المنشور

«سحب الجنسية» مخالف للقانون ولقيم المجتمعات المتحضرة

تشهد المنطقة العربية منذ مطلع العام 2011 وحتى اليوم الكثير من
المتغيرات وأيضاً التخبطات فيما يتعلق بالسياسات التي تريد أن تنفرد بها
دول المنطقة عن غيرها دون النظر إلى معايير وبنود القانون الدولي والمواثيق
المتعلقة بحقوق الإنسان وهي تعد انتهاكاً صارخاً لما يمارَس ضد الفرد
داخل مجتمعه لمجرد الاختلاف في الرأي والمعتقد والعرق.

وهو ما يُعتبر
مخالفاً للقانون الدولي؛ إذ لا يمكن أن تحول المواطن إلى «بدون» وانتهاكاً
للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وللعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية
والسياسية الذي اعتمدته البحرين في 2006، لكونها سياسة تجرد الفرد من كل
شيء بما فيه قيمته كإنسان وتحوله إلى « نكرة».

إن ردود الفعل للخطوة
التي أقدمت عليها الحكومة بسحب الجنسية لواحد وثلاثين مواطناً بحرينياً، لم
تكن موفقة؛ إذ وصف الكاتب جميل الذيابي في عموده بصحيفة «الحياة» السعودية
الصادرة بتاريخ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 قرار سحب جنسية المواطنين
البحرينيين بأنه قرار «غير موفق ولا إنساني»، بينما اعتبره الكاتب حسام
عيتاني من الصحيفة نفسها بتاريخ 9 نوفمبر 2012 بـ «الخطوة الخاطئة». وقال
عيتاني «سحب السلطات البحرينية الجنسية من 31 معارضاً خطوة خاطئة، فهي
تتعارض مع كل ما أعلنته السلطات من رغبة في الحوار كمدخل إلى التسوية
السياسية للأزمة القائمة منذ شباط (فبراير) 2011 أولاً، وتبدو في تناقض
صريح مع التغييرات التي تشهدها المنطقة وكاستفزاز لمشاعر مئات آلاف
البحرينيين».

الذيابي كتب من جانبه عن التحديات التي تواجها دول
المنطقة الخليجية مع شعوبها بأن «الأنظمة الخليجية تواجه تحديات وصعوبات
واستحقاقات عدة، يتطلب تجاوزها بالتجاوب معها، إلا أنه على رغم ذلك لا تزال
حركة تفاعل الحكومات مع شعوبها بطيئة».

وبدلاً من مواجهة المشكلة
والاعتراف بها فإن الذيابي رأى أن «دول المجلس تلتزم التعتيم الإعلامي في
توضيح مواقفها، وأمانة المجلس تلوذ بالصمت!» وهي حقيقة معاشة لا يمكن
تجاهلها في المشهد السياسي بمنطقة الخليج.

وأضاف: المشاكل الخليجية
بإمكانها أن تنحل لو تم الاستماع إلى الشعوب التي هي واعية بما تطالب به
بدلاً من سياسة الردع أو التجاهل وهنا كتب الذيابي يقول «الأكيد أن الحلول
ليست صعبة إلا لمن يريد أن تسير العربة بلا خيول برغبة تصعيب الحلول
وتفويتها. فالتحدي الأكبر أمام الدول الخليجية لا ينبع من التهديدات
والتدخلات الخارجية ومشكلة الأمن الإقليمي فقط، بل الأولى بالحلول العمل
على تحصين الداخل، والاستجابة للمطالب والاستحقاقات الشعبية، وتسريع عملية
الإصلاح السياسي، وبناء دول مؤسسات قوية، قادرة على التعامل مع المتغيّرات
وفق صيغ زمنية عملية، رأس حربتها الحقوق وتفعيل المشاركة الشعبية، فتلك
ضرورة استراتيجية للتكامل الرسمي والشعبي في ظل تزايد حالة الاستقطاب
الإقليمي وحجم الإحباطات الشعبية، بالابتعاد عن منطق التأجيلات وتعليقها
على شماعة المخاطر والتحديات، فالشعوب ناضجة وواعية».

لقد لخص
الذيابي الوضع المتوتر في دول الخليج، محذراً من تفجر وتفاقم الوضع
«فالبحرين التي تشهد توتراً داخلياً منذ عامين ستستضيف القمة الخليجية
الـ33 للقادة، وربما هي القمة الأولى التي تعقد في ظل أوضاع أمنية داخلية
غير مستقرة في بعض دول المجلس، وفي مقدمها البحرين والكويت». مضيفاً
«التقرير الذي صدر عن اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق في البحرين، برئاسة
بسيوني، أكد في بعض فقراته وجود حالات اعتقال تعسفي، وفصل لموظفين وطلبة
على خلفية المشاركة في التظاهرات، وتعدٍّ على القانون في أساليب القبض
ومعاملة الموقوفين. كانت الآمال بتصحيح الأوضاع، لكن البحرين اتخذت أخيراً
قراراً غير موفق ولا إنساني بسحب الجنسية من 30 معارضاً، في خطوة ستزيد من
الغضب الشعبي والاحتقان».

وفي موضوع تجريد الجنسية البحرينية رأى
الكاتب عيتاني من الصحيفة نفسها «كان من الأجدى عرض ما تملكه الوزارة من
أدلة على تورط المجردين من الجنسية في الإضرار بأمن الدولة على القضاء
وتوفير محاكمة علنية ونزيهة وعادلة لهم». مضيفاً «لقد تعهدت السلطات يومها
بالاقتصاص من الجناة من بين رجال الأمن. ولا مفر من القول إن هذه الانتكاسة
الخطيرة في التعامل مع المعارضة ستزيد من الاحتقان الطائفي لوقوع التجريد
من الجنسية على عشرات الناشطين المنتمين إلى طائفة واحدة هي الطائفة
الشيعية. وسيصب القرار الماء في طاحونة الدعاية الإيرانية الساعية إلى فرض
وصاية طهران على كل الشيعة العرب وإلحاقهم بمشروعها الإمبراطوري».

بلاشك
ما كتب في هذا الشأن في الصحافة العالمية يعكس جلياً اهتمام المجتمع
الدولي بموضوع سحب الجنسية بتلك الصورة التعسفية وهي للأسف ممارسات ليست
جديدة على الساحة البحرينية ولا تقتصر على فئة واحدة ولكنها ترجع إلى العام
1954 عندما تم سحب الجنسية من القائد الوطني عبدالرحمن الباكر، وكان سحب
جنسية الباكر محوراً أساسياً للحراك التاريخي الذي شهدته خمسينات القرن
الماضي، وقد رفض الشعب البحريني كله آنذاك تلك الخطوة غير الإنسانية
والمخالفة لقيم المجتمعات المتحضرة.

ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

أوباما العائد



كما
فعلت قبل أربع سنوات، أعادت أمريكا انحيازها إلى خيارها في العام 2008 حين
أظهرت جاهزيتها الثقافية والسياسية لقبول أن يكون رئيسها غير أبيض، وكما
في المرة الأولى أحيطت إعادة انتخاب أوباما بتأكيدات على الشوط الذي قطعه
المجتمع في أن يتعامل بتكافؤ ومن دون عقد مع مكوناته كافة، حين يتعلق الأمر
بممارسة الحقوق السياسية، وكانت لحظة مؤثرة التي أعلن فيها غريم أوباما
ومنافسه الجمهوري رومني، وهو يعترف بعدم محالفة الحظ له، أنه هنأ الرئيس
أوباما بفوزه، داعياً الأمة إلى إعادة التوحد حول رئيسها الذي اختارته
أغلبية الأمريكيين . إنه درسٌ في الديمقراطية وفي السلوك السياسي المتحضر .


حقق
باراك أوباما، أول رئيس ملون للبيت الأبيض، الاختراق الذي كان يبدو حتى
عقود، لا بل سنوات قليلة مضت، عصياً، فبدت أمريكا معه كأنها تنتصر على
نفسها، على إرثها الثقيل في التعامل مع السود والملونين كما لو كانوا
مواطنين أمريكيين من درجة أقل من تلك التي للبيض، وبالتأكيد، فإن أمريكا
بهذا الاختيار انتصرت لنفسها أيضاً، لحاجات التطور الموضوعي التاريخي الذي
يفرض عليها التصالح مع واقعها ومع نسيجها السكاني المتعدد الذي منه تتكون
الأمة الأمريكية .


وعد
أوباما مواطنيه بمواصلة التغيير، والمسافة بين الوعد الانتخابي وتحقيقه
كبيرة، ليس لأن نوايا من يَعد هي بالضرورة ليست صادقة، وإنما لأن المجتمعات
التي تُدار بأنظمة الدولة والمؤسسات تظل محكومةً بآليات راسخة، لا يستطيع
الرئيس الفرد مهما بلغت قوته، أن يلغي ما أرسته من أسس وقواعد، عليه
التعامل معها، خاصة أنه جاء إلى الرئاسة بموجبها . ورغم أن خصوم أوباما
يقللون من قيمة حصاد السنوات الأربع التي قضاها في البيت الأبيض، فإن نتائج
الانتخابات أظهرت أن أغلبية الأمريكيين لا يزالون يثقون به، لذلك قرروا أن
يمنحوه فرصة أخرى ليواصل ما يرون أنه قد بدأه .


مع
ذلك يتعين القول إن “ثوابت”سياسة دولة عظمى كالولايات المتحدة لا يصنعها
سيد البيت الأبيض وحده، ولا إدارته، سواء كان الرئيس ديمقراطياً أو
جمهورياً، فسياسة الدولة هناك، خاصة في وجهتها الخارجية، ترسم من قبل عدة
مواقع قرار ولوبيات مالية وسياسية ضخمة، وليس بوسع الرئيس أن يتجاهل نفوذ
الكونغرس ومصالح البنتاغون والمجمع العسكري، وتأثير وكالة المخابرات
المركزية الأمريكية “سي  .آي  .
إيه«، ولذا فبعض الرهان العربي قبل إعلان نتائج الانتخابات، على فوز
الجمهوريين، توخياً لمواقف أمريكية مختلفة على الصعيد العربي، رهان مبالغ
فيه، كي لا نقول إنه في غير محله، فحتى لو فاز رومني فإنه لن يقلب سياسة
أوباما الخارجية عاليها سافلها، حتى لو أدخل عليها بعض اللمسات المختلفة،
ويمكن ملاحظة ذلك من سلوك أوباما نفسه الذي ورث عن جورج بوش الابن تركة
ثقيلة، لكنه ظل وقد بلغ نهاية ولايته الأولى يتعثر في أن يعيد إلى أمريكا
شيئاً من الرشد بعد الجنون الذي قادها إليه بوش وفريقه من غلاة المحافظين
الجدد الذين دفعوا أمريكا والعالم كله إلى المهالك أو ما يشبهها .


والديمقراطيون
كما المحافظين الجدد ينظرون إلى المنطقة العربية باعتبارها المنطقة
الوحيدة التي تغيب عنها الديمقراطية، ولكن التجربة أظهرت أنهم كأسلافهم
معنيون بالمصالح لا بالمبادئ، وهذا ما ستبرهن عليه، مجدداً، الولاية
الثانية لأوباما، فهو لن يقوى، ولن يرغب، في الخروج عن قماط هذا النهج .
اقرأ المزيد

تحولاتُ اليسارِ الإيطالي

ولدَ اليسارُ واليمينُ المتطرفان الإيطاليان في ظل أزمةِ الحربِ العالمية الأولى ولعجزِ الحركات الاشتراكية الديمقراطية أن تكونَ قوة رادعة لفظائع هذه الحرب وبسببِ انقسام جماعاتها إلى قومياتِهم المتحاربة.

اليسارُ الشيوعي واليمينُ الفاشي خرجا بأطروحاتٍ متضادةٍ تمثلُ أقصى اليسار وأقصى اليمين، وتعتمدُ على اضطرابِ أحوال الطبقات العاملة وظروفها المعيشية السيئة، وهكذا فإن تيارات البرجوازية الصغيرة المثقفة والمسيَّسة، قدمتْ حلين متضادين كليا، وحجمتا القوى الاشتراكية الديمقراطية وصعدتا اليمين المسيحي الذي سوف يكون الحاضنةَ الكبيرة للجمهور خلال عدة عقود تالية بعد الحرب العالمية الثانية، جامعا بين مُثُلِ الكنيسةِ المحافظةِ التقليدية وسيطرة رأس المال الكبير.

الجوهرُ الاجتماعي المعتمدُ على الفئاتِ الصغيرة القلقة المضطربة ذات الانتماءات الحادة بين اليمين واليسار يعبرُ عن تحويلِ الخيال السياسي وفرضه على الجمهور، وإسقاط مقولات ايديولوجية حادة على الواقع، ولهذا فإن اليسارَ بصيغتهِ الشيوعية كان انعكاسا لغموضِ الماركسيةِ السياسي وعدم تبلورِ وعيها في مسائلٍ محوريةٍ مرتبطة بالتاريخ العالمي، وهي قفزةٌ برجوازية صغيرة لأقصى اليسار ولهذا فإن القضيةَ المحورية التي كانت تتمثلُ بإقامةِ جبهةٍ عريضة من القوى الاجتماعية و(الإنسانية) لوقف تقدم الفاشية للسلطة بُترتْ بسببِ تشكيلِ وجهةِ نظرٍ لا تقل مخاطرة عن الفاشية. ولهذا فإن الأفكارَ السياسيةَ الجموح الناتجة عن الاضطرابات الرهيبة التي سببتها الحربُ العالميةُ الأولى كانت تدفعُ نحو حربٍ عالمية ثانية أكثر ضراوة.

لم يكن موسوليني سوى شخص تافه عدواني ضحل الثقافة، عاشَ على الجريمة وظل على الحدود الشائكة والتاريخية كمجرمٍ ومطلوبٍ للعدالة، ولكنه قفزَ لبحرِ الاضطرابِ السياسي بعد الحرب وألف عصبة من المحاربين القدامى بعد الهزيمة.

( لم يكن العمل متوافرا للجنود العائدين من الحرب، والأسعار عالية ولم يكن باستطاعة الفقراء شراء حوائجهم. وكانت هناك الاضراباتُ في المدن وتشكلتْ العصاباتُ من الفقراء وبدأتْ بحرقِ بيوت الاغنياء، وكان الجميعُ خائفا من شيء ما، وقد استشعر موسوليني مزاجَ الشعب وحالته النفسية وكان يرى غضب الجنود)،(دعا موسوليني إلى اجتماع وفيه أسس حزبا سياسيا سماه الحزب الفاشستي. لكنهم لم يتصرفوا كحزبٍ سياسي وانما كرجال عنف وعصابات وقد لبسوا القمصان السوداء. قال لهم موسوليني ان عليهم معالجة مشاكل إيطاليا وان عليهم أن يكونوا رجالا اقوياء. فعندما يكون هناك اضراب عمالي يأتي الفاشيست ويوسعون أولئك العمال ضربا وفي صيف 1922 كان هناك اضرابٌ كبيرٌ في المواصلات وقد عجزت الحكومة عن التعامل مع ذلك ولكن الفاشيست سيروا الحافلات والقاطرات وانهوا الاضراب. ووصل الامر الى أن طلب الاغنياء مساعدة الفاشيست لحمايتهم. نجح الفاشيست في ذلك. وقد هزموا الشيوعيين في الشوارع وأرغموهم على شربِ زيت الخروع. وكان الشعب يطالب بزعيم قوي مثل موسوليني ليقود البلاد. وقال موسوليني إنه الوقت المناسب للاستيلاء على السلطة)، موسوعةُ ويكيبيديا.

كان ظهورُ الحزبِ الشيوعي الإيطالي هو حالةُ مثقفين من الفئة الوسطى الصغيرة يطرحُ بعضُ مثقفيها أفكارا تحليلية اجتماعية جزئية، ولم تكن لحظة التاريخ الراهنة مفهومة لهم، من خلال النموذج القادم من روسيا بالقيام بثورة عمالية، ويعطينا أنطونيو غرامشي، المثقفُ البارزُ من الرعيلِ الأول، مادة على مراقبةِ هذا الواقع من خلال هذه الأدوات الفكرية. لقد ساهم في تأسيس الحزب سنة 1921، لكن تمَّ اعتقالهُ مع تنامي الحركة الفاشية. إن تحليلاته التفصيلية لأنماطِ المثقفين وتنوع انتماءاتهم عبر التضاريس الإيطاليةِ الدقيقةِ هي غارقةٌ في تفاصيلِ الواقعِ الملموس المحدودِ تاريخيا، وتطرحُ المهمات العاجلة بدون أفق بعيد، وأهمها نقل المثقفين للتصوراتِ الاشتراكية إلى داخل العمال، وبالتالي تحويلهم لقوةٍ سياسية تقودُ للسيطرة على المجتمع وتحويل العمال لأداةٍ لسيطرة البرجوازية الصغيرة المتمركسة هذه:(فالطبقة العاملة شأنها شأن البرجوازية قبلها، قادرة على أن تنمي من داخل صفوفها مثقفيها العضويين. ووظيفةُ الحزبِ السياسي، سواء كان طليعيا أم جماهيريا هي أن يكونَ قناة لنشاط هؤلاء المثقفين العضويين) من كتاب دفاتر السجن.

إن تحليل غرامشي لفئات المثقفين هو مفيد لكن غير مقروء داخل التشكيلة وهو يسحب تحليل للينين عن المثقفين ويضعه في عالم إيطاليا، أي يتناول ظرفا شرقيا شموليا ويدخلهُ في عالم إيطاليا الديمقراطي، ويحدثُ ذلك بسبب اللحظة الوطنية الإيطالية حيث التدهور الاجتماعي المؤقت، وتصاعد الفوضى والشمولية. ويعبرُ غرامشي في ذلك عن عدمِ فهم مستويي الرأسماليةِ العالمية الغربية المتطورة والشرقية المتخلفة.

إن أفقَ الاشتراكيةِ البعيد يقودُ لضياع خطى الحزب الشيوعي الإيطالي بابتعادهِ عن تكوين الجبهة العريضة ضد الفاشية حتى تحلّ عليه ضرباتها الرهيبة، وبعدها صعدتْ المهماتُ الوطنيةُ الديمقراطية وهكذا فإن الفاشيات كانت تعيدُ الماركسيين سواء في إيطاليا أم في الاتحاد السوفيتي إلى حقائقِ الأرضِ وإلى المهام الوطنيةِ الديمقراطية وعبرها يمكن أن يهزموها بالتحالف مع الرأسمالية الغربية (عدوة الشعوب سابقا) ومع العديدِ من القوى المسيحية والاشتراكية، وهو الأمر الذي جعل من حزبهم الحزب الشيوعي الإيطالي بعد الحرب من الحزبين الكبيرين الرئيسيين، ولكن كان الثمنُ رهيبا مكلفا، كما كانت عمليةُ التخلص من الميراث الشمولي طويلة وصعبة

أخبار الخليج  14 نوفمبر 2012


 
تحولاتُ اليسارِ الإيطالي (2-2)


كان خروجُ الحزب الشيوعي الإيطالي قويا بعد الحرب العالمية الأولى هو جزءٌ من التضحيات الجسام الوطنية التي بذلها للدفاع عن الوطن والديمقراطية ضد الفاشية.

لكن جماهير الشعب كانت بحاجة الى إعادة ترميم الوطن وارتفاع مستوى حياة الشعب ولهذا فإن أطروحات الحزب الاشتراكية لم تلق صدى على مدى عقود، وعجز فيها الحزبُ عن الوصول الى السلطة لتشكيل النظام الاشتراكي الموعود، فيما تقبل الشعبُ الشيوعيين كحكامٍ كثيرين للبلديات والأقاليم، أي بصفةِ التنظيم مساهما في تطوير النظام الرأسمالي الديمقراطي.

لم يستطعْ الحزبُ الخروجَ من قيوده الايديولوجية السوفيتية الروسية، وبدت اللافتاتُ الكبرى عن الحركةِ الشيوعية العالمية ذات الايديولوجيا الموحّدة تضطربُ وتتقلقلُ بين عقدٍ وآخر، وقد عبرتْ تلك اللافتاتُ عن الصلاتِ التنظيميةِ والمساعدات التي كانت تُعقدُ بين الحزب وروسيا، ولكن الحزبَ الشيوعي الإيطالي صار حزبا جماهيريا كبيرا وذا نفوذ وطني وإمكانيات، كما أن أوروبا الغربية بدأت تتحولُ إلى كيانٍ رأسمالي موحدٍ عالمي متقدم ينافسُ الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوة اقتصادية في العالم.

كانت الايديولوجيا المُصدرةُ من روسيا، أيديولوجيا رأسماليةِ الدولةِ الدكتاتورية، لم تُواجه من قبلِ عقلا ماركسيا متقدما في إيطاليا، ولم تسعفْ جرامشي أدواتهُ التحليلية الجزئيةُ المحدودةُ في فهمِ الإشكالية التاريخية، وكان انفصالُ الحزب الشيوعي الحاد عن الاشتراكية الديمقراطية وخطأ هذا الانفصال، وصعوبة الاعتذار عن كل تاريخ الانشقاق بين الحركتين، وسيطرة البيروقراطية الحزبية المستفيدة من هذا التشكيل السياسي الطويل، هذا كله جعل من الصعب القيام بنقدٍ ذاتي عميق واسع، ولكن الاختلافات الموضوعية بين الجسمين السياسيين الاجتماعيين، جسم روسيا الغارقة في سيطرةِ رأسماليةِ الدولة الروسية القومية المهيمنة المتآكلةِ تاريخيا والعاجزةِ عن التحولِ لمجتمعٍ ديمقراطي حديث، وجسم أوروبا الغربية المتطورة نحو آفاق أكبر من الحداثة والديمقراطية والتوحد، كانت تَظهرُ بأشكالٍ عفوية جزئية وتحدثُ صداماتٍ بين الكيانين.

ظهر ذلك في تصاعدِ مجموعة الشيوعية الأوروبية الرافضة لمركزٍ روسي مهيمن تعبيرا عن تباين مستويي التطور التاريخيين. ومنذ سنة 1976 وفي مؤتمر الأحزاب الشيوعية في برلين تصاعدتْ الخلافاتُ بين الشيوعيين الأوروبيين وروسيا، وعبّر زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي برليجوير عن عدم وجود مركز واحد للحركة، وأكد أن النظرية الماركسيةَ لم تواكب تحولات العالم، وأكد تمسكه بحرية الصحافة وحق الاضراب في النظام الاشتراكي، (الأورو شيوعية والتوازن الدولي الجديد، عبدالعاطي محمد، السياسة الدولية 1977).

كانت هذه مسائل سياسية صغيرة تعبرُ عن مدى الجمود في الأحزاب الشيوعية الأوروبية نفسها، وتمحورت في كثيرٍ منها على مسائل السياسة الخارجية: كرفض وجود قيادة مركزية للحركة، وغزو افغانستان المستهجن، وغياب حريات المبدعين والمنشقين في روسيا، ورفض الصراعات داخل(المعسكر الاشتراكي) وغيرها من المسائل التي عبرتْ عن ضيقِ أفق هذه الأحزاب في الوقت الذي كانت كرةُ الثلجِ الشمولية تتدحرجُ متجهة لضرب الأسس العامةِ للنظام السوفيتي.

كانت القداسةُ الموجهة لنظام رأسمالية الدول الشمولية الروسية تعبرُ عن ضياعٍ نظري هائل، حتى إذا حدثت الكارثةُ وتفجرتْ شظاياها على العالم، كان اوان الإصلاحات العميقة داخل هذه الأحزاب قد فات زمنه، ولهذا رأينا الانتقادات تتوجه لجزئيات معبرة عن تفكير محدود، لأن أغلب الأسس التي أُقيمت عليها هذه الأحزاب في الأممية الثالثة بقيادة لينين ثبت بطلانُها لكن لم تتم مراجعتها، وتكشف التاريخ بشكلٍ مرعب فليس ثمة اشتراكية ولا دكتاتورية بروليتاريا، بل نظامٌ آسيوي «نهضوي» استبدادي.

وأمام هذه التحولات العاصفة كان الجثومُ في عقلية الأممية الثالثة مدمرا، ولهذا فإن الحزب الشيوعي الإيطالي ذو الجماهير الكبيرة امتلأ بانشقاقات عديدة وحدثت انقساماتٌ كبيرة داخله وظهرت أسماء لا يمكن متابعتها بدقة عبر هذا العرض الموجز، وقفزت أحزابٌ يمينية للسلطة في إيطاليا واسهمت قوى قريبة لليسار فيها، ولكن كل المقاربات(الشيوعية) للديمقراطية الغربية لم تصل الى العودة للاشتراكية الديمقراطية والنضال الإصلاحي التدريجي والقبول بالتعددية وفهم أن التشكيلة الرأسمالية العالمية تحتاج الى عقودٍ وقرون كي يظهرَ البديل من داخلها، ودور الأحزاب التقدمية تغيير ظروف حياة شعوبها الراهنة والدفاع عن الطبقات العاملة وأوضاع الأمم والشعوب المتداخلة معها لتتحقق تحولات ديمقراطية مستمرة.


أخبار الخليج  
15 نوفمبر 2012

 

اقرأ المزيد

إلى متـــــى نئــــن فســــــاداً..؟


لا يلام البحرينيون حين يجاهرون بالاستياء من ذلك الكم وتلك النوعية من المخالفات والتجاوزات وتلك الاخطاء والخطايا التي تكشفت اخيرا في وزارات ومؤسسات وهيئات رسمية. كما لا يلام البحرينيون حين يبدون انزعاجا من هذا المدى في استمرار جهات رسمية على النهج ذاته من الاداء والتقصير والاخفاق والفشل والارتجال وعدم وضوح الرؤية وتكرار المخالفات الصريحة للقانون والمخلة بواجبات الوظيفة العامة وبابسط مبادئ المسؤولية، من دون تغيير في النص والمشهد وربما الشخوص، ومن دون رادع او خشية من عقاب، وكأن قيمة المساءلة والمحاسبة قد شيعت او كادت الى مثواها الاخير..!!
 
ومن وحي الوقائع والتجربة لا يلام البحرينيون حين يقابلون بريبة اي تطمينات او اي كلام عن لجان تحقيق حكومية او برلمانية، او وعود باجراءات ردع وحسم بحق المخالفين ومن انتهكوا النظم والضوابط المالية والادارية ومارسوا شتى صنوف الفساد، فالتقارير المتعاقبة على مدى 9 سنوات لم تثمر عن محاسبة مسؤول واحد على اي اخطاء او تجاوزات، بل يفاجأ الناس بان هذه الاخطاء والتجاوزات تتكرر عاما تلو عام، يتلوها كلام ووعود تتكرر لا تخرج في جوهرها عن دائرة «ذر الرماد في العيون»..!!
 
كما لا يلام البحرينيون حين يرتفع منسوب القلق لديهم من هذا التلكؤ في وضع ملف الفساد في صدارة الاولويات، ومن استمرار التعاطي مع تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية باستخفاف كحدث سنوي عابر، ومن استمرار اعتبار المكتشف من التجاوزات الصريحة والمستفزة وكل ما يدخل في تعريف الفساد بانها ملاحظات، مجرد ملاحظات ستخضع للدراسة، ولا يلام البحرينيون حين يقلقون من تكليف نفس الجهات التي ارتكبت او تورطت في الاخطاء والخطايا القيام بالتصحيح والمعالجة دون ادنى مراجعة للمنهجية المتبعة التي انتجت ذلك الحمل الثقيل من مظاهر التقصير والتخبط والمفاسد، وكما من حق البحرينيين ان يستشعروا احباطا ويأسا حين يقرأون تصريحات نواب وهم يجاهرون بانهم غير قادرين على ان يمارسوا دورا يوقف الهدر للاموال العامة، وبانهم «يجتهدون للحد من المخالفات» ويكتفون بالشجب والادانة ويذكروننا بالآليات الدستورية المعطاة لمجلس النواب للتعامل مع تقرير ديوان الرقابة ويصفونها بانها «عقيمة»، ويؤكدون بان كل ما يمكن ان يقوموا به هو «: ان يوجهوا سؤالا للوزير او يشكلوا لجنة تحقيق».. «الايام- الجمعه 2 نوفمبر 2012».
 
ذلك الاستياء، وذلك الانزعاج، وتلك الريبة، وذلك القلق وذلك الاحباط واليأس، يعني ان الناس في هذا البلد باتوا مسكونين بالمرارة والسخط والنقد اللاذع جراء هذا الذي يتم تداوله والمعبر عن صور ومظاهر فساد وانحراف، تمثلت بالتربح الشخصي من الوظيفة العامة، وسوء استغلال السلطة، وهدر الموارد المالية وتدني اخلاقيات المهنة، بجانب تلك المتمثلة بتدنى مستوى الاداء والكفاءة، والمخالفات الصريحة للقانون والممارسات الملتوية التي تصل حد التزوير بالاضافة الى صور الاهمال والعبث بمستلزمات الشفافية وغيرها من الصور والمظاهر التي من الصعب تصور ان تمر مرور الكرام في بلد آخر.
 
يبقى استخلاص نعود اليه.. بعد نشر التقرير الأخير، وفيه ما فيه من حيثيات لازمت الكثير من الانشطة والاجراءات التي انطوت على خرق او تجاوز او هتك مذهل ومستفز للقواعد الادارية والمالية والاخلاقية وكل ما عدّ مصدرا للفساد بل منبعه، ثمة استخلاص تمثله تساؤلات حائرة:
الى اي مدى يمكن الاستمرار في هذا الواقع والى متى تبقى حالة التراضي الراهنة؟، ثم هل من جهة رسمية او اهلية اجرت عملية حسابية لمجموع الهدر والنزيف في المال العام جراء تلك الخروقات والتجاوزات على مدى السنوات التسع الماضية؟، وكم كان يمكن لو وجه المال العام الوجهة الصحيحة ان يؤثر على تحسين اوضاع المواطن وحل مشاكل مستعصية من اسكان ورواتب متدنية وتقاعد وبيوت آيلة للسقوط، وبطالة، ….. الخ،
ثم ماذا يعني تكرار المخالفات؟، او ان 35% من توصيات التقرير السابق لم تنفذ؟ وماذا يعني ان هناك وزارات لم تنفذ ايا من توصيات المهام الرقابية وكأنه لايهمها لامساءلة ولاحساب؟، وماذا يفهم من اعلان بعض الوزارات في الايام الماضية بانها ستبدأ تنفيذ التوصيات اليس لذلك معنى لا يخفى على ذوي الفطنة؟ وهل افتقدنا الى مسؤول يمتلك الشجاعة ليظهر على الملأ مبرءا ساحته من اي شبهة؟،
ثم ماذا يعني ان المواطن لم يلمس خطوة واحدة تشفى الغليل على طريق المواجهة الفعلية لهذه التجاوزات؟، واذا كان هناك خطوة او خطوات اتخذت فلماذا لم يعلن عنها من باب الشفافية التي يدعي الكل وصلا بها؟،
ثم ماذا يعني عدم تمكين ديوان الرقابة لحقه في احالة المخالفات والتجاوزات الى النيابة العامة اذا كان حقا يمتلك هذا الحق؟،
ثم ومتى يستمر هذا المستوى المتدني من النواب في التعاطي مع كل تقرير من تقارير الديوان؟، وهل يشفع للنواب توجيه سهام النقد الى الحكومة ظنا منهم ان اصواتهم العالية وخلط الاوراق ستقنع الجميع بانهم يمارسون حقا دورهم الرقابي، وماذا يعني ان يظل قانون كشف الذمة المالية حبيس الادراج منذ صدوره في يوليو 2010؟
واخيرا اذا كان ظاهر المخالفات هو توصيف عام وتفتقر الى التوصيف الجنائي الذي تختص به النيابة العامة والقضاء كما قال المحامي فريد غازي، اليس حريا ان تباشر هذه السلطة التحرك والتحقيق؟
 
ان من يستبيح نظم التوظيف والرواتب والترقيات ويضربها عرض الحائط ويمنح مكافآت وعلاوات لاشخاص بعينهم دون وجه حق ويخالف قانون تنظيم المناقصات والمزايدات والمشتريات الحكومية، ومن يمنح اعفاءات غير مبررة او تنفيذ مشاريع من دون دراسات جدوى واعتمادات مالية، ومن يتعامل مع مقاولين واستشاريين وفق قواعد المصلحة الخاصة القائمة على التنفيع والاستنفاع، ومن يعيّن موظفين غير بحرينيين يحصل الواحد منهم يوميا على 350 دينارا دون معرفة حضورهم وانصرافهم وانتاجهم، وعندما يقوم رئيس كلية وزوجته بالاستجمام حول العالم من ميزانية الكلية، وعندما يتم توظيف غير المؤهلين اكاديميا من دون اعلانات او معايير او ضوابط، وعندما تختفي مستندات ثبوتية للمصروفات وتجاوزات في مدن رياضية لم تجهز بعد، وعندما تحدث مخالفات هنا وهناك وهنالك من العيار الثقيل والتي تجعل المرء يكتشف باننا امام معضلات احد عناوينها الكبرى ” الفساد “، نكون عندئذ بحاجة الى عمل وطني جامع بكل معنى الكلمة.. عمل عنوانه «محاربة الفساد» والا سيبقى وطننا يئن من الفساد والمفسدين

وحسبنا الله ونعم الوكيل.


13 نوفمبر 2012

اقرأ المزيد

بين ندوتي المنبرين ” التقدمي” و ” الإسلامي”


في الندوة التي أقامها المنبر التقدمي لمناقشة تقرير ديوان الرقابة المالية الأخير وتحدث فيها الأمينان العامان للمنبر التقدمي والتجمع القومي عبدالنبي سلمان ود.حسن العالي ونائب رئيس الهيئة المركزية لجمعية وعد عبدالله جناحي قدمت معطيات مهمة على صلة بالموضوع، فحين تحدث سلمان عن وقائع أحاطت بالصدور السنوي لهذا التقرير منذ الفصل التشريعي الأول، معتبراً تقرير هذا العام هو الأضعف، بالمقارنة مع ما سبقه من تقارير، وعرض أوجهاً للتجاوزات التي رصدت النسخ السنوية المتكررة للتقرير نماذجا منها، اختار العالي عقد مقارنة بين صلاحيات وهيكل ومرجعية ديوان الرقابة المالية لدينا، وبين أمثالها في البلدان الأخرى، ليكشف أوجه القصور والعيوب في نظام الرقابة المعمول به في البحرين، أما جناحي فقد تحدث عما لم يتضمنه هذا التقرير من تجاوزات وأوجه فساد، متوقفاً أمام فداحة تلك التجاوزات المسكوت عنها.
 
ولفت نظري في تغطية «الأيام» أمس للندوة التي أقامها النائب الدكتور علي أحمد الأمين العام للمنبر الإسلامي في مجلس النائب محمد العمادي ذهابه إلى نفس ما ذهب اليه عبدالله جناحي، حين قال: «أن نقرير ديوان الرقابة لا يظهر المخالفات الكبيرة، بل يظهر مخالفات متوسطة وصغيرة، بالإضافة إلى تناوله لمخالفات متكررة في مجموعة من الوزارات والهيئات بينها الداخلية والخارجية والمالية والمجلس البلدي للمنامة».
وقال الأمين العام للمنبر الإسلامي ورئيس كتلتها في مجلس النواب كلاماً مهماً حول موضوعنا هذا يتسق، شكلاً ومضمونا، مع ما أشار إليه المتحدثون الثلاثة في ندوة «التقدمي»، حين طالب مجلس النواب بالقيام بدوره الحقيقي في التشريع والرقابة والتصدي لمثل هذه التجاوزات والخروقات، وأن تتعاون القيادة مع مجلس النواب في مكافحة الفساد، وذلك بعدم التجديد للوزراء والمسؤولين الذين لديهم مخالفات متكررة».
 
وبرأي النائب السابق ناصر الفضالة الذي شارك هو الآخر في ندوة مجلس العمادي، أن المعارضة تستغل الفساد المالي والإداري، لكنه قال إن هذا «لن يجعلنا نسكت على هذا الفساد المستشري في كافة مؤسسات الدولة والذي يجب أن تتكاتف جميع الجهود الشعبية والبرلمانية والسياسية من أجل التصدي لهذا الغول الذي ينخر في اقتصادنا»، مضيفاً أن «الحل الآن هو دولة القانون والعدالة في توزيع الثروة، لسد الطريق على المخربين».
 
وعلى رغم اختلاف المواقف والمنطلقات السياسية والفكرية للمتحدثين في ندوة «التقدمي» عن المتحدثين في مجلس النائب العمادي، ألا أنهم إزاء قضية الفساد والعجز عن مواجهته قالوا كلاماً واحداً، مع فارق مهم هو أن الدكتور علي أحمد، على خلاف المتحدثين في ندوة «التقدمي»، نائب في البرلمان على مدار الفصول التشريعية الثلاثة مما يضع على عاتقه وعاتق كتلته، كما على بقية الكتل النيابية، مسؤولية أكبر بكثير، كونهم يملكون الأدوات الرقابية والتشريعية، مما يجعلهم المعنيين بمطالبة الدكتور لمجلس النواب بأن يقوم ب” دوره الحقيقي “.
 
وما لم يتم ذلك، فان التقرير سيظل كما هو ملهاة ننشغل بها بضعة أيام في السنة، مطمئنين المتورطين في الفساد بالقول: كل عام وأنتم بخير!


13 نوفمبر 2012
 

اقرأ المزيد

التقرير.. والضجة.. وماذا بعد ؟!


مملة هي جردة المواقف وردود الافعال الهزلية المتكررة التي ألفناها تقفز الى الواجهة مع نشر تفاصيل كل تقرير من تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية، وهي اجمالا ليست بمقنعة لا هي ولا الردود المواربة والمرتبكة التي تطلقها الجهات الرسمية المعنية، وهي الردود التي تبرر او تنفي المآخذات والمخالفات والتجاوزات التي نحسب انها اجمالا تخفق في الاقناع وتبعث على خيبة امل وارتياب عميق في اوساط الناس، خاصة انها تخلو من اي معنى ذي قيمة او دلالة، وهي ردود ربما تطرح بمحض العرف واسوأ ما فيها انها لا تعامل المواطنين معاملة الراشدين..!!. 

 هذه الايام، وتلك المقبلة تستحق ان توضع موضع التأمل، حيث موسم تقرير جديد وحيثياته نشرت على الملأ، تصدرت العناوين وأثارت التساؤلات، وهو على غرار التقارير الثمانية السابقة يضع اليد وبشكل جلي على علل وانحرافات وامور تقلب المواجع وتستنفر الضمائر، وهو يضع مجددا كل الاطراف المعنية امام مسؤولياتها، ولذا من المهم ان نرصد ما اذا كان ثمة تبدل في المعزوفة، ليس في التنظيرات والسجالات والمزايدات التي تستثمر هذه الاطلالة الجديدة للتقرير، ومايكشف عنه في ابوابه الخمسة من مآخذات ومخالفات، وليس في التبريرات والذرائع التي تثيرها الجهات الرسمية الموسوم معظمها بشيئ من الخفة في ادارة الشؤون العامة والمال العام، بل الاكثر اهمية هو رصد ومتابعة مرحلة ما بعد التقرير، وما اذا كان هناك ثمة جدية في تجاوز حالة تبخيس قيم المساءلة والمحاسبة، ام سيظل هذا التقرير مجرد اداة تنفيس موسمية، حيث الاصداء معروفة، والنتائج معروفة.
 
 لا يتغير شيئ، تقرير تلو تقرير، صحف تنشر الوقائع، ومن يعدون انفسهم نشطاء في كل حقل وميدان «كل يغني على ليلاه»، ومؤسسات المجتمع المدني تتحرك في اكثر من اتجاه تطالب بالمحاسبة وبمواقف حاسمة وحازمة لمحاربة الفساد، فيما النواب فحدث عنهم ولا حرج، يتوعدون ويلوحون باستجوابات ومساءلات وبلجان تحقيق، ويطلقون تصريحات يعلم الله كم هو شرس بعضها، ولكن لا شيء غير ذلك، اما ذوو الحول والطول والقرار في الجهات الوارد ذكرها بالتقرير، فمنهم من يؤثر الصمت كما يفعل في العادة، لا يرد ولا ينفي ولا يؤكد، ليس استكبارا او تهربا ولكن اظن- رغم ان بعض الظن اثم- انه حرصا على مشاعر الناس واوقاتهم..!!، فيما غيرهم وعبر بيانات «الطنطنة» «يتفننون» في استنباط الذرائع والاعذار ويدقون على وتر الحرص على المال العام، وحماية حقوق وممتلكات الدولة، ولا يسرفون في التأكيد على رغبتهم الصادقة في التعاون وبانهم لن يترددون في اتخاذ اللازم من اجراءات.

اما الطامة الكبرى فتتمثل في تلك النوعية من المسؤولين الذين يظهرون بانهم غير تواقين لاي رد او توضيح وكأن الامر لا يعنيهم لا من قريب او بعيد. كل تلك الاصداء معروفة، بقدر ماهي معروفة النتائج والتي هي مرآة لأمر واقع، وهذا الأمر الواقع ما هو الا نتيجة لتغييب قيمة المساءلة والمحاسبة او الاستخفاف بها، او هزالة حضورها ان وجدت، او اخضاعها للمزاجية والاهواء والنيات الخفية والمبيتة، والحسابات الخاصة، وهو ايضا نتاج طبيعي لتقاعس النواب عن اداء دورهم في الرقابة والمساءلة، وهو الدور الذي باختصار شديد عليه اكثر مماله.
 
انها لمراهنة ان نحلم بتعاط مختلف مع التقرير الجديد، سهل جدا ان نرصد الاقوال، الأقوال التي تبشرنا بفعل يفي بالغاية ويشفي غليل الناس ويخدم جهود الاصلاح.. انما الصعب، وانما المحك هو ان تتحول هذه الاقوال.. هذه الوعود الى افعال.. والافعال تختزل في الذهاب الى ابعد من مجرد اصدار تقرير رقابي سنوي له من الاصداء ماله، الى صناعة التغيير واستحضار قيمة المساءلة والمحاسبة، وعدم اغفال التصدي لجوهر المشكلة والاكتفاء بالعموميات، فطالما هناك مخالفات فذلك يعني ان هناك مخالفين، وطالما هناك تجاوزات فمن البديهي ان يكون هناك متجاوزين، وطالما هناك فساد فحتما هناك فاسدون.
 
ويبقى المطلب الملح على الدوام، ان يقوّم الاعوجاج، وان يعطي الاعتبار لتلك القيمة الغائبة التي لازالت في خانة التمنيات المجردة واستحقاقاتها لا تزال في عالم الغيب..!


3 نوفمبر 2012
 

اقرأ المزيد

الواقع السياسي متحـرك

 
لا شك بأن الواقع السياسي الآني معقد وسيزداد تعقيداً وتأزماً، فمن الواضح أن السلطة ماضية في قرارها بتحجيم الدور المعارض والرقابي لمجلس الأمة، وتحويله إلى برلمان صوري غير معرقل لقراراتها ومشروعاتها، كما أنه من الواضح أيضاً أن المعارضين للعبث بالدستور وأسلوب تغيير القوة التصويتية في الانتخابات ماضون في معارضتهم للمساس بالمكتسبات الدستورية والنظام البرلماني، بل سيمضون في خطوة أبعد من الدفاع عن الدستور إلى المطالبة بتحقيق الاصلاحات السياسية المستحقة منذ عقود خمسة.

ووجه التعقيد سيتجلى بصور عدة منها ازدياد حدة الانقسام الطائفي والقبلي، بل تفتيت المجتمع أكثر من ذي قبل، فرغم ادعاء الحكومة أو نيتها من خلال فرض الصوت الواحد هو الحفاظ على الوحدة الوطنية، إلا أنها بذلك بتعمد أو دون تعمد ستساهم ليس في شق المجتمع فقط ولكن بتشرذمه وتفتيته حتى على مستوى العائلة والقبيلة والطائفة، أي أن قرارها يفرق ولا يجمع.
ولم تكن الاصطفافات الطائفية والقبلية والمناطقية والفئوية من صنع الأربعة أصوات، ولكنها ومنذ ست سنوات كانت من صنع الحكومة أو على الأقل بتواطؤ منها من خلال وسائل إعلام وقنوات فضائية استجدت وتخضع لسيطرة بعض المتنفذين عملت على تأجيج الفرقة بين أبناء الشعب الكويتي، ومارست التعصب البغيض ونشر الكراهية ضد بعض مكونات المجتمع.

ولكن لمصلحة من أو لماذا يمارس هذا التمزيق للنسيج الاجتماعي وزعزعة السلم الأهلي وزرع الكراهية؟ بالتأكيد لا يوجد سبب أفضل من التفرد بالقرار وتقليص وتحجيم صلاحيات الشعب مصدر السلطات جميعاً وحجب مراقبته ومحاسبته للحكومة على تبديد ثرواته ومقدراته، هذا التفتيت يصب في صالح الفساد الذي سيستشري في أوصال البلد والذي سينتفع منه القلة القليلة.

فالتجارب التي مرت على الكويت خلال الخمسين عاماً الماضية تثبت أنه كلما حجبت رقابة الأمة ومحاسبتها زاد النهب المنظم لثروات البلاد من خلال المناقصات المليونية والسرقات والرشاوى والعمولات والتنفيع بشتى الطرق للشركات الخاصة المملوكة لكبار رأسماليي البلد.

وسنلاحظ أنه حتى قبل انتخاب المجلس المدجن القادم ستخرج علينا قرارات لمشروعات النهب مثلما حصل في الغياب المتكرر لمجلس الأمة في عهدنا الديموقراطي منذ العام 1962.

ووجه التعقيد السياسي كذلك سيتجلى في اضعاف كتلة المعارضة السياسية في المستقبل من خلال المساومات مع الحكومة من أجل المنفعة الاقتصادية أو غيرها، ولا أستثني هنا لا القوى الاسلامية ولا غيرها من بعض الأطراف الليبرالية التي تتعارض سياسياً مع قوى الإسلام السياسي وتتفق معها في المصلحة الاقتصادية، وستكشف الأيام أي القوى السياسية التي ستقف حتى النهاية مع مصالح الشعب وأيها سيتخاذل في سبيل مصالحه وأجنداته الخاصة. 
  

صحيفة الرأي الكويتية
  14 نوفمبر 2012

اقرأ المزيد

كيف تحل قمة البحرين الإحباطات ؟ – جميـل الذيابـي


منذ دعوة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في قمة «الرياض – الخليجية» الماضية، إلى الانتقال من مرحلة التعاون إلى الإتحاد ودول المجلس تلتزم التعتيم الإعلامي في توضيح مواقفها، وأمانة المجلس تلوذ بالصمت!

اللجان المنبثقة والمشكّلة بناء على قرار القادة اجتمعت نحو ثلاث مرات، ويبدو أنها لم تفعل شيئاً سوى الهروب من الحديث إلى الصحافة لعدم تقدمها بقدر تأخرها، بسبب البيروقراطية الظاهرة في الممرات الخليجية، إضافة إلى خشية بعض دول المجلس من اتخاذ قرار كبير كهذا حتى وإن رحّبت به، هناك دولتان راغبتان علناً إلى جانب صاحبة المبادرة السعودية هما قطر والبحرين، وتدفعان نحو تشكّل منظومة كونفيديرالية خليجية.

المواضيع الخليجية التي تم الاتفاق عليها بشأن الوحدة لم ترَ النور حتى اليوم على رغم مرور سنوات طويلة على إقرارها، ما عدا ما يتصل بالعمل الأمني والعسكري الذي ينجح في تعزيز التعاون وتمرير المعلومات! التعرفة الجمركية لا تزال تواجه متاعب ومصاعب. العملة الخليجية تتقهقر وتتأجل وخرجت منها مسقط وأبوظبي.
سلطنة عمان لا ترغب في الانضمام للاتحاد. ودولة الإمارات راغبة ومترددة. ودولة الكويت تعيد القرار إلى مجلس الأمة ودستور البلاد.

تواجه الأنظمة الخليجية تحديات وصعوبات واستحقاقات عدة، يتطلب تجاوزها بالتجاوب معها، إلا أنه على رغم ذلك لا تزال حركة تفاعل الحكومات مع شعوبها بطيئة.
لا شك في أن مبادرة «الاتحاد» حرّكت حلم شعوب الخليج، حتى على رغم عدم الأخذ برأيها، لإدراكها بأنه ضرورة مستقبلية، ولكونه خياراً استرتيجياً، وبوابة نحو مستقبل أفضل، وقد عبّر كثيرون بأن في ذلك قوة ووحدة لمواجهة المشكلات والصعوبات والتحديات التي تواجه دولاً غنية تجمعها قواسم مشتركة عدة.

في الشهر المقبل (كانون الأول/ ديسمبر)، تستضيف مملكة البحرين التي تشهد توتراً داخلياً منذ عامين، القمة الخليجية الـ33 للقادة، وربما هي القمة الأولى التي تعقد في ظل أوضاع أمنية داخلية غير مستقرة في بعض دول المجلس، وفي مقدمها البحرين والكويت. التقرير الذي صدر عن اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق في البحرين، برئاسة بسيوني، أكد في بعض فقراته وجود حالات اعتقال تعسفي، وفصل لموظفين وطلبة على خلفية المشاركة في التظاهرات، وتعدٍّ على القانون في أساليب القبض ومعاملة الموقوفين. كانت الآمال بتصحيح الأوضاع، لكن البحرين اتخذت أخيراً قراراً غير موفق ولا إنساني بسحب الجنسية من 30 معارضاً، في خطوة ستزيد من الغضب الشعبي والاحتقان.

كما أن الأوضاع في الكويت متوتّرة، ولا تزال الخلافات تراوح مكانها. وأخيراً اتسعت الهوة بين الحكومة الكويتية والمعارضة، وخرج عشرات الآلاف في تظاهرات سلمية مطالبين بإلغاء مرسوم تعديل القانون الانتخابي، واجهتهم الأجهزة الأمنية برد فعل عنيف، ما قاد إلى التأزيم ومقاطعة الانتخابات وارتفاع سقف مطالب المعارضة رداً على تعامل الحكومة. ومن الواضح أن حال التوتر ستظل قائمة حتى الوصول إلى آلية وطنية توافقية تبدّد الخلاف وتزيل أعراض التشنج بين المعارضة والحكومة. كما أن الأوضاع في سلطنة عمان والإمارات ليست على ما يرام أيضاً!

فيما تواجه المملكة العربية السعودية تحديات كبيرة داخلية وخارجية، أبرزها وجود جيل من الشباب تصل نسبته إلى 60 في المئة من سكان البلاد، لديه تطلعات صريحة ومطالب علنية بالإصلاحات والحريات والدفع بالاستحقاقات إلى الأمام.

اعتقد أن الأوضاع في دول الخليج تزداد تعقيداً، في ظل المتغيرات الداخلية والإقليمية المتسارعة، وما مراوحة بعضها في مواقعها من دون حلحلة القضايا الداخلية وتبنيها كأولوية إلا مراكمة للمشكلات ستصل بها إلى فوهة الانفجار والانحدار!

الأكيد أن الحلول ليست صعبة إلا لمن يريد أن تسير العربة بلا خيول برغبة تصعيب الحلول وتفويتها. فالتحدي الأكبر أمام الدول الخليجية لا ينبع من التهديدات والتدخلات الخارجية ومشكلة الأمن الإقليمي فقط، بل الأولى بالحلول العمل على تحصين الداخل، والاستجابة للمطالب والاستحقاقات الشعبية، وتسريع عملية الإصلاح السياسي، وبناء دول مؤسسات قوية، قادرة على التعامل مع المتغيّرات وفق صيغ زمنية عملية، رأس حربتها الحقوق وتفعيل المشاركة الشعبية، فتلك ضرورة استراتيجية للتكامل الرسمي والشعبي في ظل تزايد حالة الاستقطاب الإقليمي وحجم الإحباطات الشعبية، بالابتعاد عن منطق التأجيلات وتعليقها على شماعة المخاطر والتحديات، فالشعوب ناضجة وواعية، وقد حفظت «خليجنا واحد.. مصيرنا واحد» منذ 33 عاماً!
 
صحيفة “الحياة”
الكاتب: جميــل الذيابـــي
12 نوفمبر 2012   
 

اقرأ المزيد

نازع القناع الأبيض



فرانز فانون نازع القناع الأبيض







  اختارت الأمم المتحدة قصيدةً وضعها طفل أفريقي كأفضل قصيدة للعام 2008، وتقول أبيات  هذه القصيد المدهشة: 

حين وُلدتُ، أنا أسود / حين كبرتُ، أنا أسود / حتى وأنا في الشمس، أنا أسود / حين أكون مريضا، أنا أسود / حين أموتً، أنا أسود / وأنت أيها الأبيض / حين تولد، أنت زهري / حين تكبر، أنت أبيض / حين تتعرض للشمس، أنت أحمر/ حين تبرد، أنت أزرق / حين تخاف، أنت أصفر / حين تمرض، أنت أخضر / حين تموت، أنت رمادي / وأنت تصفني بأني ملون؟ “
حضرت في ذهني هذه القصيدة على خلفية إعادة انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية لولاية ثانية، ما يطرح سؤالاً عما إذا كانت أمريكا بتجديد هذا الاختيار تنتصر على نفسها، على ارثها الثقيل في التعامل مع السود والملونين كما لو كانوا مواطنين من درجة أقل من تلك التي للبيض، وبالتأكيد فإن أمريكا بهذا الاختيار انتصرت لنفسها أيضاً، لحاجات التطور الموضوعي التاريخي الذي يفرض عليها التصالح مع واقعها ومع نسيجها السكاني المتعدد الذي منه تتكون الأمة الأمريكية، ربما يبدو هذا السؤال مبكراً بعض الشيء، ولكن  علينا القول أن ثمة اختراقا مهماً قد حدث.
إزاء الأمرين: قصيدة الطفل الأفريقي المدهشة وإعادة انتخاب أوباما ليس بوسعنا ألا نعود  للمفكر العبقري فرانز فانون مؤلف: “بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء” و”المعذبون في الأرض”، الذي  كان يدرك أن الانفجار لن يحدث لحظتها، لعل الوقت كان متقدماً جداً أو متأخراً جداً كما أومأ هو بنفسه إلى ذلك. 

كان فانون يتصرف كأي عالم حقيقي لا يركن إلى اليقين أبدا: “أنا لا أصل البتة مسلحاً بحقائق حاسمة.. وعيي لا تخترقه ومضات جوهرية”. لكنه يرى، وبكل صفاء، أنه من المفيد أن تقال بعض الأمور وهو يحلل كيف يتصرف الرجل الأبيض، الذي خلق لنفسه دوماً صورة المنتصر والفاتح والمنقذ، إزاء البشر الآخرين من الملونين والسود، ثم يحلل كيف يتصرف هؤلاء الملونون والسود تحت وقع ذلك الشعور بالانسحاق الذي جلبه لهم الأبيض السكران بنشوة التفوق. إن الأمريكيين البيض هم الشعب الوحيد الحديث تبعا لأقصى ما تتيحه ذاكرة إنسان، الذين كنسوا عن الأرض التي استوطنوها السكان الأصليين. يمكن لنا العودة إلى النص المدهش لمحمود درويش: “الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض” لندرك هول الكارثة. 


 وفانون يرى أن أمريكا وحدها كانت تستطيع أن تكون ذات إحساس قومي بالخطأ وتسعى للاعتذار عنه، لكنها لم تختر هذا السبيل، إنما سعت لتهدئته من خلال اختراع صورة الهندي الأحمر السيئ، لكي تتمكن لاحقاً من إعادة إدراج للصورة التاريخية لصاحب البشرة الحمراء الذي يدافع بلا نجاح عن ترابه الذي خلق من عجينته بمواجهة الغزاة المسلحين بكتب مقدسة وبنادق. بعد ذلك بقرون سيأتي الفتيان السود يرددون في المدارس نشيد “آباؤنا الغالون”، وهو نشيد يتماهى مع المستكشف، مع الرجل الذي يزعم أنه جلب الحضارة، جلب الحقيقة “البيضاء” تماماً، صافية. يراد من هؤلاء الفتيان نسيان أن تلك الحضارة البيضاء إنما شيدت بعرق ودماء أجدادهم، فالآباء الغالون في النشيد ليسوا هم أولئك الأجداد ولا أولئك الهنود الحمر الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً، لحظة أتى المغامرون البيض بحثاً عن الذهب في العالم الجديد. 


 لم تكن أمريكا قد بلغت ما بلغته اليوم من جبروت وطغيان حين حلل فانون سلوك الرجل الأبيض، لكنه كان يضع قاعدة فيها نبوءة رجل العلم الذي يهجس بأن هذا السلوك سيغدو كونياً، إن ذات الذهنية التي حكمت سلوك المغامرين الأُول الذين استباحوا براءة القارة الأمريكية مترامية الأطراف، ستؤسس لنهج أكثر شمولاً حين يتصل الأمر بالعالم كله. على غير الأمريكي، أبيض كان أم أسود، أن يغدو أمريكياً لا بالنسب، وإنما بالخضوع، بالتماهي مع “ثقافة” تعلن نفسها ثقافة منتصرة على العالم كله، بحيث يغدو من واجب الفتيان الصغار في مدارس العالم أن يرددوا النشيد الأمريكي بالمفردات التي تحمل معاني قهرهم وإخضاعهم.


في كتابه الشهير “معذبو الأرض”، خصص فانون فصلاً مهماً لما ندعوه الثقافة القومية أو الوطنية. كان الرجل الذي تجري العودة إليه باهتمام كبير في العقدين الماضيين بعد كثير أو قليل من النسيان، يحلل العلاقة المعقدة من أوجهها المختلفة بين الاستعمار والشعوب التي استعمرها. اليوم أيضاً تظل العودة إلى فانون ضرورية، لأن هناك من يريد شطب الثقافات الوطنية والقومية على مدار القارات المختلفة بما تختزنه من ثراء وخصوبة وتنوع لا متناه، إمعاناً منه في التماهي مع ما بتنا نعرفه بالعولمة الثقافية، التي لا تقدم للأسف سوى نموذج واحد. ومهما كان رأي المعجبين به فإنه يظل نموذجاً فقيراً وشاحباً بالقياس لذلك الكم الهائل من النماذج التي تدبّ فيها دماء الحياة في مناطق الكوكب المختلفة، ويريدون قطع شرايينها كي تموت.
إن المسألة أبعد ما تكون عن حيز التعصبات القومية والعرقية، وإنما تتصل بالسياقات التاريخية والمصائر المختلفة للأمم والشعوب، والتي تعطي تعبيرات ثقافية وفنية وإبداعية متنوعة، ولا نقول متناقضة. في حينه، لاحظ فانون أن الزنوج الموجودين في الولايات المتحدة وفي أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية كانوا في حاجة إلى أن يتشبثوا بإطار ثقافي. وكانت المشكلة المطروحة عليهم لا تختلف اختلافاً عميقاً عن المشكلة التي يواجهها الإفريقيون في القارة الأم التي أتى منها أسلافهم، أي إفريقيا. إن سلوك بيض أمريكا إزاءهم لا يختلف عن سلوك البيض المسيطرين على إفريقيا إزاء الإفريقيين، لكن ليس كافياً أن تحصر المهمة في أن نبين للأوروبيين المتبجحين النرجسيين أن هناك ثقافات أخرى في هذا العالم، رغم أن هذا الموقف يبدو طبيعياً ويستمد مشروعيته من الأكاذيب التي أشاعها رجال الثقافة الغربيون، لكن اتضح أن الظروف الخاصة بالزنوج في أمريكا قد فرضت سياقاً ثقافياً آخر مختلفاً عن ذاك السياق الموجود في البلدان الإفريقية، بالطريقة التي تجعل من المتعذر الحديث عن ثقافة “زنجية” خالصة، بصرف النظر عن البلد الذي يعيش فيه المثقفون ذوو الأصول الإفريقية.
إن مجمل النهج الكولونيالي في العلاقة مع الشأن الثقافي في البلدان التي استعمرها الأوروبيون، يشير إلى أنه ما من شيء تم مصادفة، حيث أدت المشكلة الثقافية في هذه البلدان إلى التباسات خطيرة. إن اتهام الاستعمار للزنوج بأنه لا ثقافة لهم وللعرب بأنهم متخلفون، قد أديا منطقياً إلى إثارة ردود فعل منطقية ومشروعة في التمسك بعناصر الهوية التاريخية، حتى لو بدت في بعض صورها غير متسقة مع ظروف اليوم، لذا كرَّس فانون حياته لفهم وتحليل ظاهرة الاستلاب الفردي والجماعي التي يعانيها إنسان العالم الثالث المقهور . وكان يركز على تكوين ما أطلق عليه “لاوعي أو شعور جماعي تحرري وأخلاقي إزاء اللاشعور الجماعي”، داعياً ومناضلاً من اجل هزيمة الانهزام الذي تعاني منه النخب المثقفة إزاء الثقافة الغربية.



اقرأ المزيد

هناك فرق

من المؤكد أن هناك فرقاً كبيراً بين تعامل أفراد الشرطة ومكافحة الشغب
مع المتظاهرين أو المتهمين بين دولة وأخرى، حتى في دولنا الخليجية.

خلال
الأيام القليلة الماضية تم عرض مقطعي فيديو عبر شبكة التواصل الاجتماعي،
أحدهما حدث في دولة الكويت خلال تفريق احتجاجات شعبية، والآخر في البحرين
يظهر تعامل أفراد من مكافحة الشغب مع أحد المقبوض عليهم في منطقة بني جمرة.

ما
يجب التأكيد عليه بدايةً هو عدم جواز استخدام القوة في أي حالة من الأحوال
في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، فلا يمكن تبرير استخدام القوة ضد مواطنين
عزل خرجوا للتعبير عن رأيهم.

ما رأيناه من خلال فيديو (اليوتيوب)
الذي استمر لأكثر من نصف ساعة في دولة الكويت، يؤكد أن الشرطة قد استخدمت
القوة الضرورية فقط سواءً خلال تفريقها للمتظاهرين أو القبض عليهم، ولم
يظهر في هذه اللقطات ما يشير إلى استخدام العنف المفرط الذي يشي بالانتقام
الشخصي من المتظاهرين، فلم يقم أيٌّ من أفراد الشرطة بضرب المقبوض عليهم أو
حتى إهانتهم.

إن معاقبة المتظاهرين ليست من صلاحيات الشرطة مهما فعل
هؤلاء المتظاهرون من أعمال، إنما ذلك هو من صلاحيات السلطات القضائية، كما
أن القانون لا يجيز لأفراد الشرطة الانتقام من المتظاهرين.

في مقابل
ذلك أظهرت لقطات الفيديو المصورة يوم الجمعة الماضية كيف يتم التعامل مع
المتظاهرين لدينا بعد القبض عليهم. فقد قام تسعة من أفراد مكافحة الشغب
بضرب ولكم وركل أحد المقبوض عليهم وهو ملقى على أرض مقبرة بني جمرة وبصورة
وحشية لا يمكن تبريرها، ومن ثمّ تم جره وسحبه لمسافة أكثر من عشرة أمتار
وهو لا يقوى على الوقوف من شدة الضرب، وقبل أن يتم إدخاله بالركل في سيارة
الشرطة قام أحد أفراد قوة مكافحة الشغب بالبصق في وجهه إمعاناً في إذلاله.
فهل يمكن القول بأن كل هذا العنف كان للدفاع عن النفس؟ وهل يمكن أن يبرّر
البصق في وجه المعتقل بأنه دفاع عن النفس أيضاً؟

إن من تم القبض عليه يؤكد أن كل ذنبه كان التوجه للصلاة في قرية الدراز المجاورة، وأنه لم يقاوم أفراد الشرطة أو يعتدي عليهم.

إن
تصريح وزارة الداخلية بإحالة الشرطة المعتدين على الشاب للتحقيق لا يمكن
أن ينهي المسألة في ظل سياسة الإفلات من العقاب، فهذه القضية لم تكن الأولى
ولا نظن بأنها ستكون الأخيرة، فهناك العديد من أفراد قوى الأمن المتهمين
بجرائم القتل والتعذيب، واستخدام القوة المفرطة، وقد حوّلت قضاياهم إلى
المحاكم ولكنهم لم يوقفوا حتى عن العمل إذ مازالوا يمارسون مهام عملهم،
وبعضهم بُرّئ من تهمة التعذيب رغم تقديم العديد من الأدلة التي تدينهم، كما
في قضية تعذيب الزميلة الصحافية نزيهة سعيد.

في قضية مشابهة لقضية
شاب بني جمرة، تم إحالة عدد من قوات مكافحة الشغب للتحقيق في قضية التعدي
على شباب من منطقة الشاخورة فوق سطح أحد المباني، وهذه الحادثة تم تصويرها
أيضاً ونُشرت في الصحافة، ويبدو أن التحقيق لم يستكمل، أو تم غض الطرف عنه
بعد أن هدأت المسألة.

جميل المحاري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد