الأولى 30 حاسوب باسم 30 تلميذ، والثانية 25 حاسوب باسم 25 تلميذ، وجاءت بعضها بأسماء تلاميذ لم تكن محتاجة، وعندما استلم اللاميذ الغير محاجين للحاسيب رجعوها؛ لعدم حاجتهم إليها، لتسليمه لمن يحتاجها من التلاميذ، وحسب قول المعلم المسؤول لا نعرف معيار اختيارهم، واعتمادهم في التوزيع. وقس على ذلك بقية المدارس.

أعداد ليست بالقليلة لا يملكون إلا حاسوبا واحدًا في البيت ولجميع الأطفال، وإمكانيات إنزال برامج عليه غير ممكنة لضعف شبكة الانترنت لديهم، فلا يستطيعون متابعة الدروس، وهنا حلت اشكالية اجراء الامتحانات، التي لا زالت متعطلة لبعض التلاميذ حتى وقت كتابة هذه الورقة، ولا زال المعلمون يعانون من كيفية التقييم لهم عن بعد، وهم لا يمتلكون حاسوبًا وإن وجد لا يوجد خط النت الذي يعتمد عليه.
شبكة النت في المدارس ضعيفة جدًا، لايمكن الاعتماد عليها، وأغلب المعلمين يستخد النت الخاص به، وعند مخاطبة إدارة المدرسة يكون الرد هذا هو الموجود؛ مما يضطر المعلمون لااستخدام خطوطهم الخاصة وبدون تعويض.

عدم توفر الأدوات الاحترازية اللازمة في المدرسة من كمامات وخلافه، مما يدفع المعلمين من توفير مختلف ما يحتاجونه من مواد وأدوات احترازية ضد فيروس كوفيد – 19.

يلتحق الأطفال بالمرحلة الآبتدائية بعد اكتمال الطفل سن السادسة، وجرت العادة على أنّ جميع الأطفال قد التحقوا برياض الأطفال والتي جميعها خاصة، إذ يتوجب على أولياء الأمور الدفع في الكورس الواحد للطفل، للرياض المتوسطة المستوى، مبلغ لا يقل عن 500 دينار للفصل الواحد، وإلا يضيع الطفل بين أقرانه ممن كان لهم الحظ في دخول الروضة والوصول إلى مستوى تعليمي معين من تهجي الكلمة ومعرفة الأعداد.

*ملخص ورقة قدمت في “ملتقى التقدمي” الأسبوعي بتاريخ 24 يناير 2021

اقرأ المزيد

التعليم عن بُعد .. المشكلات والآفاق

مع تنامي وتيرة التغيرات المستمرة والدراماتيكية التي يشهدها العالم، خصوصًا بعد جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، أصبح تحديد المهارات المطلوبة للمتعلم أمرًا أساسًا، بُغية الوصول إلى فردٍ قادرٍ على التعامل مع متطلبات المراحل اللاحقة لتخرجه من المدرسة؛ سواءً كانت متعلقة بمتابعة تعليمه العالي أم الانخراط في سوق العمل.
ولقد ركزّ الإطار الرابع لمراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة الصادر في فبراير 2019 عن هيئة جودة التعليم والتدريب في مملكة البحرين على تطوير المخرجات التعليمية من خلال الاستناد إلى مهارات القرن الواحد والعشرين والتي تعدُّ منطلقًا لمجالات الإطار ومعاييره، بحيث تفرز العملية التعليمية أفرادًا متمكنين من المهارات الأكاديمية والحياتية الداعمة، وقادرين على التأقلم والمنافسة ومواجهة التحديات. هذا، وتهدف هذه المهارات إلى توحيد الرؤية واللغة فيما يرتبط بالمتوقع من الطلبة عند استكمالهم المراحل التعليمية المختلفة، كما تلعب دورًا مهمًا في تقليص الفجوة بين مخرجات التعليم، ومتطلبات سوق العمل.
لا بأس من الإشارة ـ ولو بشكل سريع ـ إلى المقصود بمهارات القرن الحادي والعشرين والتي يتمحور حولها إطار مراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة بمملكة البحرين، وهي على النحو الآتي:
1ـ مهارة التفكير الناقد.
2ـ مهارة التواصل والعمل الجماعي.
3ـ مهارة الإبداع وحلّ المشكلات.
4ـ مهارة القيادة وصنع القرار.
5ـ مهارة المواطنة المحلية والعالمية.
6ـ مهارة الريادة والمبادرة.
7ـ مهارة التمكن اللغوي.
8ـ مهارة الثقافة التكنولوجية: أي قدرة الطلبة على استخدام التكنولوجيا وأدواتها بفاعلية؛ لصناعة المعلومات أو الوصول إليها، وإدارتها، وتفنيدها ونقدها، ونشرها، مع الدراية التامة بأثر المحتويات التكنولوجية على الفرد والمجتمع.
مثالٌ على ذلك: عندما يوظف الطلبةُ وسائل التواصل الاجتماعي في العملية التربوية والتعليمية.
بطبيعة الحال، ليس الهدف من استخدام التكنولوجيا في التعليم زيادة تحصيل الطلبة للمعلومات، وإنما زيادة قدرتهم وتمكنهم من استخدام المعلومات بأقل جهد وفي أقل وقت وأكثر متعة، فمسألة رقمنة التعليم في المدارس والجامعات تتطلب حتمية تمكين المعلم والمتعلم في بيئة تعلم ذكية.
“كورونا” والتعليم عن بعد
فمع بداية جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، أصبحت الثقافة التكنولوجية ضرورة حتمية لا يمكن تجاهلها بالنسبة للمعلمين والمتعلمين وأولياء الأمور على حد سواء، كما أصبح التعلم عن بُعد هو الخيار الأسلم والأمثل نتيجة الظروف الصحية الراهنة، فلا توجد صفوف دراسية وإنما وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي، كما حلّ البيت مكان المدرسة، وأصبح أولياء الأمور بشكل أو بآخر شركاء إلى حد كبير مع المعلمين في العملية التعليمية التعلمية، مع تحفظنا على (بعض) الممارسات التي جعلت منهم متعلمين ويحلون الواجبات والتطبيقات بدلًا من أبنائهم، مما يستدعي التدخل بوضع أنظمة تقييم وتقويم صارمة تقيس بدقة أداء الطالب نفسه وليس ولي أمره أو أي شخص آخر ينتحل شخصية المتعلم.
(البعض) ولا ونقول الكل، تطرف وذهب بعيدًا جدًا إلى حد المطالبة بإلغاء التعليم الحضوري إلى المدرسة حتى في مرحلة ما بعد كورونا، بحجة أن التعلم عن بُعد يفي بالغرض.
أصحاب هذه الدعاوى (الذين يطالبون بإلغاء التعليم الحضوري وحصره في التعلم عن بُعد) يقولون بأنه تم سقوط تابوهات التعليم: ويعنون بذلك الثالوث (المدرسة والمعلم والامتحانات) لصالح التعلم عن بُعد!
إلا إننا نؤكد على أهمية التعليم المدرسي الانتظامي (عن قُرب)، خصوصًا مع طلبة التعليم الأساسي (المرحلة الابتدائية)؛ لأن مهمة التعليم ليست فقط إدخال الطلبة في عالم المعلومات والمعرفة وتدريبهم على بعض المهارات المطلوبة في سوق العمل ـ كما يقول المفكر د.علي فخرو ـ وإنما المطلوب أكثر من ذلك بكثير، فالمدرسة يجب أن تكون أداةَ تغييرٍ وتجديدٍ ثقافيٍ وشحذِ وبناءِ التزاماتٍ وطنية وقومية وإنسانية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عمليتي تفاعل إبداعي بين الطالب وزملائه، وبين الطالب ومعلمه، فالمعلم لا يستطيع أن يقوم بتلك المهمات من خلال التواصل الإلكتروني، وإنما في الأساس من خلال التفاعل الخلاق في الصف مع تلاميذه.
دعونا نتناول المشكلات التي تواجه التعلم عن بُعد بمقاربة حقوقية منصفة، ولنبدأ أولًا بالمعلم.
*فالمعلم فترة التعليم عن قُرب (قبل الجائحة) كان يعمل في اليوم الدراسي الاعتيادي من الساعة 7 صباحًا ولغاية الساعة 2 والربع ظهرًا، بينما الآن أصبح الحلقة الأضعف إذ أن وقته مفتوح وهو ملاحق من الإدارة المدرسية والطلبة وأولياء الأمور خارج أوقات العمل، وهذا الأمر كما لا يخفى عليكم انتهاك صارخ لحق المعلم في الخصوصية والاستمتاع بوقت الراحة والإجازات شأنه شأن أي موظف يعمل في القطاع العام أو الخاص.
وأنا هنا أطرح سؤالًا على بعض الإدارات المدرسية التي تسمح لنفسها الاتصال بالمعلمين بعد انتهاء الدوام الرسمي وتكليفهم بمهام، يا ترى ما المهام التي تحمل صفة الاستعجال ولا يمكن أن يقوم بها المعلم الموظف في أوقات العمل الرسمي الثمان ساعات؟!

استعدادات المدارس

كثير من المدارس تشتكي من ضعف شبكة الإنترنت وبطء الأجهزة في غالبية المدارس، فالدرس أحيانًا يتعطل بسبب خلل تقني، كما يقوم عدد ليس بالقليل من أولياء الأمور أوقات البث بتلقين أبنائهم وبناتهم الإجابات والمعلمون يسمعونهم، والإدارات المدرسية على علم بهذه التجاوزات، وهناك بعض المعلمين والمعلمات في مجموعات الواتساب مع أولياء الأمور يقرؤون المناقشات من ولي أمر مثلًا يقول أنا حليت الواجب!
ثمة مسائل تغيب ربما عن البال، وهي أن أوقات حل التطبيقات محددة بوقت الدوام الرسمي من الساعة ٨-٢، وبالتالي يتعارض مع أوقات الأمهات العاملات وأولادهم في البيوت! فكيف يتابعونهم وهم أطفال؟
كما أن ظروف السكن لبعض العائلات تمثل تحديًا هو الآخر، حيث تسكن الأسرة الواحدة في غرفة واحدة أو شقة مكونة من غرفتين، ولديهم أربعة أولاد مثلًا، فكيف يتم توفير أماكن هادئة وملائمة للدخول إلى البث؟!
لا زلنا نستبشر خيرًا بحملة فينا خير، في مبادرة توزيع الأجهزة المحمولة اللابتوبات على طلبة الأسر من ذوي الدخل المحدود، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأسر التي بها أكثر من 3 إلى 5 أطفال من مراحل دراسية مختلفة، وصعوبة توفير جهاز محمول لكل واحد منهم، هذا فضلًا عن حدوث بعض المواقف الطريفة العديدة التي تصادف بعض المعلمين، فأحيانًا الطالب موجود وحاضر فعليًا في الصف مع المعلم، وفي الوقت نفسه هو موجود في التيمز ويجاوب! (الأم حاضرة في التيمز).
خلاصة وتعقيب
ـ التعلّم الحقيقي حق من حقوق الإنسان، وذلك لن يتحقق من غير العدالة والمساواة وإتاحة فرص التعلّم الذكي للجميع بلا استثناء.
ـ التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتكرار وحشو المعلومات هو الوجه الآخر لتعليم فاسد وثقافة الشهادات الورقية بلا مهارات.
ـ بناء العقلية الناقدة للمتعلم هو أساس أي تغيير في التعليم.
ـ المشكلة ليست في محاولة تطوير التعليم، وإنما في قدرتنا على تفكيك منظومة التعليم الموروثة.
ـ أهم تحديات تطوير التعليم هو استبدال ثقافة التمدرس النمطي بثقافة التعلم الحقيقي.
ـ التعلّم الحقيقي شخصي جدًا (أي غير قابل للتعميم)؛ لأنه يتوقف على شخصية المتعلم ودافعيته للتعلم، بشرط وجود بيئة تعلم مناسبة.
ـ في نظم التعليم الجيدة يتم تقييم المدخلات والعمليات دومًا، وهو أهم بكثير من تقييم المخرجات مقارنة بنظم التعليم التقليدية.
ـ المعلم داخل الصف الدراسي (عن قُرب) لا ينقل المعلومات فقط، بل ينقل خبراته وموقفه من المعرفة والحياة والمجتمع.
ـ التعليم الحقيقي يشبع فضول الطفل ويسهم في تنمية الشك الإيجابي لديه.
ـ تقييم إنجازات الطلبة طوال العام الدراسي أفضل بكثير من اختبارات نهاية العام والتطبيقات التي يتولى أولياء الأمور حلها، فهل نستطيع التغيير؟!
ـ مجتمعاتنا للأسف الشديد اختزلت التعليم في اختبار نهاية العام الدراسي!
ـ إدارة ملف التعليم لها أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، قبل أن تكون تربوية.
ـ مجتمعاتنا تغضب عندما ندعو لإصلاح التعليم، ولا تغضب لتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية والمذكرات الدراسية التي تعلب عقول الطلبة وكذا استحداث آليات للغش الجماعي وتسريب أسئلة الامتحانات.
ـ القضية ليست تطوير المناهج، ولكن القضاء على ثقافة الحفظ والقهر وشهادات الزور الورقية!
ـ تطوير التعليم يجب أن يكون بدافع أننا أمة في خطر.
ـ لا يتحقق التعلم الحقيقي بدون أن يتوفر لديك ثلاث ركائز أساسية: رغبة حقيقية وحاجة للتعلم وبهجة المعرفة.
ـ ثقافة التعلم الحقيقي تقوم على أساس أن الهدف من الاختبارات هو تحديد ما الذي يجب أن يتعلمه الطالب، وليس ما الذي تعلمه في نهاية العام الدراسي..!
وأخيرًا .. التعلم عن بُعد لا يمكنه أن يكون بديلًا أبديًا للتعليم المعتاد.
*ملخص ورقة قدّمت في “ملتقى التقدمي” الأسبوعي بتاريخ 24 يناير 2021

اقرأ المزيد

ضوء على رحلتي مع الكتابة

تجربة حياة، تجربة نار ورماد.
عندما فتحت عيني على العالم، وجدت الحرف، يأسرني، يلاحقني، يغويني بفتنته المستبدة. كنتً صبيًا خجولًا، حينما كنت أراقب أخي الكبير، اليساري النقي المتحمس يعود من العمل ويقرأ ويقرأ بدون توقف طوال الليل. لا أدري هل هو من زرع بداخلي الحرف دون أن يشعر، أم أن أحدًا ما لا أتذكّره أو أعرفه. بعد سنوات من القراءة والكتابة بحثت عمن علمني عشق الثقافة كي أقتله فقد أحال حياتي الى جحيم فلم أجده. مرة حينما كنت في الرابعة عشر من عمري، كنتُ جالساً حتى ساعة متأخرة من الليل، فجاءني والدي وسألني ماذا تفعل في هذا الوقت. قلت له: أكتب. ماذا تكتب؟ قلت له: أكتب شعرًا. فهزّ رأسه وهو يقول: لا يا بني، درب الشعر صعب ومؤلم وعذاب. حينها ظننت أن والدي العجوز لا يعرف شيئًا فتجاهلت كلامه. وبعد سنوات اكتشفت أن ما قاله هو عين الصواب، فكتبت:

دَربُ الشعرِ عذابٌ، حَسَكٌ ..
وآخره اكتئابٌ
قَالَهَا أبي حِينَما كُنتُ صَغيراً
أنتَ اخترت أن تَحْترق
قُلتُ ما أشهَى الرَمَاد

كان يومًا سعيدًا أو مشؤوما، لا أدري، حين جاء الحرف يدقُ بابي، كان ذلك عندما كنت في سن الثامنة أو التاسعة عندما أنهيت كل كتب الأطفال في مكتبة المدرسة في عام دراسي واحد وكان عددها حوالي 100 كتابًا تقريبًا. كنت حينها في الصف الثالث ابتدائي، لا أدري من حرّضني أو أغواني، صدقوني لا أعرف. عندما بلغت الصف السادس ابتدائي أصدرت مجلة أسميتها “الثورة” كانت عبارة عن ست أو ثمان صفحات، تحتوي على رسومات وقصائد وحكايات حيث كنت حينها أهوى الخط والرسم والكتابة. حسب ما أذكر أصدرتُ عددين ثم حذرني استاذي اللبناني من خطورة ما أكتب وأعرب عن قلقه على مستقبلي، فتوقفت. كان ذلك في فترة الإستعمار الإنجليزي.

أذكر في نفس السنة، أي الصف السادس ابتدائي، سأل نفس المدرس التلاميذ عما يريدون أن يكونوا عندما يكبرون. كثير من الطلبة تراوحت أجوبتهم ما بين “طبيب” أو “مهندس” وغير ذلك وعندما جاء دوري قلت بفخر “أريد أن أكون صحفيًا” فضحك التلاميذ ولكنني لم أبه بضحكهم. والحمد لله أنني لم أصبح صحفياً فهي مهنة المتاعب والبهدلة. هذه كانت ربما مرحلتي المبكرة للالتقاء بالحرف.
بدأت المرحلة الثانية، عندما صدرت صحيفة الأضواء عام 1965 بدأنا أنا وصديق عمري علي الشرقاوي – الله يمنّ عليه بالصحة والعافية- في ذلك الزمان نتردد على مكتب الصحيفة على أمل أن ينشروا لنا، وفي كل مرة كنا نكتب شيئًا: شعر، قصة، مقال، مسرح. في إحدى المرات قال لنا مدير الصحيفة الكاتب والقاص المعروف محمد الماجد – طيب الله ثراه- ماذا تريدان أنتما، في كل يوم تكتبون شيئًا، يجب عليكما التركيز والتخصص ونصحنا بكتابة الشعر لأنه رأى في ذلك الوقت أننا أقرب إليه. وكان ذلك. كانوا ينشرون لنا في باب مع القراء، حتى جاء يوم توجّهت فيه الى مكتب الصحيفة ودخل المرحوم محمود المردي رئيس التحرير وأخذ بيدي وأدخلني مكتبه. وسألني: ماذا لديك هذه المرة؟ ورأيته يقرأ القصيدة التي كتبتها وهو يهز رأسه علامة الإستحسان، وقال لي: نعم …نعم. وسألته هل سوف تنشرها لي؟ فقال: طبعا وفي برواز خاص مع صورتك. كان يوما شعرت فيه أنني ولدتُ من جديد، وكدت أرقص فرحًا.
في عام 1968 تعرفت على الشاعرين قاسم حداد وعلي عبدالله خليفة وكانا قد قطعا شوطًا في كتابة الشعر ومن الشعراء الشباب البارزين. استفدت كثيرًا من تجربتهما ومن توجيهاتهما حتى بزغت اسرة الأدباء والكتّاب الى الوجود في عام 1969، كنا مترددين أنا وشلتي الأثيرة (الشاعرين على الشرقاوي ويعقوب المحرقي) في الإنضمام لأننا كنا نخشى أن تجاربنا لم تنضج بعد، ولكنهم شجعونا وبقوة على الإنضمام بعد التأسيس مباشرة.
مع انضمامنا الى أسرة الأدباء بدأنا في سباق مع الشرقاوي والمحرقي في مسيرة التطور الإبداعي وفي كتابة الشعر الحديث، سباق ودي حميم. كانت فترة ساعدتني كثيرًا في تطوير أدواتي وتجربتي. كانت فترة كنت تائهًا فيها بين الشعر التقريري المباشر بسبب انتمائي الأيدلوجي وبين الشعر الحداثي الذي يرتكز على الرؤى والصور الفانتازية والدهشة والتفكيك. لذلك صدر ديواني الأول “عاشق في زمن العطش” عام 1975 خليطًا بين الإسلوبين. هذا الديوان اشتمل على قصيدة “رسالة مسجونة” التي اشتهرت باسم “حبيبتي” التي قدمتها فرقة أجراس من ألحان الموسيقار الكبير المرحوم مجيد مرهون وغناء الفنان المرحوم فوزي الشاعر.

بعد ذلك مرت عليّ فترة فتور، فقدان حماس للكتابة، عدم الإقتناع بما أكتبه، وساءت الحالة بشكل أكبر مع سقوط الإتحاد السوفيتي، ذاك التفكك المدوي الذي صدم الكثير من المثقفين ومن هواهم كان يساريًا ففقدت الرغبة كليًا تقريبًا في الكتابة والإيمان بالكتابة فأغرقت نفسي في العمل، العمل المصرفي الذي امتص كل طاقاتي لكنني لم ابتعد عن القراءة يومًا وأنا الذي هجر القلم أو هجرني. مرت سنوات طويلة قاربت العشرين عامًا وأنا على هذه الحالة فانسدت شرايين التعبير والإبداع بداخلي، مما تسبب في مروري بحالة اكتئاب طالت لفترة ليست قصيرة. شعرت أنني أختنق فعلًا. داخلي أنهارٌ وبراكين وانفجارات ومدن تحترق وأحلامٌ فقدت وجهها وملامحها.
فجأةً ودون ميعاد انفجرت الينابيع المسدودة وانتثرت الحروف على الورق وأصبت برد فعل جعلني أكتب دون توقف. لم تكن كتاباتي بالجودة التي انتظرتها أو المستوى الذي أطمح إليه في البداية بعد ذاك التوقف الطويل. كان القلم يصبّ حبره ببطء. لكن مع الإصرار ومواجهة التحدي الكبير بدأت أتطوّر بسرعة وأصدرت في عام 2003 ديواني الثاني “صخب الهمس” والذي ترجمته الى اللغة الإنجليزية في نفس الكتاب. كانت هذه المرحلة الثالثة من تجربتي. مرحلة العودة للكتابة ولكن هذه المرة دون تراجع. في عام 2007 أصدرت انطلوجيا الشعر البحريني (اللؤلؤ وأحلام المحار). وهذه الانطلوجيا هي عبارة عن ترجمة لقصائد مختارة ل 29 شاعرا وشاعرة بحرينية الى اللغة الإنجليزية وطُبعت ونُشرت في الولايات المتحدة بتمويل من مركز الشيخ ابراهيم ودعم من الشيخة مي آل خليفة رئيسة هيئة الثقافة والآثار.
في عام 2010 أصدرت ديواني الثالث “غربة البنفسج” وأيضا باللغتين العربية والإنجليزية. وهذا الديوان يشتمل على قصيدة “قمر البلاد” الأغنية التي قدمتها فرقة أجراس، تلحين وغناء الفنان الكبير المرحوم سلمان زيمان، وكتبت يوم وفاة المناضل الكبير احمد الذوادي. استمر هذا الدفق القوي معي حيث أصدرت ديواني الرابع “ما عاد شيء يهم” عام 2015.
أنا أكتب الشعر منذ زمنٍ طويل، بدأت بشعر التفعيلة في ديواني الأول “عاشق في زمن العطش”. ثم جرفتني الأمواج العاتية نحو تخوم بعيدة في الروح وفي القلب والجسد. مررت بتجارب حياتية كثيرة وأحيانًا مريرة صقلتني، وكانت لشهوتي المُغامرة دورها في دخولي عالم التجريب والغرائبية للبحث عن حرف مختلف ومعنى مختلف أمام هذا الزمن السريالي في تشكيلاته، والعبثي أحيانًا في احداثياته، والحوادث اللامعقولة التي دخلتُ فيها وكانت النتيجة حرف مجنون، يبحث عن نفسه، والإستعانة بالموروث بنظرة جديدة وفهم جديد متقدم. أصبح الشعرُ بالنسبة لي مثل تأريخ لحظاتي بأحزانها وهزائمها وافراحها وانتصاراتها وبكل تلاوينها المختلفة شعرًا. وأصبحت قصائدي بمجملها تجسد لحظاتي اليومية بكل جرأة وشفافية ودون مواربة. يمكن لأولئك الذين يتابعون صفحتي على الفيس بوك ان يشهدوا على ذلك فقد أصبح هذا البرنامج عبارة عن سبورة أنثر عليها حروفي يوميًا.
كانت المرحلة الرابعة من تجربتي الإبداعية مغايرة حين توجهت الى السرد كنافذة اضافية للتعبير وليس بديلًا عن الشعر حيث أصدرت روايتي الأولى “وللعشق رماد” عام 2016. كانت كتابة رواية حلمًا من أحلامي وتحققت اعقبتها بالرواية الثانية “طريق العنكبوت” عام 2019. في عام 2020 وفي ذروة انتشار فيروس الكورونا حاولت تاريخ الحدث برواية اسمها (كان الوقت مساءً “حكاية حب في زمن الكورونا”). ربما على خطى الكاتب الكولمبي الكبير غابرائيل جارسيا ماركيز صاحب رواية “الحب في زمن الكوليرا” لكن روايتي مختلفة تمامًا مجرد تشابه جزئي في العنوان. هذه الرواية تنتظر النشر، وهي تتحدث عن حكاية حب في زمن الكورونا بطلتها طبيبة تونسية، والبطل رجل مهووس بالزمن ويتخيل أنه يسمع صوت الزمن، ويذهب الى الربع الخالي ويتخيل أنه يسمع صوت الماضي البعيد، قوم عاد وثمود وهم ما زالوا خالدين تحت أكوام رمال الربع الخالي. حكاية حب في قمة الفانتازية والغرائبية في زمن هذا الوحش المقيت: الكورونا.
في الوقت الحاضر أكتب روايتين في نفس الوقت تقريبًا ربما لشعوري أن ما تبقى من الوقت قليل.
لدي بعض المخطوطات التي تنتظر النشر منها ديوان “دهشة الرذاذ” وهو مجموعة من شعر الومضة قدمته الى هيئة الثقافة والآثار للطباعة وبانتظار فرج الميزانية. ولدي أيضا ديوان جاهز للطباعة اسمه “سر ما رأى” بالاضافة الى كتاب “ضوء للعتمة” ويتالف من مجموعة من مقالاتي ومجموعة قصصية اسمها ” على صدرها التصق كتاب” وكلها تنتظر النشر أو تبحث عن ناشر.
انها رحلة الحرف التي لا تنتهي.. رحلة تشبه الصلاة، جزءًا من تقاويمي ولحظاتي .. الكتابة التي أصبحت بمثابة التنفس الذي دونه لا أحيا!

اقرأ المزيد

الدولة الوطنية والتهديدات الداخلية

لم يعد من شك في أن مصادر تهديد كيان الدولة الوطنية ليست خارجية، فقط، وليست تنحصر في مخاطر الغزو الخارجي أو في تصدير الطائفية والمذهبية، أو في تصدير الجماعات «الجهادية» المسلحة المستقدمة من كل حدب وصوب، فقط، وإنما هي في الوقت عينه مصادر داخلية، تأتي الدولة من الداخل الاجتماعي: من بُناه وعلاقات قواه، والنزاعات الأهلية فيه.
وليست المعارضات السياسية المدنية الحديثة: المنظمة في أطر اجتماعية قانونية مشارِكة في السلطة أو غير مشاركة في جملة مصادر الداخل المهدِّدة، إلا حين تجنح للعنف أو تركب لتحقيق أهدافها مركباً «دينياً» أو طائفياً أو مذهبياً أو قبلياً أو عرقياً، وما شابهه. حينها فقط، تتحول إلى خطر يهدد بنقض كيان الدولة، على مثال ما شهدنا عليه في حالات عربية عدة بمناسبة عاصفة أحداث ما عُرف باسم «الربيع العربي».
بأي معنى يمكن للداخل الاجتماعي العربي أن يتحول إلى مصدر تهديد لكيان الدولة الوطنية ووحدته واستقراره؟
يحصل ذلك غالباً في حالة المجتمعات العربية التي تعاني نقصاً حاداً في علاقات الاندماج الاجتماعي، وهي الكثرة الكاثرة في تلك المجتمعات؛ أي في تلك الفئة من المجتمعات التي يجوز تسميتها ب«العصبوية» أو القابلة للصيرورة عصبوية عند أي أزمة اجتماعية أو سياسية يتعرض لها كيانها. لقد قضى تكوين الدولة «الحديثة» في البلاد العربية بأن تقوم هذه على قاع اجتماعي هش من تكوينات أهلية تقليدية تميزت في الغالب منها بانكفائها في عصبياتها الموروثة، وضعف صلاتها في ما بينها باستثناء تلك التي تنشأ بينها في نطاق الدولة والسلطة المركزية ومؤسساتها. والأنكى من هذه القاعدة الاجتماعية «العصبوية» الفسيفسائية أن هذه العصبيات لم تكن تسلّم، بسهولة، بقيام سلطة مركزية تصادر منها سلطتها الأهلية الموروثة عن الاجتماع التقليدي؛ بل كثيراً ما مانعت ضد سياسات المركزية، محاولة الحفاظ للعشائر والقبائل والطوائف والمذاهب والمناطق على بعض ما كان لها من سلطان على نواحيها.
ولقد وقع تركيب نظام سياسي، في هذه الدولة، على هذا التكوين العصبوي الفسيفسائي، فأتى النظام هذا يطل بصيغتين ووجهين: إما في شكل نظام قائم على الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي، على مثال ما في لبنان وعراق ما بعد الاحتلال في صورة من ذلك التقاسم واضحة و«دستورية» أو عرفية وعلى مثال حالات عربية أخرى يؤخذ في حساب توزيع السلطة فيها التمثيل الأهلي العصبوي، وإما في شكل نظام غير «احتصاصي» في توزيع التمثيل فيه، لكنه خاضع لابتزاز عصبيات المجتمع الأهلية، ومدعو إلى أخذ مصالحها في الحسبان لئلا يصطدم بها، أو يدفعها إلى الاستنفار ضده. وفي الحالين، بدا النظام السياسي الذي من هذا الجنس، ضعيف الكيان أمام عصبياته الأهلية، وشديد التأثر بأي أزمة اجتماعية وأي اختلال في توازنات قوى المجتمع العصبوي.
لسنا بحاجة إلى أن نفيض في بيان ما كان للهندسة السياسية الاستعمارية من دور حازم في تكوين مثل هذا النظام السياسي القائم على قاع عصبوي، سواء جرت الهندسة تلك في إطار عملية التجزئة السيكسبيكوية (المستكملةِ فصولها في العراق بهندسة بول بريمر) أو في سياق عملية إدارة الاحتلال الاستعماري للبلدان العربية الواقعة تحت سيطرته، وتركيب نظام سياسي خلالها ورثته دولة الاستقلال، لكن الأدهى من طامة الهندسة «الكولونيالية» لهذا النظام أن دولة الاستقلال تمسكت به، واستمرت في إعادة إنتاجه مع علمها بما يتولد منه من أزمات اجتماعية وسياسية.
عاينا، في زمن مضى، فصولاً من تخريب الداخل الاجتماعي العصبوي لكيان الدولة الوطنية في لبنان والسودان والعراق. وها نحن ما نزال نعاين فصولاً أخرى من تقويض العصبيات للدولة، منذ هبّت عواصف «الربيع العربي» الهوجاء في العقد الثاني من هذا القرن، فضربت أركان الدولة في سوريا وليبيا واليمن، وهددت بذلك مصر وتونس لولا بعض من اليقظة الوطنية. واليوم، لم يعد من جدال في أن وحدة الدولة الوطنية وتماسكها، في وجه خطر التفكيك من الداخل، يتقدم أي مطلب آخر؛ بل ينبغي أن يصبح أول المهمات والأولويات البرنامجية على جدول الوحدويين العرب، بالنظر إلى أن العصبيات الأهلية وقواها المسلحة باتت حصان طروادة الاختراق الأجنبي وأداته التدميرية في الداخل الدخل الاجتماعي والسياسي العربي.

اقرأ المزيد

من يمنحها عمراً أجمل؟

لا يحتاج أي عرض مونودراما بطلته أنثى إلى التفكير مطوّلاً عن القضية التي ستعرض عبرها. تضيق التصورات في التخمين، فهذا مخلوق إشكالاته مقدرة عليه منذ حكاية خروج آدم من الجنة، وما لحقته من آثام مجانية تحيل إلى الإدانة غالباً، تكوينه النفسي/ العاطفي والجسدي –بالتأكيد- يشكل منافذ يسهل الدخول منها وإليها، إلقاء اللوم عليها وتحميلها أي تبعات قائمة أو قادمة يسير ومتوفر دائماً، والمنفذ إلى دخوله رهافة الخلق؛ لذا فإن أي مشكلة تسرد لها علاقة بطبيعة هذا الجنس، وعلاقته الآخر به، والعكس.
ولو حاولنا في استعراض سريع لمسرحيات مونودراما بطلتها أنثى، ستتولى مخيلتنا مسؤولية تخمين المعاناة بمجرد بدأ الحدث، لأم كل معاناتها جاهزة ومتوفرة، رغم أن كل البشر – يقيناً – يعانون من أشياء مختلفة وبنسب متفرقة، لكن ما أسهل أن تعلق الهموم الإنسانية كلها في جنس الأنثى، لأنه –ببساطة – قادر على التعبير عن كل هذا، وأكثر. لذا تعبر بطلة عرض المونودراما “وجود”، الممثلة “ريم ونوس”، عن معاناة “ما”، لا يدرك المتلقي ماهيتها منذ البداية، عبر تجسيد حالات متتالية تعبر عن آلام؛ هل هي فقد؟ هل هي فراق؟ معاناة مستمرة؟ ألم جسدي؟ نفسي؟ لا يستطيع أحد أن يجزم طبيعة المعاناة، لأن البطلة تجول هنا وهناك في جمل متفرقة، تخاطب بها شخوصاً غير مرئيين، وتخاطب الغائب الذي يرقّ قلبها له: “هكذا صنوان، قد قُدّا من الجَلَدِ، اثنان كالحبر والكتابة، ظلان في حقيقة البلاء والابتلاء والمساواة. غير أني، وحدي، أضيء بتأويل الرؤى. فمتى، أيها الكون، أفكّ القوافي، أعبر نحو مصيري مثل سواي”. يميز من بين “المخاطبين” التنويع في حدة الصوت، ورِقّته، مع تناغمه أدائياً في المساحة المخصصة لحركة البطلة.
قدّم هذا العمل المخرج جمال الغيلان، الذي عمل على خلق رؤية جديدة لنص الكاتب العراقي د.كاظم مؤنس، هيّأت العرض لمستوى من الغموض الكافي لإثارة الفضول وإرباك المتلقي وقتاً لا بأس به من وقت العرض الذي لا يزيد عن النصف ساعة، فاختار أن يدمج الجمهور مع البطلة، لذا تخلّى عن العلبة الإيطالية المعتادة، ودفعه لوسط الحدث حتى يتمازج مع الخطاب الذي توجهه للغائب/ للجمهور، وهو أيضاً تكوين سينوغرافي يجعل من المتفرجين جزءاً من اللعبة في العرض. فلمن ستوجه البطلة، مجهولة الاسم، عتابها وعذاباتها؟ كيف سنشعر بحبات العرق الندية على الجبين وصرخات الحرقة على الوجع المكتوم، واهتزازات الخوف من تخطي الحدود حتى لا تظهر صفارة الإنذار المادية في العرض، والمتوافرة في الحياة بكثرة، وبصور متعددة، تمارس بحق الأنثى؟ ثم كيف عمل العرض على الإمعان في تمويه قضيته عبر السينوغرافيا التي اعتمدت على إفراد المراحل التي تمر بها البطلة من خلال المؤثرات البصرية والموسيقى الحية، المتمثلة في صوت الأذان، أو تراتيل الكنيسة، أو أذكار الصوفية، لئلّا تحسب على طائفة، أو فكر، أو توجه، فتحصر الفكرة وتموت في وقتها!
واشتغل المخرج على إعادة تشغيل النص برؤيته، بدءاً من العتبة الأولى للتلقي، فحوّله من “حين يعود الإنسان إليك” إلى “وجود”. والحقيقة أن العنوانين دالّان وحاملا أوجه؛ الأول مال إلى الفلسفة والتجريد، والثاني وضع عنواناً مطلقاً لا يستدل على مضمون العرض من خلاله، ليقع المطلع في حيرة فكرة النص/ العرض. فتجاوز الغيلان كشف الموضوع منذ البداية في المخاض والولادة وموت الطفل الذي كشف عنه المؤلف في كتابته للنص: “صوت طفل يرى النور للمرة الأولى”، تتبعها أغنية تراثية “دللّول يا الولد يا ابني دللّول”، وهي كما تذكر المصادر ترنيمة الأم العراقية لولدها قبل النوم، أي لأنها تخص جغرافية وبيئة معينة ما، حتى وإن تناسجت الثقافات المختلفة، فكيف إن كانت متقاربة ومتشابهة؟ ولو كان المخرج قد “نفّذ” النص كما هو حسب ترتيبه، فسيكشف هوية الشخصية/ المكان/ الحدث باعتبارها علامات دالة، ولانجلت حالة الغموض التي تتبعها المتلقي حتى الوصول للقسم الرئيس من العرض.
لم يعطِ العرض أيضاً وجهة نظر ملموسة في سرد معاناة بطلته، استعرضها ومضى؛ لا إشارة لتجريم، أو تعزيز لنصرة ما، أو حتى تحديد هوية الطرف الآخر غير المرئي، فقد يكون ذكر على اعتبار أن الشخصية أنثى، أو مجموعة معادية لأي سبب، أو أن المجتمع الذي قد يرمز له بالقيود وصفارات الإنذار التحذيرية حينما تتخطى الحدود. إذاً فالعرض يلقي بتبعاته على المتلقي نفسه في التحليل وتقييم الحالة، وأيضاً إصدار الحكم! بعض السرد يليق به أن يرمي ما في جعبته ويمضي، حتى تظل شائكة في الذهن، وهنا الحدث لا شائك ولا غريب؛ لأنه يحدث في كل وقت، وليست فكرة فقدان الطفل ومعاناة الأم إلا مستوى أولياً على مد النظر الذي تحدّه أطر حدود البطلة على الأرض وفي محيطها، لكن العرض -بشكل ما- يرمينا في بحر آخر غير هذا الذي نحن فيه، عبر إشارات وحركة الممثلة:
” تنهض بهدوء، تنظر إلى مصدر الضوء، تعود بنظرها للجمهور، ثم تعاود النظر إلى مصدر الضوء مرة أخرى، في محاولة لمشاركة الجمهور في تفسير سجنها داخل دائرة الضوء
السيدة: ( بهدوء)
هكذا يتربص بي الموت، يتربص بي مرتين… أموت هنا.
(تشير إلى الدائرة)
أو أموت هناك!”

على صعيد التجسيد، وعلى الرغم من أن المعاناة جسّدت للأنثى التي تفقد وتفارق؛ حبيبةً، وزوجةً، وأماً، إلا أن أداء ونّوس يظهر الجسد الأنثوي كأداة من أدوات التشخيص “الإنساني” الصميم، وهي إشارة مهمة إلى أن المعاناة لا تختص بجنس عن آخر، حتى مع الإشارة لوضع الأم الحائرة/ الثكلى، عدا أن كل ثقل المونودراما أساساً يتحمله الممثل الواحد، الذي يجب أن يتقن الأداء وشدّ الانتباه حتى يحظى بالمتابعة وإيصال العمق الذي أراده، ببساطة مناسبة، دون أن يتخلل هذا سأم مونولوج طويل ومبهم. ولا شك أن العرض محظوظ بوجود ممثلة مجتهدة تبذل كل طاقاتها من أجل خدمة هذه الشخصية/ الشخصيات، التي سبق وأن قامت بأدائها في عروض مسرحية بحرينية، وعرض “وجود” هو تجربتها المونودرامية الأولى التي تستعرض فيها جزءاً من طاقتها المخلصة للتمثيل وحده، وتسيطر على الخشبة؛ وحيدة، وقادرة.
وفي المشهد الرئيسي الذي يكشف سر المعاناة من الذين “نصبوا مشنقة”، ومقاومتها العنيفة للآخر/ الآخرين غير المرئيين، ولا المسميين، والمتحكمين في حياتها ومصيرها دون ظهور مادي، تتجلى “ونوس” في أداء مبهر صامت، وهي متربعة على الأرض، تصدر الشعور بفقد “الولد” بفجاعة ملموسة، ومكتومة، لا تملك إلا التفاعل معها، ومع إنسانية حالتها التي فسرت كل هذيان الحالات السابقة من المنظور القريب على الأقل. وعلى الرغم من أن تقديمة العمل تذكر عن العرض أن فكرته الفلسفية في التعلق بالأمل، وإنسان اليوم المشغول بحيرته وعذابه، و”الدعوة لتحرير ذاته، ومناشدة للمساواة، وتحرير نصفه الآخر من كل المتحجرات القديمة”، إلا أن الجمل المشغولة بعناية تحدّ جمال النص والعرض معاً، اللذين يحضّان على التأويل وإعمال الفكر في قصدية المؤلف والمخرج معاً، أو منفردين، وليس أجمل من عرض نغادره فيشغلنا بما رمى إليه، ونختلف في رؤيتنا له، وأن نستجمع أن ما حصل في البداية مقيدة الأطراف، والتي تنهك فيها الممثلة حتى تفك أسرها، تعني أنها في مشهدها الآخير سوف تمد نفس اليدين لطرفين “آمنين”، وهذا يدعو إلى السكينة والاطمئنان، وأن نهاية المقاومة ستؤتي أُكُلها، وإن طالت.

اقرأ المزيد

رحيل عازف السكسفون

جلس مجيد مشوّش الخواطر يستعيد ذكريات حياة قد ملأتها أحداث لم يعد يتعرف عليها، تذكّر فجأة معاناته في السجن منذ اليوم الأول لاعتقاله في سجن جدا تلك الجزيرة الصخرية المعزولة عن العالم الخارجي وحتى إطلاق سراحه في العام 1990. سرت الطمأنينة إلى نفسه والراحة إلى جسده، عندها سألته أراك قد عانيت كثيرا؟ ثبت نظراته فىّ واختنق تحت فيض من الذكريات، وظلّ يعتصر ذهنه وبعد برهة قال: السجن قطعة من العذاب، فما بالك بمعتقل مصّفد بالسلاسل في القدمين ومربوط بسلاسل حديدية ثقيلة في زنزانة انفرادية.

ثم أضاف: ظللت اثنين وعشرين عاما في المعتقل منهمكا ليلاً ونهاراً في كتابة النوتات ودراسة النظريات الموسيقية، نهاراً في الكتابة وليلاً في تسويد ثم تبييض ما كنت أكتبه، وأُعالج النواقص وأعيد الصياغات وأرتب النوتات ومن ثم أخلدُ إلى النوم، تذكّر شيء ما وقال: عندما أستعرض هذه التفاصيل أتساءل إن كنت عشتها حقيقة أو تراءت لي في الحلم، بحثت عن السكينة في كل الأشياء ولم أجدها إلا في ركن صُحب كتاب وموسيقى وهكذا انتهت سنوات السجن على هذا المنوال.

إن الناس يكونون محظوظين إذا عملوا عملاً يحبونه وكانوا بارعين فيه، وأنا واحد من هؤلاء، فالأقدار تركت لي فرصة للتأليف الموسيقي، الفنان وُلد ليحيا داخل الحروف والموسيقي هي بحاره وخلجاته، اثنان وعشرون عاماً يا صاحبي ليست بالقليلة، فالقدر صاغ قدراً لي خالف كل توقعاتي وأحلامي في الحياة، ومع كل ذلك فأنا شخص لاينظر إلى الخلف أبداً، شخص لا تكويه الذكريات المعذبة، ولا تكون سبباً في توقفه عن تحقيق أمنياته، كما أن الانسان قادر على الوصول إلى أبعد نقطة في الطريق الذي اختاره بالاصرار والصبر والأمل، فقد تمكنت من تجنيب نفسي الكثير من العناء، لكي أبقى شامخاً معتزاً بنفسي، وبما قمت به من عمل وطني لطرد المُستعمر من بلدي، وكان لي ما أردت، فقد خرج المستعمر غير مأسوف عليه، فقيمة الإنسان لا تكمن في النصر بل في الكفاح من أجل النصر.

تقطعت خيوط الأفكار في رأسه، لملم شتات نفسه، وكفّ عن كتابة إحدى النوتات الموسيقية مستذكراً شيئاً ما، طنين في رأسه كاد أن يفجرعروق دماغه ثم هدأ واستلقى على تلك الخرقة الموجودة في الزنزانة بعدها أفاق من غفوته، وبدأ في تأليف قطعة موسيقية أخرى تفيض بأبداعات جميلة وآسرة سماها “ذكريات”. سألته بعد خروجه من السجن كيف لك أن تكتب بدون المعدات اللازمة للكتابة؟

قال: طالما الذهن صاحً وصافً فليس من العسيرعليّ أن أخزن في الذاكرة ما أود كتابته لاحقاً فقد كتبت إحدى القطع الموسيقية على ورق من علبة صابون، وكان ذلك في العام 1968وألفّت الباقي أولاً في الذهن، ومن ثمّ على ما تيّسر من الورق المقوى، وورق أكياس الاسمنت، والقراطيس وعلب السجائر، ودوّنت النوتات عليه، وهكذا كنت أشغل وقتي بالتأليف الموسيقي وتدريس السجناء الموسيقى.

قلت: “لقد تعرف الناس على المقطوعات التي ألفتها في السجن مثل ازميرالدا، ونوستالجيا، وجزيرة الاحلام، وغيرهما الكثير فكيف استطاعوا؟”.

أجاب، مزهواً ومنتشياً وهو يضحك بصوت عالٍ، الإنسان بإمكانه فعل المستحيل، فقد هُربت تلك المقطوعات إلى الخارج، لتصل إلى السويد أولاً، كما وصلت إلى المانيا الديمقراطية، حيث عزفتها فرقة راديو برلين السيمفونية، بعد أن سُجلت على أسطوانات بلاستيكية، ووزع الآلاف منها في مهرجان الشبيبة بموسكو في العام 1985، غاب في لحظة تأمل، ثم أردف قائلاً: مهمة صعبة أن تُحّول النوته إلي كلمات ناطقة بالألحان، ومع ذلك عندما نحبّ عملنا بدهشة وذهول يصير كل شيء ممكناً، نعم عرفت ذلك، وأنا في السجن من أن الرفاق قاموا بهذا العمل الجبار وأنا اقدّر لهم ذلك كثيراً .

ثم عاد وقال: الآلام والأحزان التي سببها مبضع القدر لي لم تثن طموحي في أن أكون ما أنا عليه، فأحياناً معاناة ذهنية شديدة تلازمني، وبالخصوص بعد فقداني لوالدتي في العام 1981، أمي الحبيبة تغرقني في حالة من الذهول الجميل لما كانت تغمرني به من حبّ وحنان أفتقدته وانا في السجن بعد رحيلها، والدتي التي لا يسعها أي مكان هي لحظة الضوء عندما تحلّ الظلمة. قال أيضاً: تعلم كيف تنسى آلآمك وإذا تعذر ذلك أكتبها لتستمر في الحياة، وهآنذا أكتب كل ذلك، حبي للموسيقى عوضني قليلاً عن هذا الفقدان، وعن ظُلمات السجن وأهوال المعتقل.

استفاق وفي دماغة وقائع خاصة مستعرة بلهيب الشوق والحنين فامتزجت الذكريات العذبة بالذكريات الأليمة وعلى أثر ذلك ألف قطعتين موسيقيتين حرقة القلب، وأغنية الراحلين أهداهما لوالدته في ذكرى رحيلها. أفقت بعد سماعي لتك المقطوعات الحزينة. شعرت فجأة بموجة من الإرهاق اللذيذ وقد غزت أطراف جسدي وقلت بأنك يا مجيد ستعيد بريشة الفن التي لا ينضب زيتها طلاء قضايانا الوطنية كلما بهت وهجها.

استلقى على ظهره، شبك كفيه تحت عنقه وأخذ يتأمل، كسولاً مريضاً بالذكريات البعيدة، استجمع أفكاره وقال خلال فترة السجن الطويلة لم أنقطع يوماً واحداً عن الكتابة والتأليف حتى أنني أصبحت مريضا بهذه العادة، تعلمت كيف أطلق العنان لافتتاني بالتأليف الموسيقي وكأنما هي كل ما تبقى لي من حياة، فالموسيقى مدعاة للحب والتأمل، فصرت أكتب أكثر مما أتكلم فمع القلم أجد انساً وتوافقاً وبهذه الطريقة أنجزت مؤلف ضخم أسميته القاموس الموسيقي الحديث.

على الرغم من نبوغه النادر وعبقريته الفائقة الا إن الطيبة والبساطة خصال لازمته في كل حركاته وتصرفاته وهو الإنسان القادم من حي العدامه في المنامة، وُلد لاسرة فقيرة، وبينما كان انتباهه منصرفاً إلى مكان آخر سجلت ملامحه في ذاكرتي: نحيل البنية، بشرة سمراء، شعر مجعد، روح عذبة، وما لفتني فيه أكثر من أي شيء آخر عينيه، الحزينتين، القلقتين، المتألقتين، كان فيهما حزن هادئ لا يعرف الشفاء أو هكذا بدتا لي وأنا أتفرس في تلك الملامح.

وعرفت لاحقاً بأن التعذيب أثرّ في سمعه، وأن الكتابة على تلك الأوراق الصغيرة في الظُلمة أثرت في نظره، ومع كل ذلك ظل متحداً بعمله الموسيقي الى أبعد الحدود وإلى درجة التوحد، وكأن مخيلته تعمل دون توقف واحسست أن كل ما لايستطيع قوله يعبر عنه بالموسيقى.

كنت أنظر اليه وأعجب بتلك الكبرياء وبتلك البساطة اللتين يتحلى بهما رغم ضيق الحال وضنك المعيشة، فقد ظل وفيًا لوطنه، مخلصاً لشعبه، فرحاً بما قدمه والعمل الفني هو طمأنينيته وعشقه الوحيد. إني لأكبر في هذا الانسان جلده وكبريائه، كيف له أن يبدع كل ذلك وهو سجين سنوات متواصلة، منكباً على الكتابة والتأليف في جزيرة نائية، إنه فعلاً إنسان من طراز نادر، فقد سلك طريقاً صعباً وعسيراً دون أن يتعب أو تلهث أنفاسه.

كان مجيد يردد دوما على مستقبليه بأن السعادة هي أن تؤدي واجبك، وكلما كان أصعب كانت سعادتك أعظم، فالموسيقى هي كنز من أسرار أبدعتها عقول كثيرة وبقيت حية، بعد موت مبدعيها، ثم أضاف: لا شيء يستحق أن نموت من أجله مثل الحرية، وهآنذا حرّ طليق بعد تلك السنين الطوال.

وددت أن أستفسر عن شي أسرّه لي أحد رفاقه، فسألته عن ذلك القط الذي لازمه في السجن فقال: تقصد القط (جيك). كان صغيراً لونه رمادي، اعتنيت به فصار لا يفارقني نهاراً وليلاً حتى موته، فكان جزءاً من تلك الحياة الصعبة في السجن.

ماذا أقول وقد إعترتني حالة من الكآبة، لأن أمثالك لا يحظون بتكريم من قبل الدولة ولا أن تصبح أعمالك الفنية مقررا دراسياً للطلاب ليتعرفوا على أبطال الوطن ودورهم المجيد، فشعلة النضال مشتعلة بك، رغم غيابك، فأنت الغائب الحاضر دوماً في وجدان الوطن.

جمعت أفكاري المبعثرة التائهة بعد ذلك اللقاء وجاهدتُ لكي أركز على ما قاله في ذلك اليوم، واذا بخبرهزّ جميع اركان جسدي، أغمضت عيني وأحسست بالدموع تنساب على خدي بطيئة ودافئة لقد مات مجيد.

في ظهيرة ذلك اليوم الكئيب أصوات الآلات الموسيقية تتصاعد وتصدح ألحان حزينة، وبأنين أكثر وأكثر يُسمع من بعيد صوت الكونترباص، ويمتد خيط الأنين عبر صوت السكسفون والهارمونيكا والأكورديون والفلوت مصحوباً بنداءات وصرخات جنائزية. لقد مات مجيد، مات. وكان ذلك في الثالث والعشرين من فبراير للعام 2010 . يوم حزين آخر مرّعلى الوطن.

مصادر:
1- ساكسفون وقنبله -هيكل الحزقي
2- مجيد مرهون -كيف تكون مانديلا وبيتهوفن في آن واحد– محمد فاضل العبيدلي

اقرأ المزيد

ضرورة تحرير المرأة من صنوف الاستغلال

جواد المرخي
المرأة شريك الرجل في جميع المجالات المعيشية والحياتية، وكذلك في النضال الوطني والاجتماعي والحقوقي، كما تدّل على ذلك حركة تطور المجتمعات البشرية مروراً بالتشكيلات الاجتماعية المتعددة، ودور النساء في كل هذه التشكيلات جنباً إلى جنب مع الرجال.
إلا إن بعض القيم والتقاليد الموروثة منذ زمن التخلف تعمل على إطالة تحجيم دور المرأة، خصوصا في البلدان العربية التي تعمل فيها قوى مختلفة تستغل المرأة لصالح قوى الاستغلال الطبقي والاجتماعي والتسلط ليس على النساء فقط بل حتى على الرجال في العديد من المجالات.
نستطيع أن نقول بأن قوى الاستغلال الطبقي تتحالف مع القوى المذهبية والقومية والطائفية لتمزيق دور وعي المرأة، وإبعادها عن أطر وسبل الوعي التحرري في الجانبين الاجتماعي والسياسي، الذي يساهم في دفع عجلة النضال لتحقيق الأفضل في مجتمعاتنا العربية لتعيش كل المكونات حياة سعيدة تطبق فيها أسس العدالة الاجتماعية ويتحقق فيها مبدأ عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
إن تطور الحياة علمياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، قد فندّ مزاعم من يعتقد بأن المرأة كائن ضعيف، وبأن النساء لا يستطعن القيام بأدوار الرجال، وإن قبلوها في مجال العمل والوظيفة فإنها تتقاضى أجراً أقل من الرجل، رغم أن المرأة حطمت الكثير من القيود بواسطة التعليم، فهي اليوم رئيسة، أو رئيسة حكومة في بعض الدول، ووزيرة للخارجية والداخلية والدفاع في بلدان اخرى وقيادية مناضلة في أحزاب سياسية في مختلف أرجاء العالم تخوض غمار العمل والنشاط جنباً إلى جنب مع رفيقها الرجل.
المرأة في المجتمعات العربية، خصوصا في الدول التي تعاني من الحروب والمآسي والانقسامات العرقية الطائفية مع هيمنة قوى الإسلام السياسي تعاني من صنوف التهميش وتترك لتكون غارقة في وحل التخلف والجوع والفقر والأمية، وعرضة للتلاعب بها من قبل القوى القبلية والعشائرية التي لا تعترف بمسألة أن المرأة لها حقوق.
لقد مرت علينا مناسبة الثامن من مارس يوم المرأة العالمي وهي ذكرى عظيمة لنضال المرأة على مستوى العالم، ولها جذور، حين قام أحد مصانع النسيج في الولايات المتحدة، في الخامس من مارس من عام 1908، بإغلاق أبواب المصنع على النساء العاملات اللاتي كن مضربات عن العمل مطالبات بتحسين أجورهن، وقد أشعل صاحب المصنع النار في المصنع مما أدى لوفاة كل العاملات و عددهن 129 عاملة.
وما هذه الذكرى إلا تخليدا لدور المرأة العاملة في مواجهة النظام الراسمالي العالمي، وحتى يومنا هذا فإن المرأة لا تزال تناضل بشجاعة خصوصا في وسط الأحزاب والقوى اليسارية والعمالية في العالم ضد صنوف الاستغلال الطبقي والاجتماعي، بفضل الوعي السياسي والفكري حيث كان للمرأة ولا يزال أدوار بطولية في ساحات النضال المختلفة.
تؤكد الماركسية على أن الرجل لا يمكن أن يتحرر من صنوف الاضطهاد إلا إذا عمل على تحرير النساء من براثن الجهل والاضطهاد السياسي والاجتماعي والطبقي، وكما قالت الراحلة الكبيرة الدكتورة نوال السعداوي بأن تخلف المرأة وتكبيلها لا يؤخر النساء فحسب بل انه يقود الى تخلف المجتمعات.

اقرأ المزيد