المنشور

حين تهين «الدول» كبارها وصغارها وتمعن في ذلك

كل الكوادر العلمية في الدنيا وفي الدول، وأعني هنا الدول بمفهومها
القائم على طرفي المعادلة، وضمن الحقوق والواجبات، وأيضاً ضمن التعامل مع
الشعوب باعتبارهم مواطنين لا رعايا، أو قطيعاً أو تابعين، الدول التي تحترم
نفسها، وبالتالي تحترم إنسانها، ولا تعاني من أمراض نفسية أوعصبية أو
وراثية في الشعور بالدونية أمام الآخرين، وليست مصابة ومهووسة بالتمييز
الطائفي واصطناع الاحتراب والدعوة له، تلك الكوادر هي في صدارة الرعاية
والاهتمام في الدول ضمن المفهوم والواقع الذي ذهبنا إليه؛ لأنهم ليسوا
«صنايْعيه» بالبرَكة، وليسوا باعة فجْل على عربات جوّالة، مع الاحترام
الكامل والتقدير لكل تلك المهن وأصحابها، ولا ينال من أصحابها شيئاً إن
وجدوا أنفسهم يمتهنون تلك المهن. لكن يُراد لكوادر ومواهب وطاقات هذه
الأوطان أن تتحوّل إلى باعة جوّالين وماسحي أحذية وأبواق تصدح وتسبّح آناء
الليل وأطراف النهار باسم الخلل والتجاوزات والفساد أيضاً؛ أو على أقل
تقدير أن تصمت على كل ذلك وكأنها لم تر ولم تسمع، ومختوم على أفواهها.

لن
تجد في تاريخ العالم كله، ولن تجد في تاريخ الدنيا كلها، تعمّدَ واصطناعَ
التهم واجتراح الإهانات واختراعها، والتفنّن فيها كما يحدث في أوطاننا.

ما
يحدث في هذه الأوطان بعيد تمام البعد عن أي تخيّل أو تصوّر أو حتى توهّم.
ذروة العقول تكون تحت رحمة ورهن صلف وتعامل أمّيين وجَهَلة ولا يُحسنون
التفريق بين الألِف وعمود الكهرباء. مثل تلك الطاقات من المفترض أن تأخذ
مكانها اللائق بها من حيث الاحترام والتقدير والمكانة العالية والمرموقة
أنّى كانوا وتواجدوا. هم إضافة نوعية للمكان والزمان اللذين يتواجدون
ويتحركون فيهما. هم في مثل هذه الأوطان سبّة وعار، بطريقة الإذلال الممنْهج
في التعامل معهم؛ فقط لأن تكوينهم النفسي وعقيدتهم لا تلتقي والذين
يمارسون كل ذلك الصَلف، وكل تلك العُقد عليهم.

أمّة تهين كبارها
وعباقرتها تؤكد أنها في قائمة الذين هم عبء على هذا العالم. فقط مجرد
حضورهم يسبّب عبئاً مكْلفاً للعالم كل العالم. لا توجد أمّة تهين وتحتقر
وتسْحل وتحتجز وتصطنع الإدانات وتترصّد كبارها في العقول والقيمة والمعاني
كما يحدث في هذه الأوطان البائسة بامتياز. نعم بائسة بكل هذا التخلي العبثي
عن الممْسكين بعصَب قيمتها والدّالين على تميّزها والمرشدين لإمكانات أن
تكون «خير أمة أخرجت للناس» بتعميق قيمة أولئك الناس، لا إهانتهم واجتراح
طرق وأساليب إذلالهم ونفيهم عن الأرض؛ ولو كانوا بين الناس يسعون فيها
ويمشون في الأسواق. نفيهم من حيث تحديد الأمكنة التي يجب أن يتواجدوا فيها
حطّاً لإنسانيتهم، وإمعاناً في إذلالهم، وهي أمكنة لن تكون فنادق خمس نجوم؛
وإن أمعن الإعلام في وقاحته، والإصرار على تصديق الكذب الذي يمارسه.

أعلم
أن من طالهم ذلك الانتقام غير المبرّر يتعدّدون ويتنوّعون في تخصّصاتهم.
لا نتحدث عن أطباء ومهندسين ومعلمين ومفكّرين ورياضيين وصحافيين، وحتى
أميين في الحَرْف، لكنهم يقظون واستثنائيون في ضميرهم وشعورهم بهوْل ما
يحدث. غير أولئك أيضاً طالهم الاستهداف والتشويه والخسْف واستنفار كل
إمكانات الدول بكل أجهزتها.

ذلك أمر لا يمكن لأحد أن يختلف فيه أو
حوله. طال ذلك الشرائح كلها. من كان لصيق السياسة، وهي بمثابة الهواء الذي
يتنفسه؛ أو أولئك الذين يُصابون بحساسية خاصّة لمجرد التطرق إليها، وترى
جباههم ترشح عرقاً وكأنهم في جلسات استجواب سرّّي كالتي عهدناها مطلع
الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ لكن المرحلة بكل هذه القيامات
الاصطناعية أعادت صوغ وعيهم ومداركهم ونظرهم إلى الأمور وتعاطيهم في الشأن
العام، ليكونوا جزءاً من حراك أمّتهم وجزءاً من موقف مواجهة كل صور ومشاهد
الاستلاب والهيمنة والقمع.

ثم إن الحقوق لا تعرف تمايزاً هنا بين
استهداف جرّاح مخ وأعصاب أو استهداف من لا مخ لديه أساساً. لا مخ، بمعنى
ليس ممن هو على الدرجة نفسها من التحصيل العلمي؛ لكنه على الدرجة نفسها
بالشعور بالغبْن والشعور بالتمييز والشعور بأن خللاً قائماً لا تستقيم معه
حياة الإنسان، وتتسمّم منه الحياة عموماً. الحق واحد وطريقه واحد، وإن
تعدّدت المنافذ المؤدية إليه. والإنسان لا يحتاج إلى امتلاك مجسّات إضافية
كي يميّز بين ما هو عادل في الحياة وما هو جائر، وبين ما هو مستقر وبين ما
هو مضطرب. الإنسان يُولد بالمجسّات تلك. الفارق فقط في تفعيلها أو تعطيلها،
ذلك هو الفرق.

ثم إن الإهانة، إهانة أي مخلوق لا تُنهي عبقريته
وقيمته، ولا تزيد الذي تعهّد تلك الإهانة وسهر عليها ورعاها وراكمها أية
ذرة إنجاز أو قيمة تطول ما يتصل به. هذا الخزي الذي يعيشه هذا الجزء من
العالم لم يأت عبثاً ولم يعشّش جُزافاً، ثمة من مهّد وتعهّد وموّل ولعب في
التشريعات والسياسات والحقوق كي «يظفر» بكل ذلك. يتحقق له وهْم أنه أنجز
شيئاً، على رغم تجاهله بأن مثل ذلك الوهْم له كُلَفُه وأثمانه الباهظة التي
تمسّ البسيط والمعقد في المكان والزمان المرتبط به.

باختصار،
وباختصار شديد: «الدول» والأمم التي تهين كبارها وعظماءها وعباقرتها وحتى
الذين لم ينالوا حظاً من تلك العبقرية والتميّز، أمّة لا تستحق الحياة، وهي
عبءٌ وعار على الحياة.

جعفر الجمري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

تحديات مؤتمر الأطراف




تعد
المفاوضات لتحرير التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة العالمية
والمفاوضات الرامية لمعالجة معضلة تغير المناخ في اتفاقية الأمم المتحدة
الإطارية لتغير المناخ وبروتوكول كيوتو – أكبر وأوسع إطارين متعددي الأطراف
في العالم ثقلاً وتمثيلاً . فمنظمة التجارة العالمية تضم 157 دولة، فيما
يبلغ عدد الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ
194 دولة .




في
الفترة من 9-14 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 احتضنت العاصمة القطرية الدوحة
المؤتمر الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية الذي دشن انطلاقة الجولة
التاسعة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة
العالمية، التي شكلت انفراجة نوعية في المأزق التفاوضي الذي وصلت إليه
الأسرة الدولية في مؤتمريها السابقين في كل من سياتل الأمريكية وكنكون
المكسيكية اللذين منيا بفشل ذريع . وقد حملت جولة المفاوضات التجارية التي
انطلقت آنذاك في الدوحة تسمية “جولة الدوحة للتنمية” .




اليوم
تمر المفاوضات الدولية المتعددة الأطراف الخاصة بتغير المناخ بمأزق يقارب
المأزق الذي مرت به المفاوضات المتعددة الأطراف لتحرير التجارة الدولية في
إطار منظمة التجارة العالمية قبل التغلب عليه مبدئياً في الدوحة في عام
،2001 أيضاً، وخلال أيام معدودات سوف تستضيف الدوحة مؤتمر الأطراف الثامن
عشر والذي سيستمر طوال الفترة من 26 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 7
ديسمبر/كانون الأول ،2012 وستشارك فيه وفود عالية المستوى (بعضها على مستوى
رؤساء الدول والحكومات) ووفود فنية ومنظمات دولية وحشد من مؤسسات المجتمع
المدني . 




صحيح
أن مؤتمر الأطراف السابع عشر الذي عُقد العام الماضي في جوهانز بيرغ قد
وضع الأساس للمرحلة الثانية من الاتفاق الدولي على التعامل مع مشكلة تغير
المناخ، وذلك بتحديده الإطار العام للفترة الثانية من خفض الانبعاثات التي
تنتهي هذا العام (امتدت الفترة الأولى من 2008 إلى 2012)، إلا أن الخلافات
بين الدول المتقدمة والدول النامية الممثلة في مجموعة ال 77+ الصين حول
القضايا الجوهرية، مازالت قائمة وستفرض نفسها على المداولات والمناقشات
الساخنة التي ستشهدها الدوحة على مدى اثني عشر يوماً، ويشمل ذلك التخفيف،
أي خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتكيف، والتمويل (تمويل مشاريع
وجهود الدول النامية الطوعية – وغير الطوعية في حال جرى الاتفاق في الدوحة
على ذلك)، وآليات هذا التمويل، ونقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة للدول
النامية لمساعدتها على القيام بتنفيذ التزاماتها (الطوعية، وغير الطوعية
أيضاً في حال جرى الاتفاق على ذلك في الدوحة) وآليات نقل هذه التقنيات .
ويمكن إيجاز القضايا الجوهرية العالقة التي ستشكل محور المفاوضات بين الدول
المتقدمة ومجموعة ال 77+ الصين (الدول النامية) في ما يلي:




(1)
تقرر في اجتماعات بون التحضيرية (4 – 25 مايو الماضي) حل مجموعة العمل
الخاصة بالتعاون الفعال طويل الأجل، أي إلى ما بعد انتهاء فترة الالتزام
الأولى في 2012 من دون الاتفاق على القضايا ذات الأولوية للمتابعة ولا مصير
القضايا التي لم يتم الاتفاق عليها في المجموعة . وهي قضايا جوهرية أقرت
في مؤتمر الأطراف 13 في بالي في 2007 (خريطة طريق بالي) وهي: الرؤية
المشتركة (طويلة الأمد) للتعامل مع تغير المناخ، التخفيف (خفض الانبعاثات)،
التكيف، التكنولوجيا والتمويل . وكان قد مُدد لهذه المجموعة عام واحد في
مؤتمر دوربان . ويرأس المجموعة حاليا خبير تغير المناخ السعودي أيسر الطيب .
وهو مكسب تفاوضي مهم لدول مجلس التعاون وللجامعة العربية ومنظمة البلدان
العربية المصدرة للبترول (أوابك) .




(2)
مازال الخلاف قائماً في مجموعة العمل الخاصة بالتخفيضات الإضافية لدول
المرفق الأول بموجب بروتوكول كيوتو، بشأن مدة الالتزام الثانية: 5 أو 8
سنوات . ففي حين تصر الدول المتقدمة (دول المرفق الأول) على أن تكون 8
سنوات، تصر الدول النامية على جعلها 5 سنوات لإظهار جدية الالتزام بالتخفيض
ومتابعته . ولم يحسم هذه المسألة الاجتماع التحضيري الآخر الذي عقد في
بانكوك (30 أغسطس – 5 سبتمبر الماضيين) . ويتعين الاتفاق على عدد الدول
المطلوب توقيعها على الاتفاق الجديد لفترة الالتزام الثانية (ما بعد عام
2012 الجاري) . علماً بأن اليابان أعلنت عدم انضمامها لالتزامات فترة
التخفيض الجديدة، فيما أعلنت كندا انسحابها من بروتوكول كيوتو، بينما أخفقت
كل من أستراليا ونيوزيلندا في تقديم التزامهما بالتخفيض في الموعد المحدد
لتقديم جدول الالتزامات .




(3)
لم يتم الاتفاق حتى في الاجتماع التحضيري الأخير (في بانكوك) على إطار
الاتفاق بشأن الآلية التنفيذية الجديدة لاتفاق التزامات فترة التخفيض
الثانية التي تم التوافق عليها في منهاج دوربان، والتي يفترض أن تقر في عام
2015 وتدخل حيز التنفيذ في عام ،2020 إضافة إلى موضوع عدالة توزيع عبء
التخفيف الذي تم إقراره أيضاً في منهاج دوربان والذي لم يتم الدخول في
تفاصيله، وهي تفاصيل ستشكل محور خلاف هي الأخرى .




(4)
سوف تشكل ضريبة انبعاثات الطيران التي فرضها الاتحاد الأوروبي من جانب
واحد على جميع شركات الطيران المنطلقة رحلاتها من مطارات الاتحاد الأوروبي
أو العابرة لأجوائها، احدى نقاط الخلاف الجوهرية في مؤتمر الأطراف القادم
في الدوحة .




في
شهر سبتمبر/أيلول الماضي استقبل نائب الرئيس الصيني لي كيكيانغ في بكين
رئيس مؤتمر الأطراف الثامن عشر عبدالله بن حمد العطية، وذلك في اطار جهود
الدوحة لترطيب وتهيئة الأجواء لإنجاح مفاوضات مؤتمر الدوحة . نائب الرئيس
الصيني طالب رئيس المؤتمر بأن تتبنى دولة قطر قضايا الدول النامية خصوصا في
ما يتعلق بخريطة طريق بالي التي أُقرت في مجموعة التفاوض المختصة بالتعاون
الفعال طويل الأجل، بما يؤدي إلى انتهاء التفاوض بشأن القضايا الجوهرية
المختصة هذه المجموعة بنظرها على النحو المرضي لكل أطراف التفاوض . كما شدد
نائب الرئيس الصيني على مبدأ المسؤولية المشتركة، ولكن المتغايرة، وعلى
ضرورة قيام الدول المتقدمة بإجراء خفض معتبر في الانبعاثات وأخذ التزامات
بذلك في فترة التخفيض الثانية قيد التفاوض . علماً بأن معظم الدول النامية
تعتبر انه من السابق لأوانه انهاء التفاوضفي ضوء عدم الوفاء بالوعود
المتعلقة بالتمويل والمراجعة العلمية التقييمية لحالة المناخ العالمية التي
تتطلب تحديثاً في البيانات والمعلومات . بينما ترى الدول المتقدمة أن
اجتماعات الدوحة يجب أن تنهي التفاوض بشأن أعمال هذه اللجنة .

اقرأ المزيد

فُرجة السيرك في المدينة المشتعلة



حين
أدرك امبراطور روما نيرون أن مركز الامبراطورية، العاصمة روما، قد أخذ
يهتز تحت الضغوط القادمة من أطرافها، قرر إحراق العاصمة في العام 64 بعد
الميلاد، ولكي يهدىء النفوس الثائرة رفع شعار الخبز وألعاب السيرك . كان
الخبز مازال متوفراً في العاصمة، فيما تدبير أمر ألعاب السيرك ممكن . دفع
بالآلاف من الشبان المسيحيين آنذاك إلى ساحات المبارزة يذبح بعضهم بعضاً أو
تفتك بهم الحيوانات المفترسة في ألعاب السيرك المفتعلة، بينما شعب روما
المخمور يتفرج ويلهث ويصيح فرحاً ومتعة فوق المدرجات .


هذه
الحكاية ستغدو مثالاً يروى كلما دار الحديث عن ما اصطلح على تسميته ب
“إلهاء” الرأي العام عن أحداث كبرى أو فاجعة تجري حوله، ويراد لهذا الرأي
العام أن ينصرف عنها نحو أمور مسلية عملاً على القاعدة السيكولوجية التي
تقول إن الناس بالسليقة أميل الى المفرح والمبهج والمسلي منها إلى المحزن
والمفجع والباعث على النكد . وإلى هذه الحكاية أيضاً عاد الراحل الدكتور
أنور عبد الملك مرة ليحلل الأداء الراهن للإعلام عامة، والإعلام في بلداننا
العربية بصورة خاصة . يقال إن شبكة “سي .إن .إن” بعد أن شعرت بأن مكانتها
وتأثيرها يهتزان أمام ظهور وصعود شبكات أخرى مثل “فوكس نيوز” وزميلاتها،
دعت مجلس إدارتها للاجتماع للنظر في الأمر ومحاولة التغلب على التراجع الذي
فرضته المحطات المنافسة، وقرر مجلس الادارة تعيين رئيس تحرير مجلة “تايم”
في نيويورك، الذي اعترف له الجميع بأنه رفع من مقام المجلة بطبع صور
الفاتنات من ممثلات هوليوود على صفحاتها الأولى . 


أول
قرار اتخذه الرجل لإصلاح الحال هو الاستغناء عن خدمة من يشكلون نسبة عشرة
في المائة من العدد الكلي لموظفي الشركة، وضغط المصروفات في المكاتب
الخارجية البالغ عددها 42 مكتباً . لكن لم يكن هذا التدبير الإجرائي هو
جوهر ما قام به الرجل، ذلك أنه أدخل اتجاهاً جديداً في تقديم الأخبار
بإيقاع مختلف عن ذاك الذي درجت عليه الشبكة، ووضع لذلك شعاراً: “الأخبار
الحقيقية بسرعة حقيقية” . هذا الطابع أعاد للشبكة حضورها مجدداً، بعد أن
نجحت في إحكام استراتيجية جديدة تعتمد على الإثارة والتفجير والمزج بين
الملاهي والترفيه الجنسي من ناحية، واللهب والنار والدمار والجثث المتطايرة
مع الشظايا من ناحية أخرى، وسرعان ما غدا هذا نهجاً مقلداً في العديد من
محطات التلفزة الأمريكية والعالمية .


لكن
علينا ملاحظة أمر آخر وثيق الصلة بالأمر هو تكاثر محطات التسلية، تلك التي
لا تفعل شيئاً آخر سوى بث الأغاني والموسيقا ب”كليبات” متقنة في مخاطبة
الحسي والغريزي موجهة نحو الأجيال الجديدة، التي تخلق “ثقافة” سائدة ونمط
سلوك رائجاً . وتزخر الأقمار الصناعية للبث الفضائي العربي بهذا النوع من
المحطات، التي تستعيد، واعية أو غير واعية، فكرة ألعاب السيرك التي ابتكرها
نيرون في العقود الأولى للميلاد . ولأشد ما تبدو فداحة هذا الأمر في ظروف
الأزمات والحروب حين تنهمر الصواريخ على المدن وتنقض الطائرات على المدن
المكتظة بالسكان، وتسيل الدماء في الشوارع وتنحشر الجثث تحت الأنقاض
المدمرة، فتبدو مهمة مثل هذه المحطات بث الخدر في عروق المشاهدين الذين تعد
كتلهم بالملايين، فتستحوذ عليهم نشوة الفرجة، فيما النيران على بعد خطوات
من ساحة السيرك تُشعل المدينة!
اقرأ المزيد

تحولاتُ اليسارِ الإيطالي (2-2)

كان خروجُ الحزب الشيوعي الإيطالي قويا بعد الحرب العالمية الأولى هو جزءٌ
من التضحيات الجسام الوطنية التي بذلها للدفاع عن الوطن والديمقراطية ضد
الفاشية.


لكن جماهير الشعب كانت بحاجة الى إعادة ترميم الوطن وارتفاع
مستوى حياة الشعب ولهذا فإن أطروحات الحزب الاشتراكية لم تلق صدى على مدى
عقود، وعجز فيها الحزبُ عن الوصول الى السلطة لتشكيل النظام الاشتراكي
الموعود، فيما تقبل الشعبُ الشيوعيين كحكامٍ كثيرين للبلديات والأقاليم، أي
بصفةِ التنظيم مساهما في تطوير النظام الرأسمالي الديمقراطي.


لم
يستطعْ الحزبُ الخروجَ من قيوده الايديولوجية السوفيتية الروسية، وبدت
اللافتاتُ الكبرى عن الحركةِ الشيوعية العالمية ذات الايديولوجيا الموحّدة
تضطربُ وتتقلقلُ بين عقدٍ وآخر، وقد عبرتْ تلك اللافتاتُ عن الصلاتِ
التنظيميةِ والمساعدات التي كانت تُعقدُ بين الحزب وروسيا، ولكن الحزبَ
الشيوعي الإيطالي صار حزبا جماهيريا كبيرا وذا نفوذ وطني وإمكانيات، كما أن
أوروبا الغربية بدأت تتحولُ إلى كيانٍ رأسمالي موحدٍ عالمي متقدم ينافسُ
الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوة اقتصادية في العالم.


كانت
الايديولوجيا المُصدرةُ من روسيا، أيديولوجيا رأسماليةِ الدولةِ
الدكتاتورية، لم تُواجه من قبلِ عقلا ماركسيا متقدما في إيطاليا، ولم تسعفْ
جرامشي أدواتهُ التحليلية الجزئيةُ المحدودةُ في فهمِ الإشكالية
التاريخية، وكان انفصالُ الحزب الشيوعي الحاد عن الاشتراكية الديمقراطية
وخطأ هذا الانفصال، وصعوبة الاعتذار عن كل تاريخ الانشقاق بين الحركتين،
وسيطرة البيروقراطية الحزبية المستفيدة من هذا التشكيل السياسي الطويل، هذا
كله جعل من الصعب القيام بنقدٍ ذاتي عميق واسع، ولكن الاختلافات الموضوعية
بين الجسمين السياسيين الاجتماعيين، جسم روسيا الغارقة في سيطرةِ
رأسماليةِ الدولة الروسية القومية المهيمنة المتآكلةِ تاريخيا والعاجزةِ عن
التحولِ لمجتمعٍ ديمقراطي حديث، وجسم أوروبا الغربية المتطورة نحو آفاق
أكبر من الحداثة والديمقراطية والتوحد، كانت تَظهرُ بأشكالٍ عفوية جزئية
وتحدثُ صداماتٍ بين الكيانين.


ظهر ذلك في تصاعدِ مجموعة الشيوعية
الأوروبية الرافضة لمركزٍ روسي مهيمن تعبيرا عن تباين مستويي التطور
التاريخيين. ومنذ سنة 1976 وفي مؤتمر الأحزاب الشيوعية في برلين تصاعدتْ
الخلافاتُ بين الشيوعيين الأوروبيين وروسيا، وعبّر زعيم الحزب الشيوعي
الإيطالي برليجوير عن عدم وجود مركز واحد للحركة، وأكد أن النظرية
الماركسيةَ لم تواكب تحولات العالم، وأكد تمسكه بحرية الصحافة وحق الاضراب
في النظام الاشتراكي، (الأورو شيوعية والتوازن الدولي الجديد، عبدالعاطي
محمد، السياسة الدولية 1977).


كانت هذه مسائل سياسية صغيرة تعبرُ عن
مدى الجمود في الأحزاب الشيوعية الأوروبية نفسها، وتمحورت في كثيرٍ منها
على مسائل السياسة الخارجية: كرفض وجود قيادة مركزية للحركة، وغزو
افغانستان المستهجن، وغياب حريات المبدعين والمنشقين في روسيا، ورفض
الصراعات داخل(المعسكر الاشتراكي) وغيرها من المسائل التي عبرتْ عن ضيقِ
أفق هذه الأحزاب في الوقت الذي كانت كرةُ الثلجِ الشمولية تتدحرجُ متجهة
لضرب الأسس العامةِ للنظام السوفيتي.


كانت القداسةُ الموجهة لنظام
رأسمالية الدول الشمولية الروسية تعبرُ عن ضياعٍ نظري هائل، حتى إذا حدثت
الكارثةُ وتفجرتْ شظاياها على العالم، كان اوان الإصلاحات العميقة داخل هذه
الأحزاب قد فات زمنه، ولهذا رأينا الانتقادات تتوجه لجزئيات معبرة عن
تفكير محدود، لأن أغلب الأسس التي أُقيمت عليها هذه الأحزاب في الأممية
الثالثة بقيادة لينين ثبت بطلانُها لكن لم تتم مراجعتها، وتكشف التاريخ
بشكلٍ مرعب فليس ثمة اشتراكية ولا دكتاتورية بروليتاريا، بل نظامٌ آسيوي
«نهضوي» استبدادي.


وأمام هذه التحولات العاصفة كان الجثومُ في عقلية
الأممية الثالثة مدمرا، ولهذا فإن الحزب الشيوعي الإيطالي ذو الجماهير
الكبيرة امتلأ بانشقاقات عديدة وحدثت انقساماتٌ كبيرة داخله وظهرت أسماء لا
يمكن متابعتها بدقة عبر هذا العرض الموجز، وقفزت أحزابٌ يمينية للسلطة في
إيطاليا واسهمت قوى قريبة لليسار فيها، ولكن كل المقاربات(الشيوعية)
للديمقراطية الغربية لم تصل الى العودة للاشتراكية الديمقراطية والنضال
الإصلاحي التدريجي والقبول بالتعددية وفهم أن التشكيلة الرأسمالية العالمية
تحتاج الى عقودٍ وقرون كي يظهرَ البديل من داخلها، ودور الأحزاب التقدمية
تغيير ظروف حياة شعوبها الراهنة والدفاع عن الطبقات العاملة وأوضاع الأمم
والشعوب المتداخلة معها لتتحقق تحولات ديمقراطية مستمرة.


اقرأ المزيد

الثورات وليدة بيئتها؟

عالمنا العربي يصمُّ صَخَبه الآذان. منذ السابع عشر من ديسمبر/ كانون
الأول 2010 عندما أحرق البوعزيزي نفسه وحتى اليوم ونحن على هذا الحال.
مشهدٌ يسيطر عليه الانفعال والشَّد وتقطيب الجبين. السبب هو أن هَوَس
التغيير أصبحَ حاكماً. الجميع بات يتحدث عن الثورة. حتى الصغار، أصبحوا
يتغنون بهذا الشعار، بكل ما فيه من ممارسات ونشيد، يلهِم لديهم الشعور
بحتمية التغيير.

عندما تراجِع معاجم اللغة، لتبحث عن معنى مفردة
«ثورة» ستجد أن لسان العرب يردها إلى «ثارَ الشيءُ ثَوْراً وثُؤوراً
وثَوَراناً، وتَثَوَّرَ: هاج». وقد قال أبو كبير الهذلي: «يَأْوي إِلى
عُظُمِ الغَرِيف ونَبْلُه كَسَوامِ دَبْرِ الخَشْرَمِ المُتَثَوِّرِ».
ويقال: «انْتَظِرْ حتى تسكن هذه الثَّوْرَةُ، وهي الهَيْجُ». في المحصلة،
فإن معنى الثورة بدايةً مرتبطٌ بحالة نفسية، تدفع المرء للتمرُّد على ما لم
تستسغه نفسه وعقله.

لكن السؤال الصريح الذي يجب أن يُطرَح: هل
الثورات هي مجرَّد مشاعر يتم التنفيس عنها؟ ثم… هل الثورات هي مشروع
تغيير أم هي مشروع دَحْرٍ لما هو قائم أولاً وأخيراً وبأي ثمن ومِعوَل، وأن
ما يليه هو متروك للتدافع والصدفة؟ ثم ثالثًا: هل الثورات هي تعبيرٌ فكري
وثقافي يُظهره الفعل التغييري لإنسان الداخل، أم أنها مجرَّد سلوك عنفي
يتغذى حتى من الشيطان، وبالتالي لا يلتفت إلى وسائل النضال، ولا إلى شكل
الكيان الذي يتوجب إنشاؤه محل كيان منحل وزائل؟

هذه التساؤلات مهمَّة
جداً للنقاش. والحقيقة التي يجب إدراكها، أن الثورة هي بمثابة القِدْر،
الذي توضع فيه أجزاء الطعام بإتقان، كي نحصل بعدها على أكلٍ مستساغ المذاق.
حيث يجب أن تتوالى الجزئيات في ذلك القِدْر بحساب دقيق، كي تؤدي كل جزئية
منها دوراً محدداً. الثورات هي بمثابة الوعاء، الذي يجب أن يتضمن الرؤية
السياسية والفكرية لإنتاج مشروع سليم وغير موتور.

هذه الرؤية لا يمكن
أن ينتجها الدهماء، أو العصابيون وأمراء الحروب، الذين لا يحسنون سوى
التناطح وإسالة الدماء، وتشطير المجتمع، والظهور على هيئة مفارز دينية
متطرفة، تخيف الضعيف، وتتوعَّد المتردد، فتحرف البوصلة. هذا الأمر ليس
محورياً فقط لإنتاج التغيير الصحيح، بل هو أساسه، لأن سيطرته تعني أنه
الصّنو الآخر للديكتاتورية الحاكمة، وبالتالي لا مجال للمهادنة معه أو
محاباته، فقط لأن صوته هو الأعلى، أو أنه صاحب الإمكانيات الأكبر.

وإذا
كان هناك خوفٌ يمكن الحديث عنه هنا، فإنه الخوف من تحويل «الهياج» الثوري،
من هياجٍ ذي مخرز ديمقراطي، إلى آخر مدعوم بمشاعر عنفية ومُعَسكَرَة،
لتتحول المعركة، من معركة ديمقراطية ضد طغيان، إلى طغيان ضد طغيان، فيُخلَى
الحيِّز من أي دعامة ديمقراطية، لصالح جيوش تتقاتل وتتصارع، فتنشأ بينها
أنظمة مصالح لا صلة بينها وبين الحرية والتغيير. وهذا الأمر في الحقيقة، هو
أخطر ما يواجه مشاريع التغيير في العالَم. وقد حصل هذا في جزء مهم من
الربيع العربي مع شديد الأسف.

لقد تحدثت الفيلسوفة الأميركية
الألمانية حنَّة أرِنْدت عن ذلك بشكل تفصيلي. هي تشير إلى «أن الحروب لم
تكن مرتبطة بموضوع تحقيق الحرية إلاّ في حالات نادرة، وإنما ارتباطها موصول
بمبرر أن العلاقات السياسية في سياقها الاعتيادي لا تقع تحت رحمة العنف».
ولو تحققنا في عصرنا الحاضر، عن 131 حرباً خاضتها الولايات المتحدة
الأميركية حول العالَم ضد خصومها، وتحت دواعي الحرية، ففي أيٍّ منها يمكن
أن نجِدَ نموذجاً يسُرُّ، أو لنقل مجموعة نماذج يمكن الوثوق بها.

وربما
كان العراق نموذجاً جيّداً لهذه الإشكالية بعد الاحتلال في العام 2003،
واليوم، ليبيا وسورية على الطريق كما يبدو ما لم يتم تصحيح الأمر بسرعة.
فإذا ما قررنا أن تحوُّل الثورات إلى حروب من الخارج سيعني دخول أطراف ذات
مصالح محددة في تلك الحرب، فإن ذلك يعني أن هناك خيارات خارجية ستبدأ في
مزاحمة الخيارات الشعبية للداخل. وهذه المزاحمة تعني، أن هناك صراعاً آلياً
سينشب بين تلك الخيارات المتنافسة. وبما أن الداخل عادةً ما يكون هشاً
لاعتماده على اللحم الحي، ومباشرته للصراع، بينما الخارج يوظف الإمكانيات
الهائلة لإنجاح ذلك التغيير بأي ثمن خدمةً لمصالحه، فإن الغَلَبَة بين تلك
المصالح هي شبه محسومة، على الأقل مادياً.

أكثر من ذلك، فإن حسابات
الخارج عادةً ما تكون بعيدةً عن التقديرات الوطنية لأفراد الأمة الثائرة.
بمعنى أن الدعم العسكري الخارجي لا يقيم حساباً للأرواح المزهوقة، كونه لا
يقاتل على أرضه، وبالتالي لا يُزكَم أنفه برائحة الدم، ولا تشبع عيناه من
رؤية الأجساد المتفسخة على الأرض. هنا تتحوَّل الحرية إلى موضوع مبتذَل، أو
كما سمَّتها إرندت بالعقيدة الفاسدة، عبر تموضع الحرية في قبال الموت
الرخيص، أو المفاضلة ما بين الموت والعبودية. هذا الشعور، يمكن أن تجِده
عند اليابانيين، عندما رأوا مئة وأربعين ألف إنسان منهم وهم يحترقون بفعل
قنبلة ذرية! فهل فعل الأميركان ذلك كي تتحوَّل اليابان من الفاشية، أم
لإيقاف ضربات الكاميكاز ضد سفنهم؟

أهم ما يجب استيعابه في المعادلة،
هو أن يتلازم موضوع الديمقراطية مع التغيير الداخلي، وليس عبر جحافل
الخارج، وإلاَّ فإننا لن نحصل على تغيير ولا على حرية وإنما على دمار للحرث
والنسل.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

حقوق الإنسان ليست استعماراً

في الفترة الأخيرة عادت بعض التصريحات تتحدث عن حقوق الإنسان بصفتها
منظومة غريبة عن «خصوصية» منطقتنا، وأن هذه الحقوق تستخدم من قبل دول كبرى
كنوع من الاستعمار الجديد. هذا الحديث ليس صحيحاً، وذلك لعدة أسباب؛ فمن
ناحية أساسية فإن جميع الدول الأعضاء قد توصلت إلى قرار مشترك في المؤتمر
العالمي لحقوق الإنسان الذي نظمته الأمم المتحدة في فيينا العام 1993 وهذا
القرار المشترك نص على «عالمية» حقوق الإنسان. وهذه العالمية تعني أن
الحقوق المستوجبة لأي إنسان متساوية مهما اختلف مكان هذا الإنسان أو لونه
أو أصله أو عرقه أو مذهبه.

ومفهوم «العالمية» مهم؛ لأن كل بشر له
كرامة وحقوق أساسية لا يمكن التنازل عنها تحت أي عذر كان. كما أنه لا يمكن
لأي دولة، مثلاً، أن تقوم بتعذيب أي شخص، سواء كان من مواطنيها، أم أجنبياً
يعيش داخل أراضيها. فأي ثقافة تقول إن لها خصوصية تسمح بتعذيب الآخرين
تُعتبر غير إنسانية. ولهذا السبب فإن الأمم المتحدة عندما أصلحت أجهزتها
قبل عدة سنوات استُحدث الاستعراض الدوري الشامل (UPR) للملف الحقوقي لكل
دولة من دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة والبالغ عددها 193 دولة.

ثم
إن قضايا حقوق الإنسان ليست حكراً بيد أية دولة كبرى، بل إن منظمات حقوق
الإنسان والصحافة الحرة تستهدف هذه الدول الكبرى وتفضحها باستمرار. فالذي
فضح ما كان يحدث في سجن أبو غريب، وغوانتنامو، والسجون الطائرة، وغيرها
إنما كانت الصحافة الدولية والمنظمات الحقوقية. وعليه، فإذا كانت حقوق
الإنسان «استعماراً» فإن من يقول هذا الأمر يفترض بأن الحركة الحقوقية
العالمية لها قوة أعلى من الدول الكبرى، وهذا قول يحتاج إلى إثبات عقلاني.

لقد
اعتمد دستور البحرين الطابع «العالمي» لحقوق الإنسان، تماماً كما ورد في
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وصادقت البحرين على العهد الدولي الخاص
بالحقوق المدنية والسياسية (بحكم القانون رقم 56 لسنة 2006) وأصبحت أحكام
هذا العهد واجبة التنفيذ محلياً، ونحن لسنا ملزمين بالمعاهدات الدولية
فحسب، وإنما أيضاً بالالتزامات التي تعلنها الحكومة أمام لجنة بسيوني وأمام
مجلس حقوق الإنسان في جنيف. إن الالتزام بتنفيذ هذه الوعود ليس خضوعاً
لاستعمار، وإنما تثبيتاً لمكانة الدولة أمام المجتمع الدولي، وهذا سيكون
أفضل رد على من يقول بأن التوجه الرسمي الحالي يتمثل في تضييع الوقت وتأخير
المصالحة وذلك من أجل تجنب الإصلاحات السياسية الملحة.

منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

قراءة أخرى في مستجدات واقعنا



تأسيساً
على وقائع “السيل الجارف” من العنف الأصولي المندفع بقوة في أكثر من مجرى
عربي وإسلامي بصورة مذهلة، هل لنا أن نتساءل عما إذا كان العالم العربي
وجزء لا يستهان به من العالم الإسلامي، قد أعدا العدة وشارفا على الدخول
بمحض إرادتهما في عصر الظلمات على غرار ما حدث لأوروبا في عصور سحيقة أكلها
النسيان؟


وقبل
الاسترسال ومحاولة إيجاد إجابات عن هذا السؤال الجوهري والأسئلة المتفرعة
عنه، لعل من المفيد هنا استذكار ماهية عصور الظلام التي تعارف عليها
الأوروبيون وأعطوها المسمى الإنجليزي ذائع الصيت لدى مؤرخي تاريخ الحضارة
الأوروبية (Dark Ages)،
أي القرون المظلمة الواقعة بين سنة 500 وسنة 1000 ميلادية، والتي تميزت
بانتشار الانحطاط الفكري والتقوقع على الذات وتواري الحياة المدنية في
ثنايا العصبيات والهوس الديني والتطاحنات والحروب الدينية ذات الخلفيات
الإقطاعية التسلطية .  


تُنبئنا
سرديات مصادر التاريخ السحيق والحديث أنه كلما فاض الكيل، وبالمعنى
الفلسفي حين تصل الحالة التراكمية الاجتماعية إلى ذروتها، فإن كمية
“الذَّرّات” المتكاثرة عددياً (المتراكمة) والدائرة في فلكها (في فلك
الحالة التراكمية)، وتحت ضغط هذا التزاحم التراكمي، سوف تُسَرِّع من تحولها
تلقائياً إلى حالة نوعية أخرى مغايرة تماماً لما كانت عليه في فترة سكون
وكمون الذرات الخادعيْن والسابقين .


ويمكن
بكل يسر إسقاط هذا المذهب النظري الخاص بدراسة وتحليل المسيرة التطورية
للمجتمعات البشرية وظواهرها الاجتماعية على الحالة الساكنة -تطورياً –
للمجتمعات العربية، والتي رتبت حدوث النقلة التي أُعطيت اسماً كودياً هو
“الربيع العربي” بعد أن تجاوزت الفجوة بين العناصر “أ” (قوى الإنتاج أو
الموارد البشرية والعلم والتكنولوجيا وفنون ومعارف الإدارة الحديثة)
والعناصر “ب” (سكون تموضعات الناس وعلاقاتهم بالنسبة إلى كل أنواع الأصول
والموارد المادية والحيازات) في المعادلة التي تقيس درجة التوازن والاهتزاز
في تطور المجتمعات .


مع
الاستدراك هاهنا بأن ذلكم التحليل للحالة/الظاهرة لا يستبعد مطلقاً الدور
المقرر للعامل “الخارجي” في “تحفيز” وإطلاق شرارة النقلة التحولية، إنما في
حدود دور العامل الذاتي الموظف (بتشديد وكسر الظاء) للعامل الموضوعي الذي
يشكل محور المعادلة . وما حصل هو أن هذا العامل المساعد الذي لعب دور
الصاعق (Detonator)
قد تحول إلى لاعب أساسي في خلط أوراق تداعيات المرحلة الانتقالية لتصعيد
قوى اجتماعية بعينها لصدارة المشهد الجديد الحاكم للسياسات الكلية والجزئية
.


وهذا،
باعتقادنا، ما أحال الولادة الطبيعية للنقلة النوعية إلى الحالة موضوع
المعادلة، في صورة ما سمي بالربيع العربي، إلى فوضى “خلاقة” هي التي أنتجت
ذلكم الزخم المتدافع المنفلت العقال للحركات الأصولية ذات الخلفيات
الأيديولوجية الإقصائية التي تستخدم العنف المسلح وسيلةً لتحقيق غاياتها .
فمن الاستحالة بمكان إطلاق الفوضى “الخلاقة” من دون فقدان السيطرة على
الخزين الوفير من الهويات والعصبيات الفاعل منها والكامن في ظل وجود وفرة
لا حد لها من الفاعليات الناشطة والأخرى المتحفزة لهجر حالة الكمون لدى أي
فرصة لائحة، للاندفاع تهوراً للتعبير عن ذواتها وأطماعها المستترة، وبضمنها
بطبيعة الحال الأصوليات المستعدة للذهاب إلى آخر الشوط في هذا المضمار .


والنتيجة
المذهلة للدخول المتطفل للعامل الخارجي في مسار نقلة التحول الفاصلة
بأدوات الفوضى “الخلاقة”، هي وصول تلك الجماعات السلفية إلى بعض مواقع
السلطة أو على مقربة منها في غير بلد عربي، ما أفضى إلى محصلة في غاية
الغرابة .


وفي
ذلك بعض التفسير لكيفية إفلات “الربيع العربي” من قبضة القوى الاجتماعية
التي لطالما ضحت بالغالي والثمين من أجل انجلاء ليل الاستبداد الطويل؟ وكيف
أفلت زمام الأمور من القوى الشبابية التي تقدمت الصفوف في تحدي أنظمة
بوليسية معتقة .


فالحراك الشعبي الذي انطلق أساساً  تحت تأثير اختلال معادلة قانون التطور المجتمعي  بهدف
وضع حد لعقود من الاستبداد والفساد، انتهى به الأمر إلى إنشاء حالة لا
تختلف في المضمون عن الحالة الزائلة من حيث استمرار تأمينها لبقاء وانتظام
ذات البنى المؤسسية الراعية لماكينة الاستبداد والفساد .


وما
يزيد الطين بلة أن هذه “الحالة” الجديدة ومقاربة إدارتها الكلية تتساندان
بجماعات سياسية إسلامية متطرفة طالما عُرفت بعدائها الشديد والسافر
للتعددية بشقيها الثقافي والسياسي وللرأي الآخر بصفة عامة، وهي جماعات كان
يُنظر إليها حتى الأمس القريب على أنها قوى إقصائية وتكفيرية تشكل خطراً
داهماً على المجتمعات الحاضنة لها، فإذا بها اليوم في موقع من يصنع ويقرر
مصير هذه المجتمعات، حيث أتاح لها وجودها في بعض مواقع السلطة أو بالقرب
منها فرصة بدء حملة ترويجية واستعراضية من أجل فتح جبهة صراع ضد الدولة
المدنية ورموزها بما يفضي إلى تطهيرها وإفراغها من كوادرها بتهمة الانتماء
إلى الليبرالية .


وبهذا
المعنى فإن هناك خشية حقيقية من أن تفضي مخرجات الفوضى “الخلاقة” التي
نعرف، إلى إدخال العالم العربي في حقبة تيه تكون الردة الحضارية عنوانها،
ويكون البطش بالآخر المختلف أحد أكثر فصولها عتمةً . ذلك أن العداء للآخر –
وليس فقط عدم احترامه – لابد أن ينتهي به المآل إلى استخدام العنف بكافة
صوره سبيلاً لتحقيق الأجندات الخاصة المضمرة وشبه المعلنة .
اقرأ المزيد

خلدون النقيب



بدعوة
من مؤسسة سلطان العويس في دولة الإمارات العربية المتحدة، شاركتُ في ملتقى
علمي عقد في دبي منذ يومين عن مساهمات عالم الاجتماع الخليجي الراحل
الدكتور خلدون النقيب بورقة عن رؤيته الاستشرافية للتطورات العربية
الراهنة، حيث كان واحداً من أهم العقول العربية التي تنبأت بها، ولم تسعف
الأقدار خلدون النقيب ليعيش أطول، ويشهد التحولات العربية خلال العامين
الماضيين، فقد وافته المنية لحظة اندلاع هذه الأحداث، ولم يقدر له أن يرى
المسارات التي إليها اندفعت، ولا نتحدث هنا عن مآلاتها النهائية، فالحديث
عن ذلك مازال مبكراً، نظراً لحالة السيولة والفوضى التي يبدو أن العالم
العربي سيعيشها لفترة قد تطول . ولكن لو قدر للنقيب أن يعيش أطول، لرأى،
كما نرى نحن، كيف أن استشرافاته للمستقبل العربي التي رسمها في خلاصة بحوث
معمقة وجدت طريقها إلى التحقق، على الأقل في خطوطها أو معالمها الرئيسة .


كانت
أطروحة خلدون النقيب عن الشكل التسلطي للدولة مدار اهتمامه البحثي، وعلى
خلاف الكثير من الدارسين الذين مالوا إلى توصيف الدولة الريعية، فإن خلدون
النقيب يرى أن هذا المفهموم قاصر عن الإحاطة بمحتوى الدولة موضوع التوصيف،
فالدولة الريعية، برأيه، ما هي إلا مرحلة انتقالية للفترة منذ اكتشاف النفط
حتى منتصف ستينات القرن الماضي نحو عصر الدولة التسلطية، رغم أنه لا يراها
مرحلة انتقالية ضرورية، فهناك طرق مختلفة تقود إلى الدولة التسلطية، فقد
دخلت كل من مصر وسوريا والعراق منذ أواخر الخمسينات عصر الدولة التسلطية عن
طريق الانقلابات والتأميمات وبقرطة الاقتصاد، وليس عن طريق الدولة الريعية
. والتفريق بين الدولة الريعية والدولة التسلطية ضروري جداً من وجهة نظر
النقيب، فالدولة الريعية تصف جزئية محدودة من النظام الاقتصادي تتعلق
باعتبار أن مصدر الدخل الوطني يأتي بشكل الريع الخارجي، وتتعلق بالدور الذي
يلعبه الريع في الإنفاق الحكومي وما يترتب عليه من نتائج . وعند هذا الحد
تقف أهمية هذا المفهوم، بينما الدولة التسلطية تمثل نظاماً سياسياً مميزاً
في منظومة أشكال النظم السياسية الاستبدادية عبر التاريخ، وتمثل الدولة
التسلطية نظاماً اقتصادياً متكاملاً يطلق عليه رأسمالية الدولة التابعة .


وخلافاً
لكل أشكال الدول الأخرى، فإن الدولة الاستبدادية تحقق الاحتكار عن طريق
اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل كامتداد
لأجهزة الدولة، كما أنها تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بالدولة، بما يقود
إلى رأسمالية الدولة التابعة، حيث تقوم الدولة بالاستيلاء على الفائض
الاجتماعي وعلى فائض القيمة بدلاً من الرأسماليين الأفراد، وهي تابعة لأنها
تدخل في علاقات اقتصادية وسياسية غير متكافئة مع الدول الأخرى، أما
الخاصية الثالثة للدولة التسلطية فهي أن شرعية الحكم فيها تقوم على استعمال
العنف أكثر من اعتمادها على الشرعية التقليدية .


وفي
هذا التوصيف كان النقيب ينطلق من قناعة مؤداها أن جذور الأزمة راسخة في
بنية النظام الرسمي العربي، محذراً من أن عدم معالجتها سيؤدي إلى اندفاع
الأمور نحو انفجارات اجتماعية كبرى، ونحو تفكك كيانات، ونحو أشكال من
النزاعات المذهبية والطائفية وسواها، وستفتح مثل هذه الانفجارات أخطر
الاحتمالات المتوقعة، وحتى غير المتوقعة، من تدخل إرادات خارجية، دولية
وإقليمية، إما لأنها ترغب في تكييف التغييرات واحتوائها بما يخدم مصالحها،
وإما أن تبحث عن أدوار وأوراق ضغط ومساومة، على نحو ما نشاهده حالياً . 
اقرأ المزيد

تزوير وطن

حين يقف غالبية النواب من ممثلي الشعب ضد رفع الحصانة عن نائب من بينهم
لم يكتف بسب وشتم أكثر من نصف المواطنين ووصفهم بالقردة والمجوس وعبدة
النار، وإنما تطاول على معتقداتهم ورموزهم الدينية، بحجة أن التهمة كيدية
وأنها كانت بهدف منع النائب عن مزاولة مهامه النيابية في الرقابة والتشريع،
على رغم أن المجلس النيابي بأكمله ارتضى لنفسه أن تسلب منه غالبية
الصلاحيات التي تمتلكها جميع البرلمانات في العالم.

حين تسحب الجنسية
من 31 مواطناً بحرينيّاً بخلاف القانون والمعاهدات الدولية وأهم مبادئ
حقوق الانسان دون اعتراض من أي من هؤلاء النواب.

حين يعم الفساد
المالي والإداري الذي وثقه تقرير ديوان الرقابة المالية الأخير وترتفع
عقيرة النواب بالتصريحات الصحافية الصاخبة في حين أنهم لم يناقشوا حتى الآن
التقرير السابق.

حين يتم الاستيلاء على الشواطئ والجزر من قبل المتنفذين في غفلةٍ من الناس.

حين تخلق نقابات عمالية من العدم، هدفها الوحيد ضرب الحركة العمالية الأصيلة في البحرين.

حين
يتم تعيين إدارات مفروضة على مؤسسات المجتمع المدني، وتعيين إدارات بديلة
عن إداراتها المنتخبة كجمعية المحامين البحرينية وجمعية الأطباء وجمعية
التمريض، وإغلاق جمعيات أهلية لا يمكن السيطرة عليها كجمعية المعلمين.

حين تكون مؤسسات المجتمع المدني الحكومية «الغونغو» هي المسيطرة.

حين تكون الصحافة ووسائل الإعلام هي الناطق الرسمي وليس هناك إلا رأي أوحد.

حين يتم إغلاق بعض الجمعيات السياسية ووقف نشرات جميع الجمعيات السياسية المعار ضة.

حين يُبرّأ المتهمون بالتعذيب، وحين يُسجن المدافعون عن حقوق الإنسان.

حين
تقف غالبية دول العالم والمنظمات الدولية ضد الممارسات غير الإنسانية
والانتهاكات الواضحة لحقوق الانسان، وتتقدم بـ 176 توصية يجب تنفيذها في
حين تقف الجماعات الموالية ضد ذلك وتتهم هذه الدول والمنظمات بعدم
الحيادية.

حين تُهدم المساجد الخاصة بفئة معينة، ويُمنع الناس من صلاة الجمعة.

حين يفصل أكثر من 6000 مواطن من عمله لمجرد مطالبتهم بالإصلاح.

حين يُسجن الأطباء، ويُعتقل أساتذة الجامعة وتُنصب المشانق للنشطاء السياسيين في الساحات.

حين تُمنع المسيرات السلمية في المدن والقرى، وتواجه المناطق الآهلة بالسكان بمسيلات الدموع.

حين يسقط الأطفال قتلى ويكونون الضحايا.

عندها يمكن أن يقال إنه تم تزوير وطنٍ بالكامل، بأرضه وتاريخه وهوائه وبحره وأهله.

جميل المحاري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

ضرر الورقة البيضاء

تعتبر مقاطعة الانتخابات في البلدان الديموقراطية أسلوباً من أساليب العمل
السياسي الاحتجاجي، والمقاطعة قد لا تفشل الانتخابات تماماً أو تمنع
العملية الانتخابية، ولكنها رسالة سياسية يقصد منها الرفض والاحتجاج على
اجراء ما أو ممارسة فيها مخالفات اجرائية أو دستورية أو تفتقد للنزاهة…
الخ.


ومن الطبيعي أن يكون هناك مؤيدون ومعارضون للمقاطعة، ومن الطبيعي كذلك أن
يستخدم كل طرف وسيلته لاقناع الناخبين والمرشحين أما بالمشاركة أو
بالمقاطعة.


وقد اعتادت بعض أطراف الليبرالية في النظام الرأسمالي في العالم على
المعارضة أو النضال النظيف، كمن يريد خوض بركة ماء ووحول دون أن يتسخ ثوبه،
بينما أي نضال سياسي أو جماهيري يحتاج الى عمل حقيقي على الأرض حتى وان
كانت التبعات مجهدة ومتعبة أو مواجهة لقمع وتعسف، وهذه الأطراف هي التي
يسميها الشعب المصري «حزب الكنبة».


ومن الأساليب التي اعتادتها هذه الأطراف في مقاطعة الانتخابات استخدام
الورقة البيضاء في صناديق الاقتراع، وترفض ما تسميه أساليب الغوغاء والعامة
وبالتعبير الكويتي «الهيلق»، بل لا تريد الاختلاط بالعامة والدهماء خوفاً
من اتساخ الثوب وتعمل بعزلة دون ضجيج أو تنتظر.
وتعتقد هذه الأطراف أن القاضي في لحظة الفرز وعندما يخرج ورقة بيضاء من
الصندوق سيقول بأعلى صوته «ورقة معارضة»، لكنه في واقع الحال سيقول «ورقة
لاغية» مثلها مثل الورقة التي تحمل ترشيحات أكثر مما هو مقرر بالقانون.
ليس هذا فقط، ولكن المشاركة في الورقة البيضاء ستعني في النهاية «زيادة
نسبة المشاركة في الانتخابات» وزيادة الاقبال على صناديق الاقتراع، اذا هو
عمل ضد المقاطعة أو لا يحقق الهدف منها بل يسهم في دعم المشاركة ويشق الصف
الجاهيري المعارض أو يضعفه.
فالحراك الشعبي الأخير «مسيرة كرامة 2» أفرز قادة جماهيريين ميدانيين
وسياسيين حقيقيين، لم يستنكفوا لبس الملابس الرياضية والاختلاط بالجماهير
سواء اتفقنا معهم أم لم نتفق، لكن هكذا هو النضال أو العمل السياسي يكون مع
الجماهير وحيث هي أو حيث توجد، وليس الخشية من التلوث بعرق «العامة».
اذاً المقاطعة لا تحقق رسالتها بالأمنيات ولا بالاحتجاج الذاتي الداخلي ولا
باشعال الشموع، رغم أننا لسنا ضد رمزية الاحتجاج ان تطلب الأمر ذلك، لكن
الرسالة تتحقق بالتشمير عن السواعد والعمل على أرض الواقع، كما فعلت مجموعة
من الشباب عندما شكلوا «اللجنة الشعبية لمقاطعة الانتخابات» هدفها التوعية
والتعبئة، والتي حظيت بقبول من عشرات الآلاف من المواطنين في حساب التويتر
الخاص بها.
وفي النهاية فإن المشاركة والمقاطعة هما خيار وحق.

وليد الرجيب




اقرأ المزيد