المنشور

“اقرئي يا سنغافورة”


في سعيها إلى تعزيز روح الوحدة الوطنية بين مواطنيها المتحدرين من أعراق مختلفة، ويتكلمون بعدة لغات، أطلقت سنغافورة مرة مبادرة عنوانها: “اقرئي يا سنغافورة”.
 
تم اختيار اثني عشر  كتاباً ليقرأها السنغافوريون على مدى عشرة أسابيع. أعطت هذه المبادرة أُكلها، لأنها أوجدت اثني عشر موضوعاً مشتركاً بين الناس ليتناقشوا حولها.
 
هذا مثل أوردته سيدة بحرينية وهي تقدم، في مؤتمر عن المواطنة وتكافؤ الفرص، ورقةً شيقة استعرضت تجارب دول ناجحة في هذا الموضوع مُظهرة نجاحها في تحقيق الاندماج الوطني لمواطنيها ذوي التنوع الثقافي والإثني.
 
يتكون شعب سنغافورة من خليط قومي متعدد، فهناك نحو 80% من الصينيين  و14% من المالاي و85% من الهنود و1% من الأعراق الأخرى.
 
تغلبت الدولة على صعوبات تأصيل وترسيخ المواطنة عبر وسائل عدة، في مقدمتها بناء الأمة، حيث عملت على تنمية العنصر البشري بالاعتماد على مجموعة من المعايير والقيم.
 
ومن أبرزها اعتماد معيار العدالة القائمة على عنصر الكفاءة والقدرة والفاعلية، تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص والتعيين عبر لجان متخصصة تتميز بالصدق والنزاهة وتخضع للمراقبة والمتابعة الدورية فيتم الإعلان عن الوظائف العامة ليتنافس عليها المؤهلون.
 
وبينها كذلك التضييق على منافذ الفساد الإداري، اعتماد التعليم متعدد اللغات والذي يعد جزءاً من استراتيجية الحكومة في قبولها بالتعددية الثقافية.
 
وعرضت الباحثة كيفية الحصول على الإقامة الدائمة للمستثمرين ورجال الأعمال والعمال المهرة وعدد من يتم تجنيسهم سنوياً.
 
وفي هذا النطاق، فإن هجرة السنغافوريين المتعلمين لا تشكل مشكلة على المدى القصير، لأنه في مقابل كل سنغافوري يغادر البلد يأتي أربعة عشر شخصا ليحلوا محله بصفة دائمة.
 
لكن ما يلفت النظر هو ما أولته سنغافورة من عناية للتعليم والثقافة في تعزيز فكرة المواطنة ومن ذلك ما وضعته الحكومة هناك من خطة للبنية التحتية للمكتبات بغرض تشجيع القراءة بدأتها عام 1992 وانتهت في عام ،2000 قامت بعدها بتأسيس مجموعة كبيرة من المكتبات العامة وتزويدها بأحدث التقنيات.
 
23 فبراير 2009

اقرأ المزيد

تلويحة الوداع الأخير


في مطالع السبعينات الماضية كانت رواية الطيب صالح التي شغلت الناس “موسم الهجرة إلى الشمال” موضوع حديث وتعليقات النقاد العرب والأجانب. 
 
حينها قالت “الاوبزرفر” البريطانية إنها رواية تعالج صراع الحضارات بشكل جيد.
 
حين طالعت هذا التعبير في مقالة مترجمة استوقفتني، لأن الحديث عن صراع الحضارات لم يكن يومها دارجاً كما هي عليه الحال الآن.
 
لكن الطيب صالح نفسه لا يذهب إلى هذا الرأي، ويقول إنه كان واقعاً تحت تأثير فرويد وهو يكتب الرواية. وبالنسبة إلى فرويد فإن الحب هو التعبير التام عن الحرية، وما عدا ذلك من أمور فإنه يدخل في باب الموت. 
 
برأي الطيب صالح أيضاً إن علاقة الكاتب ببلده تقوم على الحب المسرف والضيق المسرف، والضيق سببه الحب، لأن الإنسان يحب المكان والأرض والذكريات والناس، والكاتب بصفته كاتباً يملك رؤية أخرى لهذه الأشياء. 
 
 إنه يرى أن مشاكل الكاتب النفسية مرتبطة بعملية الكتابة فقط، لأنه يغرق في ينبوع داخلي عميق، وهذا الينبوع هو منطقة الفوضى. “الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملاً”، وكلما أوغل الكاتب داخل نفسه بحثاً عن الضوء ازدادت الفوضى.
 
مرة سألت إحدى الصحافيات الطيب صالح عما إذا كان حزيناً، فأجاب بالتالي: “في الداخل، أجل أنا حزين، لكنني لا أدري لماذا؟ كل ما أعرفه أن في داخل النفس بركة واسعة من الأحزان. ومهمتي ككاتب ليست النسيان، بل أن أتذكر، والمشكلة بالنسبة إليّ هي تذكر أشياء نسيتها تماماً، لكن النسيان في الحياة العادية هو مرحلة الألم العظيم”.
 
قال الطيب صالح شيئاً آخر مهماً عن الخوف. برأيه أن الأمل معناه أن العالم المألوف للإنسان على علاته من المحتمل أن يتحول إلى عالمٍ غير مألوف، والخوف سببه الانتقال من المألوف إلى غير المألوف.
 
في حياته أشياء ضاعت يتذكرها، ولحظات وصل فيها إلى قليل من تحقيق اكتمال الذات، لكنها أطياف تمر من حين إلى آخر.
 
لكن هل يشكل الآخرون الجحيم على نحو ما ذهب جان بول سارتر؟
 
يرى الطيب صالح أنه تأتي لحظات يظن فيها الإنسان أن الآخرين هم الجحيم، لكن في لحظات يصبح الجحيم داخلياً في نفس الإنسان.
 
المحب لبلده بإسراف، والذي يضيق منها بإسراف أيضاً لوّح أمس للدنيا بتحية الوداع وهو يغادرها بصمت وجلال.

19 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

مبادرة «التقدمي»


مبادرة المنبر التقدمي التي أعلن عنها منذ أيام قليلة مضت تشكل رؤية عقلانية تعزز أهمية الحوار الوطني بين الدولة والقوى السياسية في البلاد. ولا شك إن هذه المبادرة دعوة مسؤولة لإزالة الاحتقان ونزعات الصدام والعنف أيا كان مصدره ورواسب ما قبل الإصلاح التي هي في الواقع لا تزال تعرقل المشروع الإصلاحي وبناء مستقبل هذه البلاد على أسس وطنية ديمقراطية وفقاً لما جاء به ميثاق العمل الوطني أهم المكتسبات الوطنية في تاريخ البحرين السياسي الحديث.

ولا شك أيضا أن أهم الضمانات لنجاح هذه المبادرة الوطنية التي تتناغم مع جوهر الميثاق الوطني مرجعية أي حوار كما يقول حسن مدن الأمين العام للمنبر التقدمي هو التفاف الدولة والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية المستقلة حول هذه الرؤية العقلانية التي تدعو إلى الثقة المتبادلة والى التزامات على القوى السياسية والدولة.

ولو تأملنا أبعاد هذه المبادرة لتبيّنا بعدين أساسيين الأول كما تنص عليه هذه الدعوة: تكريس أساليب العمل الديمقراطي السلمي ورفض أعمال التخريب والحرق والمساس بالممتلكات العامة والخاصة واحترام النظام السياسي في البلاد واحترام هيبة الدولة ورموزها والبعد عن الإساءة إليها ونبذ كافة الممارسات العنيفة من قبل جميع الأطراف وتوظيف ما تيسره الأدوات القانونية المتاحة في العمل من اجل الإصلاح والبناء الديمقراطي والتصدي للتراجعات السياسية وإرساء مبادئ دولة القانون باعتماد الوسائل الشرعية في العمل السياسي؛ لان هذه الوسائل تحققت نتيجة تضحيات كبيرة قدمتها أجيال من المناضلين لا يجوز التفريط فيها وتقديم الذرائع للتراجع عنها، ووقف خطابات التحريض والتخوين والتشكيك في الولاء الوطني للمواطنين على أساس انتمائهم المذهبي وتجريم كافة أشكال التسعير المذهبي الطائفي من أي جهة كانت ومعاقبة من يروج هذه الخطابات وإغلاق الملفات الأمنية والمطالبة بمزيد من الحريات لترتقي للمعايير الدولية وإطلاق سراح المعتقلين والموقوفين وعلى الجانب الاقتصادي تكريس الشفافية وإيجاد بدائل ناجعة لتنويع قاعدة الاقتصاد الوطني والتعاطي بمسؤولية وطنية تجاه الأزمة المالية العالمية التي بدأت مؤشراتها واضحة على صعيد التسريحات العمالية وأمام التحديات الداخلية لا بد من خلق المزيد من فرص العمل وتشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية في ظل بيئة اقتصادية استثمارية جاذبة تدعمها الحوافز وتتقلص معها مؤشرات الفساد الإداري والمالي ودعم مشاريع التنمية التي تحتاج إلى موازنة طموحة لمعالجة مجمل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.



أما البعد الثاني
فيتمثل في مطالبة القوى الخيرة العاقلة الحريصة على مستقبل الوطن أن تتحرك لوقف مخاطر الفتنة الطائفية والمذهبية التي تجد تجلياتها في المنابر الدينية وأجهزة الإعلام وفي بيانات يجري الترويج لها وفي خطب وانفلات الطارئين على السياسة الذين يبحثون على المسرح السياسي عن بطولات سياسية تعكس أهداف ومصالح قوى الظلام وفي هذا الإطار تدعو المبادرة إلى رص صفوف التيار الديمقراطي لكونه الإطار الوحيد في المجتمع الذي يتخطى الانقسامات المذهبية وعلى عاتق هذا التيار يقع اليوم عبء تقديم البرنامج الوطني الديمقراطي الجامع لكل مكونات المجتمع كبديل لكافة أشكال التفتيت الطائفي والاستقطاب المذهبي وفضلا عن هذا ساندت المبادرة قانون أحكام الأسرة الذي يخضع ألان لمناورات سياسية بين الدولة وبين كتل الإسلام السياسي في مجلس النواب والمجتمع ويخضع أيضا لشروط المرجعيات الدينية التي هي في الواقع لا تستجيب لحقوق المرأة وفقا للدستور والشريعة الإسلامية. خلاصة الأمر إن هذه المبادرة العقلانية النقدية التي تتجه برؤيتها الوطنية الشاملة إلى إطلاق الحوار الوطني المسؤول لحلحة الملفات العالقة مبادرة تهدف وبفعالية إلى وطن تسوده الانجازات والتحولات والاستقرار والأمن.. وطن مرتكزاته الأساسية ميثاق العمل الوطني في ظل المشروع الإصلاحي الذي قاده عاهل البلاد وبالتالي فالاستجابة لها من قبل جميع الأطراف بما فيها الحكومة حاجة ضرورية للخروج من الأزمة السياسية .. فهل تستجيب هذه الأطراف هذا ما نأمله.
 
الأيام 28 فبراير 2009

اقرأ المزيد

الحياة تعطي برهانها


جرت العادة أن الجيل الأكبر ينظر إلى الجيل, أو الأجيال التي تليه على انها أقل شأنًا منه. وغالبًا ما يقول الكبار موجهين الحديث لمن هم اصغر سنًا: ” كنا أكثر جدية منكم وأكثر مثابرة, ولو توفرت لنا الفرص المتاحة لكم اليم لكنا.. وكنا…” الخ. والحق أن هذه الروح الأبوية تبدو لازمة لدى الأجيال الأسبق عادة, لأننا في صغرنا سمعنا كلامًا مشابهًا من آبائنا. لكن الحياة تقدم برهانها إن الأجيال الجديدة, كقاعدة, هي أجيال أكثر ذكاءً وأكثر معرفةً, وان ما توفر لها من ظروف تنشئة أفضل يجعلها, في الإجمال, أكثر قابلية للتعاطي مع مسائل الحياة فيما لو قُورن الأمر بقدرة الجيل, أو الأجيال الأسبق. إننا لا نتذكر كل تفاصيل طفولتنا, ولكننا بالتأكيد قادرون على ملاحظة أن أبناءنا اليوم هم أفضل منا يوم كنا صغارًا في أمور كثيرة. وما زلت اذكر رسالة من قارئة شابة, طالبة في الجامعة, تحدثت فيها عن ذات المقارنة, ولكن في اتجاه معاكس تمامًا, فهي رأت أن الجيل الجديد من الشباب والشابات ينشأ في فترة انعدام المثال أو الفكرة التي يتبناها. وهي أكثر من ذلك تغبط جيلنا؛ لأنه كان برأيها أكثر تألقًا وانسجامًا مع ذاته, وان الفترة التي عاشها مأخوذًا بهدف تثير لدى الجيل الجديد نزوعًا من حنين, لأن هذا الجيل, جيلها, أفاق على الهزائم والخيبات والانكسارات, لذا فانه يعاني من التمزقات والاحباطات. وربما وجب التدقيق بالقول إن الجيل الأسبق بدوره لم يعش فترة انتصارات باهرة, ولكن الفارق الجوهري أن الجيل الجديد أبصر الدنيا وقد أصبحت الهزائم مشروعًا مُنجزاً, انه بتعبير آخر تجرع نتائجها المرة, فيما كان الجيل الأسبق شاهدًا على الحدث نفسه قبل أن يتحول إلى نتائج وتداعيات. رسالة هذه الطالبة نموذج أو عينة بين نماذج وعينات أخرى كثيرة تدل على أن الجيل الجديد, على خلاف الفكرة الشائعة عنه, هو الآخر جيل مسكون بالقلق وبالبحث عن مثال ومنظومة قيم, ومعني أن يجعل لحياته هدفًا ورؤية, وفي كل الأحوال فان الرهان أو التعويل هنا إنما يدور عن شريحة أكثر حساسية تجاه الجديد وتجاه القضايا العامة, وان كل الخراب الذي عشناه ونعيشه لم يفلح في إطفاء جذوة الوعي, لأن هذا الخراب ذاته فيه من العناصر ما هو كاف لإيقاد هذه الجذوة حتى إن أوشكت على الانطفاء. هذا الجيل بحاجة لمن يأخذ بيده, لمن يرهف السمع لقلقه وهواجسه وطموحاته, أن يرى فيه المستقبل الذي, مهما غالبنا السواد, نطمح في أن يكون نيرًا ومضيئًا. يحضرني هنا ما كتبه مبدع من زماننا هو الراحل الكبير سعد الله ونوس في إهداء أعماله الكاملة إلى ابنته « ديمه», ومن خلالها إلى جيلها والأجيال التي تليها, حين تمنى أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقهم أقوى من الهزيمة, ومن يدري, فقد يجدون الجملة السحرية التي يغدو بها الزمن جميلا والوطن مزدهراً .
 
الأيام 28 فبراير 2009

اقرأ المزيد

اختراقات شرق أوسطية جديدة للدولة الدينية


في باكستان الحكومة تعلن عن إبرامها اتفاق مع الزعماء القبليين لحركة طالبان الباكستانية الموالية لتنظيم القاعدة يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في وادي سوات بشمال غرب باكستان مقابل توقف الحركة عن مهاجمة القوات الحكومية الباكستانية.

وفي الصومال البلد العربي العضو في الجامعة العربية الذي انهارت فيه الدولة كمؤسسة بفعل الحرب الأهلية المستمرة منذ ثمانية عشر عاماً، حث أبويحيى الليبي القيادي البارز في تنظيم القاعدة في شريط فيديو بثه موقع إسلامي على شبكة الانترنت يوم الثالث عشر من فبراير الجاري، ميليشيات تنظيم الشباب المحسوبة على تنظيم القاعدة، على تكثيف هجماتها ضد الحكومة الجديدة برئاسة عمر عبدالرشيد علي شارماركي وضد رئيس الصومال الجديد شيخ شريف أحمد .. مناشداً تلك المليشيات بأن تصوب سهامها إلى نحريهما وأن تشد حملاتها عليهما. وذلك على الرغم من أن شيخ شريف أحمد هو شخصية سياسية صومالية محسوبة على الجماعات الإسلامية، وكان حتى وقت قريب يرأس المحاكم الإسلامية التي استولت على الصومال قبل إسقاطها على يد القوات الأثيوبية الغازية، إلا أن منظمة الشباب الأصولية المتطرفة التي باتت تسيطر الآن على بعض المناطق في الصومال وتمارس فيها تطبيقات الحكم الطالباني في المناطق الأفغانية الواقعة تحت سيطرة حركة طالبان – لم تعد تعتبر شيخ شريف أحمد مسلماً بعد أن أدرجته في قائمة المعادين للإسلام.

وينقل بعض المصادر أن الجماعات الأصولية المحسوبة على تنظيم القاعدة قد انتقلت لبسط سيطرتها على المجتمع في إحدى المدن العربية، من خلال القيام بفرض أجنداتها وقوانينها وإجراءاتها المحاكية لما كان سائداً في إمارة أفغانستان قبل سقوطها في .2002
ومن اليمن، حيث أُعلن عن توحيد فرعي اليمن والسعودية لتنظيم القاعدة تحت مسمى تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، تتوارد الأنباء عن نشاط محموم لخلايا التنظيم الجديد لتحويل اليمن إلى ملاذ آمن لتنظيم القاعدة بعد الضربات والخسائر الكبيرة التي مُني بها التنظيم في العراق، وذلك بهدف تحويل اليمن إلى قاعدة انطلاق لسلسلة عمليات إرهابية يخطط التنظيم لتنفيذها على أمل إعادة إشعال جذوة ‘الجهاد’ وثقافة الموت والقتل والتدمير، التي يبدو أنها فترت وخبا وهجها لدى المغرر بهم من الشباب الفقير نقي الإيمان.

بل إن المراقب حيثما ولى وجهه وبصره على امتداد الساحات العربية سيجد أن رموز وقسمات الدولة الدينية شاخصة أمامه متخذة أشكالاً بارزة لا تخطئها العين.

يحدث هذا ليس في غفلة من الزمن وإنما في خضم حالة الارتباك النهضوي التي تميز عملية الحراك التنموي والمجتمعي، والتي تتناهبها عديد التيارات والاتجاهات والنزعات أبرزها نزعتا التمدين والتديين اللتان تتجاذبانها بصورة مختلفة كمشروعين متقابلين يمثلان رؤيتين متضادتين للتنمية الشاملة والإدارة المجتمعية الكلية، يحاول، ويعمل، كل فريق منهما إنفاذهما على الأرض بدرجات متباينة من الحدة والقسرية وربما الفجاجة الظاهرة أحياناً.

وليس عسيراً على المراقب الوافد من خارج المنطقة ملاحظة التجسيدات الحية لهذين الشكلين من أنماط الحياة في صورتهما المتضادة الصارخة، الأول في صورة التطور الطبيعي للدولة والمجتمع بدفع من قيامهما بوظائفهما المعتادة المشرعنة والممنهجة وفقاً لتشريعات وقواعد ونظم إجرائية وآليات تنفيذية .. وفي صورة تواصل، طبيعي أيضاً، مع العالم الخارجي، إنتاجاً واستهلاكاً وتصديراً وتوريداً، بما تمليه عليهما عضويتهما في النادي العالمي الكبير ومؤسساته المتشعبة والمتعددة الأطراف، وبما ينطوي عليه هذا التواصل من تلاقحات حضارية وثقافية بالغة الأثر…

وفي الشكل الثاني سيجد ‘معالم’ (Landmarks) للدولة الدينية هنا وهناك، وممارسات وطقوس يجري العمل بها وتكريسها ضمن نطاقات نفوذ مجتمعي مفتوحة برسم نمط الحياة العصرية المنفتح الذي هو بالضرورة من نتاجات ومخاضات التطور الطبيعي إياه للدولة العربية الحديثة وعملية إعادة الإنتاج اليومية لمجتمع هذه الدولة بكليته.

إنما الفارق بين نمطي الحياة سالفي الذكر هو أن عملية تشكيل وإشادة الثاني تجري بصورة فظة وبتدخلات قسرية من جانب القوى المندفعة بحماس متعجل واستعجال مشوب بتوتر ونرفزة يؤشران إلى حجم الغلو والتشدد الذي يغلف اندفاعات دهاقنة مشروع الدولة الدينية لفرض مرتكزاته ومقوماته كأمر واقع على المجتمعات العربية.

إنها موجة عاتية لا تتناسب بالمطلق ولا تتناغم البتة مع حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتكنولوجية التي شهدتها البلاد العربية على مدى العقود الخمسة الأخيرة وذلك برغم كل التحفظات الممكن تسجيلها عليها.

هي موجة تحاول اقتلاع الدولة المدنية العربية، غير الراسخة بعد، من جذورها بهدف الحلول محلها واستبدال وظائفها شكلاً ومضموناً. وهي بهذا المعنى تُذَكِّر بما كانت تعرضت له بلدان المركز الرأسمالي في أوروبا الغربية عندما تجاذبها نمط الإنتاج الإقطاعي الآفل ونمط الإنتاج الرأسمالي المستجد والصاعد بقوة آنئذ حين كانت الكنيسة تتقاسم مصادر السطوة والنفوذ على مجتمعاتها مع أنظمة الحكم السائدة وتلك الحداثية الآخذة في شق طريقها لرفد التحولات الرأسمالية النوعية التي شهدتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وكان لابد في نهاية المطاف لقوة الاقتصاد والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية التي أنشأها وأشاعها ورسخها عمودياً وأفقياً في مختلف بنى ومناحي المجتمعات الأوروبية الناهضة، من أن تبسط سيادتها وأن تصوغ نمط الحياة الأوروبية المعاصرة التي نعرفها اليوم بتراكماتها الثرية والعامرة بالدروس والعبر.

ولكن.. على المجتمعات العربية، حكاماً ومحكومين، وهم يتعاطون، بصورة أو بأخرى، ويتعايشون مع هذه الثنائية المتضادة، أن يدركوا أن باكستان لم تكن دولة دينية حين استقلت في عام ,1947 فالذين تصدوا لعملية تنميتها الشاملة من أمثال محمد علي جناح وعميد الرأسمالية الوطنية الباكستانية مؤسس حبيب بنك وغيرهما، كانوا من رواد النهضة والحداثة. ولم تتخلف باكستان علمياً وتكنولوجيا عن جارتها الهند إلا بعدما انقلب العسكر بقيادة ضياء الحق على الحكم المدني برئاسة ذي الفقار علي بوتو في عام .1979 يومها لم يُقسم ضياء الحق على دستور البلاد، معتبراً أن باكستان منذ تلك اللحظة ستتحول إلى دولة دينية قوامها الجماعات والطوائف والقبائل وأصحاب النفوذ في المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية التي أقحمت الدين في كافة مناحي الحياة الباكستان خدمة لمصالحها الذاتية.
 
الوطن 28 فبراير 2009

اقرأ المزيد

زحزحة الطائفيين


خلال العشرين سنة الأخيرة تمكن الطائفيون من تقسيم الناس وتفتيت صفوفهم، والمهمة السياسية الرئيسية لنا هي زحزحتهم عن مواقعهم الراهنة من أجل هزيمتهم في خاتمة المطاف. يتحرك المذهبيون السياسيون لدعم مصالح الاستغلاليين، وهم يسعون إلى أن يكونوا جزءاً منها عبر التسلق على قضايا الناس والادعاء بتمثيل الفقراء والعمال. وفي الغفلة عن أهدافهم العميقة البعيدة تمكنوا من التغلغل في مؤسسات سياسية كثيرة، وتوجهوا للأجيال الجديدة وجرها لمواقعهم وهذا يعني مزيداً من تأزيم البلد وعدم حل مشاكله والمتاجرة في آلامه. علاقة هؤلاء بنضالية الإسلام واهية، فقد كرسوا الشعارات المحافظة المعادية للنساء والعمال والمهاجرين، لكنهم لا يظهرون ذلك مباشرة. إن من يعادي أغلبية الشعب ثم يقوم بتمثيله سياسيا هو الشكل المخادع للتستر بشعارات الإسلام، ثم اقتطاع جوانب منها لاستبعاد النساء وجعل العمال مهمشين، فهم يخافون من النضال الجماهيري ووحدة الشغيلة وصعود النساء في حركة مطلبية نضالية، تزحزحهم عن كراسي الادعاء بتمثيل الجمهور. إذا كانوا لا يمثلون العمال ولا النساء ولا المعدمين فمن يمثلون؟ إنهم استغلاليون جدد يصعدون فوق مقاعد الانتخابات والنقابات من أجل إبقاء شبكات الاستغلال وانتمائهم إليها. ليس من سبيل لإعادة وحدة الناس سوى زحزحة المقسمين لهم عن مواقعهم وكشف الفاتورة الثقيلة التي لم يدفعوها، وتقديم مرشحين وقوائم وتعريتهم نقديا أمام الجمهور. لا يستطيع المحافظون الطائفيون سوى دعم جوانب التخلف في الحياة فكل تطور عقلاني، وكل نمو ديمقراطي، وكل صعود للنساء والعمال، يقلص من السيطرة الاستغلالية المموهة بكلمات الدين تلك والدين النضالي براء منها. لماذا يستطيع صيادون وسماكون بسطاء فقراء أن يقوموا بحركة مطلبية كبيرة يحققون فيها أهدافهم وبشكل سلمي وطني، في حين لا يستطيع غيرهم وقد امتلك الجماهير أن يفعل شيئاً سوى المزيد من تمزيق الشعب؟ إنهم ببساطة يخافون الجمهور، ولا يريدون تطور مبادراته وتوحيد صفوفه. يريدون أن تظل هذه الصفوف ممزقة. إن التناقض الجذري بين الطائفيين كمعبرين عن الأقلية في المجتمع وبين المظهر البرلماني الزائف باعتبارهم يمثلون الأغلبية، هذا التناقض سببه التباس الوعي عند الجماهير بأن هؤلاء يمثلونهم، لكن هؤلاء لا يمثلونهم، ولا يعبرون عن مصالحهم، وكلما تقدم الزمن اكتشفوا أكثر وأكثر الجذور الطبقية الإقطاعية وشبه الرأسمالية لهؤلاء، وهي المتجسدة في شعارات دينية طائفية، انسلخت عن المضمون التوحيدي الثوري للإسلام.
إذا لم تكن الهزيمة السياسية ممكنة فإن الثقافة التوحيدية الوطنية يجب أن تتسلح بكل عدتها القوية للوصول إلى العمال والنساء والجمهور عموماً، وأن يكون للمثقفِين دراية بالديمقراطية والإسلام معاً، من أجل إظهار كيف ان الممثلين الدينيين لا يمثلون سوى أقلية، وهم بطريقهم للالتحام بالطبقة الغنية والفراق الكامل عن الفقراء، لكن يغذونها بأفكار محافظة وغير ديمقراطية، ويوسعون الهوة بين الناس مذهبيا. ولهذا تحدث الانشقاقات فالمضمون الثوري المزعوم للطائفية يتكشف، وبدلاً من أن يطور الطائفيون وحدة المسلمين والمواطنين والناس عموماً، من أجل تغيير ظروفهم السيئة، يعجزون عن تحريك أي شيء في الواقع، لأنهم ببساطة ابتعدوا عن العمال والفقراء والنساء، الذين هم يمتلكون وحدهم قوة الوحدة الشعبية. فيعتقد الطائفيون المنشقون ان المزيد من الكلمات الثورية الفارغة، سوف توجد ذلك المضمون الضائع من أيدي الطائفيين لكنهم لا يعرفون أنهم طائفيون محافظون ولا يدرون أن ذلك هو سبب العلة فلا يفيد الانشقاق في الفراغ السياسي. إن عملاً (بسيطاً) كالذي قام به عمالُ ألبا والسماكة غيّر أوضاع فئات من الجمهور، من دون متفجرات أو انشقاقات. ها هي قد مضت أكثر من عشر سنين وهم يجعجعون بهذه الكلمات من دون أن يتغير في الواقع شيء، بل ازداد الواقع اضطراباً ومعارك جانبية. حين يقرأون الإسلامَ بموضوعية (وكيف يحدث ذلك وهم ناقعون في الطائفية؟) ويعرفون تاريخ بلدهم من خلال نظارات مصنوعة في المنامة وبعرق الكادحين البحرينيين، سوف يفهمون وينضمون للصفوف وقد خلعوا أرديتهم المستوردة من الخارج، وهذا لن يحدث بقوة إلا حين تسقط مراكز الخارج التي تضطرب بالحركة الاجتماعية التي سوف تتغير كما تغيرت عواصم الاستبداد الشرقية المختلفة وانهارت على رؤوس أصحابها وذيولها الممتدة عبر الخرائط والجغرافيا والدول. إنهم يعرقلون الحركة الاجتماعية، إنهم يجمدون الحريات الضئيلة، إنهم لا يعرفون الوحدة والجذور. ومشاكل الناس لا تتوقف والحياة الاقتصادية تزداد تعقيداً وتركيبا، وظروف الأزمة العالمية تنعكس بقوة على المعاشات والبطالة والتسريحات. هذا يتطلب مثقفين سياسيين يشرحون للناس ذلك ويكونون معهم لتغيير أوضاعهم، فلابد لنا من أن نعيد وهج البلد الواحد، النامي، المستقر، المناضل، ونطوي صفحة الطائفيين هؤلاء بكل صواريخهم النارية و«جراخياتهم« ومحافظتهم وتشتيتهم للأصوات وعدم معرفتهم بالإسلام والديمقراطية والحداثة. هذا يعتمد على خطاب وطني ديمقراطي جريء يضع النقاط على الحروف ويصعد مرشحين ونقابيين وطنيين فاعلين لتغيير أوضاع الجمهور الاقتصادية والسياسية بشكل متنام صبور يكرس الوحدة الشعبية بين العمال والنساء والتجار.

أخبار الخليج 28 فبراير 2009

اقرأ المزيد

التخطيط وتجلياته..!


ليس هناك مجال للتوقف عند الجدال الذي تناول الدوافع الحقيقية لقطع الحكومة الطريق أمام المطالبات النيابية بتشكيل هيئة عليا للتخطيط.
إنما أول ما يلاحظ بأن السلطة التنفيذية بغض النظر عن الاعتبارات التي ساقتها لتبرير رفضها لمشروع الهيئة ، نراها بأنها تريد أن تبقى على مسافة بعيدة من هذا المشروع، بل وجدنا في ضوء المحاججات القانونية والدستورية بينها وبين مجلس النواب، أنها ذهبت إلى أبعد مدى حينما اعتبرت مشروع إنشاء هيئة عليا للتخطيط  فيه من الشبهة الدستورية ما يحول دون تبنيه وقيامه، في الوقت الذي كان من المتوقع أن ينظر إلى هذا المشروع باعتباره شأناً حيوياً يعّول عليه في تطوير مسيرة الإدارة والدولة والمجتمع.

التخطيط يعني التنظيم وهو عكس الارتجال، وهناك من يجده سمة من سمات الدول المتطورة، وأنه من الصعب الرهان على نهوض المجتمعات في غياب التخطيط الذي يعي الحاضر ويحمل رؤية وإعداد وترتيب وتدبير المستقبل في المجالات التنموية والاجتماعية، وإدارة موارد الدولة والسياسات الاقتصادية، كما إن هناك من يرى بأن استمرار أسلوب التجربة والخطأ في عمل كثير من الأجهزة الرسمية، أو استمرار الاجتهادات التي مكانها الممارسات الإدارية التي تحتملها وتضعها ضمن حدود معينة، والتي من الخطأ في التحليل أن يغض النظر عنها لاسيما تلك التي تتسبب في هدر مالي، أو فساد إداري أو مالي أو إلى حسابات خاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة ، هذا الأسلوب ما عاد مقبولاً ولا مجدياً ولا يعزز من القدرة على التعاطي مع تغير الوقائع بمعدلات بدرجة عالية من التعقيد ويصعب ملاحقتها بنجاح إلا لمن يحسن في قراءتها ودراستها والتخطيط المدروس لها.

من تلك الزاوية، وبالنظر إلى الاعتبارات والتجليات التي أثيرت حيال الموقف الرافض لإنشاء هيئة عليا للتخطيط، نجد أن حلبة المحاججات القانونية والدستورية المثارة حول هذا الموضوع، وتباين الرؤى والمواقف حول مشروع إنشاء الهيئة الذي يجب إحقاقا للحق أن لا نغفل أنه كان مقدماً في الفصل التشريعي الأول وبالتحديد من بعض نواب ذلك الفصل «عبدالهادي مرهون، عبدالنبي سلمان، يوسف زينل ، جاسم عبدالعال، ود. ابراهيم العبدالله» وقدموه مقروناً بحيثيات تؤكد على «الأهمية القصوى لإيجاد هيئة عليا للتخطيط تبتعد عن البيروقراطية والمركزية في القرارات التي تخص العمل التنموي والاقتصادي ، وتبحث في وضع رؤى مستقبـلية بشـأن ما نريده لهذا البلد وأجياله المقبلة..».

حلبة المحاحجات القانونية والدستورية المثارة وتباين الرؤى والمواقف حول إنشاء هيئة عليا للتخطيط، لعلها تؤدي في نهاية الأمر إلى الاقتناع بالتخطيط وبأهمية إنشاء جهة مختصة بالتخطيط، واذا كانت التجليات الأخيرة لمجلس التنمية الاقتصادية ووضعه للرؤية والاستراتيجية الاقتصادية للبحرين التي تمتد حتى 2030 وإقرار الحكومة لهذه الرؤية والاستراتيجية هي خطوة قد تفسر بأن هناك من بات مقتنعاً بالتخطيط ، إلا أنه – وهذه مسألة علينا أن نوليها ما تستحقه من اهتمام واعتبار – قد يكون علينا أن نعتبر أن مجلس التنمية الاقتصادية هو الجهة المختصة بالتخطيط في البلاد، بكل المهام والمسؤوليات والإمكانيات والاختصاصات والصلاحيات ذات الصلة بالتخطيط، واذا كان ذلك صحيحاً، فلابد أن يكون الأمر جلياً للجميع من دون أي لبس أو تأويل بما يترتب على ذلك من التزامات ومسؤوليات، وبصرف النظر عما اذا كان المسمى مجلساً أو هيئة، أو وزارة، فكل ذلك لا يهم، لأن العبرة في المضمون والنتائج لا في التسميات.
هذا أولاً.



وثانياً..
اذا كان الاعتراض على إنشاء هيئة عليا للتخطيط جاء من باب أنه يشكل ترتيباً جديداً للإدارات والمصالح العامة للدولة، وتداخلاً في الاختصاصات المخولة لجلالة الملك وفق المنظور الحكومي، فإن ذلك أمراً يمكن معالجته والتغلب عليه فقط إذا كانت هناك قناعة بالتخطيط، وإذا كانت هناك إرادة بإنشاء الهيئة، وقبل ذلك إذا كان هناك فهم للتخطيط بأنه ليس انتقاصاً أو تعدياًٍ على صلاحيات أي من الجهات.



وثالثاً وأخيراً.

 إذا كان هناك من يتمسك بذريعة ترى في أن هناك من الأجهزة والدوائر الرسمية ما يكفي ويغني عن إنشاء هيئة أو جهاز رسمي يختص بالتخطيط، أو يتذرع بموجبات التقنين وترشيد النفقات والوضع العام الراهن برمته ويراه بأنه لا يعطي إنشاء هذه الهيئة أولوية ولا أهمية، في الوقت الذي نتابع فيه قرارات وتوجهات عن إنشاء هيئات ومجالس ومراكز رسمية لعل آخرها إنشاء مجلس للموارد المائية، ونغفل عمداً فكرة إنشاء هيئة لا يغيبن عن بال الجميع أهميتها ودورها ومدى الحاجة إليها، فهذه قضية على المعنيين بالأمر أن يعيدوا النظر فيها.
 
الأيام 27 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

مبادرة المنبر التقدمي وتدوينها في صفحات التاريخ


مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي من أجل حلحلة الأوضاع السياسية ومكافحة الشرذمة والتشظي والخصومة والانقسامات، بحسب ما تعالج الملفات الساخنة.. هي مبادرة وطنية لها المكانة الكبيرة في قلوب وعقول الشعب البحريني.. بقدر ما تظل مبادرة تاريخية ستبقى مدونة في صفحات التاريخ الوثائقية، لما حملت في ماهيتها أهدافا وطنية ومبدئية، ومثلا وقيما أخلاقية، مفصلية بانعطافاتها التاريخية، لتهيئة الأجواء العامة والظروف الموضوعية والذاتية، ما بين مؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها السلطة التشريعية من جهة.. وما بين السلطة التنفيذية والمعارضة السياسية من جهة أخرى.

ولعل تأكيد الأمين العام للمنبر التقدمي (د. حسن مدن) تشكيل لجنة مصغرة تضم الوطنيين الأكفاء والمخلصين من أجل تفعيل مبادرة المنبر التقدمي في تفعيل اللقاءات وتحريك الحوارات، وتنشيط التفاهمات، هو تصميم المنبر على عقد العزم على مواصلة الشروع الحثيث بهذا المشروع الوطني الرائد والمهم.

وتأتي المواقف الداعمة للجمعيات السياسية المستنيرة، والشخصيات والرموز الوطنية لمبادرة المنبر الوطنية.. لتعزز هذه المبادرة في أرضية الواقع المجتمعي الملموس، وعلى رأس هذه الشخصيات، رئيس تحرير صحيفة الوسط الدكتور منصور الجمري، الذي استرسل قائلا: “نحن نسجل احترامنا وتقديرنا لجمعية المنبر التقدمي إذ عبرت بروح وطنية عن هذه المبادرة، وتقديرا من الوسط لهذه العقلانية في الطرح من قبل الجمعية، ارتأينا التعامل والتحدث بهدوء بشأن الآلية التي يمكن إنشاؤها لمناصرة هذه المبادرة”.

ويبقى القول صحيحا في هذا الإطار، هو حينما جاءت مبادرة “هيئة الاتحاد الوطني” في عقد الخمسينيات مفخرة للشعب البحريني، من أجل الوحدة الوطنية ومكافحة ودحر الطائفية.. فإن مبادرة المنبر التقدمي قد تجاوزت مغازي مبادرة هيئة الاتحاد الوطني، لكونها أكثر نضجا سياسيا، وأعمق تطورا اجتماعيا، وأرسخ فكرا أيديولوجيا، وأشمل أبعادا تاريخيا.. ذلك فيما يتعلق برص صفوف الشعب وتماسك لحمته بوحدته الوطنية، لتمتد أهداف هذه المبادرة فتشمل تكوين مؤسسات المجتمع المدني وبناء الدولة الحديثة.. وطالما مبادرة المنبر التقدمي قد جسدت المسئولية الوطنية الكبرى المركبة والمضاعفة التي تحمل بين ثناياها وجوهرها مشروع المصالحة، ومفاهيم اللقاء، وآلية الحوار، وتداعيات الاختلاف، ومعايير التفاهمات ما بين السلطة التنفيذية والمعارضة السياسية، وما بين الدولة والشعب، مقرونة تلك المصالحة الوطنية بتقبل كلمة النقد الايجابية والبناءة، ومرهونة بمفاهيم التسامح ومبدأ الثقة، ومفاهيم احترام الرأي الآخر، بروح معنوية عالية وبشعور من المسئولية التاريخية في الاعتراف بمواطن الخلل والخطأ، ومواطن الثغرات والنواقص، حقائق وتداعيات جميعها تعلن على طاولة المفاوضات والحوارات من قبل مختلف الفرقاء: الجهات الرسمية والجهات الشعبية بأفكار حضارية تكمل أفكار الطرف الآخر، وآراء ديمقراطية داعمة لآراء الطرف الآخر.. بخطاب سياسي عقلاني يسد الفجوة ما بين البنى التحتية والبنى الفوقية، تنصهر مفاهيمه في بوتقة الرأيين الشعبي والرسمي، وفي قالب مطالب وأهداف الشعب.

ليس هذا فحسب ولكن من أجل القضاء على تخلف المراوحة والجمود والتراجعات والتقهقر للوراء، ووقف تداعيات العنف والعنف المضاد، ومحاربة النعرات الطائفية والمذهبية، ومكافحة الفساد ومظاهر الواسطة والمحسوبية والانتهازية والتسلقية والوصولية.. وتحريك المياه الراكدة من أجل حلحلة الأوضاع السياسية خطوة نحو الأمام.. بقدر النهوض بالتجربة الديمقراطية برفع أسقفها وتوسيع مساحاتها، بما يتماشى ومطالب وأحلام الشعب البحريني، وبما ينسجم وتضحيات المعارضة الوطنية طوال عقود من الزمان.. وبحسب ما تهدف مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي إلى حلحلة الملفات الساخنة والرازحة في أدراج الحكومة من جهة وأدراج البرلمان من جهة أخرى، الذي هو الآخر يئن بدوره من مظاهر الجمود والمراوحة والاصطفافات الطائفية بخطاب نواب تيار الإسلام السياسي، ليظل في حاجة إلى رجة قوية وصدمات كهربائية شديدة تؤدي إلى تغيير تركيبته وتشكيلته نحو الأفضل خلال الانتخابات البرلمانية القادمة.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فان السلطة التنفيذية مطالبة بإعادة النظر في القوانين الأمنية بمراجعتها وتعديلها نحو الدمقرطة والتحديث، وفي مقدمتها قانون التجمعات وقانون الصحافة وقانون الجمعيات السياسية، والمقيدة للحريات العامة والكلمة والتعبير والفكر والقلم.. ناهيك عن نواقص قانون العمل والإشكالات الدستورية.

وبهذا الصدد ومن هذا المنطلق فإننا نستشهد بالمقولة الشهيرة “لا أمن من دون ديمقراطية حقيقية، ولا ديمقراطية حقيقية من دون تنمية شاملة ومستدامة”.. ومثلما تظل السلطة التنفيذية مطالبة بتوفير الأجواء الملائمة بنزع فتيل المصادمات والمواجهات في الشارع البحريني وعلى أرضية الواقع المجتمعي الملموس.. فان قوى تيار الإسلام السياسي تظل هي الأخرى مطالبة بتهيئة المناخ الاجتماعي بعدم حفز العاطفة على حساب تغييب العقل وبعدم رجوعها إلى المرجعية الدينية في كل كبيرة وصغيرة وفي كل النشاطات والفعاليات السياسية.. ومطالبة بخروجها أيضا من شرنقة اصطفافات الانتماء ذي الطائفة الواحدة، وكذلك الاصطفافات الطائفية والمذهبية، كما هو حاصل تحت قبة البرلمان أو خارجه بشكل عام.
لعل ما يبعث على الفخر قولا في نهاية المطاف أن مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي الوطنية والتاريخية استوجب تفعيل مغازيها ودلالاتها ومن ثم إدخالها إلى حيز التنفيذ والتطبيق وفي دائرة الضوء.. وذلك في ضوء تكوين قنوات الحوار وبناء جسور التفاهمات على مناضد اللقاءات المشتركة والمناقشات المتفاعلة حسبما أسلفنا القول ما بين(السلطة التنفيذية والمعارضة السياسية) ممثلة في مؤسسات المجتمع المدني، من دون سياسة التجاهل والتهميش، أو سياسة الإقصاء والتصعيد وسياسة تهميش الحقوق ومصادرة الحريات العامة.
 
أخبار الخليج 27 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

سراب الديمقراطيات العربية


قامت بعضُ الدول العربية بتقليد الديمقراطيات الغربية العريقة التي جاوزت في نموها السياسي عدة قرون، معتمدة على إرثها الطائفي وحياتها الاجتماعية المحافظة، وكأن الديمقراطية مجرد صندوق انتخاب ومناطق تصويت.
كان سحب مثل ذلك التاريخ العريق يتجاهل حقائق كبرى تشكلت عبر تطور اقتصادي موضوعي، وأهمه نشوء برجوازيات صناعية تحديثية علمانية حرة استطاعت أن تحقق الوحدات الوطنية عبر فكرها الديمقراطي، وألغت الإقطاعيات المفككة للخرائط القومية، وعبر تشغيل الطبقات العاملة في مصانعها ومؤسساتها الاقتصادية، بغض النظر عن كم الاستغلال والتعبيرات المطاطة لديها عن تـمثل الشعب ككل، والتعبير عن حقوقه الأبدية!
لم يسمح أي نظام عربي بظهور وتوسع مثل هذه البرجوازية الوطنية العلمانية، التي تستطيع بحكم غناها وتنورها أن تقوم بقطيعة مع الإقطاعين السياسي والديني، اللذين يمثلان العقبة الرئيسية لتوحد وتطور أي بلد عربي.
فكان من أثر هذه )الديمقراطيات) العربية تقوية الإقطاعين السابقي الذكر، ليعملا في أي بلد تمزيقاً وتحطيماً وإرجاعاً للخلف.
في بعض البلدان عملا لهدم الوحدة الكيانية للبلد، فهذا قطاع وذاك قطاع آخر، وكلٌ واحد منهما محكوم بقانون وقطاع يتوجه للحرب والمغامرات العسكرية الكارثية وقطاع لا يملك حتى دفع أجور موظفيه.
السماح لهذه القوى بنشر دعاياتها المسمومة وتمزيق وحدة المؤمنين، ثم باستيلائها على مؤسسات عسكرية وقوى عسكرية وتفكيك الأقاليم، أدى إلى حدوث انقلابات دموية.
السلطات الحاكمة بالسماح لهذه المعارضات بالنشوء والتوسع كانت تداري مشكلات عميقة داخلها، خاصة تجذر الفساد، وحدوث القلاقل بين الأوساط الشعبية الجاهلة المدفوعة بقيادات إقطاعية هي شر عليها أكثر من الأنظمة، وبسبب الأزمات الاقتصادية، أو تقاسم النفوذ في الحكم وتقاسم الثروات.
وبدلاً من تبصر المخرج الحقيقي في عدم التلاعب بالأديان لمصالح ضيقة، وإبعاد الأوطان عن تملك الأحزاب والأسر والجماعات، وتحويلها لأجهزة مستقلة يديرها من يفوز بانتخابات حرة، بدلاً من ذلك شرعت في مفاوضة القوى الطائفية على تقاسم النفوذ والمصالح، مما عمق الأزمة بدلاً من أن يزيلها.
كانت الديمقراطية تحتاج إلى عدة عقود من نشر ثقافة ديمقراطية علمانية، ومن تحقيق إصلاح زراعي يوزع الأرض على الفلاحين، ومن علاجات عميقة للاستبداد بالنساء، ومن تغيير للتعليم العام الديني المحافظ الممزق لوحدة الدول.
وجاءت (الديمقراطيات)على أنقاض الدول الوطنية العسكرية التي سحقت التنوير والقوى الديمقراطية الجنينية في المجتمعات العربية، فأُضيفت الكوارث القديمة إلى الكوارث الجديدة.
إنها دولٌ عاجزة عن تنظيف بيوتها من الداخل فتقفز إلى الأمام قفزة تكسر ساقيها وتجعلها تزحف ثم تتقطع.
تتحول القوى الطائفية المتقوية في مثل هذه الإصلاحات التمزيقية إلى قوى واسعة تضيف المال إلى جماعاتها الأهلية المتعصبة، فتتصارع مع بعضها بعضا ومع الحكومات، في سبيل النمو الأكبر والاستيلاء على السلطات جميعها.
عبرت موجة الديمقراطيات العربية الراهنة البوشية (نسبة لجورج بوش) عن استيراد سياسي يتوافق مع تفكيك القطاعات العامة، وشحن المال النفطي لشراء العقارات في أمريكا، وتشجيع الإقطاعيات السنية والشيعية والمسيحية على التعايش، من دون التنازل عن سلطات كل منها، ومن دون تنازلها عن هدفها في الاستيلاء على السلطات المطلقة في مناطقها أو على جماجم أتباعها كما حدث في العراق بصورة مسالخ بشرية، ومن دون أن تنكر عمليات استهدافها لهذه الديمقراطيات الهشة لإيجاد سلطاتها المتوارية على قبور البلدان العربية الحالية.
وزاد الطين بلة ظهور مراكز للإقطاع السياسي أو الديني ذي الموارد الكبيرة، على مستوى المنطقة، فنجد المركز المصري ذا الإقطاع السياسي ، أو المركز الإيراني ذا الإقطاع الديني، يتصارعان على المستوى العربي الإسلامي العام. التفكيك الوطني يتبعه تفكيك عربي إسلامي وكلاهما يسمم الآخر.
بطبيعة الحال دول الإقطاع السياسي أكثر استنارة، لأنها تتيح بعض الهوامش للتيارات السياسية العلمانية، لكن الفساد واستغلال السلطات وتلاعب الأحزاب الحاكمة والعائلات في الأموال العامة، تجعل مثل هذه التيارات العلمانية مثل الكتاكيت التي لا يُسمح لها بالنمو بعد سن معينة، وعليها أن تقدم التسابيح المدحية كل يوم للأنظمة إذا أرادت عدم الذبح في الآلة الأوتوماتيكية.
فإذا أرادت الحكومة المصرية الانسياق مع الحداثة فإن منع جماعة الإخوان لا يمكن أن يكون مجدياً من دون تحرير الإسلام وتحرير الدولة من الشمولية الحكومية.
تحرير الإسلام يحتاج إلى قراءة علمانية تحديثية عربية إسلامية جديدة تغدو شعبية.
تحرير الدولة من الأسر العائلي والعصبوي يحتاج إلى ديمقراطية تتحالف مع قوى الحداثة والعلمانية والديمقراطية.
بطبيعة الحال فإن الأجهزة والبيروقراطيات التي التهمت الموارد لن تسمح، وسوف تسد آذانها بالشيكات الهائلة التي تتسلمها.
ومهما كانت قوى الحداثة صغيرة فهي المستقبل والحل، وعليها أن توسع تحالفاتها وتعمق قراءاتها للنصوص الدينية وأحوال الجماهير والدفاع عن مصالحها.
الدول تحتاج إلى قادة متنورين ومفكرين يعيشون من عمل أيديهم وليس من الخزائن الحكومية، وإلى تقاعد واسع للصوص!
 
أخبار الخليج 27 فبراير 2009
 

اقرأ المزيد

أنشـودة المطر


بدر شاكر السياب (24 ديسمبر19261964م) شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة.   اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية، ومنذ عام 1947 التزم بالأفكار الماركسية وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الانسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه بثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر. ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه “أنشودة المطر” الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السياب موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص ريادته الشعرية. سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لإحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 سنة ونقل جثمانه إلى البصرة و دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
 

 


 
أنشودة المطر


شعر: بدر شاكر السياب


 


عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ  .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ …كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ …
 
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ،
وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر …
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر …
مَطَر …
مَطَر…
مَطَر…
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :
بِأنَّ أمَّـهُ – التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ : ” بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. ” –
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ .
مَطَر …
مَطَر …
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ – كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى – هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : ” يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! ”
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
” يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى … ”
 
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
” مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول … حولها بَشَرْ
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا – خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ – حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر … ”
 
أصِيحُ بالخليج : ” يا خَلِيجْ …
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! ”
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـهُ النشيجْ :
” يا خليجْ
يا واهبَ المحارِ والردى . ”
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لُجَّـة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .
وأسمعُ الصَّدَى
يرنُّ في الخليج
” مطر .
مطر ..
مطر …
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . “ 
 
وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..
 
 

اقرأ المزيد