المنشور

ليست دعابة

مهدي سلمان

إنني أفهمك يا آرثر
إننا نعيش في مكب نفايات
يطردوننا من العمل
يغلقون كل الأبواب
الرجال ببذلاتهم الأنيقة
الرأسماليون وموظفوهم
يستخدموننا، ثم يرموننا في المكب
يسخرون منا
نحن مهرجو القاع
ثم يطلبون منا أن نشفق
لا، لا شفقة بعد الآن
إنما هي الضحكة الوقحة
إنما هي الضحكة الغصة
إنني أفهمك تماما
هذا هو الواقع،
كما هو دون زيف الفن
كما هو دون رتوش الخيال
بشع ومنحط ويستحق ولا يستحق
وليست ثورة ما سيحدث
ليست ثورة
إنما فوضى وغضب
فوضى وصراخ
غضب وتحطيم
ليست دعابة غير مفهومة
إنما دم توماس واين مع قمامته على الشارع
لستَ رمزاً أفهمك
لست رمزاً لشيء
إنما كما نحن جميعاً
احتجاج على عدم وجودنا
احتجاج على وجودنا المريض
إنني أفهمك
لكنني أحاول انتزاع القناع عن وجهي
ولا أقدر.

اقرأ المزيد

القومي والتقدمي يرحبان بقرار إطلاق سراح عشرات المعتقلين الأخيرة ويدعوان لتحقيق مصالحة وطنية شاملة

رحبت جمعيتا المنبر التقدمي والتجمع القومي بصدور مرسوم جلالة الملك حفظه الله بالعفو الخاص عن 269 محكوما ومعتقلا، كذلك التوجيهات الملكية بتطبيق قانون العقوبات البديلة على 530 معتقلا. وتأمل الجمعيتان في صدور قرارات لاحقة يتم بموجبها إطلاق سراح كافة معتقلي الرأي وإعادة الجنسيات وإطلاق الحريات السياسية والمدنية وحرية الإعلام ورفض وتجريم خطاب الكراهية والطائفية.

وتؤكد الجمعيتان إن هذه الخطوات الإنفراجية الهامة أضفت مشاعر من الارتياح في كافة الأوساط الشعبية والسياسية، والتي راحت تعبر عن شكرها وامتنانها بما تحقق معربة عن تفاؤلها بمواصلة تنفيذ المزيد منها خلال الأيام القادمة، وهو الأمر الذي يعكس بحق توق كافة المواطنين على مختلف انتماءاتهم وشرائحهم إلى طي صفحة التداعيات السياسية والأمنية الخطيرة التي مرت بها البلاد خلال السنوات الماضية.

إن جمعيتا التجمع القومي والمنبر التقدمي إذ تتوجهان لكافة المعتقلين الذين تم إطلاق سراحهم أو تخفيف عقوباتهم، وكذلك لعوائلهم بالتهاني القلبية، فأنهما تجددان في هذه المناسبة تمسكهما بدعواتهما الصادقة لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تنهي صفحة الأزمة السياسية المتواصلة منذ عدة سنوات، وتنطلق بالمجتمع نحو الوحدة الوطنية والحياة الكريمة، كما تعيد الحيوية للحياة السياسية والمدنية الداعمة للمشروع الإصلاحي لجلالة الملك حفظه الله.

التجمع القومي
المنبر التقدمي
المنامة في 18 ديسمبر 2019

اقرأ المزيد

سرقة الفضيلة والإبداع


سوسن حسن
أليس من الإجحاف أن نزور متحف اللوڤر دون المرور بتمثال “الوقت سارق الفضيلة والفنون” للفنان التشكيلي أونوريه بيليه ؟ إن حالفنا الحظ واستطعنا المرور بقاعة المنحوتات، لا نستطيع بالتأكيد إغفال الأعين عن التحديق بتمثال الوقت، وهو مجسد في صورة رجل ذات جناحين، يهاجم امرأة، ويجردها من فضيلة الابداع والفنون. في إشارة إلى شراسة الوقت الذي يأخذ كل ما نملك من موهبة وهو ماض في النفاذ، اختار أونريه أن يحيط هذه المرأة بثلاثة ملائكة ترمز للعمارة والكتابة والرسم وهي تبكي رحيلها.
ظلت تلك التحفة الفنية تشاغلني وأنا أفكر في شخص بول غادن، أحد الكتاب الفرنسيين غير المعروفين في عالمنا العربي بسبب إغفال المترجمين عنه. أكاد أقسم بأن قيمته الأدبية أعلى شأن من تلك الخاصة بألبرت كامو وسيلين، وكوليت، وسارتر وغيرهم من الكتّاب الذين لم يحفروا سوى في العدم.
لم يعش غادن طويلاً ، فقد أخذه الوقت قبل وقته، الا أنه كتب بغزارة عن الحب والإيمان والسلام والفضيلة. أهم رواياته هي “الأحياء العالية”، كتبها قبل موته لتكون سيرة احتضار .
تحكي تلك الرواية قصة رجل كان يعرف أن المرض سينال منه لا محالة، فيقرر أن يكتب رواية عن حياة القديسين في محاولة منه أن يعيش حياة مقدسة مهيبة كقبة السماء قبل أن يأخذه الموت. كان ديدييه، بطل الرواية يأمل أن يرى الله على الأرض قبل أن يستدير له على أعالي السحب. هي مهمة صعبة بالنسبة لبول الذي كان يحتضر عندما شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، فبيئة الرواية تجسّد المجتمع الباريسي بعد الحرب، و آه كم كان الإيمان والحديث عن الدين مدان في تلك الفترة.
الذي يظن بأن مجتمع بعد الحرب، هو مجتمع ذا حماس متقد بالفضيلة والابداع مخطئ. فرنسا بعد الحرب، لم تكن دولة سلام مطلقاً، بل ساحة إعدام، محاطة بالتردي الفكري والأخلاقي، مجتمع برجوازي بدرجة أولى وأناني، وآثار تلك الأنانية منتشرة حتى وقتنا الحاضر. الرواية الفرنسية الحديثة ممثلة في أقلام ميشيل بوتور ونتالي ساروت، وآلان روب غرييه ومارغريت دوراس التي من شدة ظلاميتها، انتهى زمن الملحمة في الرواية الفرنسية هي خير دليل على تلك الانتكاسة. زمن بعد الحرب هو زمن خاو، زمن خالٍ من المعنى.
رغم كل ذلك، أصر بول غادن البقاء خلف مكتبه من أجل إنجاز ملحمة “الأحياء العالية”. الأحياء العالية هي حيث يعيش بطله ديدييه، الذي انتقل حديثاً إلى غرفة صغيرة وفي حقيبته روايات بلزاك ودستويفسكي. لم يتناغم ديدييه فقط مع غرفته الصغيرة بل كذلك مع مؤجرته، بيتي، تلك الفتاة الصادقة، التي آمنت سريعاً بموهبته وساعدته على اقتناء ما يحتاج من أوراق لكتابة أفكاره. معها عاش ديدييه أحلى فترة احتضار مشبعة بالحب والحيرة بين الشغف بالله والانسان أو الاثنان معاً. قبل بيتي، لم يكن ديدييه ليأبه بما تبقى له من أيام، ولكن غرقه في حبها جعله يقدر كل ثانية مشعة في حضورها.
يراسله صديقه بيير، من وقت لآخر للاطمئنان على صحته، وتدور بينهما محادثات شيّقة حول انحدار المجتمع ثقافياً وحول التزاماتهم السياسية. سنشهد لاحقاً في وسط الرواية حزن ديدييه لانقطاع تلك المراسلات وإعدام بيير من غير وجه حق بتهمة التواطؤ مع الألمان ومعاداة السامية.

تواجه ديدييه أيام يبدو المستقبل فيها كصباح ضبابي يجثم على النفس فلا يكاد المرء يبصر فيه موقع قدميه . لا شيء يسر روحه سوى الكتابة، فيبدأ أولى صفحات روايته وهو يفكر بكاتب التراجيديا بيير كورني، الذي سرعان ما يشمئز منه لاحقاً: “لقد كان كورني مسيحياً، ويعرف الدين بقدر ما أعرفه. لا ! مسيحياً بالاسم فقط، شأنه كشأن معاصريه من حقبة القرن السابع عشر المغبرة. مسيحي وغير مؤمن. مسيحي وروماني. كيف لم يكن يعي هذا التناقض ؟! كان يؤمن بإمكانية الإخلاص لله والدولة في آن، بعبادة الله والانسان في آن. هذا مستحيل ! لم يتغير ولن يتغير هؤلاء البشر. كورني لم يخطىء بل وصف الناس على ما هم عليه: منافقون، خطاؤون، عديمي نفع، فرنسيون. ان كنت تملك هذه الصفات فأنت فرنسي بالتأكيد وفخور بكونك ما أنت عليه!”. ليس ذلك مدعاة للفخر. غرورهم أفسدهم، أوصلهم للكراهية، والكراهية مضادة للحياة. كان ديدييه يسخر مما يراه وهو يعدّ كتابه. يظن أنه على مشارف الموت ولكن الأحياء أموات أكثر منه. لقد سرق الوقت منهم ما تبقى فيهم من فضيلة.
“الكتابة عن القداسة مهمة صعبة، وأنت إنسان ضعيف تتألم يا ديدييه” هكذا كان يقول بول الكاتب لبطله، أو لقرينه. لم يعد هذا زمان الفضيلة والإبداع. التافه والأتفه منه قادمين لا محالة والإيمان لم يعد بضاعة رابحة.
كتب بول غادن تلك العبارات غير مؤمن بها، لأنه لا يصرخ النبيل إلا اذا تجاوز الألم حده . “الأحياء العالية” لم تكن سوى صرخة في وجه ظلامية وخواء فكري ما زالت أوروبا تعاني منه وتنقل عدواه للشرق، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يستمر من وجهة نظره، فلا شيء يبقى على حاله، ومع كل انتكاسة، هنالك شفاء. هنا تأتي حتماً ضرورة شفاء العقول وترجمة ما يستحق أن يقرأ لتجاوز ما سبق.

اقرأ المزيد

لعبة الكراسي المتحركة – قصة قصيرة


عصمت الموسوي
لا أحد يعرف كيف وصل العامل الآسيوي سونيل إلى منزل تلك العائلة البحرينية. ربما استقدم من الخارج لمساعدة ربة الأسرة المريضة أو ربما كان هاربًا من كفيله، الأمر الأرجح أنه طرق الباب عارضًا تقديم خدمة رعاية الحديقة أو غسل السيارات أو غيرها من الخدمات التي يؤديها بثمن زهيد عمال التأشيرة الحرة في بلدنا والذين يجوبون الأحياء والطرقات بحثًا عن مهن غير مستدامة فتتنوع ظروف عملهم وأقدراهم، وقد يحالفهم الحظ فينتهون إلى مصائر لم تخطر ببالهم يومًا. اعتذرت سيدة البيت ل “سونيل”، شكَرها وسألها أن تحتفظ برقم هاتفه إذا دعت الحاجة.
كانت سيدة البيت امرأة ميسورة ومترفعة، انتظرت العرسان طويلاً ووضعت الشروط الكثيرة والمتطلبات المعقدة فخسرت كثيراً من المتقدمين لها، حين أوشك خريف العمر أن يداهمها وتزوجت كل صويحباتها، قبلت على مضض بزواج سريع وغير متكافئ جاء عبر خطبة تقليدية أقامت حسرة طويلة في نفسها، بيد أنها قررت أن ان تٌنمي هذا الزوج وتُطوره وتصلح حاله الهزيل لجعله جديراً بها وبأحلامها وطموحاتها، وأما الزوج فقد كان شابًا بسيطًا يعمل موظفًا بإحدى الوزرات ويحمل أفكارا تقليدية جداً، ويرى الزوجة كما كان يرى أمه قانعة راضية بواقعها ومطيعة ولا همَّ لها الا خدمة زوجها وطاعته .
عاش الزوجان تحت سقف واحد، أما احلامهما ورغباتهما وتطلعاتهما فقد كانت في مكان آخر.
كان الزوجان يستعدان لرحلة سفر صيفية معتادة حين انزلقت رجل الزوجة اثناء نزولها درج البيت فسقطت وكسر حوضها فاحتاجت إلى علاج فيزيائي طويل وكرسي عجلات متحرك، والزوج الذي أخفق في السابق في اخضاع زوجته في ادارة الصراع الزوجي لمصلحته، وجد فرصته في استعادة نفوذه واسترداد مكانته المضيًعة وقهر كبرياء زوجته وعنادها ومعايرتها له ولأهله “ومستوانا ومستواكم” “وعائلتي وعائلتكم”. فالزوج الذي كان صفراً، صار رقمًا مهمًا بعد حادث السقوط هذا، وهنا برزت لديه نزعة الانتقام والتشفي، فكان يصرّ على أخذها إلى كل مكان، كالأسواق والمعارض لكي يشاهد الناس الزوجة المستسلمة المحتاجة المسكينة المغلوبة على أمرها والتي يقودها زوجها – ذلك النكرة الذي لم تعترف به وبحاجتها إليه قبل هذا اليوم – إذ صارت تنتظر عونه ومساعدته في كل تحركاتها.
في ذلك الصباح، أعدّت الزوجة كرسيها وسألت الزوج أن يأخذها إلى أحد المجمعات التجارية فأبدى موافقته وترحيبه، ما أن توسطت باحة المجمع حتى توقف دفع الكرسي، التفتت وراءها فلم تجد زوجها، لا أحد يعلم هل تعمد الزوج تركها وحيدة وذهب للاختباء في مكان آخر ولجعلها فرجة للناس، أم أن أمراً مباغتًا قد داهم الزوج في تلك اللحظة، انتظرت الزوجة زوجها نصف ساعة لكنها بدت لها كدهرٍ طويل وممل، أصيبت بالإرباك والحرج وحاولت تلافي عيون المتسوقين وفضولهم إذ بدت كمجسم إعلاني حي مثير للدهشة والفضول، وراحت تهاتف رقمه مرات متتالية دون أن تلقى استجابة، وتساءلت هل تبلغ القسوة حد اهدار كرامتها وتعريضها لهذا الهوان؟ .
عندما لاح من بعيد لم تسأله اين كنت، كانت ممتلئة باليقين أن الامر لا يتعدى كونه لعبة أخرى لإذلالها، التزمت الصمت إلى حين وصولها إلى بيتها فاستجمعت قواها وأعملت فكرها محاولة إيجاد خطة محكمة للرد، لكن غادرتها الحكمة والتعقل والهدوء إزاء استهتار زوجها وعدم اكتراثه وعجزه عن إيجاد مبررمنطقي لما حدث، اختارت الزوجة أقسى العبارات والكلمات والحكايات الأكثر إيلامًا وتجريحًا، قذفتها في وجه الزوج بانفعال شديد دون وعي وانتباه، فهدّد بتطليقها أو الاعتذار وطلب الصفح منه فرفضت وأمعنت في عنادها.
ذهب الزوج إلى الشيخ الذي عقد قرانهما طالبا النصح فأثناه عن الإقدام على الطلاق في حالة الغضب، حين عاد الى البيت وجد الزوجة وقد غارت المكان إلى بيت أهلها، توسًط الأهل مجددا من أجل المصالحة بينهما، وعادا إلى البيت على مضض وتواصل مسلسل المشاحنات، ومعايرة الزوج بأصله وفصله وأهله ومستواه، انفصلا في الغرف واستمرّ الجفاء بينهما، صار الحوار بينهما بالإشارات وبالمسجات الهاتفية، وكل منهما يفكر كل يوم كيف يضرّ الاخر ويكيد له وينتقم منه ويختلق المناسبات ويحبك المؤامرات. قرّر الزوج في لحظة صفاء أن يعتذر لزوجته ويجبر خاطرها المكسور ويبدأ صفحة جديدة، فالزوجة الثرية لا يتركها أو يطلقها إلا احمق أو معتوه، ضمرها في سره، نصحها بالقول: انزلي من كبرياءك وتواضعي وتعلمي تبادل الحاجة مع الآخرين، بيد أن الزوجة رأت في محاولة الصلح مجرد مناورة وملعوب آخر لتكسير رأسها واخضاعها وفق شروطه فرفضت مساعدته “الله لا يحوجني اليك”، “عندي فلوسي التي تغينني عنك”، “الفلوس أهم من الزوج”.
وجد الصلح طريقه إليهما أخيرا وفق شرط فرضته الزوجة ولقي قبولا لدى الزوج وهو أن تستعين بعامل آسيوي يخدمها ويلغي حاجتها الى زوجها، فهاتفت العامل الآسيوي سونيل الذي أتي مسرعا بدراجته الهوائية، وما هي إلا أيام بسيطة حتى أصبح مقربا من الزوجة مما خلق الغيرة في نفس الزوج، فجنّ جنونه وراح يتحين الفرص ويختلق الأعذار لطرده من البيت: “فشلتينا مع عشيقك”، “الدنيا كلها تتكلم علينا” إلا أن الزوجة أبقت سونيل، واستعادت بوجوده بعضًا من سطوتها وجبروتها ومنحها هذا التكتيك متسعًا من القوة والمناورة في معركتها مع زوجها، وتحول سونيل إلى شبه “ضرّة” للزوج.
في مطلع الشتاء التالي تعرض الزوج لإصابة عمل حادة فاحتاج إلى اجراء جراحة لانزلاق غضروفي حاد، عاد إلى البيت من مشفاه مستعينا بعكازة ثم بكرسي العجلات المتحرك، كانت الزوجة وقتها قد تعافت تماما وتخلصت من كرسيها ووضعته في مخزن البيت، وليس يعلم هل رغبت الزوجة في مساعدة زوجها في محنته تلك أم أنه مجرد ادعاء، نفضت الغبار عن كرسيها المتحرك وضبطت أزراره ارتفاعا وانخفاضا وفق حاجة الزوج، وطلبت أن تجره بنفسها كنوع من رد الجميل، شعر الزوج أنها لعبة أخرى للسيطرة والاذلال والاحتقار المعتادة منها وليست تعاطفًا أو اخلاصا زوجيًا مفاجئًا، فرفض مساعدتها.
هكذا جرى تبادل الكرسي المتحرك بين الزوجين المتباغضين والمشحونين حقداً وغلًا وكرهًا لبعضهما، فمرة يقوده الزوج ومرة تقوده الزوجة، وفي كل جولة صراعية بينهما تتجلى كل أنواع المكائد والدهاء والرغبات الدفينة والمتوارية ويتبدى ذلك الخضوع والإنكسار والتسليم والطاعة والجبروت والتعنت والبطش على وجه كل من يأخذ موقعه من الكرسي، فإذا كان قائما وواقفا على رجليه بدا ممتلكًا لقانون اللعبة وممارسة كل أنواع التسلط والغطرسة، وإذا كان جالسًا على الكرسي بدا ضعيفًا ومستسلمًا وقانعًا بقدره.
هل انتهى صراع الزوجين المأزومين والمعذبين بعد قراراهما المشترك بالاستغناء عن خدمة بعضهما البعض تماما؟ ربما، فقد أضمر كلاهما رغبة عميقة ودفينة، هو ينتظر موتها كي يرثها وهي تنتظر موته كي تقترن بمن تراه أهلاً لها، لكن العمر امتد بهما ونسيهما الموت طويلا، نهشتهما الامراض واستقر كلاهما على كرسيه المتحرك وقد استعان كل منهما بعامل آسيوي لمساعدته، أما “سونيل” فتولى قيادة المنزل وأصبح الآمر الناهي فيه.

اقرأ المزيد

أهم عشرة كتاب عرب


د. بروين حبيب

تختلف القائمة العربية لأفضل الكتاب العرب من بلد إلى آخر، كما تختلف مقاييس التصنيف والترتيب حسب اللغات الأجنبية التي ترجموا إليها، أو حسب شعبية البعض ونجوميتهم، أو حسب عدد الجوائز المحصودة من طرفهم من هنا وهناك، أو حسب مقاييس أخرى تبدو أكثر غرابة من أن يصنّف وفقها الأدب والأدباء.
تُظهِر هذه النتائج المتناقضة أحيانا كم أن القارئ العربي اليوم لا ذائقة له في الحقيقة في فرض تصنيف حسب المحتوى الإنساني للنصوص والرؤى، بما أن المقاييس أصبحت سطحية، ولا تلامس الأعماق.
تلتقي غادة السمان ورجاء الصانع ورضوى عاشور وإميلي نصر الله في القائمة نفسها، حسب أحد المواقع، مع أن الخلل يبدو واضحا في جمع هذه الأسماء معًا، فكل كاتبة تمثل مدرسة في حد ذاتها أمام انكسار السلم بتواجد رجاء الصانع معهن، كوننا نقف أمام كاتبة شابة حين نشرت روايتها الوحيدة “بنات الرياض”، حتى وإن تردد أنها ترجمت لأربعين لغة، فإن ذلك لا يشفع لنصها “الوحيد” أن يخترق تجارب أدبية طويلة وناضجة ويزكيها ككاتبة مهمة.
نعرف جيدا أن كتاب رجاء الصانع، مجرّد كتاب وليس رواية، وأنّه يستحيل أن ينافس في لغته و بنائه الأعمال الروائية للكاتبات سابقات الذكر، كما نعرف جيدًا أن الأدب يُكتب بجماليات لغوية لا تكسر المألوف ولكنّها تمنحه إضافات تثريه وتثري به المكتبة الأدبية، فبأي مقياس قيست أهمية “بنات الرياض” علما أن كاتبًا بنفس مقاييس الصانع هو علاء الأسواني كونه طبيب أسنان و كاتبًا أيضا وقد حقق مبيعات ساحقة في العالم العربي برواياته، وهو كاتب قصة، وله مؤلفات سياسية تلخص توجهه الفكري عمومًا، وقد ترجم للغات كثيرة ونال جوائز عربية وعالمية، كما دخل السينما بأعماله من بابها الواسع، فلماذا لم يذكر ضمن قائمة أهم عشرة كتاب عرب ؟
ما الذي أقصى الأسواني وزكّى الصانع؟
نطرح الأسئلة ونبحث عن إجابات مقنعة تكون بوصلة للقارئ العربي حتى لا يضيع بين وجهات النظر الإعلامية المتناقضة فنقف عند متناقضات تسخّف من الأدب وتجعله وجبة سريعة لجائع في الطريق.
تحضر أسماء وتغيب أسماء، ويبقى اسم نجيب محفوظ اليوم أكثر تكرارًا ككاتب عالمي، فيما يغطي بمظلته العالمية الكتاب المصريين إن لم نقل أغلبهم، وما حضور رضوى عاشور كإسم متكرر بين القوائم المهمة للكتاب العرب إلا صدفة جمعت إعلاميي مواقع الإنترنت ذوي الثقافة الأدبية الضعيفة والجيدة.
نحار بين تلك القوائم التي تخلو من أسماء لكتاب أفنوا أعمارهم لإشعال شموع المشهد الثقافي العربي، لا يظهر اسم الكاتب المصري بهاء طاهر مثلاً، ولا اسم السوري خيري الذهبي، لا تظهر العراقية هديّة حسين، ولا مواطنتها إنعام كجه جي، ولا المغربية فاطمة المرنيسي …
تُختصر هذه القوائم في أسماء وقعت كتبها بالأمس في أحد معارض الكتاب القريبة، بمبيعات خرافية لا يصدقها عاقل …ثلاثة ملايين نسخة، مليون ونصف نسخة…من يصدق هذه الأكاذيب في زمن الاحتقان الاقتصادي والثقافي ؟ أقول هذا مع إيماني الكامل أن مبيعات الكتب في تصاعد، لكن دون مبالغات.
تنجح رواية واحدة لأحد الكتاب، تنال جائزة مع الكثير من التهليل العربي، لكن شيئًا غريبًا يحدث بعد ذلك، لا رواية أخرى تنال الإقبال نفسه، يبقى الكاتب معلّقا في مشنقته الوحيدة، يكتب مزيدا من الروايات فيما طابعه واحد، ولنا في ذلك نماذج من بينها “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و”الحب اللاتيني” لسهيل إدريس وكأن لا أعمال أخرى للكاتبين غير هذين.
تخرج “كليلة و دمنة” و”ألف ليلة وليلة” من كهف سحيق وتنافسان كتاب معاصرين، يخرج توفيق الحكيم أيضا من برزخه ولا يظهر يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس في أفق القارئ العربي اليوم، فنتساءل ما هوية هذا القارئ ؟ من يوجهه في قراءاته؟ ففي موقع مثل “غود ريدز” تنقلب الطاولة على أسماء شهيرة، تعتبر نفسها متربعة على عرش الأدب اليوم، فتظهر أسماء أخرى تماما مثل جلال عامر وأحمد مراد، لديها أقلام خفيفة، خالية من العبء اللغوي الذي تميز به كتاب كثر دخل أصحابها المغامرة الروائية من الباب اللغوي المحض، ينتصر هؤلاء الكتاب، لسهولة فهم ما يكتبون، ولأن ترسانة الترويج لأدبهم أصبحت متاحة ليس فقط عبر وسائل الإعلام الكلاسيكية “راديو وتلفزيون ومجلات” بل عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، حيث يقدّم الكتاب كوجبة خفيفة ولذيذة، أو كدواء لجِراحِ النفس العربية جرّاء المكبوتات الكثيرة والحرمان بكل أنواعه، بدءاً بحرية التعبير داخل الأسرة والمدارس والمؤسسات إلى الحرمان العاطفي والجنسي الذي يترتب عنه عنف غير طبيعي تجاه كل ما هو حي، وحتى تجاه الحجر، من طرف أفراد مجتمع ناقم على من كتم أنفاسه. لا أحد ينجو من ذلك العنف إلا من مشى في سكّة الأدب، حيث تجد نفسه ما ينقذها من بؤس الخارج.
نقف مدهوشين أمام هذا المعطى الخطير، فنحن لسنا أمام نوعية طبيعية من القرّاء، نحن أمام معاناة حقيقية لنفوس محطّمة، مهشّمة، محبوسة في أقبية مظلمة، ممنوعة من ممارسة أدنى حاجاتها الطبيعية، وفوق ذلك ننتظر منها أن تكون مثالية…!
يا للهول ….هل يمكن لكاتب خارجٍ من هذا النفق وهو يروي بؤسه ومحنته بعتاده اللغوي البسيط أن يكتب أدبًا مثل الذي درسناه بين أسوار الجامعات أيام زمان؟ وهل يمكننا أن نقنع أكبر شريحة من قراء اليوم وهم مشدودين بين عالمين متناقضين، ويحملقون من عمق النفق في الفوهة العجيبة المضيئة بأن يقرأوا “مدن الملح” لعبد الرّحمن منيف؟ أو “جارات أبي موسى” لأحمد التوفيق؟ فقد أصبحت هذه الأٍسماء و أخرى كثيرة غريبة وسط زحام المنشورات الجديدة، ووسط هذه القوائم المكررة عبر مواقع كثيرة، وهي بكل أسى تضع الأدب في قالب التّسالي لا في قالب التسامي.
ثم في مقاربات بسيطة بين بعض القوائم، سنكتشف أن الأجيال تختلف، لكن الهوة سحيقة بينها، فقد استمتعنا في زمننا بقراءة نجيب محفوظ، وإدوار الخراط، ومحمود المسعدي ويوسف القعيد، وغسان كنفاني وإميل حبيبي وآخرين من نفس الطينة، فصعب علينا الإندماج في ما هو أقل مستوىً، ويبدو أن قوائم كتابنا إن لم نعمل على الترويج لها ومجاراة سرعة هذا الجيل التكنولوجي، فإن الأدب سيزداد سقوطا في السهولة والتمييع، والرتابة، وإهمال صحة وعافية اللغة، ليصبح مجرّد قصص مثل قصص “عبير” زمان.
يبدو لي أننا مقصرون جدا تجاه أنفسنا أولاً، كوننا ننتمي لزمن أُلبِسَ فيه الأدب بدلة رسمية لكل المناسبات، وقد آن له أن ينصهر في اللفيف الإجتماعي الجديد، حيث لا رسميات ولا ربطات عنق للأدب، أمام انبهار الأجيال الشابة بحكايات تشبه المخدّرات، مختصرة وخفيفة وتجعل الواحد يحلّق منتشيا لبعض لحظات قبل أن يبدأ بسرد ما يماثلها، معتقدا أن الأدب ليس أكثر من حكاية مسلية.

اقرأ المزيد

متى عرف الطغيان الحياة؟


زهراء المنصور

يرتبط مصطلح الكفر في الغالب بالوقت الحالي تحديداً بمن يتراجع عن الدين الاسلامي، وتحديداً من الفرد الذي يكون غالباً مولوداً به، وليس مسلماً “مستجداً” أو أنه اختار الإسلام بديلاً عن دينه الأصلي. وقد يكون هذا الارتباط مبنياً على فتاوى واجتهادات التكفير التي طالت أشخاصاً معينين بسبب إعلان موقفهم من جزئية قد تتعارض مع آخرين يرتأون في أنفسهم وكلاء الدين الحقيقيين والغيورين عليه، فيحق لهم إلحاق تهم كبيرة بأضدادهم. وبينما تأخذ هذه التهمة تدرجات عدة في الدين – كما ينبغي لها – وكما يرى العلماء في منطق هذه الأمور عادة، فالكفر درجات. فهناك “كفر دون كفر”، أي بما يفسر بأنه كفر دون الخروج من الملة، وتكفير الفعل دون تكفير الفاعل، وأيضاً الضوابط التي على أساسها يقوم فعل التكفير، حيث إن له تبعاته.
وطوِّع مصطلح التكفير لإقصاء الآخر تحت مظلة الإسلام، وحيث طبق هذا المعنى في فترة مبكرة منه، استمر مع تغير الزمان وثبات الدين الإسلامي في المنطقة. فكان هذا الإبعاد /الإقصاء لصالح الحكم، لذا كانت الفتوى حاضرة في خدمة رجل الدولة للتخلص من أعدائه ومعارضيه(1). ولأنه الدين الذي يؤمن المسلمون فيه أن الدنيا مرحلة مؤقتة تحضيراً للآخرة، وكل عمل في الدنيا هو في صالح الحسنات/ السيئات التي يجازى بها بالجنة أو بالنار حسب أعماله، سيكون من الطبيعي أن يحظى القائمون على هذا الدين ممن يفترض أن يصلوا باجتهادهم ودراستهم إلى مكانة دينية كبيرة تسمح لهم بتسيير أمور العامة.
ولو استطعنا حصر بعض أشكال التكفير ورفض الآخر في مجتمعنا، فلا بد أن يوصلنا هذا إلى سبب/ أسباب تكفير البعض حداً يتخطى المألوف من الدين، إلى الأعراف المجتمعية مثلاً المتعلقة بقناعات راسخة عمرها عشرات السنين وربما أكثر. في قضية اللون المختلف أو المذهب المغاير، أو غيرها عند غلاة التكفير، وهم من وجهة نظري الشخصية ينقسمون إلى نوعين: نوع نشأ وترعرع على هذه المفاهيم وآمن بشدة بما تلقنه من علوم ومفاهيم أسرية/ مجتمعية أنها الثوابت التي تحكم الكون ولا يمكن أن تتغير، خاصة إذا كانت في صالح وضعه الاجتماعي. أما النوع الآخر فهم من فئة الدينيين الذين أخذوا على عاتقهم استخدام الدين كذريعة لمآرب شخصية على مقاسات مختلفة تحتمل المواقف المتغيرة، ويمكن أن ينتمي هؤلاء- بحسب درجتهم الدينية و”المرونة” في تكييف الشرع لصالح ولي الأمر – كما أطلق عليهم علي الوردي في وقت سابق طويل مضى “وعاظ السلاطين”، وكأنه يستشرف المستقبل بما سيتفاقم عليه الوضع، كما هو الآن.
ولأن الفئتين تلحان على وتر الطاعة العمياء والتنفيذ بأمر الدين، فالكل ينفذ حسب مرجعيته الدينية للولي أو الشيخ، وما عدا ذلك سيكون مخالفاً وربما مرتداً، وربما تلصق به صفة “العلمانية” بوصفها مصطلحاً مرادفاً للكفر!!
ولا يخفى على أحد التفسيرات المختلفة للقرآن الكريم، والتي قد تتباعد بشكل كبير بين الطرفين، بشكل يوحي أن هناك أكثر من كتاب مقدس للمسلمين، وسبب ذلك: التأويلات التي تجر المعنى لصالح أحدهما، فيستند عليه ويؤيده تعزيزاً لمكانته الاجتماعية/ الدينية التي يبني عليها أكثر من منفعة عابرة، وهو ما يسمى عند البعض باجتزاء النصوص الظاهرية. وهذا نجده في موقف الشيخ سعيد الغبرا من الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص، فقد ذهب لإسطنبول من أجل تحريض السلطة الدينية المتمثلة بالسلطان عبدالحميد مناهضا تجربة القباني (1833-1903)، وذهب بنفسه إلى السلطان لإيقاف ما وصفه بـ”الفسق والفجور”، فــ”هتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلط النساء بالرجال” (2). وأدى تحريضه هذا إلى حرق مسرح القباني ومغادرة الأخير من دمشق إلى مصر. وليس الغبرا إلا نموذجاً للعقلية الدينية الرجعية التي تقيس بمعيارها وتعمم. فيما يرى سعد الله ونوس أسباب هذه الحملة على القباني هو ظهور شخصية هارون الرشيد على المسرح، وهذا مدعاة للتفكير في إجهاض فكرة ثورة التغيير الاجتماعي آنذاك. (3). وهاهو الغبرا يأخذ أشكالاً مختلفة منذ ذاك الحين وحتى وقتنا هذا.

فإن كان كتاب الله مختلفاً تأويله في بعض الآيات التي يعتقدها أصحاب المذاهب سبباً مجدياً للخلاف “الجوهري” وسبباً وجيهاً للفرقة والقربة إلى الله بوصفهم “الفرقة” الناجية الموصوفة، فهم المصطفون من الله، وكل من لا يشبههم مقصيون/ مُبعدون، مما يصنع “هوية نرجسية استثنائية”، ومن شأن هذه الهوية المغلقة على ثوابتها ومحرماتها أن تقولب العقول لتصنع النموذج الأول للسلف الجامد بالمعنى السلبي، أي لا يتقبل التجديد المنطقي، لذلك خضعت أحكام عصرية لتغيير في القرار الذي حولته السلطة الدينية إلى قرار جمعي بمنطق التحريم، وسرعان ما تغير للعكس بفعل النظام الزمني والتغير الاجتماعي الكفيلين بتغيير الكثير من الفتاوى التي في مجملها محاربة وقلقة من الجديد القادم، ومحاولة لتضييق كل ما يمكن أن يفتح أفقاً أوسع للناس. فالتحريم الذي يجعل من الفتاوى وسيلة سهلة لإنهاء الجدال في موضوع ما، وإحكام السيطرة، يكشفه الزمن، ولنا في فتاوى تحريم: مدارس البنات/ كرةالقدم/ عباءة الكتف/ التصفيق!!/ مكبرات الصوت/ التصوير/ وليس انتهاء بتناول الطعام بالملعقة! (4)
وبناء على ما تقدّم من التعريف بمصطلحات الكفر والتكفير، لابد لنا من التعرف على المفاهيم الأخرى المترتبة على هذا منح اللقب، الذي يكاد أن يصبح “مجانياً” ومتاحاً لكل من لديه سلطة دينية، وربما غير ذلك، إطلاق هذه التهمة التي تحمل من التبعات ما لا يحتمل في بلادنا العربية. لذلك نرجع إلى الدين وتطبيقه كما ينبغي له، والتمسك بالأحكام التي قد تعني جوراً لآخرين يعيشون بنفس المجتمع ويخضعون لذات الأحكام التي تحكم المجتمع لسبب مقدر له لا خيار له فيه. فالمساواة لا تعني العدل دائماً، في الوقت الذي تدفع الأديان إلى مفهوم “الرضا” عن الرزق المرتبط بالنعم من الله/ الرب عز وجل، وضرورة الحمد والشكر لتدوم النعم، وتقديراً لنعم الله علينا.
لذلك فإن من الأمور الشائكة التي تثير الحيرة في الحياة الواقعية وعلى خشبة المسرح، التعرض للون الأسود المرتبط بالسلالات الزنجية، ومصدرها بعض مناطق القارة الأفريقية، على أساس أنه الطبقة الأقل المرتبطة بالعبيد والخدم والطبقة الوضيعة في المجتمع – كل مجتمع – فلا يرتبط هذا المفهوم عند العرب أو المسلمين، بل إنه يطال الغرب الذين تحرروا من الفوهة الضيقة بالنظر إليهم كملونين حتى 1862، كما أعلنها لينكولن وقتها. وعلى الرغم من القوانين التي تشرع الحق لكل مواطن بإنسانيته، تظل القوانين الشفهية – المجتمعية – هي الأقوى، وتستند غالباً على “جينات” التعامل مع أصحاب البشرة المختلفة، على تعامل من سبقوهم معهم. وقد تكون شخصية “عطيل” هي الأشهر أيقونياً عن صورة الأسود في المسرح، كالشجاعة والإقدام والبطولة، لكنها تذبل وتذوي لمجرد أنه من أصول مغربية وبشرته المختلفة، وهذا بحد ذاته سبب يكفي لازدرائه وإقصائه.
كذلك هي صورة الأسود في المسرح البحريني/ الخليجي التي تظهر فيها العبد الذي يسعى لنيل حريته في وقت الاستعمار، كما في مسرحية “مجاريح” من تأليف إسماعيل عبدالله واخراج ناصر عبدالرضا، ونرى فيها الممثل عبدالله سويد في حركة ملفتة توثق ليحصل على الصك الذي يحرره من واقعه، مع إقران ذلك بزمن المسرحية؛ بوقت الاستعمار وزمن الغوص واللؤلؤ. وفي سياق آخر، أظهرت رواية الكاتب البحريني الراحل خالد البسام (ثمن الملح) والمستمدة من وثائق التقارير الإنجليزية، التي عثر عليها في مكتب الهند بالمكتبة البريطانية في لندن، حول العبيد وأوضاعهم في الخليج. وكذلك كتاب “تجارة الرقيق في الشرق الأوسط” تأليف سين أوكلاغان، عن حياة “العبيد” في المجتمع البحريني, وعن طموحهم بالتحرر الذي يقود أو يؤكد نفس سياق عرض “مجاريح”، صك الاستعمار بالحرية، والذي يهدف قطعاً لمآرب أخرى تهدف إلى ترسيخ العرف والطبقية بحكم اللون في أبشع أشكالهما، دون أن يكون أكرمهم عند الله “أتقاهم” كما في القيم الإسلامية الأصيلة، ودون أن يكون البطل كما في “مجاريح” يمثل معاناة لونه، لا يحظى الممثلون ذوو البشرة السمراء/السوداء غالباً إلا بأدوار توظف لونهم لخلق كوميديا. أليس هذا تكفيراً للآخرين وجحدهم حقوقهم؟
وكما يعد اللون/ العبودية قالباً مغايراً عن الأغلبية المسيطرة، فحق لها أن تعامله بمغايرة أيضاً، يأتي الاختلاف/ الإنكار/ التكفير/ لأشخاص آخرين من نفس نسيج هذا المجتمع، وليس من الغرب الذين يطلق عليهم عامة الناس من الجهل والتصغير أنهم ببساطة “كفرة”! تأتي هذه الصفة للمختلفين في الدين/ المذهب، تأتي واضحة في الطبقة الاجتماعية التي أوردتها المجتمعات ذات الثراء البترولي، والتي حصدت مستواها الحالي بلا تدرج، وبشكل سريع، من النقيض للنقيض، مما عزز مفهوم الطبقية بشكله الفاحش غير المقبول لاعتبارات الثروة وما يليها من تبعات. أيضاً، من أشكال التكفير: القبليّة المتعصبة، كعادة العرب في الجاهلية في التفاخر المرعب بما فعله السلف وما ملكوه، وما تمتلكه الأجيال اللاحقة التي تتوارث التفاخر وحفظ الماضي، بلا فهم واعٍ لما اعتادوا أن يسمعوه ممن قبلهم. وهنا نسأل كيف اشتعلت فتنة التكفير؟
وفي الوقت الذي تصنف فيه أشكال التكفير السابقة تحت سقف عرف المجتمع وتقاليده، يشتغل هذا المصطلح بشكل واضح في التقسيم الديني والمذهبي تحديداً، الذي يجعل من تصنيف الهويات حسب الأسماء/ المناطق/ اللهجات أمراً محسوماً بمعنى الــ/مع والــ/ضد، ولكل ذريعته المبررة بالحرص على مظاهر الدين الإسلامي الذي تمثله طائفته بوصفها الطائفة “المختارة”، وفي المضمون أسباب أخرى غالباً ما تكون تأجيجاً سياسياً وتجييشاً دينياً يؤيده.. فكيف بدأ فتيل الفتنة؟
كل شيء لم يكن على ما يرام تماماً، وحتى لا ننطلق بصورة مثالية مبالغ فيها، كما في نشرات الأخبار الجامدة والتقارير المعلبة، كان هناك رفض/ إنكار للآخر (تكفير)، لكنه قطعاً كان في تواقيت تاريخية معينة لها مقاصدها. فعلى سبيل المثال: تعرض اليهود البحرينيون إلى مضايقات أدت إلى رحيل أفراد منهم إلى خارج البلد، لأسباب متعددة مرتبطة بالهزيمة في 1967. وأيضاً في قضية الطائفية التي تثار منذ سنوات طويلة، والتي عمل الاستعمار على تأجيجها عملاً بسياسة (فرِّق تسُد)، والتي تستمد من مذكرات المستشار بلجريف بعضاً منها، وليشهد التاريخ على أن هؤلاء الناس لم يكن الخلاف المذهبي يوماً بينهم, فليسوا منزهين عن صفات إنسانية سلبية، لكن المناطق المشتركة تشهد أن الخلافات الشكلية التي حدثت كانت لأسباب بعيدة، فيما حشر “الاختلاف” ليكون ذريعة كافية لإذكاء الفتنة ليس إلا.
ومن الأمور التي تحيلنا إليها القضايا المذهبية مسرحياً أيضاً، المسرح الحسيني/ الكربلائي الذي يقوم على مسرحة التعازي الحسينية، من بعد واقعة “الطف” والتي يقيمها المسلمون من الطائفة الشيعية في موسم شهري محرم وصفر من كل سنة، عبر المجالس التي تتم فيها قراءة الواقعة حسب الروايات والكتب، وهذا الشكل المستمر أدى إلى تفتق فكرة تجسيد الأحداث عبر الشكل المسرحي الحالي، مع الأخذ بالاعتبار أن العقلية الإسلامية حسمت موضوع الصراع وحرية التفكير بالشكل الذي عرف به المسرح الإغريقي (5)، لذلك فإن الفكرة في أنه إن غاب الصراع فإن الدراما ستغيب تلقائياً، فلا دراما بلا صراع، الذي يعرفه الباحث شرجي “أنها قضية محسومة ربانياً في العقلية الإسلامية، هذه العقلية لم تستسغ فكرة الصراع، فقاد هذا إلى التخلي عن فكرة المسرح” (6).
لذلك استمرت هذه الطائفة الشيعية بتقديم هذا الشكل الدرامي/ المسرحي لهذا الطقس الديني، مع مزج هذه العروض بما يتوافق عليه من مضامين سياسة أو اجتماعية، فتصنع منه شكلاً تراه الطائفة الأخرى متعارضاً مع مفهوم الأشياء لدى الطائفتين! كأن الكتاب المقدس لدى المسلمين قد نزل في نسختين لا تتشابهان ولن تتفقا! وكأن بالتاريخ المستمد من كتب تراثية واستقطاع النصوص التي تتكيف ومقاسات الطرفين ورواياتهم هي اليقين بذاته، دون التعرض لتحليل عقلاني أو التفكير فيما يوحد الكلمة، انتصاراً لما جبل عليه كل طرف بأنه الفرقة “المختارة”، كما يشير المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري أنه “ليس من طريق للتجديد إلا تمثل الفكر الإنساني قديمه وجديده، والاطلاع عليه بتعمق، مع دراسة مختلف تيارات التراث الإسلامي دراسة نقدية، وعدم الانحياز لتيار فيه ضد آخر. فلن يتم إحياء للتراث بتقطيع أوصاله وبتر أعضائه، فإما أن نحييه بحقيقته الكاملة القابلة للنقد، وإلا فدعوة إحياء التراث لن تحقق هدفها الحضاري..”. وما عدا هذا المنطق فلن نتقدم خطوة إلى الأمام ونحن نفضل بعضنا بالتمايز فيما لا فضل لنا فيه، ونستميت من أجل الدفاع عنه! وهنا نسأل: هل نحن طغاة؟ طائفيون؟ أم تكفيريون؟؟!!

الهوامش
1. علي أحمد الديري, نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية, مركز أوال للدراسات والتوثيق, بيروت, الطبعة الأولى 2015. ص 23
2. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة إلى التقليد, دار ومكتبة عدنان, بغداد, 2013, ص 60
3. نفس المصدر السابق, ص 60
4. من تقرير مصور عرض في نشرة التاسعة على قناة MBC.
5. أحمد شرجي, المسرح العربي من الاستعارة للتقليد, مصدر سابق ص 47
6. نفس المصدر السابق, ص 55

اقرأ المزيد

“البيان الشيوعي” بعد مرور 170 عاماً (1- 2)

بقلم: سمير أمين
ترجمة: غريب عوض

كان سمير أمين (1931-2018) مديراً لمُنتدى العالم الثالث في العاصِمة السنغالية دكار، ومؤلف للكثير من الكُتُب، آخرها “الإمبريالية الحديثة”، و”الرأسمالية المالية الاحتكارية”، و”قانون القيمة عند ماركس”.
هذا المقال هو آخر مقال بعث بهِ سمير أمين إلي مجلة اليسار Monthly Review قبل وفاتهِ. وطلب من المجلة أن تُؤخر نشر المقال إلى أن يصدر أولاً في مجلة النشرة السوسيولوجية، الصربية الأمر الذي حدث بالفعل.

1
لا يوجد نص آخر كُتِبَ في مُنتصف القرن التاسع عشر وبقي صامداً مثلُ البيان الشيوعي لعام 1848 لكارل ماركس وفريدريك أنجلز. وحتى اليوم، فقرات كاملة من النص تتوافق مع الواقع المُعاصر أفضل مما كانت عليهِ في عام 1848. إنطلاقاً من المُقدمات المنطقية التي كانت بالكاد مرئية في عصرهما، توصل ماركس وأنجلز إلى استنتاج مفادهُ أن تطورات 170 عاماً من التاريخ تأكدت بالكامل.
هل كان ماركس ورفيقه إنجلز نبيين مُلهمين، ساحرين قادِران على النظر في كُرة بلورية، أم كائنين إستثنائيين فيما يتعلق بحدسيهُما؟ كلا. هُما ببساطة أدركا أفضل من أي شخص آخر، في زمنهُا وزمننا، جوهر ذلك الذي يُحدِد الرأسمالية ويُميّزُها. لقد نذر ماركس كامل حياتهِ في تعميق هذا التحليل من خلال الفحص المُزدوج للإقتصاد الجديد، مُبتدءاً بإنجلترا كمِثال، والسياسة الجديدة، بدءاً بالمِثال الفرنسي.
لم يُقدم كِتاب رأسمال المال لماركس تحليلاً علمياً دقيقاً لنمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي، وكيفية اختلافهما عن أشكال سابِقة. يغوص المُجلد الأول في قلب المشكلة. فهو يوضح مُباشرةً معنى تعميم تبادلات السِلعة بين مُلاك العقارات الخاصة (ظاهِرة فريدة في مركزيتها بالنسبة لعالم الرأسمالية الحديث، على الرغم من أن تبادل السِلع كان موجوداً سابقاً)، وتحديداً، ظهور وهيمنة القيمة والعمل الاجتماعي النظري. وانطلاقاً من تلك القاعِدة، يقودُنا ماركس إلى فهم كيف أن بيع البروليتاري لقوة عمله/عملها إلى “الشخص الذي يملك المال” يضمن إنتاج فائض القيمة التي يُصادرها الرأسمالي، والتي هي بدورها، شرط لتراكم رأس المال. إن هيمنة القيمة لا تُسيطر على إعادة إنتاج النظام الاقتصادي للرأسمالية فحسب، بل على كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة. ويُشير مفهوم الأغتراب السِلعي إلى الآلية الأيديولوجية التي يتم من خلالها التعبير عن الوحدة الشامِلة للتكاثر الاجتماعي.
لقد أثبتت هذهِ الأدوات الفكرية والسياسية، التي تمّ التحقق من صحتها بتطوّر الماركسية، قيمتها في التنبؤ الصحيح للتطور التاريخي العام للواقع الرأسمالي. لم تكن هناك أية محاولة للتفكير في هذا الواقع خارج الماركسية أو ضدها في كثير من الأحيان أدت إلى نتائج مُماثِلة. إن انتقاد ماركس لقيود الفكر البرجوازي، وخاصة العلوم الاقتصادية، والذي وصفهُ بِحق بِأنهُ “مُبتذل”، أمرٌ بارع. ونظراً لأنهُ غير قادر على فهم ماهية الرأسمالية في واقعها الأساسي، فإن هذا الفكر الغريب غير قادر أيضاً على تخيُّل مصير المجتمعات الرأسمالية. هل سيتم تشكيل المستقبل بثورات اشتراكية تضع حداً لهيمنة رأس المال؟ أم أن الرأسمالية ستنجح في إطالة أيامها، وبالتالي فتح الطريق أمام تدهور المجتمع؟ يتجاهل الفكر البُرجوازي هذهِ القضية التي طرحها البيان الشيوعي.
وبالفعل، لقد قرأنا في البيان الشيوعي بأن هناك “معركة تنتهي في كل مرة إما بإعادة تشكيل ثورية للمجتمع كَكُل، أو بالخراب العام للطبقات المُتنافِسة”.
أثارت هذهِ الجُملة انتباهي لفترة طويلة. وانظلاقاً منها، توصلتُ تدريجياً إلى صياغة قراءة لحركة التاريخ تُركّزة على مفهوم التطور غير المُتكافئ والعمليات المختلِفة المُحتملة لتحوِلهِ، نابعة على أكثر تقدير من أطرافهِ بدلاً من مراكزه. كما أنني قُمتُ أيضاً ببعض المُحاولات لتوضيح كل نموذج من نموذجي الاستجابة للتحدي: الطريقة الثورية وطريقة الانحطاط.
وبعد أن اخترت استخلاص قوانين المادية التاريخية من التجربة العالمية، تقدمتُ بصياغة بديلة لنمط ما قبل رأسمالي فريد من نوعه، وهو نمط الجزية [أخذ الجزية أو الإتاوة من الأمم المحيطة بالإمبراطورية مقابل السماح لها بالعيش والبقاء]، الأمر الذي تميل إليه كافة المجتمعات الطبقية. تاريخ الغرب – بناء الآثار الرومانية، وانحلالها، تأسيس أوروبا الإقطاعية، وأخيراً، إن تبلور الدول المُطلقة للعصر التجاري يُعبّر، في شكل مُعيّن، عن نفس الاتجاه الأساسي المقدم في مكان آخر نحو البناء الأقل تقطعاً لدول تابعة كاملة، والتي تُعد الصين أقوى مِثال على ذلك. إن نمط العبودية ليس عالمياً في قراءتنا للتاريخ، كما النمطين الجزية والرأسمالي، فهو خاص، ويظهر حصرياً مرتبطاً بتوسع العِلاقات السِلعية. بالإضافة إلى أن النمط الإقطاعي هو الشكل البدائي غير المكتمل لنمط الجزية.
تُبيّنُ هذهِ الفرضية إنشاء روما وتفكُكُها لاحقاً كمُحاولة سابقة لأوانها لبناء نمط الجزية. إن مستوى تتطور قوى الإنتاج لم يتطلب تمركز الجزية بنفس حجم الإمبراطورية الرومانية. وهكذا، أعقبت هذهِ المحاولة الأولى التي لم تنجح انتقالاً قسرياً من خلال تفتُت النظام الإقطاعي، والذي تم على أساسهِ استعادة المركزية مرة أُخرى في إطار أنظِمة المَلَكيات المُطلقة في الغرب. عِندها فقط، اقترب نمط الإنتاج في الغرب من نموذج الجزية الكامل. علاوة على ذلك، لم يبلغ مُستوى تطوّر قوى الإنتاج في الغرب نمط الجزية المُكتمل كما في إمبراطورية الصين إلا حينما بدأ بهذهِ المرحلة؛ وهذا بلا شك ليس صِدفة.
إن تخلُف الغرب، الذي عبر عنهُ إجهاض روما وتفتُت النظام الإقطاعي، أعطاه بالتأكيد ميزة تاريخية. وبالفعل، فإن الجمع بين عناصر مُحددة من نمط الجزية القديم والأنماط المجتمعية البربرية ميّزت النظام الإقطاعي وأعطت الغرب مرونتهِ. وهذا يشرح السِرعة التي من خلالها جربت أوروبا مرحلة الجزية كاملة، متجاوزةً بسرعة مستوى تطور قوى الإنتاج في الشرق، الذي تجاوزتهُ وانتقلت إلى الرأسمالية. وهذهِ المرونة والسرعة تناقضت مع التطور البطيء نسبياً لأنماط الجزية الكاملة في الشرق.
مما لا شك فيه إن الحالة الرومانية الغربية ليست هي المِثال الوحيد لبناء جزية فاشلة. بإمكاننا تقديم ثلاث حالات أُخرى على الأقل من هذا النوع، كلُ حالة مع ظروفها المُحددة الخاصة: حالة الإمبراطورية البيزنطية – الإمبراطورية العثمانية، وحالة الإمبراطورية الهندية، وحالة إمبراطورية المغول. في كل حالة من هذهِ الحالات، كانت محاولات تثبيت أنظمة الجزية المركزية أعلى بكثير من مُتطلبات تطوير القوى المُنتِجة لتكون راسِخة. في كل حالة، من المحتمل أن تكون أشكال المركزية عبارة عن مزيج مُحدد يتكون من الدولة ونظام شبه إقطاعي ووسيلة سِلعة. ففي الدولة الإسلامية على سبيل المِثال، لعِبت مركزية السِلعة دوراً حاسماً. ولا بُد أن الإخفاقات الهندية المُتعاقِبة مُرتبِطة بمحتويات الأيديولوجيا الهندوسية، التي تعارضت مع الكونفوشيوسية. أما بالنسبة لمركزية إمبراطورية جنكيزخان، كما نعلم، لم تدوم طويلاً.
إن النظام الإمبريالي المُعاصر هو أيضاً نظام مركزية الفائض على مُستوى العالم. وتعمل هذهِ المركزية على أساس القوانين الأساسية للنمط الرأسمالي وشروط هيمنتهِ على أنماط ما قبل الرأسمالية في دول المُحيط. لقد قُمتُ بصياغة قانون تراكم رأس المال على المستوى العالمي كتعبير عن قانون القيمة الذي يعمل على هذا المستوى. ويتميّز النظام الإمبريالي لمركزية القيمة بسرعة التراكم وبتطور قوى الإنتاج في مركز النظام، في حين إنها تتخلف وتتشوه في مناطق المحيط أو الأطراف. التنمية والتخلف وجهان لِعُمَلة واحِدة.
الشعوب فقط هي التي تصنع تاريخها بنفسها. لا تستطيع الحيوانات ولا الكائنات غير الحية أن تتحكم في تطورها؛ إنها خاضعة لهُ. مفهوم التطبيق العملي مُناسب للمجتمع، كتعبير عن تركيب الحتمية والتدخُل البشري. كما أن العلاقة الجدلية بين البُنية التحتية والبُنية الفوقية هي أيضاً مُناسبة للمجتمع وليس لها مثيل في الطبيعة. وهذهِ العلاقة ليست من جانب واحد. فالبُنية الفوقية هي ليست إنعكاساً لاحتياجات البُنية التحتية. لو كانت القضية كذلك، فسيكون المجتمع دائماً غريباً ولن يكون من المُمكن رؤية كيفية إمكانية نجاحه في تحرير ذاتهِ.
هذا هو السبب في أننا نقترح التمييز بين شكلين مُختلفين إختلافاً نوعي من التحوّل من نمط إنتاج إلى آخر. إذا تطور هذا التحول في اللاوعي، أو بوعي غريب، أي أن الأيديولوجيا التي تؤثر على الطبقات لا تسمح لها بالتحكُم في عملية التغيير، تظهر هذهِ العملية كما لو أنها تعمل بشكل مُماثل للتغيير في الطبيعة، وحيثُ تُصبِح الأيديولوجيا جزء من هذهِ الطبيعة. فبالنسبة لهذا النوع من التحوّل، فإننا نحتفظ بِعبارة “نموذج الانحطاط”. في المُقابل، إذا كانت الأيديولوجيا تستحوذ على البُعد الحقيقي للتغييرات المبتغاة في مُجملها، عندها فقط يمكننا التحدث عن الثورة.
اعتقدت البرجوازية أن عليها أن تتجاهل هذهِ القضية لكي تتمكن من أن تعتبر الرأسمالية نظام عقلاني إلى الأبد، وتتمكن من التفكير في “نهاية التاريخ”.
2
وعلى النقيض من ذلك، أشار ماركس وأنجلز بحزم منذُ فترة البيان الشيوعي، بأن الرأسمالية لا تُشكّل إلا فترة فاصِلة قصيرة في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن نمط الإنتاج الرأسمالي في عصرهما لم يتعدى إنجلترا وبلجيكا وإقليم صغير في شمال فرنسا، أو الجزء الغربي من ويستفسليا البروسية. لم يوجد شيء مُماثل في مناطق أُخرى من أوروبا. وبالرغم من هذا، لقد تصوّر ماركس بالفعل أن الثورات الاشتراكية ستحدث في أوروبا “قريباً”. وهذا التوقع واضح في كل سطر من البيان الشيوعي.
بطبيعة الحال، لم يكن ماركس يعرف في أي بلد ستبدأ الثورة. هل ستكون انجلترا، البلد الوحيد المتقدم في الرأسمالية؟ كلا، ماركس لم يُفكر أن هذا كان مُمكناً إلا إذا حررت البروليتاريا الإنجليزية نفسها من دعمها لاستعمار ايرلندا؟ هل ستكون فرنسا، وهي أقل تقدماً من حيثُ تطورها الرأسمالي، ولكنها أكثر تقدماً من حيث النضج السياسي لشعبها، الذي ورثهُ عن ثورتها العظيمة؟ رُبما، وأثبتت كومونة باريس عام 1871 حدس ماركس. ولنفس السبب، توقع أنجلز الكثير من ألمانيا “المُتخلِفة”: الثورة البروليتارية والثورة البرجوازية يمكن أن تصطدمان هنا. وبهذا الصدد كتبا في البيان الشيوعي ما يلي:
أدار الشيوعيون انتباههم بشكل رئيسي إلى ألمانيا، لأن تلك البلد كانت على مشارف ثورة برجوازية التي من المؤكد أنها ستحدث في ظل ظروف أكثر تطوراً للحضارة الأوروبية وبروليتاريا أكثر تقدماً مما كانت عليه إنجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، ولأن الثورة البرجوازية في ألمانيا لن تكون إلا مُقدِمة للثورة البروليتارية التالية مُباشرةً.
وهذا لم يحدث: إن الوِحدة في ظل المحتال التاريخي العالمي (بسمارك Bismarck) لبروسيا الرجعية، والجُبن والواسطة السياسية للبرجوازية الألمانية سمحت للقومية بالانتصار وهمشت الثورة الشعبية. وقد حول ماركس نظره في أخر حياتهِ نحو روسيا، الذي توقع أن تتمكن من أن تأخذ طريقاً ثورياً، كما يشهد على ذلك مُراسلاتهِ مع فيرا زاسوليتش Vera Zasulich.(الكاتبة المنشفية والمترجمة لأعمال كارل ماركس إلى اللغة الروسية).
وهكذا، لم يكن لدى ماركس الحدس بأن التحول الثوري بالإمكان أن يحدث من أطراف النظام – الحلقات الأضعف، حسب تعبير لينين لاحقاً. إلا أن ماركس لم يستخلص في زمنهِ كل الإستنتاجات التي فرضت نفسها في هذا الصدد. كان من الضروري الإنتظار حتى يتقدم التاريخ نحو القرن العشرين لكي يرى، مع لينين Lenin و ماوتسي تونغ Mao Zedong، الشيوعيين أصبحوا قادرين على تخيُّل ستراتيجية جديدة، مؤهلة لتكون “بناء للإشتراكية في بلد واحد.” هذا تعبير غير مُناسب، الذي أفضل بدلاً عنهُ إعادة الصياغة الطويلة: التقدم غير المُتكافئ على الطريق الطويل للتحوّل الإشتراكي، المُؤتأنس في بعض البلدان، والذي تُناضل ضده استراتيجية الإمبريالية المُهيمنة بشكل مُستمر وتسعى لعزلهِ تماماً.”
يطرح النقاش المُتعلق بالتحول التاريخي الطويل إلى الإشتراكية في اتجاه الشيوعية، والنطاق العالمي لهذهِ الحركة سِلسلة من الأسئلة المتعلقة بتحول البروليتاريا من طبقة بحد ذاتها إلى طبقة لنفسها، وظروف وآثار عولمة الرأسمالية، وموقع الفلاحين في التحول الطويل، وتنوع تعبيرات الفكر المناهض للرأسمالية.
3
وفهم ماركس أكثر من أي شخص آخر أن لدى الرأسمالية مُهمة غزو العالم. وكتب عن هذا في وقت حين كان فيه هذا الغزو بعيداً عن الاكتمال. لقد اعتبر هذهِ المهمة مُنذُ نشأتها، اكتشاف الأمريكتين، الذي افتتح انتقال القرون الثلاثة من النزعة التجارية إلى الشكل النهائي الكامل للرأسمالية.
وكما كتب في البيان الشيوعي، “لقد أسست الصناعة الحديثة السوق العالمية، الذي مهد لها اكتشاف أميركا الطريق … لقد أعطت البرجوازية من خلال استغلالها للسوق العالمية الإنتاج والاستهلاك طابعاً عالمياً في كل بلد.
لقد رحب ماركس بهذهِ العولمة، الظاهِرة الجديدة في تاريخ البشرية. وتشهد لذلك العديد من الفقرات في البيان الشيوعي. على سبيل المِثال: “البرجوازية، كلما ما كانت لها اليد العُليا، وضعت حداً لجميع العلاقات الإقطاعية والأبوية والرعوية.” بالإضافة إلى: لقد أخضعت البرجوازية الريف لسيطرة المُدُن … ولهذا أنقذت جزء كبيراً من السُكان من إنعزالية الحياة الريفية. ومثلُ ما جعلت الريف يعتمد على المُدُن، كذلك جعلت الدول المتوحشة وشبه المُتوحشة تعتمد على الدول المُتمدِنة، أوطان الفلاحين تعتمد على الأوطان البرجوازية، والشرق يعتمد على الغرب.”
الكلام واضح. لم يكن ماركس قط متمسكاً بالماضي، مُتحسِراً على أيام الماضي السعيدة. كان يُعبر دائماً عن وجهة نظر حديثة، إلى الحد الذي يبدو وكأن نزعة التركيز على الذات الأوروبية تستحوذ عليه. وقد تعمق في هذا الاتجاه. ومع ذلك، لم تكن همجية العمل الحضري بمثابة تسفيه للبروليتاريين؟ لم يتجاهل ماركس الفقر في المناطق الحضرية الذي واكب التوسع الرأسمالي.
هل تمكن ماركس في البيان الشيوعي من قياس بشكل صحيح العواقب السياسية لتدمير الزراعة في أوروبا نفسها، بل وفي البُلدان المُستَعمَرة؟ أعود إلى هذهِ الأسئلة في علاقة مُباشِرة بالطابع غير المُتكافئ لنشر الرأسمالية على مستوى العالم.
ما زال ماركس وأنجلز، في البيان الشيوعي، على غير عِلم بأن نشر الرأسمالية في جميع أنحاء العالم ليس ذلك النشر المُتجانس الذي يتخيلانه، أي إعطاء الشرق المُستَعمَر فرصتهِ للخروج من الطريق المسدود الذي وضعهُ تاريخهُ فيه، وأن يُصبح، مثل الدول الغربية، أُمَم “مُتحضِرة” أو دولاً صناعية. تُقدم بعض نصوص ماركس استعمار الهند في ضوء عزاء. ولكن ماركس غير رأيهُ فيما بعد. إن هذهِ التلميحات، بدلاً من أن تُشكّل حجة مُفصلة بشكل منهجي، تشهد على الآثار المُدمِرة للغزو الاستعماري. ويًصبح ماركس تدرجياً على وعي بما أُسميه التنمية غير المُتكافئة، بتعبير آخر، البناء المنهجي للتناقض بين المراكز المُهيّمنة والأطراف المُهيمن عليها، وبهذا، إستحالة “اللِحاق” ضمن هذا الإطار لعولمة الرأسمالية (إمبريالية بطبيعتها) بأدوات الرأسمالية.
في هذا الصدد، إذا كان من المُمكن “اللِحاق بالركب” ضمن العولمة الرأسمالية، فلن تتمكن أية قوة سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية من مُعارضة ذلك بنجاح.
وفيما يتعلق بمسألة “انفتاح الصين” يقول ماركس في البيان الشيوعي بأن “أسعار سِلعها الرخيصة هي المدفعية الثقيلة التي تُحارب بِها جميع الأسوار الصينية، والتي تُجبِر بِها كراهية المُتوحشين المُتعنتة للأجانب على الإستسلام.
ونحنُ نعلم بأن هذه لم تَكُن طريقة عمل هذا الافتتاح: فقد كانت مدافع سلاح البحرية البريطانية هي التي “فتحت” الصين. كثيراً ما كانت المنتُجات الصينية أكثر تنافُسية من المنتُجات الغربية. كما أننا نعرفُ أيضاً أن الصناعة الإنجليزية الأكثر تطوراً ليست هي التي سمحت بالهيمنة الناجحة على الهند (وأيضاً، كانت نوعية النسيج الهندي أفضل من البريطاني). وعلى العكس من ذلك، كانت الهيمنة على الهند (والتدمير المُنظّم للمصانع الهندية) هي التي أعطت بريطانيا العُظمى وضعها المُهيّمن في النظام الرأسمالي العالمي في القرن التاسع عشر.
إلا أن الخبرة والتقدم في السن علما ماركس الشاب كيفية التخلي عن الأهتمام المُتمحور في أوروبا. عرف ماركس كيف يُغيّر وجهات نظره، في ضوء تطور العالم.
ولهذا، تَخيّل ماركس وأنجلز في عام 1848 الإمكانية القوية لثورة اشتراكية أو أكثر في أوروبا في عصرهُما، مُؤكدين على أن الرأسمالية لا تُمثّل إلا فترة فاصِلة قصيرة فقط في التاريخ. وسرعان ما أثبتت الحقائق صحة تنبؤهُما. فكانت كومنة باريس في عام 1871 أول ثورة اشتراكية. إلا أنها أيضاً آخر ثورة قامت في بلد رأسمالي مُتطوّر. ومع تأسيس الأُممية الثانية، لم يفقد أنجلز الأمل في أحداث ثورية جديدة، في ألمانيا بصِفة خاصة. لكن التاريخ أثبت خطأ أنجلز. إلا أن خيانة الأُممية الثانية في عام 1914 كان لا ينبغي أن تُفاجأ أي شخص. وإلى جانب الانجذاب الإصلاحي، فإن توحيد الأحزاب العُمالية في كل أوروبا في ذلك الزمن مع السياسة التوسعية والاستعمارية والإمبريالية لبرجوازيهم دل على أنهُ لم يكُن هناك الكثير مما يمكن توقعه من أحزاب الأُممية الثانية. فقد انتقل الخط الأمامي لتحوّل العالَم إلى جهة الشرق، إلى روسيا في عام 1917 من ثم إلى الصين. وبالتأكيد لم يتنبأ ماركس بهذا، ولكن كِتاباتهِ المُتأخِرة سمحت لنا بالإفتراض أنهُ ربما لم يكُن ليتفاجأ بالثورة الروسية.
وفيما يتعلق بالصين، اعتقد ماركس بأن الذي كان على جدول الأعمال ثورة برجوازية. في كانون الثاني/يناير 1850 كتب ماركس: “حينما يصل أخيراً الرجعيين الأوروبيين لدينا إلى سور الصين العظيم … من يدري إذا لم يجدوا مكتوب عليه الأسطورة: جمهورية الصين، حُرية، مُساواة، أخوة.” كما أن الكومينتانغ لثورة 1911، Sun Yat-sen تخيّلوا هذه أيضاً، مثل جمهورية ماركس (البرجوازية) الصينية. إلا أن Sun Yat-sen لم يفلح لا في هزيمة قوى النظام القديم الذي تمكن قادته العسكريين من استعادة المناطق، ولا طرد هيمنة قوى الإمبريالية، خاصة اليابانية. لقد أكد انحراف قوى كومينتانغ التابعة شيانغ كاي شيك حِجج لينين و ماو بأنه لم يعد هناك مجال لثورة برجوازية حقيقية؛ عصرنا هو عصر الثورة الإشتراكية. ومثلما لم يكُن لثورة شُباط/فبراير لعام 1917 الروسية مُستقبل نظراً لأنها لم تتمكّن من الانتصار على النظام القديم، داعية لذلك إلى ثورة أُكتوبر، كذلك دعت ثورة عام 1911 الصينية إلى ثورة الشيوعيين الماويين، وهُما الثورتان الوحيدتان القادرتان على الإجابة على توقعات التحرير، الوطني والاجتماعي في وقت واحد.
وهكذا كانت روسيا هي “الحلقة الضعيفة” في النظام، التي بدأت الثورة الاشتراكية الثانية بعد كومونة باريس. ومع ذلك، لم يتم دعم ثورة أُكتوبر الروسية، وإنما خاضتها الحركة العُمالية الأوروبية. وبهذا الصدد استخدمت روزا لوكسيمبورغ تعابير قاسية لانحراف الحركات العُمالية الأوروبية. تحدثت عن فشل وخيانة تلك الحركات، وعن عدم نُضج البروليتاريا الألمانية لتقوم بمهامها التاريخية.”
لقد تناولت هذا الإنسِحاب للطبقة العامِلة في الغرب المُتقدم، حيثُ تخلت فيهِ عن تقاليدها الثورية، من خلال التأكيد على الآثار المُدمِرة للتوسع الإمبريالي للرأسمالية والمنافع التي تجنيها المجتمعات الإمبريالية بمجموعها (ليست بُرجوازيتها فقط) من مواقعها المُهيمِنة. ولهذا فقد رأيت إنهُ من الضروري تكريس فصلاً كاملاً في قراءتي للأهمية العالمية لثورة أكتوبر لتحليل التطور الذي دفع الطبقة العامِلة الأوروبية إلى التخلي عن مهامها التاريخية، حسب تعبير روزا لوكسيمبورغ. أُحيلُ القارئ إلى الفصل الرابع في كتابي “ثورة أكتوبر 1917.

اقرأ المزيد

الإنتفاضات العربية والبعبع المخيف


جلال إبراهيم

البعبع لغةً، صُورَةٌ خَيالِيَّةٌ لِحَيَوانٍ مُرْعِبٍ، الغُولُ، طَيْفٌ مُخيفٌ يُخَوِّفُ الأطْفالَ. يتعامل الكثير من الأنظمة الحاكمة المستبدة والأحزاب العربية مع شعوبهم كما يتعامل الكبار في تخويفهم للأطفال بالبعبع الخيالي.

فأيما شعب من الشعوب العربية سولت له نفسه وخرج إلى الساحات والميادين صارخاً بأعلى صوته من أجل حريته وكرامته وتحقيق حلمه في نظام سياسي يحترم حقوقه السياسية والمدنية إلا وتمَّ قمعه بوحشية وتخويفه بالبعبع. وهذا البعبع يأخذ صوراً مختلفة: إسرائيل، داعش، الصراع الطائفي، الفراغ والفوضى، الحرب الأهلية.

التنوع الديني والمذهبي والعرقي ليس حكراً على المجتمعات العربية. لذلك لا يعد هذا التنوع مبرراً للهروب من التحول نحو دولة المواطنة والديمقراطية. يوجد في جمهورية سويسرا تنوع ثقافي وإثني ولغوي هائل ومع ذلك تشكل هذه الدولة نموذجاً حضارياً راقياً ومتقدماً في التعايش السلمي وتداول السلطة وفي الحريات والتنمية المستدامة.

تهدد الطبقة الحاكمة الفاسدة في لبنان المتظاهرين السلميين بحدوث الفوضى والانزلاق إلى الحرب الأهلية. وفي الواقع ما لم تتدخل سلطة الدولة والأحزاب المتماهية معها في الفساد والطائفية وتثير القلاقل والفتن فإن الجماهير اللبنانية ستحافظ على سلميتها لأنها صادقة في توجهها الوطني وواعية في تحقيق أهداف انتفاضتها التي يختصرونها في تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية.

أما في العراق فإن البعبع الذي يُرفع في وجه الجماهير العراقية من أجل إيقاف انتفاضته السلمية وخنوعه للطبقة السياسية الفاسدة فهو متعدد ويحمل عناوين مختلفة. بعبع يرفعه رجال الدين الشيعة يتمثل في أن إسقاط الحكم الحالي يعني فقدان السيطرة على أضرحة أهل البيت وعدم ممارسة الشعائر الشيعية الإثني عشرية بصورة واسعة كما هي عليه الآن. وبعبع آخر يتمثل في عودة حكم البعث السيئ الصيت. وأخيراً بعبع عودة داعش الذي سيطر على مساحات واسعة من العراق وأذاق أهله صنوف التوحش والإرهاب.

لا يوجد عاقل ينفي وجود المخاطر والمؤامرات على الكثير من الدول العربية وعلى رأسها وجود إسرائيل في عمق المشرق العربي، ولكن لا يعني كل ذلك مبرراً مقبولاً وكافياً لترسيخ واستمرار أنظمة الفساد والاستبداد التي تعيق خروج الشعوب العربية من حضيرة الدول المتأخرة والمتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة والمتطورة في كافة مجالات الحياة.

اقرأ المزيد

في لبنان والعراق: صوت الثورة يصدح


حميد الملا
أبصر يوم الخامس والعشرين من اكتوبر في العراق والسابع عشر من نوفمبر في لبنان النور على وقع هدير شباب منذور للثورة والتغيير ليربك معادلات السياسيين في كلا البلدين وليقلب الطاولة على حساباتهم ويقضّ مضاجعهم بمطالبه العادلة.

تغيّر شئ ما جوهري في تفكير هؤلاء الشباب ليرتفع صوتهم عاليا ضد الطوائف وممارسات السياسيين ومحاصصاتهم الطائفية، وأخذت ساعة التاريخ تعلن ميلاد فجر جديد لتفكير جديد يهزأ بتلك النخب الفاسدة في كلا البلدين.

ندخل في عصر التوصيف لهذه الحالة الجديدة لنجد بأن لبنان لايشبه لبنان والعراق لا يشبه العراق، للساحات والمنازل ألوان وأعلام وخيم وللشوارع المكتظة بضجيج الصبايا والشباب الحالمين بالتغيير، إنها لحالة فريدة كما لم تكن من قبل وكما لن تكون من بعد أبداً.

بين العراق ولبنان مسافات قليلة قد تضيق وقد تتسع وتكبر بين ثورتين لشباب متحمس يثور وبوهج يغدو لأحلامه متسعاً كسعة الأرض والسماء، بين آمال وآلام تصدح مع ضجيج الحياة إيقونة لغدٍ أفضل، يصنعون مستقبلهم، يضيفون نكهة لحياة قادمة دونما قيود طائفية أو عنصرية أو دينية، انهم الشباب اللبناني والعراقي، الذي لم يكن المستقبل يخيفهم بل على العكس كان يقدم يقينا داخل حاضر مصنوع من لايقين كما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا.

لابد للشباب ان ينهض لينتزع حقوقه من أيدي الفاسدين المتشبثين بالسلطة باسم الدين في العراق وباسم الطوائف في لبنان فهل آن الأوان لتحقيق ذلك؟. بظننا أن هذه الدماء التى سالت وانهمرت كالأنهار في العراق ستغدو معبرا للحرية إن طال الزمن أو قصر. وكما يقول كونديرا ايضا فى روايته (الحياة في مكان آخر): “عندما تقتل الأحلام الكبيرة، تسيل دماء غزيرة”.

لكن الشعوب لا تخاف الدم عندما تثور لأنها تعرف بأن للحرية ثمن بل ثمن باهظ احيانا في ظل حكومات وأحزاب دينية فاسدة أقرب الى الفكر الفاشي لا تتوانى أبداً في سفك الدماء وقتل الأبرياء باسم الدين والطائفة، والوطن بالنسبة لهم عزبة كبيرة يسرقون منها ما يشاؤون دون حسيب أو رقيب.

شعوب تحلم بالحرية والعيش الكريم كغيرها من الشعوب ولكن هيهات من حكومات فاسدة ان تدع لهذه الشعوب ان تهنأ بالخيرات التى وجدت لتسرق من أفواه الفقراء والكادحين. فالحلم المتيقظ لدى الشعوب بعد أن عانت ما عانت من هذه الحكومات استيقظ على أنغام موسيقى الأمل بغد أفضل وبلحن الخلود لوطن يسود فيه العدل والمواطنة المتساوية وحقوق الانسان والتداول السلمي للسلطة وبالدولة المدنية العلمانية، فالأصوات النشاز لجوقة الطائفية يجب ان تنتهي والى الأبد وهذا ما وحدّ الشعبين العراقي واللبناني على هذا الشعار الذهبي ليسددوا سهام مظاهراتهم على تك الحكومات المشبعة بفيروس الطائفية والمحاصصة التي اكل الدهر عليها وشرب.

إن للثوار في البلدين مطلب واحدة رحيل الطغمة الفاسدة وبناء بلديهما من جديد بروح جديدة بعيدة عن تلك الاحزاب التى أكلت الأخضر واليابس وتربعت على كرسي السلطة بكتم انفاس شعوبها وذبح آمالهم وأحلامهم بوطن حر وشعب سعيد.

فقد دقّ جرس التغيير فلن يطيل بتلك السلطات المقام، فاللعبة انتهت وآن الأوان لسماع صوت الحشود المنتفضة على أبواب القصور المسيجة بدماء الكادحين والفقراء والمحرومين، فأية أنظمة هذه، وأية وحشية تلك التى تقتل شعبها بدم بارد وبشعور من الزهو وبالغطرسة المتأصلة في بناء وبنية تلك الاحزاب المسيطرة على السلطة بالحديد والنار.
وحدها الشعوب التواقة للحرية قادرة على إسقاط تلك الطغم الفاسدة بوحدتها الوطنية وبالسلمية التى ستحطم بها القيود وهذا سر من اسرار استمرارية الحراك وقدرته على إيصال صوته وبقوة عبر ابداعات فنية ورقصات شعبية وأغان ثورية تلهب حماس المحتشدين، فليس لإبداعات الشعوب من منتهى وحدود.

ليس للفن والشعر قط دور أكبر من الدور الذي يلعبه في الانتفاضات الثورية وهذا ما فهمته وتيقنت منه تلك الجماهير اللبنانية والعراقية فأخذ المبدعون رغم الجراح يبدعون لثورتيهما سمات تليق بالذوق الراقي والحس المرهف، فحوّلوا الساحات مسارح تفيض وتعج بالمواطنين التواقين للتغيير وعلى أنغام الموسيقى يصيغون احلامهم وآمالهم فى غد أفضل لهم وللأجيال القادمة، بالدبكة اللبنانية والأهازيج العراقية يحيلون الماضي الى مستقبلٍ زاهٍ مزهر والظلام الى نور والطائفية الى مزبلة التاريخ.

كان لصبر الشعبين العراقي واللبناني حدود فالفساد قد استشرى والمفسدون تمادوا بفسادهم وانتفخت بطونهم وأوداجهم وخزينة الدولة فاب قوسين أو أدني من الإفلاس والدين العام فاق الموازنة العامة للدولة والآمال في الإصلاح تبخرت والفقر زاد أضعافاً مضاعفة فليس هنالك من سبيل بعد ان ضاقت بهم السبل سوى الثورة على هذه الأوضاع وكان لهم ذلك.

فالحلم بالثورة على تلك الأوضاع أصبح حقيقة وما هو غير واقعي اصبح واقعيا فالمطالب ليست مستحيلة التحقيق والإصلاح ممكن اذا ما توفرت الإرادة من زعماء اصلاحيين.

لننظر مرة اخرى لحال البلدين العراق ولبنان بعد هذه السنيين الطوال من حكم الطوائف والمحاصصات لنرى كيف حوّل هذان البلدان الجميلان الى أشبه ما يكون بالخرائب المهملة المتروكة مما يجسد حالة الخراب الشامل المادي والمعنوي للشعبين العظيمين، وكلما أمعن المراقب للأحداث في كلا البلدين ومراقبة واقع معيشة الشعبين لابد وأن يصل إلى نتيجة بأن الثورة على هذه الأوضاع وعلى المتسببين فيها قادمة لا محالة بسبب المعاناة المستمرة من سوء الأحوال في كل المجالات الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية.

فالإصلاح الموعود من قبل السلطتين العراقية واللبنانية أشبه بالحمل الكاذب، فالأحلام مرجأة والإحباط كبير والإنتظار طال بأكثر مما ينبغي فما كان من هؤلاء الشباب إلا أن يعيدوا الأمل ويرفعوا أصواتهم عالية بضرورة التغيير الذي لا راد له في عرف الشعوب إذا ما أرادت ذلك، ولن يجدي اللعب على عامل الوقت والمراوغة والتسويف من قبل السلطات أمام مطالب محقة لحشود المحتجين المصممين على نيل مطالبهم بالطرق السلمية وسيظل صوتهم يصدح بالثورة طالما بقي فاسد متنفذ.

اقرأ المزيد