المنشور

برزخهم

حكاية قديمة تتجدد بصور مختلفة في كل زمان: “قبر الولي الصالح”، هذا المكان الذي يمتلئ بأصحاب الحاجة، المؤمنين بالوصول للشعور بالطمأنينة، شفاء الأرواح المنهكة الذي لا يهتم معظم القادمين إليه بالسؤال عن أصل الحكاية؛ قدسية/ خصوصية/ إرث اجتماعي/ مفهوم ديني، فكرة تعمقت عبر الوقت، سمِّها ما شئت، فكل التبريرات مقبولة لأنها تقع ضمن نطاق المعتقدات غير القابلة للمناقشة – خصوصاً الدينية -، جدل عقيم لا يفضي إلا للمشاحنات والتوتر، ولن يستفيد أحد من تغيير قناعات إيمانية لشخص آخر على الإطلاق، ما عدا نزعة الانتصار الداخلية التي يشعر بها بعض المتشددين! فالممارسات الدينية خاصة بالفرد وحده فقط، ولا أحد غيره.
ولا يُعدّ موضوع قبور الأولياء في البلاد العربية أمراً مستنكراً أو غير مألوف، مهما بدا هذا الأمر غير منطقي للعقلانيين. فهو ملاذ للقادمين متوسلي الرحمة، دافعهم الضعف الإنساني الذي يجعل من الإيمان بالخوارق والمعجزات باباً كبيراً للأمل والنجاة، مثلما يلجأ بعض الراشدين – بدون مقارنة-في غفلة من الوقت إلى مشعوذ/ قارئ كف أو فنجان يرشدهم أو يعلمهم عن الماضي والمستقبل. شعرة تفصل بين الإثنين مثل ما قال عبقري السينما المصرية أحمد زكي في فيلمه الشهير “البيضة والحجر”: “الضعف ما بيفرقش بين جاهل ومتعلم!”. هي طبيعة النفس البشرية التي تمر بانكسارات، أو تعيش انهزامية، دون البحث عن الأسباب الحقيقية. وبعيداً عن التشدد الذي يصل للتحريم عند البعض، لا يتوقف الناس في مختلف بقاع الأرض عن إنشاء وتمجيد هذه الأماكن – غير المعروفة والواضحة تاريخياً تحديداً – ومن ثم توافد العامة للتبرك. وللتذكير؛ فإنها عادة لن تنقطع مادامت الحياة ومادامت هذه “العقيدة الحياتية”.

في “قبر الولي” للكاتب المسرحي الإماراتي جمال مطر، استخدم هذه الفكرة؛ حيث تناول النص الثيمة العامة لقصة المثل الشعبي “دافنينه سوا”: صديقان يمتلكان حماراً يستعينان به لقضاء الحوائج، ومات “أبو الصبر”، كما كانا يسميانه من ثقل الحمل عليه، فحزناً عليه حزناً شديداً، حتى أنهما قاما بدفنه بشكل لائق، لفت نظر العابرين الذين سألوا عن الميت، وتأتيهم الإجابة بأنه أبو الصبر، ليظن الآخرون أنه ولي صالح! فتنهال عليه التبرعات التي تتضرع أن تلبى أمنياتها وحاجاتها. وهكذا ظلّ الصديقان في عيش رغيد من جراء هذا الكسب غير المتوقع، حتى اختلفا يوماً ما على اقتسام الهبات والتبرعات، فأشار أحدهما أن مقام سيدي أبو الصبر سيأتيه بحقه! ليجيبه الآخر: “احنا دافنينه سوا!”، وهذا المثل يستخدم في السر بين اثنين، لا يعرفه غيرهما.
لذا يبدو أن ما قام به مطر ليست فكرة جديدة، لكنه عمّق لمفاهيم ومعانٍ مرتبطة بالبيئة، والمكان، ووزن الأشخاص في مجتمعاتهم. فهذان غريبان قررا المجيء إلى القرية القاحلة لبيع الماء بسعر مضاعف للسعر الحقيقي، ممنياً “يوعان” نفسه، ومرافقه وابن أخته “عبيدان”، بالأموال التي سيجنيانها من تجارتهما الرابحة. لكن لما مات الحمار من ثقل الماء على جسده، ونزل المطر، قاما بتغيير الخطة حسب الأجواء التي تهيأت أمامهما!

وكما سيناريو قصة المثل الشعبي هو ذاته، ذلك أن عموم الناس مستعدون لتقديس العادي إذا تلاشى أملهم في الواقع، وهذا ما حصل حينما شاءت الصدف أن يتساقط المطر بعد موت “أبو الصبر”، نفس الأفراد الذين هيئوا المكانة والقدسية الوهمية لــ”يوعان” و”عبيدان”، هم من لجأوا لاحقاً لتقديم النذور والتبرعات حتى تقضى حوائجهم! الفرق بين القبور الصامتة وبين ما هو مختلق هنا بالنص –ولازال قائماً في أماكن كثيرة – هي أنها طرحت بركتها وتركت للزمن استمراريتها عبر القائمين عليها، وهو مصطلح مقلق، لأن المقدار غير محسوب، وأموال الناس والتبرعات والهبات تذهب على “هوى” القائمين!
ونستفهم من سياق النص سيكولوجية الطرفين: المحتاجون، وهم كل الأهالي الذين ظهروا في النص، في رضوخهم غير المبرر لأشخاص لا يبدو أنهم يملكون أية مؤهلات “روحانية”، ولا قدرات خارقة لعلاج العقم، أو رد الغائب، أو فك السحر، ومنطقياً لا يبدو أن هذا يمكن حصوله، ومع ذلك يتآمر الأهالي على تعزيز مكانة “يوعان” ويتبرعون بابتكار شهادات حية، عن قدرة الشيخ على “التفل” في عين أعمى فــ”قام يشوف زين”!(1)، أو حين يمسح بيده “المباركة” على قدم مكسورة، ليقوم الولد بالمشي فوراً، وكلها حكايات تظهر الرغبات الداخلية في أن يكون هذا الكلام صحيحاً ويتحقق مرادهم مهما كان!
أما نفسية الطرف الآخر، التي كشفها مطر، فتكمن في شخصية “التاجر” الحسابية، الذي يحسب كل فرصه في الربح. نموذج “يوعان” لا يخسر، لأنه متحول، ومستفيد من أي وضعٍ حوله! وحتى الحلول التي من المفروض أن يقوم بها لزواره، يأتي دائماً من القدر الذي يتعامد مع رغبة الشخص الشديدة، واستعداد كل طاقات الجسم والعقل نحو الهدف المنشود. فإن تحققت فعلاً، فالخير ينسب لــ”يوعان”، ولو حصل العكس، فإن لذلك مبررات وتفسيرات “إيمانية” أخرى متعلقة بالرضا بالقضاء والقدر.
وتتقاطع هذه الصورة مع مشاهد عرضت في السينما بشكل واضح أكثر من المسرح، ولا ينسى المتابع الضجة التي حصلت بعد عرض فيلم “صاحب المقام” المنتج في 2020 للكاتب إبراهيم عيسى، بين مؤيد ومعارض، إذ يصرّ البطل على بناء منتجع سياحي بعد هدم “مقام”، لتتوالى النكسات المتلاحقة في حياته، حتى تظهر له “روح” مرشدة لتدله على تلبية الطلبات في مقام آخر، اعتاد رواده الكتابة على شكل رسائل.
ولم تكن هذه المرة الأولى في تاريخ السينما المصرية التي يعرف أهلها بحبهم لآل البيت، وزيارة المقامات للتبرك والدعاء، باعتبارهم أصحاب مكانة عند الله، بل إن أكثر من فيلم تعرض ولو بشكل جزئي لهذه المعتقدات، مثل الطبيب إسماعيل في “قنديل أم هاشم” للروائي يحيى حقي، الذي حارب الجهل في قطرة زيت قنديل المسجد، فحاربه مرضاه، لأنه ببساطة ضد معتقداتهم غير القابلة للنقاش. ولا ينسى المتابع “حادثة” زيارة الست أمينة لمقام الحسين في فيلم بين القصرين لنجيب محفوظ، وغيرها من الدراما التي تظهر القناعة والتسليم الشديدين من قبل فئات البشر بأهمية بركات صاحب المقام، حتى لو كان مختلقاً، كما في نص “قبر الولي”.
ومن هذا المنطلق، يجيد “يوعان” تجيير الأمر لصالحه، فيقول إن لله عباداً، متى أرادوا أراد! ويسوق من الآيات الكريمة ما يعتقد أنها مؤثرة في النفس، مثلما استشهد بسورة يونس:” أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”. وهو بذلك ترسيخ لمكانته بينهم، حسب النص القرآني الذي يعني به نفسه! أما التأكيد لكل ما سبق، فهو في تذكيره لمريديه “أن لا ننسى وتشغلنا الدنيا أن للولي حقوقاً وواجبات، لذا وجب أرضاؤه، وهو لا يطمع إلا في القليل من أموالكم، القليل من زرعكم، والقليل من أغنامكم”. وأخيراً، لإحكام الخطة بالتأثير والترهيب الخفي لمرضاة الله عن طريقه، يوصيهم بالكتمان، حتى لا تفضح مقدار العطايا التي تصله منهم تحت مبرر” “كل يفعل الخير بطريقته وخفية عن الناس”!(2)
واستخدم قبر الولي الأنثى للتضحية بها من أجل استجداء نزول المطر، وهي عادة وجدت في الحضارات القديمة، خصوصاً فيما يتعلق بخصوبة الأرض المرتبطة بنزول المطر، وإعطاء حياة جديدة مستمرة تعيد إحياء الزرع والبشر. ولم يجد أهل المكان ضحية أفضل من “المستضعفة”، المرأة البلماء/الخرساء التي تعاون الجميع على توجيه الاتهام لها، وأنها سبب كل القحط وشبه انقطاع الحياة عن المكان، ومن الواضح أنه تم اختيارها تحديداً لأنها وحيدة، لا تجد من يدافع عنها، وفاقدة للنطق، أي لن تستطيع الدفاع عن نفسها، والسبب الأكبر أنها جميلة إلى حد أن لا ذكر في الحي قاوم جاذبيتها ولم يغازلها. ويفهم القارئ من هذه المقدمة الكاشفة أن سبب إصرار الرجال على ربطها في جذع الشجرة وتركها لمصيرها هو مستوى متأخر بالنسبة لشعور الزوجات/ النساء بوجه عام من الغيرة التي نخرت قلوبهن، حتى دفعوا الرجال/ المجتمع إلى نبذها بهذه الطريقة، وتحميلها أعباء اضطراب الطبيعة، الذي يعبر عن اضطراب هذا المجتمع بالكامل.
واشتغل جمال مطر على مفارقات فاضحة تعكس الخيوط الداخلية للنص، مثل المرأة الخرساء التي لم يحدد لها أي ملمح في توصيف الشخصيات، ماعدا صفة الجمال التي تكشفها الحوارات لاحقاً، صفة مصدر ضعف وقوة الضحية تتهم بها، لكنها تقضي على “يوعان” بنظرة عين! “من شفتها وأنا حالتي جيه جنها ضربتني بعين.. أنا ميهود ومريض، وأحس إني ما بقوم من الفراش بعد هاليوم”(3) ومن دون الإشارة أن المقصودة هي المرأة الخرساء، حتى يكشف النص هذا في نهايته. أيضاً بائع الماء “عبيدان”، لما قرر أهل القرية تكريمهم كضيوف وذبح الذبائح لهم، كان طلبه الأول أن يشرب ماء!
ولن يبدو غريباً وصية “يوعان” أن يرجع “عبيدان” ابن أخته إلى دياره الأصلية، حتى لا يكتشف الأمر حتى بعد وفاته، أو حتى لا يكون المستفيد الوحيد من الخال ذي القدرات “الوهمية”، والوصية الأخرى هي أن يتحكم الحمار بتحديد مكان قبره. واسترجاع سريع لمكانة الحمار في الثقافة العربية سيكون لها مبرر مضاعف، كون البطل مقروناً بحماره، وأيضاً لاختيار الأخير مكان المقام المختلق، أي أن جثة يوعان ستكون جنباً إلى جنب مع الحمار الهالك، حامل الماء! قبر حمار اختاره حمار آخر ليدفن فيه من “استحمر” الناس، مع شديد الاحترام لهذا الحيوان الصبور المقرون بصفات بشعة عن بعض البشر.
نص من القطع الصغير، لا تتجاوز صفحاته 46 صفحة، لكنه يفضح كثيراً من الصفات البشرية التي تحتاج للإفشاء، لعلنا ننتبه لبعض عيوبنا الآدمية، ونصلحها –لو أدركنا مدى بشاعتها- أو نتكأ على أمثال الرجل الذي فتح الباب للوهم وجر المجتمع إلى مجموعة رذائل، قاصداً أو غير قاصد، وأول اسم “يوعان” في إشارة لعدم الشبع، إلى يوعان “جائع” في طلب المعرفة والعلم، وهي الدرجة الأولى للوصول على أكتاف مدلسين وجهلة إلى مكانة لا نستحقها بالفعل.

الهوامش

1. قبر الولي، جمال مطر، دائرة الثقافة والإعلام، سلسلة المسرح، المسرحيات العربية، دولة الإمارات، الطبعة الأولى 1998م، ص 19
2. نفس المصدر السابق، ص 29
3. نفس المصدر السابق ص 43

اقرأ المزيد

الشفافية فى ملف التقاعد والمتقاعدين

نتحدث عن أهمية الشفافية، خاصة عندما تتصل بهيئة تدير أموالاً عامة، وتتعاظم الأهمية حين تكون هذه الأموال تخصّ شريحة عريضة من المتقاعدين، وحقوقهم، وأمنهم الاجتماعي.
كثير من الأمور المتعلقة بهذا الملف مثارة منذ سنوات وحتى الآن، وكل الذى أثير وما زال يثار حتى الان يطرح تساؤلات، منها ما يثير العجب، ومنها ما يثير القلق، والمقلق يفرض أن نفتح أعيننا وعقولنا على “المطلوب” والذى نحن أحوج ما نكون اليه، والمطلوب حقاً وفعلاً هو الشفافية، التي تعني في أبسط تحليل العلنية والوضوح وعدم التمويه فى كل ما يرتبط بالقول والفعل، تعنى أيضاً أن هناك من يتحمل المسؤولية، ويتحمل تبعاتها فى المنهجية والسلوك والغايات، وغياب الشفافية يفتح الباب لكثير من المآخذ، والعجز والأخطاء والشكوك والمراوحات المستمرة.
فى هذا الخصوص فاجئنا ولم يفاجئنا رئيس لجنة التحقيق البرلمانية الأخيرة فى ملف صناديق التقاعد ابراهيم النفيعي بما صرح به أخيراً (اخبار الخليج – 13 ديسمبر 2020)، فاجئنا وهو عضو فى المجلس المعني بالرقابة والتحقيق والمساءلة حين أعلن بأن مجلس ادارة هيئة التأمين الاجتماعي اتخذ قراراً بعدم نشر ما يتمّ مناقشته فى اجتماعات المجلس من توصيات وقرارات فى الصحف، مؤكداً أن محاضر اجتماعات مجلس إدارة الهيئة التى حصلت عليها لجنة التحقيق البرلمانية كشف ذلك، وعليه تساءل النفيعي، ونحن معه نتساءل عن أسباب حجب المعلومات واتباع السرية من قبل هيئة عامة، تدير أموال صناديق التقاعد تخصّ الآف المشتركين الذين من أبسط حقوقهم معرفة كل شئ عن سياسات الهيئة واستثماراتها، وكيف توجه وعلى أي أساس او اعتبارات تدار ومن يديرها، والقطاعات التى تستثمر فيها، ونسب الأرباح والخسائر والعوائد فى كل منها، وفاعلية الخطط لاستدامة الصناديق التقاعدية ومواجهة العجز الاكتواري، عن خطط الهيئة فى تنميتها، وأوجه النجاح والإخفاق، وإلى أي مدى هى بمنأى عن أي سوء فى الادارة والاستثمار، ومدى كفاءة أعضاء مجلس إدارة الهيئة وجهازها الإدارى في تولى مهام ومسؤوليات جهاز هام وخطير يعنى اولاً وأخيراً بالأمن الاجتماعي؟
إن رئيس لجنة التحقيق البرلمانية فى ملف صناديق التقاعد بمعظم ما كشف عنه من أرقام وحقائق والتى قيل بأنها صادمة، منها على سبيل المثال أنه تمّ صرف معاشات تقاعدية لأشخاص متوفين صرفت لهم مبالغ تجاوزت 76 ألف دينار، وما قاله غيض من فيض، فاجئنا ولم يفاجئنا، كما ذكرنا، لأن هناك أكثر من لجنة تحقيق برلمانية تشكلت فى أكثر من فصل تشريعي سابق، منذ عام 2004 وحتى الآن تتشكل لجان تحقيق وكل لجنة تنتهى إلى نتائج مذهلة وصادمة، وتخرج بخلاصات تتكرر فى كل مهمة تحقيق، وفى كل مرة، وفى مناسبات عديدة نجد السؤال يطرح نفسه مجدداً: أين الشفافية ..؟!
وبدوره كان النائب فلاح هاشم عضو لجنة التحقيق المذكورة وصاحب الاهتمام الاستثنائي بملف التقاعد والمتقاعدين وقضايا العمل والعمال قد أثار العديد من التساؤلات والملاحظات، ومنها كمثال ما يتصل بالفروقات الشاسعة بين الأرقام التى زودتها هيئة التأمين الاجتماعي للجنة التحقيق وبين الأرقام المدققة فى الحسابات الختامية، وهى تساؤلات وملاحظات تفرض ذات السؤال: اين الشفافية ..؟، ليس ذلك بل الأدهى والباعث على حيرة شديدة هو ردّ الهيئة فى شأن ذلك السؤال تحديداً والذى لمحت فيه الى انها “تحتفظ بحق اتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد من يسئ دون وجه حق الى نزاهة الهيئة والعاملين فيها”، وهى بذلك تنسى او تتناسى أحقية النائب فى السؤال والتحقق والمساءلة، أحقية مكفولة بحصانة، وكان الأجدى والأنفع ان تنفتح الهييئة وتشرح حقائق المعلومات والأرقام التى استفزتها وقالت بأنها مغلوطة، ما دامت هذه الأرقام والمعلومات عصيّة على الاستيعاب أو الفهم، والخلاصة نأتى إلى نفس السؤال: أين الشفافية فى مجريات عمل هيئة عامة، نؤكد هيئة عامة، تدير أموالاً عامة.
كل الملاحظات والمآخذ، وكل المطالبات، كل أوجه الخلل فى ادارة واستثمار التقاعد والمتقاعدين، وكل ما خلصت اليه كل لجنة من لجان التحقيق البرلمانية، وكل ما سجله ديوان الرقابة المالية والإدارية فى تقاريره، وكل ما أثير فى الصحف وفى المجالس فى شأن هذا الملف منذ سنوات طويلة، وحتى الآن لم تُحرك ما يفترض أن يتحرك وظلّت الهواجس والظنون والمآرب والشكوك تلازم كل ما يخصّ أمر التقاعد ومصلحة المتقاعدين، وأصبح هذا الملف مرهقاً بالتساؤلات القلقة والتوقعات شديدة الضراوة ضد المتقاعدين ومدخراتهم المستقبلية بشكل أزعج الجميع، كان يمكن التخفيف من وطأتها وحدتها ووجعها لو كان هناك حضور حقيقي وجدي وفاعل للشفافية.
أموال التقاعد أموال عامة، هى فى أي مكان فى العالم تعتبر من أهم مصادر الاستثمار، من يديرونها ملتزمون بعدم التهاون فى الإلتزام بكل مبادئ ومقتضيات الشفافية والمحاسبة وكل المبادئ الدولية، يمكن فى هذا السياق أن نستحضر كمثال أو مقارنة – لا بأس أن نفعل ذلك رغم أننا سئمنا المقارنات – بصندوق التقاعد النرويجي الذى احتل المركز الأول عالمياً فى حجم الأصول، وتنوعت استثماراته بين حوالى 9000 شركة حول العالم لضمان عدم المخاطرة، ومنها حصة فى شركة المنيوم البحرين، أهم ما يعنينا فى أمر هذا الصندوق هو التزام القائمين على أموره التزاماً صارماً بسياسة شفافة جداً فى كل مجريات عمل الصندوق، التزام جعله لا يقدم على أي خطوة استثمارية دون جرعة كافية من الشفافية مع كل ما يضمن الإشراف والرقابة فى أي شركة يريد أن يستثمر فيها أو يحصل على حصة منها، وعلى أساس هذه الشفافية لم نجد هناك من ينغص على المتقاعدين بالمسّ من حقوقهم أو امتيازاتهم التقاعدية، أو يهددهم بعجز اكتواري، الى آخر المعزوفة التى تعودنا سماعها.
إلى جانب ذلك هناك صناديق أخرى ملتزمة بالشفافية بكل تجلياتها، تصدر تقارير فصلية عن كل مجريات عملها، وتقاريرها متاحة للجمهور بمنتهى الشفافية، وخاضعة للرقابة والمتابعة والمساءلة والمحاسبة وكل ما يبعث الإطمئنان فى حسن مسارات عملها وتأخذ على محمل الجد كل ما يمس نزاهتها.
أموال التقاعد يكفى القول انها أمانة عامة بحاجة إلى مزيد من الشفافية .. وهذا موضوع يستحق الطرح العلنى والنقاش المستفيض من كل الجوانب مع التأكيد بأن اموال التقاعد ليست كأي أموال أخرى، لذا لا ينبغي الوقوع فى فخ التهوين من شأن كل ما يخصّ هذا الملف.

اقرأ المزيد

لقاء لينين وكروبوتكن ( 1 – 2)

ترجمة وإعداد: هشام عقيل

[وثق هذا اللقاء فلاديمير بونتش-برويفيتش وهو بولشفي روسي والمساعد الشخصي للينين. نُشر هذا التوثيق في المجلد الثالث من أعمال برويفيتش الكاملة (ذكريات مع لينين 1917-1924). ترجمنا هذا النص الذي أعدّه تد كراوفرد وفرد ويستن عن اللغة الانكليزية.]

عقُد اللقاء في 1919، وأظنه كان في أحد الأيام ما بين 8-10 مايو. قرر فلاديمير إيلتش لينين بأن اللقاء سيعقد بعد ساعات عمله في السوفناركوم [مجلس الكوميسارات الشعبي]، أعلمني أنه سيأتي بحلول الساعة 5 عصراً. انبأت بيوتر ألكسيفيتش بهذا عبر الهاتف وأرسلتُ له سيارة لتحضره إلينا. حضر لينين قبل كروبوتكن؛ فتحدثتُ معه عن الأعمال المنشورة القديمة للثوريين. قال لينين بإنه حتماً سيجيء اليوم الذي سيكون علينا أن ننشر أعمال الثوريين الروس المهاجرين. في هذه الأثناء كان يتفحص بشكل عابر الكتب في مكتبتي من كتاب إلى آخر، ومر على كتب باكونين وكروبوتكن التي كانت بحوزتي منذ 1905. بعدها بقليل حضر كروبوتكن؛ ذهبت لاستقبله إذ كانت خطواته بطيئة ومتعبة على الدرج. سارع لينين ليستقبله بدوره في الرواق ورحب بكروبوتكن بإبتسامة عريضة. أخذ لينين بذراعه بشكل مهذب ورقيق جداً، ورافقه إلى أن أجلسه على الكرسي، وبعدها جلس في الجهة المقابلة له.

كان كروبوتكن سعيداً وقال: “كم أنا سعيد بهذا اللقاء يا فلاديمير إلتش! قد لا نتفق على كل شيء فيما بيننا، فنحن نختلف في قضايا عدة مثل التنظيم، لكن لنا مثل الأهداف. ما تقوم به أنت ورفاقك باسم الشيوعية يرضيني ويسعد قلبي العجوز جداً. لكنك الآن تُصعب الأمر على التعاونيات، بينما أنا أدعم التعاونيات”.

أعلن لينين بصوت عالٍ: “لكننا ندعم التعاونيات كذلك! نحن مجرد معارضون لتلك التعاونيات التي سراً تضم الكولاك، وكبار ملاك الأراضي، والتجار، ورأس المال. نريد أن نفضح هذه التعاونيات الزائفة ونسمح لشريحة كبرى من الناس المشاركة في التعاونيات الحقيقية.”

قال كروبوتكن: “أنا لا اختلف معك في هذه المسألة، وهذه الحالات التي تفضلتَ بالحديث عنها لا بد أن نحاربها بكل وسيلة ممكنة؛ بمثل الطريقة التي يجب علينا محاربة كل شكل من أشكال الكذب والتزييف. لسنا بحاجة إلى أي تزييف، علينا أن نكشف كل كذبة بلا رحمة؛ لكنني في مدينة ديميتروف رأيتُ – وهذا حصل أكثر من مرة – بأن اعضاء التعاونيات تعرضوا للقمع وهم لا ينتمون للحالات التي تحدثتَ عنها للتو. سبب ذلك هو أن السلطات المحلية، ولعل كان اعضاؤها ثوريون في السابق، خضعت للبرقرطة حالها حال كل سلطة، فتحولت إلى سلطة رسمية تتعامل بمنطق الآمر والمأمور.”

لينين: “نحن دائماً ضد الرسمية والسلطوية كما إننا ضد البيروقراطيين والبيروقراطية، وعلينا أن نقوض هذه الأشياء المأساوية ما إذا ظهرت في مجتمعنا الجديد. لكنك من المؤكد تتفهم، بيوتر إلكسيفيتش، بأنه من الصعب جداً تغيير البشر؛ بما إن جمجمة الإنسان – كما قال ماركس قديماً – أكثر القلاع تحصناً! نحن نتخذ كل الإجراءات اللازمة للوقوف ضد هذه الأشياء، وبلا شك تعطينا الحياة الكثير من الدروس. من الواضح بأن في روسيا نعاني من الأمية، والجهل، والتخلف ولكن لا يُمكن لأي أحد أن يلومنا كحزب وكدولة، إذ كل هذه الأمور الكريهة في مؤسسات الدولة تحصل بعيداً عنا؛ في عمق الريف، بعيداً عن مركز البلاد.”

كروبوتكن: “بلا شك، لا عزاء لأولئك الذي يسيئون استعمال السلطة بهذا الشكل الرجعي؛ خصوصاً أن السلطة هي، بحد ذاتها وبشكل عام، سم رهيب يضر كل من يستعمله.”

لينين: “لكن ليس باليد حيلة، لا يُمكنك أن تحدث ثورة بقفازات ناعمة. نعلم تماماً بأننا ارتكبنا العديد من الأخطاء الفادحة وحتماً سنرتكب العديد من هكذا اخطاء مستقبلاً؛ صححنا كل شيء قابل للتصحيح، ونعترف تماماً باخطائنا الغبية التي غالباً ما تتكرر. لكن على الرغم من كل هذا، لا زلنا نقود ثورتنا الاشتراكية نحو النجاح. اسألكَ أن تقف معنا وتساعدنا؛ نبهنا كلما نتركب خطاءاً، وتيقن باطمئنان بأننا سندرس ما تقدمه لنا باهتمام بالغ.”

\كروبوتكن: “جمعينا سيعمل على مساعدتك ومساعدة رفاقك متى ما كان هذا ممكناً؛ سنعلمكم بكل الأخطاء التي تحصل، هذه الأخطاء التي يتضايق منها الكثيرون في الكثير من الأماكن.”

بعدها بدأ كروبوتكن بالتنظير: “أنتَ تقول بإن لا سبيل لنا إلا السلطة، ولكنني أرى بأنه من الممكن نتقدم من دونها تمامآً. أنظر إلى الحركات المضادة للسلطة التي بدأت تشتعل؛ خذ انكلترا مثلاً. هناك – كما علمتُ مؤخراً – أسس عمال السفن في أحد الموانئ تعاونية مذهلة وحرة تماماً، حيث يروح ويجيء العمال من المصانع الأخرى. إن الحركة التعاونية لهي جد مهمة، نعم أنها جوهرية…”

اقرأ المزيد

إنجلز ضد ماركس (3)

مائتا عام من فريدريك إنجلز

بقلم : Paul Blackledge
ترجمة: غريب عوض
عمل ستالين على تجسيد المُخطط التاريخي المُقدم في مُقدمة ماركس في عام 1859 لمُساهمتهِ في نقد الإقتصاد السياسي من أجل استبعاد مفهوم ماركس وإنجلز التقليدي عن “نمط الإنتاج الآسيوي” والتي كانا يهدِفان من خلالها إلى فهم العلاقات الطبقية القمعية في المجتمعات التي ليس لها علاقات مُلكية خاصة والتي يمكن نشرها بسهولة لإلقاء الضوء على العلاقات الطبقية في روسيا السوفيتية. وإذا كان المنطق السياسي وراء هذا القرار واضحاً بما فيه الكفاية، فإن حقيقة أنه أثناء محاولتهُ، تبرير دور الدولة في التنمية الإقتصادية السوفيتية، شعر ستالين مع ذلك بأنهُ مُضطر إلى قلب تفسير ماركس للعلاقة بين القاعدة والبُنية الفوقية، كما هو موضح في هذا المقال المشهور، حيث قام بِمُراجعة فكر ماركس وإنجلز ليس كجزء من تقليد متطور صُحي من التحقيق فحسب، بل من خلال المطالب غير المُتماسِكة المُرتبِطة بالمهمة الأكثر دنيوية المُتمثِلة في تبرير المؤهلات الإشتراكية “لمجتمع غير اشتراكي.”
وكما يحدث، ليس فقط فكر إنجلز غير المُتوافق مع الأيديولوجية الستالينية فحسب، بل أفكارهُ يمكن أن تكون وقد تم استخلاصها بشكل مُربِح لفهم جوهر الستالينية الثوري المُعاكس. وبهذا المعنى على الأقل، تُعبر مُراجعات ستالين للماركسية عن فهمهِ الأفضل للتأثيرات الثورية النقدية لفكر إنجلز مما هو واضح في أعمال العديد من الفصيل المُناهض لإنجلز: لإن أفكار إنجلز بالتحديد كانت انتقادية وثورية لدرجة أنها كانت غير مُتوافقة مع ديكتاتورية ستالين. وإذا ساعد الجوهر الثوري لفكر إنجلز في توضيح لماذا سعى ستالين إلى تحييد ماركسيته، فإن الآثار المُعادية للستالينية من عمله هي سبب وجيه لضرورة أن تسعى المجتمعات الحديثة إلى إعادة تقييم صادِقة لمُساهمتهِ في النظرية الاجتماعية والسياسية.
يمكن طرح نقطة مُماثِلة فيما يتعلق بمفهوم إنجلز الخبيث عن ديالكتيك الطبيعة. مُنذُ نشر كِتاب لوكش Lukács “التاريخ والوعي الطبقي” في عام 1923، تضمنت إحدى السِمات المُحددة لتقليد الماركسية الغربية، رفضاً لمحاولة إنجلز تجذير النظرية الماركسية في الفهم الديالكتيكي للطبيعة.
في هذا الكِتاب اقترح لوكاش بأنّ توسع إنجلز غير الموفق في مفهوم الديالكتيك من النِطاق الاجتماعي إلى النِطاق الطبيعي جعلهُ يهمل “التفاعل الأكثر حيوية، تحديداً العلاقة الديالكتيكية بين الذات والموضوع في العملية التاريخية”، والتي بدونها “الديالكتيك لم يعُد ثورياً.” ومن المُثير للإهتمام، أنهُ على الرغم من أن نقد لوكاش لفكر إنجلز كان لهُ تأثير قوي للغاية على الأدبيات المُناهِضة لإنجلز، إلا أنهُ سريع إلى حد ما، ولا يزيد عن تعليق عابر تدعمهُ حاشية سُفلية من اثنى عشر سطراً. إضافةً إلى أن هذا التعليق تمت موازنته بتعليقات أُخرى في النص بدت أكثر توافقاً مع حجج إنجلز، على سبيل المِثال، حيثُ كَتَبَ عن “ضرورة فصل الديالكتيك الموضوعي للطبيعة عن ديالكتيك المجتمع.” كما سيحدث في غضون عامين من نشر كِتاب “التاريخ والوعي الطبقي”، لقد كتب لوكاش بشكل أكثر جوهرية، وأكثر إيجابية بكثير، حول فكرة الديالكتيك في الطبيعة:
“من الواضح أن الديالكتيك لا يمكن أن يكون فعالاً كمبدأ موضوعي لتطور المجتمع، إذا لم يكن موجوداً فعالاً بالفعل كمبدأ لتطور الطبيعة قبل المجتمع، إذا لم يكن موجوداً بالفعل بشكل موضوعي. ومع ذلك، لا يترتب على ذلك أن التطور الإجتماعي لا يمكن أن ينتج أشكالاً جديدة وموضوعية للحركة، ولا الحركات الديالكتيكية، في تطور الطبيعة ستكون قابلة للمعرِفة بدون وساطة الأشكال الإجتماعية الديالكتيكية الجديدة”.
هذا المقطع دليل على أن لوكاش استمرّ في رفض الإختزال الفلسفي، دون الإنهيار، كما حذر أنطونيو غرامشي وكارل كورش من أنهُ نتيجة مُحتملة لرفض ديالكتيك الطبيعة، في “الخطأ المُعاكس … بشكل من أشكال المِثالية”. ولسوء الحظ، بينما لوكاش Lukacs وغرامشي Gramsci وكورش Korsch مَيّزا بين التفسيرات الإختزالية وغير الإختزالية لفكرة إنجلز عن ديالكتيك الطبيعة، يميل نُقاد إنجلز المُعاصِرون إلى الإصرار على أن مفهوم ديالكتيك الطبيعة يفسح المجال حتماً للمادية الميكانيكية والوضعية.
لقد جادل جون بالمي فوستر John Bellamy Foster بأن هذا النقد الموجه إلى إنجلز انبثق من تفسير أُحادي الجانب لما يُسميه بـ “مشكلة لوكاش.” في حين أن لوكاش، في كِتابهِ “التاريخ والوعي الطبقي”، جمع بشكل غير مُترابط بين إنكار أن الطريقة الديالكتيكية قابلة للتطبيق على الطبيعة بسبب البُعد الذاتي المفقود مع الإعتراف بوجود ديالكتيك مُميّز وموضوعي وطبيعي، فإن الماركسية الغربية تميلُ ببساطة إلى إنكار وجود ديالكتيك في الطبيعة.
وهذا الزعم لا يتعارض فقط مع ما نعرفهُ عن تعليقات ماركس الداعِمة بشكل عام لعمل إنجلز حول ديالكتيك الطبيعة، ولكنهُ يدعم أيضاً ميلاً قوياً نحو أشكال المِثالية الفلسفية. وبالتالي، بدلاً من استكشاف عمل ماركس بحثاً عن أدوات تُساعد في إبعاد الماركسية عن المآزق المُزدوجة للمادية الميكانيكية من جهة والمِثالية الفلسفية من جهة أُخرى، مال الماركسيون الغربيون إلى تقديم دعم لمشروع دق إسفين بين تفسير مِثالي لماركس وتفسير مادي ميكانيكي لإنجلز.
وفي تناقض مع هذهِ المُقاربة، على إثر تتبع جون بالمي فوستر لِكلٍ من أندرو فينبيرغ Andrew Feenberg، و ألفريد شمدت Alfred Shmidt، وضح كيفية، إنهُ من خلال مفهوم النشاط البشري الحِسي، يُقدم عمل ماركس الأدوات اللازِمة لفهم العلاقة الديالكتيكية بين الطبيعة والمجتمع. يقول جون بالمي فوستر، تفترض مادية ماركس ما يُسميه شكلاً من أشكال “التطبيق الطبيعي” التي من خلالهِ يُفهم أن المُمارسة الحسية للإنسان تتجسد في العالَم الحِسي.نفسه.
إن تصوراتنا عن العالم مُتجذِرة في حواسنا الطبيعية، ولكن، على عكس التجريبية، فإن الحواس التي من خلالها تدرك الطبيعة نفسها ليست مُجرد مُتلقٍ سلبي للمعلومات من العالَم الخارجي، ولكنها عمليات نشِطة ومُتطوّرة داخل العالم الطبيعي والتي يستمر تطوّرها ويتعمق من خلال تفاعل البشرية المُثمِر مع الطبيعة. ويصِرُ جون بالمي فوستر على أن مفهوم التطبيق الطبيعي مُتوافق مع مفهوم إنجلز المُنبثق من الواقع مع تجنُب مآزق القِراءات الأختزالية لعمل إنجلز.
علاوة على ذلك، والأكثر إثارة للأهتمام، أنهُ يُجادل بأن مفهوم التطبيق العملي هذا يتوافق مع الاهتمامات البيئية المُعاصِرة. ومن خلال تهيئة اهتمام علوم البيئة الحديثة بتوحيد البشرية مع الطبيعة، يفتح تصوّر إنجلز لديالكتيك الطبيعة مساحة يمكن من خلالها فهم الأزمات البيئية فيما يتعلق بالطبيعة المُنفرِدة للعلاقات الإجتماعية الرأسمالية. ولأن الإنتاج أولاً وقبل كل شيء هو تبادل استقلابي مع الطبيعة، فإن علاقات الإنتاج الإقصائية تتضمن علاقات إقصائية بالطبيعة نفسها. وبالتالي، فإن نفس القوى التي تدعم ميل الرأسمالية نحو الأزمات الإقتصادية تولّد اتجاهات موازية نحو الأزمات البيئية. وبالتالي، فإن فهم ماركس وإنجلز لِوِحدة الإنسانية والطبيعة يوحي بمنظور ثوري لهُ نِطاق سياسي واجتماعي وبيئي في نفس الوقت: لن تتضمن الثورة الإشتراكية مُجرد تحوّل في العلاقات الإجتماعية والسياسية، بل ستشمل أيضاً بالضرورة تحول جذري عِلاقة البشرية بالطبيعة. فالعلاقة الداخلية بين الأزمة الرأسمالية والأزمة البيئية تُخبر مُحاجة جون بالمي فوستر بأن إنجلز يزعم أن “الطبيعة هي البُرهان على الديالكتيك” يُمكن ويجب تصحيحها حتى تُصبح “إن “عِلم البيئة” قد أصبح “البرهان على الديالكتيك.” لذلك، في حين أن نُقاد إنجلز يميلون إلى إعادة تصوّر ماركس على أنهُ مُجرد مُنظّر اجتماعي، فإن كتابات إنجلز الفلسفية تُلقي الضوء على البُعد الإيكولوجي القوي لِفكرهِ وفكر ماركس، وبالتالي الصِلة الداخلية بين الإهتمامات البيئية ومُناهضة الرأسمالية.
تُوضح مُحاجة جون بالمي فوستر بقوة اعتقادي بأنهُ سيكون من الخطأ الجسيم إغفال مُساهمة إنجلز الأساسية والإيجابية للغاية والتي لا تزال ذات صِلة بالنظرية والمُمارسة الإشتراكية. ويُشارك فِكرهِ في نِقاط القوة المركزية لعمل ماركس، الذي غالباً ما كان يُخطط لمواضيعه، بينما قدم مُساهمات قوية ومُستقلة للماركسية في حد ذاتهِ. وأعتقد أن اليسار سيستفيد بشكل كبير من إعادة تقييم جادة لعمله.
إلى جانب ماركس، عمل إنجلز ثورة في النظرية: قام الإثنان بتجميع الإشتراكية الفرنسية والفلسفة الألمانية والإقتصاد السياسي الإنجليزي في منظور ثوري جديد للمجتمع. تمت صياغة هذا المشروع التعاوني الحقيقي من خلال وسيط غريب لِمخطوطة مُجزأة بقيت غير منشورة في حياتهما وقد نزلت إلى الأجيال القادِمة بإسم الأيديولوجيا الألمانية. وبالرغم من أن هذا النص يُمثل إشكالية، إلا أن إنتاجه يُمثل، كما كتب ماركس وكرّر إنجلز، لحظة أساسية من “توضيح الذات” تم من خلالها تأطير مشروعهما النظري والعملي اللاحق. وتعليقاً على هذهِ الفترة من حياتهُما، كتب كورش Korsch:
عمل ماركس وإنجلز خلال العامين التاليين بالتفصيل على التناقض السائد بين وجهات نظرهُما المادية والعلمية ووجهات النظر الأيديولوجية المُختلِفة التي يُمثلُها أصدقاؤهم السابقون من بين الهيغيليين اليساريين (لودفيغ فيورباخ، برونو، باور، ماكس ستاينر) ورسائل بيل الفلسفية “للألمان” أو الإشتراكيين “الحقيقيين.”
على النقيض من تقييمات كُلٌ من ماركس وإنجلز بأثر رجعي لأهمية اللحظة التي كَتَبَا فيها المخطوطات التي وصلت إلينا على أنها الأيديولوجيا الألمانية، فإن من سِمات الأدب المُناهِض لإنجلز مُحاولة التقليل من أهمية هذهِ المخطوطات دليل على لحظة مُحورية في عملية توضيح الذات الفكرية الخاصة بهما.
إحدى مشاكل هذا الخط من الجدل هي أنهُ بالرغم من أن الأيديولوجيا الألمانية لم يكن لها وجود قط على أنها كِتاب مُقتَرَح، فإن ماركس وإنجلز لم يعملا على صياغة أفكارهما في الشكل الذي حاولا نشرهِ في عام 1845-46. وكما أشار كارفر نفسه، فإن مُخطط طريقة ماركس المُبيّن في مُقدمته عام 1859 يتبع عن كثب لُغة الفصل حول فيورباخ في الأيديولوجيا الألمانية. بالإضافة إلى ذلك، يُجادل آرثر Arthur بأن جميع الأفكار من كِتاباتهما السابِقة يتمُ تجميعها في هذهِ المخطوطات من خلال فكرة أن الناس يصنعون أنفُسهم ويعيدون تشكيل أنفُسهم من خلال تفاعلهم الإجتماعي والمُنتج مع الطبيعة لتلبية احتياجاتهم المُتطوّرة. كانت هذهِ الرؤية مُتجذرة وموجهة نحو الشكل البروليتاري الجديد للمُمارسة الإجتماعية، وبإعتبارها فلسفة المُمارسة فقد تم اختبارها وتعميقها لأول مرة من خلال تدخل سياسي ملحوظ في الأحداث الثورية لعام 1848-49.
كان عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر لحظة توقع ديمقراطي كبير، عندما أدى عدم التوافق بين مؤسسات القوة الحالية في أوروبا من ناحية والواقع الإجتماعي الجديد للتطور الرأسمالي المُزدهر من ناحية أُخرى إلى إحساس مُتزايد بالتغيير الجذري في جميع أنحاء القارة. إذا كانت هزيمة هذهِ الحركة سبباً لتأملات ماركس وإنجلز المنهجية بشأن مُساهماتَهُما العملية والنظرية في الحركة، فإن عملهما اللاحق يُفهم على أفضل وجه على أنهُ توسيع وتعميق للنهج الذي صاغاه في أربعينيات القرن التاسع عشر: أصبح عام 1883 محكاً لكُل شيء كتباه وفعلاه. بعد ذلك، ظلّ تعاونهُما الفريد والعميق غير منقوص حتى وفاة ماركس في عام 1883، وبعد ذلك واصل إنجلز مشروعهُما من خلال أعماله السياسية والنظرية وكذلك من خلال التحضير (لإعادة) نشر عدد من كتابات ماركس بما في ذلك، والأهم (والأكثر إثارة للجدل)، المُجلدين الثاني والثالث من كِتاب رأس المال.
إذا كانت أساسيات ستراتيجية ماركس وإنجلز قد تمت صياغتها بشكل تعاوني في مُنتصف اربعينيات القرن التاسع عشر، فإن إنجلز كان يتحرك بالفعل في اتجاه مشروعهما المُشترك قبل أن يلتقي بماركس، وبعد ذلك قدم مُساهمات مُستقلة وهامة لعملهُما التعاوني. وغاريث ستيدمان جونز Gareth Stedman Jones مُحقاً في الإشارة إلى أن يظهر عدداً من الافتراضات الماركسية الأساسية والدائمة أولاً في كِتابات إنجلز بدلاً من كِتابات ماركس المُبكِرة: تحويل التركيز من المنافسة إلى الإنتاج؛ الحداثة الثورية للصناعة الحديثة التي تميّزت بأزمات فائض الإنتاج وإعادة إنتاجها المُستمر لجيش إحتياطي من العمل؛ جنين الحجة القائلة بأن البرجوازية تنتج حفاري قبرها وأن الشيوعية لا تُمثل مبدأ فلسفياً، بل تُمثل “الحركة الحقيقية التي تلغي الحالة الراهِنة للأشياء.”؛ التحديد التاريخي لتشكيل البروليتاريا في طبقة؛ التفريق بين “الإشتراكية والبروليتارية”؛ والراديكالية الصغيرة أو الراديكالية من الطبقة الوسطى الدُنيا؛ ووصف الدولة بأنها أداة للإضطهاد في أيدي الطبقة المالكة الحاكمة.
هذهِ قائمة رائعة بشكل لا يُصدق بكل المقاييس. ولكنها لا تروي القصة كاملة. بالإضافة إلى إكتشاف إنجلز المُشترك للطبقة العاملة كعامل ثوري مُحتمل للتغيير، كان أول اشتراكي يُدرك أهمية النِضال النَقابي للمشروع الإشتراكي. كما أنهُ وضع القواعد للفهم التاريخي لظهور قمع المرأة والنظرية الوحدوية لشكلها الرأسمالي. وإلى جانب ماركس، في كِتاب “الأيديولوجية الألمانية”، توسع إنجلز في مفهوم مادي للتاريخ من خلال توليف فكرة المُمارسة مع التصور التاريخي للمصلحة المادية، وبعد ذلك بوقت قصير كتب أول عمل من التاريخ “الماركسي” مُحرِضاً تقليدياً مُنتجاً ومؤثراً بشكل كبير.
في هذهِ المُسودات التي أصبحت البيان الشيوعي، طبق المنظور العام المُبيّن في الأيديولوجية الألمانية على السياق المُحدد لألمانيا في عام 1847، وصاغ مفهوماً ديمقراطياً عميقاً للإشتراكية كحركة دولية بالضرورة، والتي أظهرت بالمُصادفة أن الماركسية في بدايتها حالت دون فكرة ستالين عن الإشتراكية في بلد واحد.
وعلاوة على ذلك، ضد الأصوات الإشتراكية السائدة في عصرِهِ، أدرك إنجلز أن النِضال من أجل الإشتراكية لم يكُن لعبة مصلحتها صفر. لقد أصر على أنهُ ينبغي على الإشتراكيين دعم الحركات الديمقراطية البُرجوازية مع الحِفاظ على الإستقلال السياسي لحزب العُمال بهدف تحدي البرجوازية على السُلطة فورَ هزيمة الحُكم المُطلق. قام بتعميق نظرية “الثورة في الدوام” من خلال مُشاركتهِ في ثورات عام 1848 عندما لعِبَ، جنباً إلى جنب مع ماركس، دوراً رئيسياً كصحفي في رفع التحليل الإستراتيجي العام المُبيّن في البيان الشيوعي إلى مُستوى المُمارسة: توسعة وتعميق ونقل رؤيتيهِما على طول الطريق، وبعد ذلك، لعِبَ دوراً في الكفاح العسكري ضد الإستبداد البروسي. وبعد هزيمة هذهِ الحركة، ركّز الكثير من طاقاتهِ الفكرية على تطوير التحليل المادي للقوة العسكرية، وبذلك أصبح “الجنرال،” كما أصبح معروفاً بين أفراد أُسرة ماركس، أحد أكبر المُفكرين العسكريين في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أنهُ تم رفضها في كثير من الأحيان على أنها مُجرد شذوذ، إلا أن كِتابات إنجلز العسكرية كانت ذات أهمية أولى للإستراتيجية الثورية في القرن التاسع عشر وظلت موضع اهتمام الإشتراكيين المُعاصرين على الرغم من أهمية التغييرات في القوة العسكرية خلال القرن التالي.
وربما الشيء الأكثر أهمية، هو أن إنجلز كسب أيضاً أجيالاً من الإشتراكيين إلى الماركسية من خلال نشرهِ الاسلوب الماركسي. وإلى جانب أعماله التعاونية، قام أيضاً بإعداد المُجلدين الثاني والثالث من ماركس رأس المال من أجل نشرهما – ورغم أن الدراسات الحديثة قد وجدت ثغرات في هذا المشروع، إلا أنهُ مع ذلك قام بمُهِمة شاقة في تقديم هذهِ المخطوطات بأكبر قدر مُمكن من الترابط. لقد استفاد اليسار كثيراً من جهودهِ.
وبالطبع، كانت هناك مشاكل كثيرة مع مُساهمات إنجلز في مشروع ماركس: حول إعادة التشكيل، ونظرية القيمة، والوطنية، ومُهمة صياغة نظرية وحدوية حول اضطهاد المرأة، من بين مُساهمات أُخرى، عانا فكرهِ من فجوات مهمة وأخطاء صريحة. لكن سيكون من الخطأ، والخطير في الواقع، السماح لنقاط الضعف هذهِ بأن تلقي بظلالها على حكمنا على مُساهمة إنجلز في الماركسية. ما قالهُ لينين ذات مرة عن روزا لوكسمبورغ يمكن أن يُقال بنفس القدر عن إنجلز: قد تطير النسور في بعض الأحيان إلى مُستوى أقل من الدجاج، لكن الدجاج لا يمكن أبداً أن يرتفع إلى ارتفاع النسور.” روزا لوكسمبورغ، كغيرها من المُفكرين الكِبار، ارتكبات أخطاء نظرية وسياسية كثيرة مهمة، ورغم ذلك كانت نسراً فكرياً وسياسياً. وبالمثل، مهما كان ضُعفهِ، كان إنجلز نسراً فكرياً وسياسياً تظلُ كتاباتهِ ذات أهمية أولى لنا في اليسار الثوري المُعاصِر الذي يهدف إلى تجنب قيود الإصلاحية دون االسقوط في الطائفية وفي الوقت نفسه يقوم بصياغة إشتراكية أخلاقية وبيئية التي تفلت من “العجز في العمل” الأخلاقي للكثير من الخِطاب اليساري الحديث.

*هذا المقال هو إقتِباس من مُقدِمة كِتاب Paul Blackledge الأخير، فريدريك إنجلز والنظرية الإجتماعية والسياسية الحديثة.

اقرأ المزيد

كيف نعيد للمعلم هيبته؟

بعد سنوات من التجاهل والنسيان تنطلق النداءات: أعيدوا للمعلم هيبته التي فقدها. لسنا هنا بحاجة للتأكيد أن مهمة المعلم مهنة نبيلة وشاقة وعدّها البعض مقدسة. الإدارات المدرسية تركزاهتمامها علي تجميل المباني المدرسية ووضع نباتات الزينة ..جميعهم مهتمون بالشكل الخارجي فقط، أما المعلمون فلا يبدو أنها يثيرون اهتمام أحد. لا أحد يستشيرهم في بناء المناهج المدرسية.. ولا أحد يأخذ رأيهم في القرارات التربوية، ولا أحد يطلعهم علي الخطط المستقبلية بوصفهم المنفذون لها …قبل إصلاح أي خلل في المباني المدرسية كان الاولى إصلاح الحالة النفسية والعصبية للمعلم.
الجميع مدينون لهذا الإنسان ولعل أحد أدواره وأخطرها علي الاطلاق يتجسد في كونه القدوة والمثال الذي يحتذى به..ولعمري أي دور بتبقي له اذا فقده..
استحضر بالمناسبة مقولة لأحد المفكرين تقول: “اثنان لا يسمح لهما بالاستقالة من عملهما المعلم والطبيب ..فالطبيب مهمته سلامة جسد الأمة اما المعلم فإن مسؤوليته هو عقلها”.
اتذكر أنني قرأت قبل سنوات أن القضاة في ألمانيا طالبوا المستشارة ميركل مساواة رواتبهم بالمعلمين، فكان ردها كيف تريدون مني أن اساوي الطالب باستاذه؟ لن اساويكم بمن علموكم، أعتقد أن ميركل اختصرت الرد بكلمات قليلة لكنها تحمل رسالة بليغة لا إلى القضاة وحدهم، لكن الي الأمة الألمانية بأجمعها..كأنها أرادت أن تقول إن نهضة ألمانيا ومنجزاتها العلمية ما كان لها أن تكون، لولا جهود هؤلاء المعلمين ..ومن نحن لولا المعلمين ؟ إننا مدينون لمعلمينا كل حسب جيله.
التساؤل هنا لماذا يتمتع المعلم في ألمانيا وربما في بلدان اخري بدرجة تفوق الآخرين من أطباء وقضاة .؟ بخلاف ما هو سائد في البلدان العربية والعالم الثالث ؟ الإجابة ليست بحاجة إلي كبير عناء..إن تقديرهم للمعلم هناك يعني أنهم وضعوا الحجر الاساس للتنمية والتقدم، اما الحقيقة التي غفلنا عنها طويلا – ولا نزال – للأسف في إرساء نهضة تعليمية فإنها تتمثل ببساطة شديدة في أننا (استوردنا) النظريات من الشرق والغرب لكننا تناسينا تكريم المعلم ..ولذا ليس مستغرباً أن تأتي النتائج مخيبة للآمال..وبعكس ما توقعناه..
هل تأخرنا في إعطاء المعلم ما يستحق من مكانة؟ غالباً ما ينصرف الذهن أن المقصود بالتكريم يعني التقدير المادي وحده ..إن الجانب المادي لا يشكل إلا جزءاً من المعضلة… كون ميركل حرصت علي التقدير المادي فإن هذا لا يقلل منه، فمن حق المعلمين أن تتم مكافأتهم بما يستحقون نظير جهودهم الجبارة والا يضطر الكثير منهم إلى العمل الإضافي الذي يستنزف طاقاتهم الجسدية والنفسية.
أتمنى لو كانت هناك التفاتة إلى التقدير الآخر للهيئات التعليمية، وأعني ألا يتحول المعلم إلى موضع سخرية من طلابه وهذا لا يتم إلا بمنحه الصلاحيات التي كان يتمتع بها قبل سنوات، وإعادة النظر في الوسائل الكفيلة بالإرتقاء بالمعلم ..لأنه وحده كفيل بالنهوض بعملية التعليم.
وأيضاً لا بد من إصلاح الخلل في العلاقة بين المعلم وأولياء الأمور، ذلك أن نظرة هؤلاء الأخيرين للمنتسبين للتعليم يشوبها عدم الثقة واعتبارهم جلادين، أما المفارقة الباعثة علي السخرية أن الأغلبية من أولياء الأمور لا يسألون عن المستوي التعليمي لأبنائهم بقدر ما يمارسون استجواباً بوليسياً للمعلم، الأمر الذي أفضى إلى علاقات غير ودية في أغلب الأحيان يقع ضحيتها الطلاب..

اقرأ المزيد

هاشم لم يمت وإنما شُبه لهم

كانت زوجته تنتظره بعينين مليئتين بالحيرة والشوق والخوف، وكان يهجس بينه وبين نفسه: كان من الصعب علي تركها في وسط الفراغ، وكان من الصعب عليها ثنيه عما آمن به واعتبره مدخلاً لاسعاد شعبه، فقالت له وهي تودعه: سأظلّ فيك ومعك حتى آخر العمر، حبك لوطنك وشعبك سرقك مني يا هاشم، أحبك وسأحكي كثيراً عن حلمك في كل مكان ولكل منَ ألقاه، في الأسواق والمقاهي وأثناء السفر وفي حلي وترحالي، النضال من أجل شعبك سرقك ألقه المذهل، وقادك نـحو الاستشهاد فكنت لا تقرّ ولا تستقر من أجل إسعاد شعبك.

فجر ذلك اليوم البعيد، الحادي عشر من سبتمبر من العام 1986، الدهشة والخوف يلفّ الوطن يوم أخذوك لزنازينهم المُظلمة. لا أتذكر الآن شيئاً مهماً سوى أني غضبت من صمتي أمام القتلة، هل كان ضعفاً أم خوفاً عليك؟ هي بعض مسالك الذاكرة ترتسم أمامي بعد كل هذه السنين الطوال.

آه يا قلبي المحزون مضى على استشهادك 36 عاماً، وها أنذا أظلّ فيك ومعك رغم تلك السنين. تذكرت الآن الطريق إلى المقبرة، البنايات، الشوارع، سوق المنامة القديم، المآذن، وجوه المارة، السيارات على جانبي الطريق، وهي تسير الهوينا والناس تحت فعل الدهشة مستاءة ومستنكرة ما حدث وكيف حدث وما الجرم الذي استدعى القتل الشنيع لطبيبٍ لا ذنب له.

أسئلة كثيرة تزاحمت بدماغي المثقل بالهموم، لكني فضلت الصمت أمام هذ المشهد الرهيب، مازال أذان الظهر في ذلك اليوم وأنا في طريقي إلى بيت هاشم يوقظ غفوتي من حين لآخر، وأمواج الحزن تتكسر عند أقدامي، باندفاع كان يفوق طاقتي على التحمل، تركت لدموعي أن تنهمر كالسيل وبلعت ألم الحمل وألم الفراق دفعة واحدة وأردت لصغيري الذي في بطني أن يعيش هذا المشهد الإجرامي الذي وضعني القتلة فيه دون أن يرقّ لهم جفن.

استعدت في لمح البصر لحظات الأيام الأخيرة بكاملها بقداستها وعنفوانها فأفقت مذعورة من هول ما حدث، وبصقت عليهم بكل ما أملك من قوة على ما فعلوه. هاشم نوري الذي أرى به الدنيا قتلتموه ويتمتموا طفلين لاذنب لهما. صرخت في وجوههم ورحت في غيبوبة الانفعال أُهدي كالمجنونة؛ لم تقتلوه ولكن شبه لكم، فالشهداء لا يموتون، الشهداء باقون. بعدها نزلت عليّ كآبة من الصمت لم أستطع تجنبها، تفاصيل كثيرة حدثت قبل أن أعود إلى المنزل نسيتها في ذلك اليوم الخميس المشؤوم الثامن عشر من سبتمبر في العام 1986.

قال لي هاشم: حلمنا بتطهير البلد من الفساد والظلم لينعم الوطن بالطمأنينة، ماذا بقي بين أيدينا غير الخوف والقلق على مستقبل أولادنا وأحفادنا، فلن يكون طريقنا معبداً بالورود، بل بالنضال ضد الخوف والهزائم الذاتية لنتستعيد ثقتنا بقدراتنا على مواصلة المسير.

طوقني فجأة وجه هاشم كالنسمة الدافئة في يوم شتوي ملئ بالحب والحنان بعد تذكري ما قال، فاستعدت ثقتي في نفسي وقلت سأظل فيك ومعك إلى أبد الآبدين، وهآنذا أقول بأن قلبي كان يحدثني إن ما خفي أفجع مما حدث وعند ذلك سبقتني دمعة مثقلة بالحزن والحنين فأبعدت كل وساوسي ورحت في حزن عميق.

إعلموا أيها الرفاق بأن هاشم كان يعشق الحياة لدرجة الوله، فحبّب إلينا كل الناس وصار محبوباً من كل الناس فحمل روحه على كفه ورحل من أجل الناس، وهو مبتسم بتلك الابتسامة الساحرة والساخرة من المعذبين والقتلة. رأيته قبل استشهاده في المحاكم يجرّ جسده النحيل بصعوبة كبيرة والقيود في معصميه وبتلك الثوب البيضاء وبابتسامته المميزة أومأ إلينا، وكأنما يحاول أن يستقبل موته بأكبر فرح ممكن وبأكبر نشوى وكأنما يسخر من جلاديه وما قد يصدر عليه من حكم وكأنما يقاوم بموته سلطان القتلة.

تقول ما أحوجني إليك الآن وإلى طلتك البهية، لأستعيدك كما أشتهي دوماً لرؤيتك ففقدك يؤلمني ورحيلك يؤرقني وبعدك يقتلني، فأنت الزوج وانت الرفيق والحبيب، وبعد أن أعدت شريط حياتنا الهاربة إنسحبت ووضعت رأسي بين يدي، وطفرت دموعي الفائضة لأقول: هو لم يمت ولكن شبه لهم فالشهداء لايموتون وإن غابوا عنا فهم حاضرون بيننا وساكنين في حنايانا ومُهجنا.

هل تعلمون بأن هاشم جاء إلى الشهادة وهو في عز عشقه للحياة دفاعاً عن المحرومين والمضطهدين والفقراء، رأيته وأنا أحاول أن أغمض عيني لأراه للمرة الأخيرة، وهو ينوء بأثقال حنينه إليهم، إلى أحبائه الكادحين أراه في “حبات البذار” و”نشيد الأممية” وفي أغاني العراق الوطنية ومسارح موسكو ينشد أشواقه وأحزانه.

أراك بصفائك وعنفوانك كنت الشجاع الذي اخترق الخوف وفتح لنا أمل التغيير بتلك المعنويات التي تهزّ الجبال وبتلك الإرادة الفولاذية التي عجز القتلة عن كسرها، فأقسم بكل غالٍ ونفيس إنه لن يسلم لهم ما أرادوا معرفته عن رفاقه فزادهم حقداً وكراهية عليه، وماتوا بغيظهم قبل أن يقتلوه لكن هاشم لم يمت بل شُبه لهم، شُبه لهم.

كارثة ذلك اليوم من الصعب عليّ استيعابها، أمضيتُ وقتاً طويلاً استرجع شريط لحظات استشهاده وهو الانسان المسالم، الرقيق، الأنيق، الطبيب، لم يحمل سلاحاً ولا حتى حجرا لمقاومتهم، ولكن حقدهم الأعمى قادهم إلى هذه الجريمة النكراء. كان الرعب يُقرأ في عيونهم منذ اللحظات الأولى لاعتقاله، ظلت حيرةٌ ما تؤرقني كيف تجرأوا على قتل هاشم ذلك الانسان الرقيق، طيب القلب الملئ دوما وأبداً بعزة النفس والمطمئن إلى ما يفعل، إنه العمى الذي يعمي البصر والبصيرة، ماذا ربحوا بقتله؟

كانت تقول كل شيء ينبئ بعد استشهاده بجرح لن يندمل أبداً، بل سيزداد عمقا عبر هذا الزمن القاسي فأي خراب يملأ قلبي بعدك يا هاشم؟. كنت أصرخ في صمتي ويأسي لكن ذلك الصوت وتلك الآلام يطويها الزمن المفقود والفراغات المخيفة. أحاول أن أُُسمعهم شتائمي ودعواتي عليهم بما اقترفت أيديهم الملطخة بالدم، علهم يعرفوا مقدار الدمار الذي خلفوه. كان هاشم يعلمني كيف أنتزع الضحكة من ظلال الأحزان، لكن الدنيا تغيرت ولم تعد دنيا، والبلاد لم تعد لأهلها فكل شيء تغير حتى النفوس وكل شيء فقد طعمه بعدك يا نور عيني ويا مهجة فؤادي. مسحت الدمعات التي انزلقت من عينيها في غفلة منها واستحضرت بيت من شعر لبدر شاكر السيياب: “ولولا خيال في الدجي منك عادني/ لذاب مع الأنفاس قلب بأضلعي”.

فوجه هاشم ما يزال كالشمعة في ذاكرتي تضئ لي ما تبقي من حياة، له سحره الخاص، فلم أر شبيهاً له في حياتي، فلا أحد سواك يملك هذا النور المتوهج في عمق الظلمة فأنت ضوئي وضيائي. كل شيء تمّ داخل صمت مطبق بعد الإنتهاء من مراسم الدفن، وعلى الرغم من الجرح الذي يخط قلبها وفجيعتها تساءلت في حيرة كيف تُقتل نفس بريئة وبأي ذنب قُتلت؟

اقرأ المزيد

محطات مضيئة من نضال حركتنا العمالية – 5

تجسدت روح التلاحم الوثيق بين مناضلي جبهة التحرير الوطني والحركة العمالية في معرفة العمل الوطني بين المدّ والجزر في مراحل مختلفة، لدفع عجلة النضال اليومي مع أهمية التركيز على العمل الجماهيري، الذي يعتبر الأساس لكسب الجبهة للقواعد الجماهيرية من مختلف أطياف المجتمع البحريني.
وقد ثبت هذا في الاحتفال المهيب بمناسبة الأول من مايو عام 1974، الذي أقيم في نادي البحرين بالمحرق، الذي حضرته حشود جماهيرية كبيرة من كل مناطق البحرين، فامتلأت ساحة نادي البحرين بألوف من جماهير العمال وبقية فئات الشعب، وظهر فيه الارتباط بين نواب كتلة الشعب والكوادر العمالية والنقابية، ومن بين الحشود الكبيرة كانت هناك أعداد كبيرة من النساء والشباب.
بالإضافة إلى الخطابات التي ألقيت في الحفل، كانت الأغاني الوطنية تشدو مع الأفراح، فيما الشارات الحمراء تُزين أكتاف القائمين على الحفل، ومن بينهم مناضلون أشداء، وانتهى الحفل بنجاح باهر.
للأسف لم تدم هذه الأفراح الوطنية طويلاً، حيث شنت حملة اعتقالات واسعة بدءاً من تاريخ 25 يونيو من السنة نفسها، في صفوف القيادات والكوادر العمالية والنقابية والشخصيات الوطنية، كمقدمة للهجمة الشرسة على دستور 1973 بعد أن حيكت المؤامرات لحلّ المجلس الوطني المنتخب وضرب الدستور بعرض الحائط في عام 1975، وتوالت الاعتقالات التي شملت نواباً من كتلة الشعب وقيادات وكوادر وطنية وعمالية، وصولاً إلى تطبيق قانون أمن الدولة الذي رفضه المجلس الوطني باجماع كتله، وفي نهاية العام التالي استشهد المناضلان محمد غلوم وسعيد العويناتي.
إلا إن هذا القمع لم يوقف نضال الحركة الوطنية والمطلبية، فاستمرّ النضال الوطني السري، وكانت منشورات جبهة التحرير تصدر بانتظام، وتوسعت التحركات الوطنية والعمالية المطالبة بالحريات والحقوق في الداخل والخارج وبشكل لافت وبدون استسلام لظروف القمع والنفي، وبرزت قيادات وكوادر وطنية ونقابية جديدة واصلت المسيرة النضالية.
إلا أن التربص بجبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية عامة لم يتوقف، حتى جاءت ضربة جديدة قاصمة رتب لها بدقة في عام 1986 التي شملت العشرات من مناضلي جبهة التحرير واستشهد فيها الرفيق الدكتور هاشم العلوي، ونفي المناضل العمالي المرحوم عزيز ما شاء الله، وصدرت أحكام قاسية بالسجن على العشرات من المعتقلين.

اقرأ المزيد

عولمة الرأسمال أم عولمة الإنسان

تُعرَّف العولمة لغةً بأنها مصدر الفعل عَوْلَم، وهي حريّة انتقال المعلومات، وتدفق رؤوس الأموال، والأفكار المختلفة، والتكنولوجيا، والمنتجات والسلع، كما تمثل انتقال البشر أيضاً بين المجتمعات الإنسانيّة المختلفة، حيث يؤدي ذلك إلى جعل العالم أشبه بقرية صغيرة. أما في القاموس الماركسي فينظر إلى العولمة كأي ظاهرة اجتماعية واقتصادية متناقضة، أي أنها اتحاد أضداد متصارعة لكل منها قواه وإمكانياته وعلى مدى تفوق أي من الضدين يتوقف مصيرها بل ومصير البشرية.

في كتابها “العولمة”* تشير الكاتبة العراقية سعاد خيري إلى ضرورة قراءة كتاب ماركس “رأس المال” بعمق لدراسة كُنه الرأسمالية ومراحلها ومن ثم دراسة كتاب لينين “الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية” لإدراك المنهج التطوري لمراحل الرأسمالية وبلوغها مرحلة عولمة الرأسمال
.
إن عولمة الرأسمال تمثل النقيض للعولمة الإنسانية، حيث تمثل الأولى أداة أساسية وضاربة للرأسمالية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية، التي لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا بالقوانين الدولية التي شرعتها البشرية ولا سيادة دول أو حرمة شعوب ولا بحقوق إنسان وقواعد للحروب وضمانات للسلام. ولذلك فإن عولمة الرأسمال تؤدي إلى: عولمة الحروب والإرهاب، عولمة الجوع والإفقار، عولمة البطالة والجهل والمرض .

إن العلاقة بين العولمتين (عولمة الرأسمال وعولمة الإنسان) علاقة تناحرية بسبب التناقض الحاد بينهما في المنطلقات والأهداف. فإذا كانت عولمة الإنسان تهدف إلى استغلال التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا والمكننة ووسائل الإنتاج والمواصلات والاتصالات من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم وتوفير سبل الراحة والرفاهية بتقليل ساعات العمل، فإن عولمة الرأسمال هدفها دائما زيادة الأرباح وتراكم المال وإن استدعى ذلك الضغط على العمال أو تسريح الآلاف منهم أو حتى بغزو البلدان ونهب ثرواتها وخيراتها بمبررات واهية وكاذبة، كما حدث في احتلال الأميركان للعرق في 2003 بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل .

إن السمات الاقتصادية والسياسية التي تتصف بها عولمة الرأسمال تشكل خطرا كبيرا، ليس على الدول الفقيرة فحسب، بل وعلى الفقراء والطبقة الوسطى في الدول الرأسمالية الكبرى أيضاً. وتُشير سعاد خيري إلى هذه السمات بالتفصيل والشرح الواسع في كتابها آنف الذكر، حيث ألخصها في النقاط التالية: تعميق التناقض بين العمل والرأسمال، تعميق التمايز بين المراكز والأطراف، الشركات متعددة الجنسية، هيمنة الرأسمال المالي على الاقتصاد العالمي، تحويل الدولة لأداة في خدمة الرأسمال، إخضاع المنظمات الدولية لمصلحة الرأسمال العالمي.

وإذا كانت البشرية لم تعرف وتائر ومجالات للتغيرات كالتي نعيشها اليوم، بفضل الثورة العلمية التكنولوجية، فإن من الواجب والمهم تسخيرها لخدمة البشرية، وهذا الحلم لا يتحقق إلا في إطار تقوية ونشر ثقافة عولمة الإنسان، التي من خلالها يمكن إشاعة المنجزات العلمية وتبادل الخيرات والتجارب، بدلا من احتكارها أو التحكم بها بصورة أنانية متوحشة في ظل سيطرة عولمة الرأسمال.

ومن المهم عند الحديث عن العولمة التمييز بين جانبيها: العولمة الإنسانية وعولمة الرأسمال المتناقضتين والمتناحرتين. فالخلط بينهما لا يخدم سوى أعداء البشرية ولذلك تروج وسائل الإعلام الجبارة لمصطلح العولمة المجردة لتظليل البشرية وإسدال الستار على الأفق المشرق للبشرية بدون الرأسمالية، وإضعاف ثقة البشرية بقدرتها على التحرر من علاقات الانتاج الرأسمالية.

لماذا عولمة الإنسان، لأنها تعمل ضد هيمنة الإمبريالية المتوحشة وعولمة الرأسمال اللاإنسانية، ولأنها تسعى إلى فرض عولمتها: عولمة الحرية والرفاه، عولمة السلام والتقدم المضطرد لعموم البشرية، عولمة التمتع بكل منجزات البشرية والحضارية.

* سعاد خيري: “العولمة، وحدة وصراع النقيضين، عولمة الرأسمال والعولمة الإنسانية” – دار الكنوز الأدبية، الطبعة الأولى 2000

اقرأ المزيد

ساعتا الرضاعة والقانون

انسجاماً مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة

ساعتا الرضاعة والقانون

في عام 2015 اعتمدت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومنها مملكة البحرين، أهداف التنمية المستدامة (SDGs) السبعة عشر كاملة، أي أنها تدرك أن العمل في مجال ما سيؤثر على النتائج في مجالات أخرى، وأن التنمية يجب أن توازن بين الإستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، والقضاء على كل مايعيق تقدّم الدول للأمام، خاصة منها تلك التي لازالت بالخلف، ولهذا تمّ تصميم أهداف التنمية على جعل العالم يتحول إلى أصفار في العديد من جوانب الحياة المتغيرة، بما في ذلك التمييز ضد النساء والفتيات. والهدف الخامس يُعنى بالمساواة وعدم التمييز، ولا يمكن تحقيقه بشكل منفصل عن الأهداف ال16 الأخرى، وخاصة الهدف الثامن الذي يعنى بالعمل اللائق، وكذلك الهدف العاشر الذي يعمل على الحدّ من عدم المساواة.

ومنذ أكثر من عقدين طالب الاتحاد النسائي، ممثلا في جمعياته، بالمساواة في ساعات الرضاعة بين القطاعين العام والخاص، حيث أن هذه الفجوة في التمييز، وعدم المساواة تسبب الكثير من المعاناة للمرأة في القطاع الخاص، وتعديل القوانين التمييزية هو ما يجب أن تقوم به الحكومة، لأنه مهمة من مهماتها، حيث أن التزامها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة لا يمكن بدون التعديل في العديد من القوانين المتعلقة بالمرأة العاملة سواء في القطاع الخاص أو العام .

ومؤخرا تقدّم خمسة نواب في البرلمان، باقتراح بتعديل المادة 35 من قانون العمل في القطاع الأهلي الصادر بالقانون رقم 26 سنة 2012، لتحقيق المساواة بين المرأة العاملة في القطاع الأهلي وتلك العاملة في القطاع الحكومي، ويتضمن مشروع القانون استبدال المادة 35 من قانون العمل في القطاع الأهلي الصادر بالقانون رقم 26 لسنة 2012، والذي ينصّ على: “تستحق المرأة العاملة بعد الانتهاء من إجازة الوضع وحتى يبلغ طفلها عامين من العمر فترة رعاية لرضاعة طفلها على أن لا تقل مدة كل منها عن ساعة واحدة، وللعاملة الحق في ضمّ هاتين الفترتين وتحتسب هاتين الفترتين من ساعات العمل أسوة بالقطاع العام، ولا يترتب عليها أي تخفيض في الأجر ويحدد صاحب العمل فترة الرعاية المشار إليها في الفقرة السابقة وفقا لظروف العاملة وظروف العمل.”.

وينصّ النص المطلوب تعديله في قانون العمل رقم 26 الصادر في العام 2012/ المادة 35 منه: “على أن يكون للمرأة العاملة بعد الإنتهاء من إجازة الوضع وحتى يبلغ طفلها ستة أشهر من العمر فترة رعاية لرضاعة طفلها على ألا تقل مدة كل منها عن ساعة واحدة، كما يحق لها فترة رعاية مدة كل منها نصف ساعة، حتى يبلغ طفلها عامه الأول، وللعاملة الحق في ضمّ هاتين الفترتين. وتحتسب هاتان الفترتان الإضافيتان من ساعات العمل، ولا يترتب عليها أي تخفيض في الأجر، ويحدد صاحب العمل موعد الرعاية المشار إليها في الفترة السابقة، وبحيث تتناسب مع وقت العاملة وظروفها، ومصلحة العمل.”

لكن الحكومة طلبت إعادة النظر في مشروع القانون، وذكرت بأن المقترح ليس في صالح إدماج المرأة في سوق العمل، وأن له تداعياته السلبية على أصحاب الأعمال ويكبدهم خسائر مالية مع كثرة الإجازات الممنوحه لها.
إن الحكومة معنية بشكل أساسي بتطبيق المساواة في القوانين، وإن خلق الحجج للقطاع الخاص للاستمرار في التمييز ضد المرأة العاملة، سيشجعه على الاستمرار في هذا التمييز، بل سيوغل في تمييزه، بحيث يشمل حقوقا أخرى لإلغائها بحجة تأثر أرباحه بهذه الحقوق، كما حدث سابقا، وقد تمّ إلغاء النص الذي يلزم القطاع الخاص بتوفير حضانات في الشركات التي تزيد نسبة النساء العاملات فيها عن 100 عاملة.

إن ساعات الرضاعة من المواد الأساسية في اتفاقية الأمومة التي سنتها منظمة العمل الدولية والتي نصت على التالي:
– يحق للمرأة الحصول على فترة أو فترات توقف يومية أو تخفيض ساعات العمل اليومية لإرضاع طفلها رضاعة طبيعية.
– تحدد القوانين والممارسات الوطنية المدة التي تسمح فيها بفترات الإرضاع وتخفيض ساعات العمل اليومية وعددها وطولها وإجراءات تخفيض ساعات العمل اليومية وتعتبر فترات التوقف هذه وتخفيض ساعات العمل اليومية بمثابة ساعات ويدفع أجرها وفقا لذلك.

وقد أوصت دراسة علمية نشرتها جريدة الوطن في 18/5/2015 بمساواة المرأة البحرينية العاملة في القطاع الخاص مع نظيرتها في القطاع الحكومي، بخصوص ساعات الرضاعة الطبيعية، وإجازة الرعاية والأمومة، ووقفت الأستاذة المساعدة في كلية الحقوق بجامعة البحرين د.نعيمة الحداد في دراستها المعنونة بـ (المساواة وعدم التمييز بحق الرضاعة الطبيعية للأمهات العاملات في البحرين على قصور قانون العمل بخصوص ساعات الرضاعة الطبيعية وإجازة الأمومة والرعاية، ورأت الحداد لدى مشاركتها في مؤتمر (رؤى قانونية) مؤخرا أن هناك تمييزا في التعامل بين المرأة العاملة بالقطاع الأهلي ونظيرتها العاملة في القطاع الحكومي ودعت إلى مراجعة هذا القانون

تقع على المرأة العاملة ضغوط كثيرة، وذلك في الجهد المبذول للتوفيق بين مهماتها الوظيفية والأسرية، والتي من المفترض أن لا تتحمل تبعاتها بمفردها، بل لابد أن يساهم المجتمع، بتوفير بيئة داعمة لها، لتحقيق مشاركتها في سوق العمل بشكل فاعل، كما أكدت المادة 5 الفقرة (ب) من دستور مملكة البحرين (على أن تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع)، حيث لم تعد مشاركة المرأة في سوق العمل ترفا بل ضرورة من أجل مشاركة المرأة في التنمية ودفع عجلة الاقتصاد.

اقرأ المزيد

في العقل والجسد

هناك قول يبدو من ملسماتنا اليوم، والذي يرى بأن الجهاز الهضمي غير مستقل عن النشاط العقلي بل يظل عنصراً متواطئاً سلبا أو أيجاباً. قال المسلمون قديماً: “البِطنَةُ تُذهِبُ الفِطنة” ويقال أيضأً: “العقل السليم في الجسم السليم” ولا يُقصد هنا بالسليم حسب المناظير الجمالية، كأن يكون وفق مقومات محددة، أو يكون خاليا من أي إعاقة بدنية، ولكنه يبدو جليا للعيان أن الحالة المزاجية تؤثر بشكل أو بآخر على حالتنا الهضمية، والعكس صحيح، فنمط الغذاء السيء قد يبلد الحواس ويشعرنا بالخمول المزمن إذا ما تحول لعادة يومية. ونمط الغذاء الجيد يحسن من وظائف الجسد وبالتالي وظائف العقل.

كان هناك اتجاهاً فلسفياً طاغياً يرى بأنه لبلوغ أقصى درجات الحكمة على الإنسان أن يهمل الجسد ومتطلباته، وهذا الرأي كان يرتبط بالصورة التي يرى فيها أهل هذا الفكر العالم والوجود. فقد تبنت بعض المدارس الفكرية الإسلامية النظرة القائلة بأن العالم مكون من سبعة أفلاك، الفلك الأول هو الأكثر قرباً من البارئ وبهذا هو الأكثر نوراً، وكلما هبطنا إلى فلك أدنى خفت هذا النور، حتى نصل لعالمنا، عالم المادة المظلم والمحجوب، ولتخطي هذا الحجاب على الإنسان أن يتخطى حاجات الجسد المادي، أو يهملها، فلا يمكن أن تتلقى نور الله أو الحكمة إلا بمجاهدة النفس ضد مطالب الجسد.

لا بد لهذه الأفكار أن تكون لها جذور أفلاطونية، حيث يرى أفلاطون أن الانفعالات تقيم في الجسد إقامة ضرورية، إلا أن الفكر كما النفس فإقامتهما عَرَضية. ولكن، إذا كانت الانفعالات والتحكم بها مصدرهما العقل، وبأن العقل يكمن في الجسد، فإن التفكير سيكون هنا بمثابة النقيض للجسد والذي لا يتم ويتكامل إلا بتغييب الأخير. هكذا حدث أن التأمل عند بعض الاتجاهات الفلسفية والدينية والوصول إلى الله أو الحقيقة يرتبط بإماته الجسد أو إهماله.

إن ما يعزز إهمال الجسد هو أننا سنجد نموذج من المثقفين يُعتبر قدوةً لدى البعض، فهو لا يهتم بالنمط الغذائي، ويأكل بنهم أو يتناول أطعمة تساهم في مضاعفة عِلّات البدن، أو لا يهتم بالهواء الذي يستنشقه فيدخن بشراهة عالية، ويفضل الجلوس على كرسي خشبي منشغلاً بما يسمى “بحثا علميا” دون أن يضع له برنامجا يومياً يحرك فيه أعضاء بدنه.

إننا لا يمكن أن نصل للعمق من خلال سطح ميت، فالحواس هي المصدر الرئيس للمعرفة، إن هذه البلادة البدنية تقود إلى بلادة الحواس أو حسب قول نيتشه إلى بلادة ذهنية: “إن خمولاً صغيراً في الأمعاء يكفي إذا ما تحوّل لعادة سيئة أن يجعل من العبقري شيئاً رديئا”. ربما يكون نيتشه أكثر من اهتم بالجسد والحث على الاهتمام به، حيث كان يحرص على أن يهتم الإنسان ليس فقط بالغذاء، بل بالهواء الذي يستنشقه، وأن يأخذ كفايته من النوم أيضاً، وأن يحرص على الحركة والرياضة.

كان أتباع المدرسة المشائية يمارسون التفكير أثناء المشي، لربما اقتداءً بأرسطو الذي كان يلقي بعض دروسه ماشياً، وقد لاحظت أن كثيرا من الأفكار الجيدة والحلول للمشكلات تأتي الإنسان حين يمارس رياضة المشي، خصوصا في المناطق المفتوحة، فنحن نفكر من خلال أجسادنا، ليس لأن العقل وحده يكمن في الجسد، بل لأن العقل والجسد هما شيء واحد، وإن عملية التفكير ليست حصرا على الدماغ وحدة، بل هي عملية تشترك فيها جميع حواسنا وأعضائنا البدنية، وحتى صورتنا الخارجية ومظهرنا يؤثر على صورتنا الداخلية وثقتنا في أنفسنا. لذا فالحرص على الاهتمام بالجسد وصحته هو بمثابة اهتمام بالعقل أيضا وينم عن ذاك التوازن في تفكيرنا ونظرتنا للحياة.

اقرأ المزيد