المنشور

“كورونا” والأزمة الأخلاقية للرأسمالية

رغم مضي نحو نصف العام على بدايات تفشي وباء كورونا “كوفيد – 19” عالمياً؛ فإنه مازال يفجر أزمات دولية متعاقبة على المستويين الداخلي والداخلي لمعظم دول العالم، ولا سيما الرأسمالية منها والتابعة لها على السواء. و إذ يبدو محور هذه الأزمات المجال الطبي في مواجهة الوباء، إلا أن هذا المجال وثيق الترابط والتشابك مع مجالات متعددة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعكس جميعها الايديولوجية الطبقية السائدة للأنظمة الرأسمالية. ولا شك بأن هذه الأزمات فضحت الطابع الأخلاقي اللاإنساني الذي اتسمت به مسلكيات تلك الأنظمة في مواحهة الوباء؛ وعلى الأخص كما تجسده مواقف وسياسات النظام الرأسمالي الأميركي ممثلة في الإدارة الحالية للرئيس دونالد ترامب.

والحال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) يمكننا القول بكل اطمئنان لم تتعرَ أخلاق الرأسمالية العالمية – وبخاصة الأميركية – بلا ورقة التوت؛ كما تعرت خلال هذه المحنة الوبائية المريرة التي ما فتئ يمر بها المجتمع الدولي، حيث تجردت من الضمير الإنساني عن القيام بأدنى مسؤولياتها وواجباتها الأخلاقية الدولية كدولة العظمى تتحكم في الكثير من مصائر قضايا ونزاعات العالم ، ناهيك عن مسؤولياتها وواجباتها تجاه شعبها لحمايته من شر الوباء.

ولما كان تغييب المساواة الاجتماعية بين طبقات المجتمع، ولو بشروطها الدنيا، هو طابع أصيل من أبرز سمات الرأسمالية، فإن ذلك ترك ويترك أثره حتماً في تفشي الوباء وتفاقم أعداد قتلاه في صفوف الطبقات الفقيرة والوسطى والتي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع؛ حيث نجد الاثرياء والميسورين هم وحدهم القادرون على التمتع بالضمان الصحي والطبي الذي يقيهم من الوباء أوالعلاج منه.

أكثر من ذلك فإن الرأسمالية الأميركية لا تتورع عن استغلال أجواء الأزمة الصحية العالمية للمتاجرة في البلاء العالمي التي تمر به البشرية جمعاء، ومن ثم اغتنام أي فرص بزنسية توفرها تداعيات الأزمة؛ حتى أنها افتضحت في ركضها المحموم للحصول على قصب السبق في حق ملكية اختراع ولو اقتضى الأمر شرائه من الخارج إذا ما انعدمت فرص التوصل إليه في الداخل؛ ناهيك عن محاولة الترويج والمتاجرة في لقاحات ناجعة ضد فيروسات سابقة لم يثبت علمياً جدواها في صدّ فيروس “كوفيد – 19″، دع عنك المتاجرة في الأدوية السابقة على ظهور كورونا وأدوات الوقاية الاخرى التي تمت مضاعفة أسعارها في الأسواق العالمية مرات ومرات؛ ولا سيما الكمامات وعبوات التعقيم المطهرة وخلافها.

والحال لم يكن هذا الامتحان هو الأول من نوعه الذي تُمتحن فيه فيه أخلاق الرأسمالية على المحك ؛ إذ برز الامتحان منذ بروزها طابعها الاستغلالي بجلاء على أرض الواقع غداة الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر، وعلى الأخص إثر تحولها بعدئذ إلى مرحلة الامبريالية مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى طورها الحالي المتوحش تعرضت لإمتحانات عديدة.

تاريخياً فقد برزت أولى مظاهر استغلال الطبقة العاملة البشع من خلال منحها أجور متدنية بلا إجازات إسبوعية؛ نظير ساعات عمل مرهقة طويلة كانت تصل إلى أكثر من ضعف ساعات العمل الحالية المتعارف عليها في تشريعات العمل الدولى المعاصرة، إلى درجة افتقارها إلى الحد الأدني من ساعات النوم الكافية للإنسان ( 8 ساعات )، بل وعدم التردد عن رميها على رصيف الفاقة تسريحاً، تبعاً لأدنى هزة تمس مصالح وأرباح كبار الرأسماليين؛ ولا يتورع هؤلاء أيضاً عن اللجوء إلى ما يمكننا أن نسميه تعريض الشغيلة إلى عملية القتل غير المباشر جراء اللامبالاة والاستخفاف بأهمية توفير بيئة العمل الصحية وذات السلامة المهنية لهم.

فكم ذهب من أفراد هذه الطبقة المستغَلة قتلى ومرضى ومعوقين بتشوهات خلقية لإنعدام مثل تلك البيئة الصحية في منشآت وشركات أرباب العمل. أما أخطر أشكال الاستغلال فهو الذي تذهب ضحيته لا الطبقة العاملة وحدها فقط ، بل شعبها وشعوب بأكملها ؛والمتمثل في الحروب التي تندلع فيما بين الدول الرأسمالية نفسها على ترسيم مناطق النفوذ أو الاستئثار بها بغية نهب ثروات شعوب البلدان التي تستعمرها بالقوة اغتصاباً، بدءاً من الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 )؛ ومروراً بالحرب العالمية الثانية، وليس انتهاءً بعدئذ بحروب التدخل الامبريالية التي ما برحت تشنها ضد الدول التي تستهدفها والتي لا تسير مطواعة في ركابها حتى وقتنا الراهن.

على أن الحديث عن استغلال الطبقة الرأسمالية للطبقة العاملة – منذ صعود الطبقة الأولى – استغلالاً لا إنسانياً دون منحها الحد الأدنى من حقوقها في الأجور المعقولة معيشياً وبيئة العمل الصحية، ناهيك عن مراكمتها الأرباح من خلال عملية “فائض القيمة” الأخطر استغلالاً؛ وغير المعترف بصحتها حتى الآن كنظرية في علم الإقتصاد الرأسمالي وتشريعات العمل الدولية؛ نقول إن هذا الحديث يجرنا بدوره إلى مسألة اخرى، أحسبها في غاية الأهمية، ألا هي توظيف التطور العلمي ليس لصالح سعادة وتنمية شعبها كما يشيع الإعلام الرأسمالي؛ ولا لأي شعب من شعوب العالم برمتها، بل من أجل فقط مصالح أنانية ضيقة لفئة محدودة من المجتمع تنحصر في كبار المليارديرية الأثرياء الذين يشكلون الأقلية بين الغالبية العظمى من أفراد شعبها، وهذا بالضبط ما تمظهر لنا جلياً في مسلكيات هذه الفئة الرأسمالية الأنانية التي تمتلك أقل أكثر من 95 % من ثروات شعوبها خلال الحروب والجوائح العالمية التي مرّ بها العالم وكان أخطرها خلال جائحة “كورونا” الحالية.

ولعل أخطر الحروب تدميراً التي تتحمل الإمبريالية وزرها، الحربان العالميتان الأولى والثانية، والتي كان لنسختها الفاشية في الأخيرة دور محوري في إشعالها؛ وحيث ألقت خلالها الولايات المتحدة أول قنبلة مئوية في التاريخ على مدينتي هيروشيما وتجازاكي اليابانيتين أزهقت أرواح ما يقرب من مئتي وعشرين ألف قتيل؛ ناهيك عن القتلى قتلاً بطيئاً جراء الصدمات والحروق الاشعاعية والتسمم الإشعاعي وسرطان الدم الذي ذهب ضحيتىه أغلب القتلى. وما كانت للدول الرأسمالية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – أن تتوصل إلى أسلحة الدار الشامل لولا توظيفها العلم وشراء العلماء بشتى الأغراءات للوصول إلى أسلحة فتاكة بالغة التطور لاستخدامها في حروبها العدوانية التي تخدم مصالحها الاقتصادية من خلال الهيمنة والتوسع في العالم.

بيد أن السلاح النووي ليس سوى رأس “جبل اللهيب البركاني”، إن جاز لنا التعبير، من سلسلة المساعي المحمومة في توظيف العلم لخدمة الشر والدمار البشري والعمراني؛ فقد سبقته منذ مطالع القرن الماضي عدد من أسلحة الدمار الأخرى، كان أبرزها الأسلحة الكيميائية التي استخدمت على نطاق واسع في الحرب العالمية الأولى، والأسلحة البيولوجية. ومن المفارقات الغريبة الصارخة أنه في الوقت الذي ندم فيه عدد من مخترعي أشهر الأسلحة في العالم على قيامهم باختراعها ، كما فعل مخترع المسدس صمويل كولت الأميركي الذي نُقل عنه قوله: “الآن يتساوى القوي والجبان”، ومخترع الديناميت ألفرد نوبل الذي شاء أن يكفّر عن خطيئته بتخصيص معظم ثروته لأشهر جائزة دولية عُرفت بإسمه “جائزة نوبل” تُمنح في الأساس سنوياً لواحد من الذين يبذلون جهوداً مضنية خلاقة من أجل السلام واطفاء نيران الحروب المشتعلة والنزاعات المحلية والأقليمية، كما تُمنح لعدد من الرواد العالميين في مجالات العلوم والمعرفة الاخرى. كما أبدى حزنه وألمه الشديدين مخائيل كلاشنكوف مخترع الرشاش المعروف بإسمه إبان الحرب العالمية الثانية التي طاولت بلاده إثر هجوم الجيش النازي المباغت عليها؛ وقال ما معناه في سني حياته الأخيرة: بقدر اعتزازي وبكل فخر لاختراع هذا السلاح دفاعاً عن وطني بقدر ألمي بوقوعه في أيدي المجرمين ومشعلي الحروب غير العادلة في العالم.
وأخيراً فقد أبدى ندمه أيضاً العالم الألماني اينشتاين على الرسالة التي أرسلها إلى روزفلت رئيس الولايات المتحدة عن وشوك توصل بلده إلى اختراع السلاح الذري بعدما طورته وصنعته الأخيرة واستخدمته في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.

اقرأ المزيد

قراءة في واقع الحركة النقابية البحرينية – 2

البيان الذي أصدرته أربعة عشر نقابة بتاريخ 13 يونيو، وما طرح فيه يوحي ان هناك تحركًا نقابيًا جادًا، وهذا ما سنتطرق له في حديث قادم.
عربيًا، وليس فقط محليًا، هناك حاجة لتفعيل النضال المطلبي والدفاع عن قضايا وحقوق العمال وسائر الشغيلة، ومحاربة الأسباب الرئيسية الكامنة وراء ضعف الحركة النقابية والعمالية في الوطن العربي، بسبب ابتلاءها بأمراض عديدة منها: الفوضوية، الإنهزامية، والإتكالية، جراء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الصعبة.
وعليه، ليس مستغربًا بأن تبتلي الحركة النقابية في البحرين بهذا الكمّ من الأمراض المزمنة، وبينها ما أشرنا إليه سابقًا كالطائفية والانتهازية التي تفاقمت مع بروز أحداث 2011، والتي جعلت من الحركة النقابية في البحرين تبعد عن الاستقلالية في اتخاذ القرار، وتصبح تابعة.
وتمكنت هذه الأمراض من الجسد النقابي، فأدت إلى تآكل النقابات وتحويل الكبيرة منها إلى صغيرة، وتبعثر الصغيرة، خصوصا مع زيادة عزوف العمال عن عضوية النقابات لأسباب عديدة، بينها شعورهم بعدم مقدرة هذه النقابات على القيام بالمهام المناطة بها، خاصة مع تفشي البيرقراطية والشللية فيها، ما أدى إلى تدني مستوى العمل الجماعي المشترك، وتغييب دور الكوادر النقابية الكفؤة، ومحاربة الطاقات النقابية بفعل الخلافات وتغلغل قيادات غير فاعلة في جسم الاتحادات النقابية، وبروز خلافات، سببها الأساسي الرغبة في الاستحواذ على المناصب القيادية والتفرد بالقرار النقابي المفكك أصلًا.
نحن لسنا ضد التعددية النقابية، إذا كانت ستسهم في حرية العمل النقابي، لكن للأسف ما يحدث هو العكس، حيث يجري تشجيع وتسعير النعرات الطائفية، مع قيام الكيانات النقابية على أسس طائفية، بعيدًا عن الحس الوطني والمصلحة العليا للعمال، وفاقم من ذلك الانقسامات في وسط التيار الديمقراطي في البحرين، مما انعكس على دوره وسط الحركة المجتمعية، ومنها الحركة النقابية.
إن “لملمة” الشمل تكون فقط اثناء انعقاد المؤتمرات العامة، لتشكيل الأمانات العامة للاتحادات، حيث يترافق ذلك مع احياء نقابات غير فاعلة واستدعاء نقابيين غائبين عن الساحة النقابية، والبعض منهم متورط في بعض المخالفات، وأصبح موقف الاتحادين خاليًا من العمل الجدي في تبني حقوق العمال والدفاع عنها .
وهذا ما يفسر لنا تذمر واستياء العديد من القيادات النقابية مما يجري، واحتجاجهم على الممارسات الإقصائية، وغياب الهياكل النقابية عن ساحة العمل المطلبي، وما حصل في نقابة “بابكو” والتي هي ثاني أكبر نقابة في البحرين نموذج ساطع على ذلك، وهي ليست النقابة الوحيدة في هذا، فمثلها نقابات أخرى عديدة.

اقرأ المزيد

شبح مهدي عامل في شوارع بيروت

((كلُّ مجلدٍ لماركس فتحناه،
كما لو كنا نفتحُ مصاريعَ بيوتنا،
واضحاً كان دربنا،
لم نحتاجَ إلى كتابٍ لنفهم أية معركةٍ سنخوضها،
ولم نرث من هيغل ديالكتيكنا،
بل قفز لنا في قلب المعركة بيتاً شعرياً
حين فرَّ البورجوازيّون أمامنا —
مثلما كنا نفر منهم يوماً!)) – ماياكوفسكي

ههنا ينقطع صمتنا، ههنا نعلن: مهما أردنا أن نترك وشأننا ترانا مضطرون للحديث، لا وبل في أمورٍ لا تعنينا! لكن تفرض الحركات الجماهيريّة أن نبدأ بالحياكة الذهنيّة؛ الأمر سهل، ثمة جماهير ضجت فانفجرت، ومع ذلك ترى جمهور المثقفين يضيع أمرهم، وينتفون كلّ خصلةٍ من شعرهم، بغية أن يفسروا ما يدور حولهم. الحل، في نهاية المطاف، سهلٌ: لِمَ الكتابة إن لم نكن نعرف ما الذي يحصل بالفعل؟ لماذا نقولُ، ثم ليضحك – بعدها بأسابيعٍ معدودة – التاريخ علينا؟

ولعلكَ ستقول بإن هذه المقالة مبكرة جداً؛ وربما، لا أدري يوماً؟، ستحسب هذه المقالة من الأمور غير الحكيمة التي قمت بها. لكن دع المخاطرة تأخذ مجراها، فهي ضروريّة — هناك أشياءٌ لا بد أن تقال. يقال بإننا، البحرينيّون، نحتفي مبكراً بقدوم فصل الشتاء، فنلبس المعاطف رغم أن الجو لا يزال حاراً: وهكذا نحن في السياسة، نحتفي سريعاً حالما تنفلت الجماهير في أيّة بقعةٍ على الأرض! ولستُ أنفي، بضرورة الحال، صعوبة المسألة التي تفتح لنفسها أمامي، خصوصاً أنني لستُ لبنانيّاً ولم أدعِ أبداً بأنني أفقه بخصوصيّات بلد مثل لبنان، ناهيك عن تحليل أوضاعها ودروب حركتها! لذا لن يجري الكلام على سلسلة من حقائق ملموسة (رغم أنها تتضمنها)، لا لأنها غير متوفرة وحسب ولكن لأنها تحتاج إلى تحليلٍ فعليّ من قِبل المختصين في خصوصيّة لبنان، بقدر ما سيتقدم عبر فرضيّات معينة (وأعني بذلك فرضيّات تثبت نفسها نظريّاً في المقام الأول، لا عبر الحقائق الملموسة).

حين يقرأ المرء مهدي عامل، (الدولة الطائفيّة) أو (مدخل لنقض الفكر الطائفيّ)، يشعر بأن هذه الفرضيّات ستبرز على السطح كما لو كان على المرء أن يستحضرها في هيئة أشباح وأطياف. الآن، لا أزعم بأن لدى مهدي عامل تحليلاً كافياً (أو استباقيّاً) لفهم التناقضات الحقيقيّة الموجودة في لبنان، ولكنها تُشكل مواقع حقيقيّة لدفع فرضيّات معينة لفهم هذه التناقضات. إذن هي: محاولةُ فهمٍ، لا إطار يدّعي بأنه يفهم – وبشكل قبليّ – ما الذي يحصل بالضبط. هناك الكثيرُ من التاريخ قد حصل ما بين زمن مهدي عامل وزماننا، الكثير جداً! لهذا الحديث يجري مع أشباحٍ، لا هي تنتمي لزماننا ولا هي قادرة أن تعود لزمانها.

لنقابل، إذن، شبح مهدي عامل في شوارع بيروت!

لقد خرجت الجماهير اللبنانيّة، وبعددٍ لا يقل عن مليونيّن شخص تقريباً، لتحتل الشوارع وتطرح مطالباً تضرب المصالح المباشرة للطغمة الماليّة الكومبرادوريّة الحاكمة من جهة، والنظام السياسي القائم والذي يشكل امتداداً للنظام السياسيّ الطائفيّ التوافقيّ الذي أنشأ بعد الاستقلال السياسيّ للبنان القرن الماضي. لم تكرر الجماهير الكلام الإنشائيّ لمختلف المثقفين حول “الثقافة الطائفيّة” وما شابه ذلك، بل طرحت الأمور كما هي عليه: أن النظام الطائفيّ لهو نظامٌ سياسيّ ذا طابع طبقيّ في المقام الأول (لا ننسى تشديد الجماهير على ربط الحكم الطائفي بحكم ”المليارداريّة”)؛ الشكل التاريخيّ الملموس الذي شكلت البورجوازيّة الكولونياليّة اللبنانيّة حكمها الطبقيّ في لبنان. ولم تكتفِ الجماهير بذلك، بل طالبت بالإطاحة الكاملة لهذا النظام السياسيّ. إن الأزمة الاقتصاديّة، وتصاعد الديون، وبالتالي فرض إجراءات تعويضيّة مثل الضرائب على الطبقات الشعبيّة اللبنانيّة دفعت هذه الطبقات نحو ذلك. إن إنفجار غضب كهذا لم يأتِ دفعة واحدة، ولكنه يشكل ذروة التراكم هذا الذي بدأ منذ عاميّن تقريباً مع تقديم حكومة الحريري برنامج التقشف، كنتيجة “للإصلاحات الهيكيلية” التي فرضها البنك الدوليّ عبر القروض الهائلة بهدف خفض عجز الموازنة (قروضٌ تصل إلى 11.6 مليار دولار)، بما إن الديّن العام تجاوز 150% تقريباً من الناتج المحليّ. أما نقطة الإنفجار كانت: اقتراح فرض ضريبة بمقدار 20 سنتاً لليوم على المكالمات الصوتيّة في مختلف التطبيقات، وأهمها الواتساب.

أنا أذكرُ الأرقام والحقائق لندفع كل من يشكّك في نزاهة هذه الحركات إلى زاوية حرجة؛ كي نُشهر في أعين كل المشكّكين الذي يسمّون هذه الإنتفاضات بمختلف التسمّيات الدنيئة (ثورة الفودكا، ثورة الراقصات إلخ) لأغراض نعلمها جميعاً؛ نحن نعلمُ من يخاف الشعب اللبنانيّ، من يريد أن يمنعه أن يغني مع رامبو:

لم يعد الشعب عاهرة أي أحدٍ
ثلاثُ خطواتٍ فأسقطنا باستيلكم إلى الأرض…
شُحبت وجوهنا في غمرة نشوة آمال مرعبة،
وهناك أمام السجون السوداء
شهرنا بالأبواق وأغصان البلوط
والسلاح في القبضة؛ لكن أشعرنا بالكراهيّةِ؟
لا!
قوّتنا المفرطة دفعتنا نحو الدماثةِ!

بشجاعةٍ انتفضت الجماهير، المكونة من طبقات شعبيّة مختلفة (مثل العمال والموظفين وأصحاب العمل الصغار)، وقوى اجتماعيّة متعدّدة (وربما أهمهم المثقفون والطلبة)، وشتى أنواع الحركات الاجتماعيّة. ولم يكن هناك تنازلاً لم يقدمه الحريري وحكومته للجماهير: اقترحوا ميزانيّة جديدة لا تتضمن أيّة ضرائب اضافية (مع خفض 50% من رواتب الوزراء والرؤساء والنواب الحاليين والسابقين)، ثم بدأوا يصيحون بإسم التعاون والتضحية “من أجل الوطن”، ولما ذهبت كل هذه المحاولات سدى ظل الحريري يصيحُ مثل المرابي شايلوك: “ماذا سأصنع من منزلي حين تريدون منعي من أموالي؟ لن تكون لي حياة دون أموالي!”. لكن مع ذلك أصرّت الجماهير على البقاء في الشوارع، مرددة: “كُلهن يعني كُلهن” رغم استقالة عدد من الوزراء. لا حل، تقول الجماهير، دون استقالة تامة للحكومة القائمة.

On s’engage et puis, on voit [أولاً نخوض معركة جادة، ثم نرى ما سيحصل] ، هكذا قررت الجماهير اللبنانيّة بشجاعةٍ أن تواجه قوات الشغب، والحكومة، والجيش، وميليشيات حزب الله. لكن اتسائل ما إذا كان مهدي عامل سيقول شيئاً كالتالي على شكل تحذيرٍ للجماهير اللبنانيّة: صحيح أن الدولة الطائفيّة، بمعنى النظام السياسيّ الطائفيّ، هي الشكل الملموس للدولة البورجوازيّة اللبنانيّة، لكننا ألن نؤبد السيطرة الطبقيّة البورجوازيّة إذا التزمنا بشعاراتٍ مثل: المساواة ما بين الطوائف، وتذويب الفروقات، والمواطنة المتساوية، إلخ؟ رغم أنها مهمة جداً ولا غنى عنها. ألن نؤبد هذه السيطرة الطبقيّة إذا التزمنا بتغيير النظام السياسيّ وحسب؟ ولعمري، ستصيحُ الأقسام المهيمنة وغير المهيمنة من البورجوازيّة وتغني:”كُلهن يعني كُلهن” مع الجماهير إذا وصلت أزمة الدولة إلى حدود قصوى!

بوضوح يمكننا نرى كيف أثّر الصراع الطبقيّ الجماهيريّ في تفعيل أزمة الدولة البورجوازيّة، وبالتالي أظهرت تناقضاتها الملموسة على السطح. لكن لنحمل الأمور إلى إستنتاجاتها المنطقيّة دون أن نسقط في حماسٍ أعمى: إذا وصلت الدولة الرأسمالية إلى أزمةٍ حادة جداً لن نستغرب تقدمها على التضحية بالشخوص القائمين في النظام السياسيّ ككل، أعني كل الذين يحتلون المواقع العليا في الجهاز السياسيّ للدولة — دون تغيير النظام السياسيّ الطائفيّ نفسه، أو بتقديم ما سماه مهدي عامل قديماً باحتماليّة “إصلاح طائفيّ” في النظام الطائفيّ نفسه.

أنا أحملُ الأمور إلى هذا الحد كي أبيّن إلى أي مدى إقامة التماثل ما بين النظام السياسيّ الطائفيّ و”المليارداريّة” أمر صحيح وغير صحيح في مثل الوقت. هو صحيحٌ في الحدود التي نقول فيها بإن الدولة البورجوازيّة اللبنانيّة أتخذت الشكل الطائفيّ لنظامها السياسيّ، ولكن غير صحيح في حال افترضنا بأن هذه البورجوازيّة هي كتلةٌ واحدة دون أيّة تناقضات حقيقيّة بينها (لا اقتصاديّة وحسب، بل سياسيّة ايضاً). إن هذه الفكرة تفترض، بشكل ضمني، بأن القضاء على الحكومة الراهنة، أو بشكلٍ أكثر راديكاليّة: القضاء على النظام السياسيّ الطائفيّ كليّاً، سيكون كافياً للقضاء على حكم ”المليارداريّة“ الطبقيّ. في هذا الافتراض ننسى إمكانيّة أو احتماليّة إنقسام البورجوازيّة نفسها على نحو قسميّن سياسييّن مختلفيّن (لا أستطيعُ، ولا في مقدوري، تحديد هذه المسألة بشكل قبليّ هكذا: ولكن أمن الممكن أن يكون ما بين قسم طائفيّ تقليديّ وبين قسم إصلاحيّ-طائفيّ؟ كما إن علينا ألا ننسى بأن ثمة أقسام بورجوازيّة غير مهيمنة تدعو إلى دولة غير-طائفيّة إطلاقاً — رغم أنها غير قوّية كقسم طبقيّ)، وهذيّن القسميّن سيكونا كافييّن لإقامة خطوط الفرق الطبقيّ ما بينهما (ما دمنا نفترض، مع ماركس، بأن تحديد الأقسام لا يعتمد فقط على المحدد الاقتصاديّ بل على السياسة ايضاً). فالوضع الحاليّ لا يطاق بالنسبة إلى بعض أقسام البورجوازيّة اللبنانيّة، ولن نستغرب (وتقول الشواهد على ذلك) حضور بعضها مع الجماهير في حركتها.

هذا الإفتراض سيشل أيّة حركةٍ فعليّة لضرب قلب الدولة، لأنه يفترض بأن للبورجوازيّة اللبنانيّة ورقة واحدة (بما إنها طبقة متماثلة بشكل موحد!)، وبالتالي المواجهة تكون وجهاً لوجه: الجماهير من جهة، حكومة ”المليارداريّة“ الفاسدة من جهةٍ اخرى. لكن ما ابعد ذلك عن الواقع! دعنا لا ننسى بأن الحكم الطبقيّ للبورجوازيّة اللبنانيّة هو شيء، والقسم الكومبرادوريّ الماليّ المهيمن هو شيء آخر (رغم أنه يقوم على الأول)؛ ولما كان القسم المحليّ للبورجوازيّة هذه ضعيفاً فلن يكون في مقدورهِ أن يقود الحال إلى أزمة هيمنة طبقيّة، ولكن أهناك ما يمنعنا أن نظن بأن القسم الكومبرادوريّ المهيمن لن يقوم بعملية تطهير ذاتيّة لإنقاذ نفسه من الورطة؟ لذا، الورقة الأولى، والأساسيّة، في يد هذه البورجوازيّة لن تكون القمع الماديّ الشامل للجماهير اللبنانيّة، بل التغيير الحكوميّ الماديّ في الجهاز السياسي نفسه (الشخوص على رأس الجهاز السياسيّ للدولة) —لإنقاذ الدولة من أزمتها.

لكن، مرة اخرى، لا يمكن ابداً التكهن بتحركات الجماهير اللبنانيّة التي قد لا ترضخ لهذا النوع من الرشوة السياسيّة (وإلى حد الآن، نجد الجماهير اللبنانيّة مستنيرة بما فيه الكفاية بشكل يمنعها من الإنجرار وراء الرشاوي السياسيّة التي قدمت لها)، لذا – وفقط عند هذه الحالة – ستلجأ الدولة إلى قمع ماديّ واسع لهذه الجماهير؛ لا بالضرورة عبر الجيش، وقوات الشغب فقط، بل ايضاً عبر شبكات الدولة البورجوازيّة الموازية التي تتجاوز حدود الدولة نفسها؛ وهي تتجسد في ميليشيات حزب الله التي تشكل سداً منيعاً لأي تحولٍ حقيقيّ في النظام السياسيّ الطائفيّ، وجهاز ثورة-مضادة في المقام الأول. ولا داعٍ لأذكركم بأن في الحالات القصوى، هناك دائماً هامش بسيط ومستبعد جداً لردة فعل ديكتاتوريّة عسكريّة إذا دفعت التحركات هذه الدولة نحو أزمةٍ لا رجعة منها.

أفهمُ أشكال تفعيل أزمة الدولة البورجوازيّة اللبنانيّة بمعنييّن. الأول، لا بد أن نفهم بأن النظام السياسيّ، بما إنه طائفيّ بالمعنى “المواطنة السياسيّة” للكلمة (ايّ بالمعنى الآيديولوجيّ-الحقوقيّ)، صار يواجه صعوبة في فرض قبول ايديولوجيّ له، حيث تتعامل الجماهير اللبنانيّة لأول مرة مع أنفسها كـ “جمهور” (وأعني بذلك: Multitudo، كما جاء عند سبينوزا) لا كتحالف ما بين طوائف، ولا حتى توافقاً ما بين طوائف! في غضون عشرة أيام فضحت الجماهير اللبنانيّة الخديعة الآيديولوجيّة التي لعبتها البورجوازيّة اللبنانيّة لسبعة عقود منذ ميشال شيحا إلى يومنا هذا! أهناك عبقريّة خلاقة أكثر من هذه؟ عند هذا الحد سيرتجف كل المثقفين الذين يخافون “عفوية” الجماهير.

لكن دعونا لا ننسى بأن مثل هذه النقطة قد تشكل موضع الآيديولوجيا البورجوازيّة التي تأمل في حلٍ غير-طائفيّ (ايّ نظام سياسيّ غير-طائفيّ، أو ما سماه مهدي عامل بالـ “حل الوهمي”) للدولة البورجوازيّة اللبنانيّة، أو لنقل: دولة بورجوازيّة غير طائفيّة. كما إن هذا الموقف الآيديولوجيّ، الذي يبقى إيجابيّاً في حدود مناهضته للنظام الطائفيّ، قد يستعمل بطريقة عكسيّة لتغييب كل الفروقات والتناقضات ما بين الطبقات التي تكّون الجماهير نفسها؛ مثلاً، أليس ذلك أمراً عوارضيّاً حين لا نسمع أيّة كلمةٍ حول الإضراب العماليّ في لبنان، ايّ دور الطبقة العاملة (كطبقة عاملة) في هذا الحراك؟ إن تغييب هذه التناقضات (تحت أسم “الشعب”) ايضاً يغيّب تعيين القوّى الطبقيّة القائدة والقوى الرئيسيّة، إلخ.

أما المعنى الثاني، فهو يرتبط أساساً بالأشكال الملموسة التي تظهر بها أزمة الدولة هذه وهي التناقضات الظاهرة والمخفيّة ما بين أجهزة الدولة وداخل كل جهازٍ على حده. أنا على قناعةٍ عامة، لئلا أقولُ تامة فأسقط في الإطلاق دون أيّة حقائق ملموسة باليد، بأن نجاح الحركة الجماهيريّة اللبنانيّة تعتمد أساساً على مدى إنعزالها وارتباطها ببعض أقسام أجهزة الدولة القائمة. هاكم مثال: أن وجود الجماهير هكذا في الشارع، معرضين أنفسهم (وبشجاعةٍ بالغة) لجميع أنواع المخاطر دون أي شكل من أشكال هيئات قاعديّة شعبيّة للدفاع عن المتظاهرين (وهي، كما تعلمنا التجربة الأمريكيّة الحديثة، لا غنى عنها)، تتركهم فريسة سهلة أمام القمع الماديّ. الآن، المسألة ليست مسألة إقامة هيئات قاعديّة دفاعيّة وحسب (وهي، أكررُ، ضروريّة جداً) بل أيضاً احداث تناقضاً داخل الجيش نفسه (لا ما بين الشرائح التحتية منه وحسب، بل أيضاً مع بعض الضباط)؛ أنا لا أقولُ بإن عليهم أن يعولوا على الجيش كله كجهازٍ قمعي (وهذا الخطأ الفادح الذي حصل في مصر والسودان)، بل بإستغلال هذا التناقض القائم فيه لإستقطاب قسم منه نحو الحركات الجماهيريّة (رغم الصعوبة البالغة لهذه المسألة، بما إننا لا نعرف ابداً وضع الضباط والقادة الواقعين تحت الآيديولوجيا-الحقوقيّة الطائفيّة، ناهيك عن الإنتظام الفعليّ للجيش نفسه). غير ذلك، مهما كانت النوايا نبيلة، ستعرض الجماهير نفسها فريسة سهلة أمام الجيش من جهة وميليشيات حزب الله من جهة أخرى.

إن الجماهير قد وضعت لنفسها مهمة تاريخية في قياس وضبط الأمور؛ أنها تجربُ وتكتشف، تطرح اسئلة وتحلها. ورغم أن عفويّة الجماهير، وقوّتها الخلاقة، وشجاعتها أمر في موضع الإعجاب، إلا أن لا يمكن لأيّ واحد منا أن ينفي الحقيقة التالية: أن البورجوازيّة اللبنانيّة ستحرص على بقاء الجماهير في عفويتها دون أي تنظيمٍ فعليّ، إذ إن ذلك ينصب في مصلحتها المباشرة. إن نجاح الحركة الجماهيريّة اللبنانيّة لا يعتمد على ما ذكرناه آنفاً وحسب، بل على وجود جهات تنظيميّة مركزيّة يمكنها أن تفّعل ذلك بشكل مباشر؛ أن تفهم، وتبيّن للناس بالتالي، الحقيقة الطبقيّة وراء الدولة اللبنانيّة ككل (لا النظام السياسيّ وحسب). إن هذه التنظيمات المركزيّة هي التي سيكون عليها التنسيق ما بين أشكال تفعيل التناقضات في مؤسسات الدولة من جهةٍ وتحريك القواعد الجماهيريّة من جهة اخرى. من دون ذلك الفشل سيكون مضموناً!

قد لا نجد عند الجهاز النظريّ لمهدي عامل شيئاً متكاملاً يبرز التناقضات الداخليّة الكامنة ما بين أجهزة الدولة البورجوازيّة في لبنان التي أخذت شكلاً طائفيّاً، ولا شيئاً يوحي بتحويل (أو استغلال) هذه التناقضات. ولكننا سنجد – بلا شك – نواة هذا التحليل عنده. لكن النواة ليست هي هي التكامل النظريّ، ولن أمنع نفسي من التساؤل عما إذا كانت أطروحته: كون الدولة الطائفيّة هي هي شكل الدولة البورجوازيّة الكولونياليّة التي تحول دون وصولها كشكل الدولة البورجوازيّة (كما لو كان هناك نموذجاً كونياً لهذه الدولة!)، لا تختزن سلفاً فكرة مغلوطة لكون البورجوازيّة (وبالتالي، دولتها) كتلة واحدة تخلو من تناقضات فعليّة وحسب، بل (جرّاء ذلك) تقفز فوق الطرق التي تتحرك بها البورجوازيّة لإنقاذ نفسها. لكن لا يمكن لأي ثوريّ لبنانيّ حقيقيّ أن ينسى الحقيقة الأساسية التي ذكرها مهدي عامل: ((إن إسقاط نظام هذه الهيمنة [الطائفية] ليس إسقاطاً لمشاريع الحلول الطائفية الأخرى جميعاً وحسب، بل هو … إسقاط لنظام الطغمة المالية نفسه)).

سواء سيحصل ذلك اليوم أو لا، ليس ثمة انتقالٌ خطيّ (أو تطوريّ) للديموقراطيّة – لا في لبنان ولا في سائر العالم العربيّ. وستكون الجماهير اللبنانيّة أمام الخيار الحاسم: لا ديموقراطيّة حقيقية في لبنان، وسائر الوطن العربيّ، إلا إذا كانت ديموقراطيّة اشتراكيّة! لكن من المستبعد، إن لم يكن المستحيل، أن يكون الانتقال الاشتراكيّ مطروحاً في الشارع اللبنانيّ اليوم. الأيام القادمة آتية وهي ستحسم الأمور، ومهما كنا نخشى أن ينتهي أمر هذه الحركة الجماهيريّة بتحييدها (كما حصل مع الكثير قبلها)، لكن علينا لا ننسى ابداً بأن هذه الحركة ليست عابرة وسيكون 17 تشرين (مهما كانت النتيجة الفوريّة لهذه الحركة) سيكون تاريخاً لن تنساه البورجوازيّة اللبنانيّة ابداً، وسيظل صداه يتردد في ذهنها لمدة طويلة جداً. أما بورجوازيّو المنطقة سيراقبون الجماهير اللبنانيّة، والجزائريّة، والعراقيّة، وسيقولون بلسان ماكبِث قبل ارتكاب أيّة جريمة لم يرتكبوها بعد:

((إنها جرائمٌ سيحاسبنا عليها العالم، وسينقلب السحر على الساحر إذ الآخرون سيسحلوننا ايضاً. إنها العدالة، تساوي ما بين الجميع، وحينها سيكون علينا أن نشرب كأس السم الذي قدمناه للناس!)).

اقرأ المزيد

العنصرية وكورونا والانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة

الاضطرابات في الولايات المتحدة بعد مقتل الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد تكشف عن التفاوت الاجتماعي العميق داخل المجتمع.
خبراء يعتقدون أن الرئيس ترامب يستغل الاحتياجات لمصلحته في الانتخابات المقبلة وقد ينجح في ذلك. جاء في تحليل لموقع (DW)، حيث انغمست الولايات المتحدة في موجة عنف من كاليفورنيا إلى نيويورك ومن مينابولس إلى الساحل في تكساس؛ وفي أكثر من57 مدينة وقعت صدامات قوية.
الشرارة التي أثارت هذه الاضطرابات هي الموت العنيف لفلويد الذي قتل على أثر تدخل الشرطة من مينابولس. حالة مأساوية لكنها ليست استثنائية في العلاقة مع عنف الشرطة العنصري، وكلمات فلويد الأخيرة “لا أستطيع التنفس” باتت شعار حركة احتجاج على مستوى البلاد لم تشهدها أمريكا منذ عقود من الزمن. الغضب والعنف عوض الحزن والسخط.
الوفاة المأساوية لفلويد تغذي جدلاً مبدئياً حول الانقسام الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأزمة كورونا تبدو في هذا الإطار مثل مادة مشتعلة تكشف عدم المساواة في المجتمع الأمريكي بشكل أكبر من ذي قبل. ومن لم تكن له وظيفة محترمة قبل تفجر الوباء وتأمين صحي معقول ودعامة مادية فقد كان معرضاً بلا حماية لفتك الفيروس. وبنسبة أعلى يطال هذا في الغالب السود والأمريكيين من أصول لاتينية، وليست فقط نسبة العدوى والوفاة عالية بينهم، فهم العمال البسطاء الذين فقدوا وظائفهم وغالبية الطبقة الوسطى من البيض انتقلت في غالبية الحالات إلى العمل من المنزل وفي الغالب براتب كامل. وبدون هوادة يكشف الوباء عن التفاوت الاجتماعي في أمريكا.
“اعتقد ان البلاد تواجه أصعب أزمة من الحرب العالمية الثانية ” يقول المحلل السياسي الألماني المتخصص في الشأن الأمريكي كريسبان هاكه، فمن جهة يوجد اليأس البين من العنصرية التي تتفجر مجدداً مع وفاة فلويد، ومن جهة أخرى هناك الانهيار الاقتصادي والمشاكل السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية. وتضاف إلى ذلك بدون منازع تبعات فيروس كورونا التي تؤدي بعدد أكبر من الأمريكيين إلى اليأس. وفاة فلويد هي في النهاية شرارة أدت إلى احتراق جميع البلاد.
وتكشف الاحتجاجات ايضاً انه ليس فقط السود من يصرخون من اليأس، فمن بين غالبية المتظاهرين الشباب يوجد ايضاً أمريكيون بيض لهم مواقع مرموقة يشعرون على الأقل بنفس اليأس. أنهم يائسون من بلد لا يمنع عنف الشرطة والعنصرية، بل يترك لها المجال، هم يائسون من بلد برئيس مستفز وبدون بدائل سياسية.
“عندما تشاهدون جو بايدون (المرشح الديمقراطي) في التلفزة، فإنه يبدو عجوزاً ومكبلاً في قبوه. ويشعر المرء تقريباً بأنه لا يقدر على شيء فكرياً” يقول هاكه وفي النقيض يوجد الرئيس ترامب الذي يُصعّد الأزمة بتعصبه الأعمى، رئيس أمريكي لا يوحد، بل يقسم البلاد منذ توليه السلطة، ويناشد الغرائز، والاغتيال والاضطرابات تسرع تحوّل الحكم الأمريكي إلى كابوس أمريكي.
“إنها ليست ظاهرة جديدة، هذا الغضب المتفجر للأمريكيين” – هذا ما يقوله شخص عاش لسنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وقام بحملة انتخابية لصالح باراك أوباما أنه بوليس فان دي لا، الذي قاد في 2007، و2008، الحملة الانتخابية للديمقراطيين وفي 2012، أدار مجال التعبئة الانتخابية في ولاية أوهايو الحاسمة في الانتخابات. ومنذ تلك اللحظة كان المجتمع منقسمًا وعنف الشرطة والعنصرية كانا مطروحين لكن نادراً ما تم توثيق التمييز ضد السود مثل اليوم.
الرئيس ترامب من جانبه يلعب بكل هذه الأوراق، ويعيش من تأليب الأمريكيين على بعضهم البعض. ترامب هو الرئيس الأول الذي يدرك أنه رئيس فئة معينة، وعوض أن يكون رئيس دولة لجميع الأمريكيين – سواء كانوا بيضاً او سوداً، فقراء أو اغنياء – فإنه يهتم في الأساس بالناخبين البيض الذين قد يساعدونه في نوفمبر القادم على تولي ولاية جديدة. باختصار ” استراتيجية ترامب تكمن في بث بذور التفرقة!
“هناك شيء استثنائي يحدث في الولايات المتحدة في الوقت الحالي، نحن نتعامل هنا مع انفجار برميل من البارود”، بهذه الكلمات تحدث القاضي رومان هوريت، المؤرخ الأمريكي ومدير الدراسات في معهد الدراسات الاجتماعية العليا (EHESS) بباريس إلى فرانس 24.
يذكرنا أصل الحركة بل والحركة نفسها بأعمال الشغب التي أعقبت تبرئة أفراد الشرطة الذين اعتدوا بالضرب بوحشية على رودني كينخ في لوس انجلس، أو بالمظاهرات، في الماضي القريب التي تلت وفاة مايكل بروان عام 2014، في فيرجسون. ولكن كما يشير رومان هوريت، فإن ما يسجله التاريخ الآن في الولايات المتحدة غير مسبوق هذه المرة لجهة “سرعة الانتشار والحجم” والجمع بين المظاهرات السلمية والعنيفة في العديد من المدن وبهذه الطريقة”.
لقد عاشت الولايات المتحدة مناخاً استقطابياً شديداً منذ انتخابات دونالد ترامب رئيساً للبلاد هو الذي كان يلعب بالنار لمدة ثلاث سنوات مستخدماً العبارات العنصرية ومحرضاً قسماً من السكان على الكراهية والعصيان، والصدمة التي اثارها عنف صور الاعتقال التي تظهر رجلاً ممداً على الأرض ويطلب أن يتاح له التنفس ثم ضابط الشرطة الذي يخنقه واضعاً ركبته على عنقه. كل ذلك وقع كالصاعقة على جزء كبير من الرأي العام، كانت هذه الصور التي انتشرت على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بمثابة المسؤول الذي نزع فتيل المفجر.
تأتي وفاة جورج فلويد أيضاً في ذروة جانحة كوفيد 19، التي سلطت الضوء على أوجه التفاوت الكبير الموجود في الولايات المتحدة فالوباء قد ألحق أضراراً بالمجتمع الأمريكي الإفريقي سواء من حيث عدد الوفيات أو التأثير على الاقتصاد غير الرسمي الذي يسمح لجزء كبير من هؤلاء السكان بالبقاء أحياء.
ثمة من يقول إن تصريحات ترامب “العنصرية” التي صاحبتها تهديدات مباشرة للمواطنين الأمريكيين المحتجين في شوارع عدد لافت من الولايات، وعناد سياسي غير مسبوق في دولة ترفع راية الحرية والديمقراطية، كانت من الأسباب الرئيسية في مزيد من الإصرار على استمرارية التظاهرات في الشارع الأمريكي.
وبحسب تقارير إعلامية فإن تلك التظاهرات ربما تكون سبباً في تحطيم آمال الرئيس الأمريكي ومستقبله السياسي، لكن محللين اختلفوا مع تلك النظرية الدافعة نحو الهاوية وقالوا: إن كتلة ترامب “المتفقة معه في كافة مواقفه” لم تتزعزع رغم ما يحدث من تظاهرات.
حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020 نعتقد أن الرئيس دونالد ترامب الآن في وضع سيء جداً، بالنظر إلى سوء إدارة ترامب في التعامل مع جائحة كورونا فقد تلقى الكثير من اللوم من معارضيه السياسيين في هذا الإطار لتأخر حكومته في اتخاذ الرد السريع المناسب والحاسم وحمّلوه مسؤولية ما وصلت إليه الولايات المتحدة من حيث عدد الإصابات والوفيات، وعندما نضيف الى ذلك الصورة التي شهدتها شوارع الولايات المتحدة الأمريكية من الاحتقان والمظاهرات والتي تخطت الحدود إلى دول وعواصم أخرى، كل تلك الأسباب مجتمعة ربما تعكس أثاراً سلبية بشكل شديد وكبير على فرصة ترامب في الظفر بولاية رئاسية ثانية.

اقرأ المزيد

دراسة تحليلية حول سوق العمل في البحرين – أثر التصريح المرن وتداعياته الاقتصادية

تنشر في إطار بحرف مناسب في البداية
*تنشر “التقدمي” هذه الدراسة بالتنسيق مع جمعية الشفافية البحرينية

أولًا: المقدمة
ما نود التطرق إليه في البداية:
 يجب ان لا يفهم أننا ضد وجود العمالة الأجنبية الوافدة فوجودها بالحجم المقبول لا يتعارض ابداً مع الجهود التنموية للبحرين.
 كما لا يمكن التخلص منها بشكل كامل، وتقليلها أوخفضها بشكل كبير يحتاج الى قرار ووقت.
 ما يزعجنا حقا هو الأعداد المخيفة والمتزايدة ووضعها غير الشرعي في بعض الأحيان، والذي سيكون له ضرر كبير على العمالة الوطنية والاقتصاد الوطني. ولهذا مع العمالة غير القانونية فإنه من الصعب تحقيق النمو والازدهار والاستقرار الاقتصادي الذي تنشده البحرين.
 كمواطنين نريد سوقاً وعملا مستقراً يترجم الاستراتيجية الوطنية ويخدم في الاساس العمالة الوطنية، يخلق فرص عمل للمواطنين برواتب وأجور تتناسب والمستوى المعيشي في البحرين.
ثانياً: أهمية سوق العمل في التنمية
تعتبر مؤشرات سوق العمل من أهم المؤشرات الاقتصادية التي يعتمد عليها الباحثون ومتخذي القرار الاقتصادي، فهي تعكس تطور ونمو واستقرار الاقتصاد الوطني. فمن خلال هذه المؤشرات يمكننا معرفة الإنتاجية والتشغيل والبطالة ومستوى الأجور، ومدى ملاءمة وفعالية النظام التعليمي والسياسات الاقتصادية والمالية وكذلك الهجرة وأسبابها. كما تكمن أهمية بيانات سوق العمل في استخدامها في رسم السياسات والتخطيط الاقتصادي والتنمية البشرية، وبالتالي توجيه ومراجعة الاستراتيجيات العامة للدولة على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي. إضافة إلى أهميتها في دراسة وتحليل العلاقات المتبادلة بين المتغيرات السكانية والعمل وبين المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. فعندما ينمو الاقتصاد ويزدهر ويؤدي إلى حركة تجارية نشطة، سينعكس ذلك على سوق العمل حيث سيرتفع الطلب على العمالة المحلية وترتفع الأجور، وفي حالة عدم قدرتها على تلبية حاجات السوق سيلجأ أرباب العمل إلى العمالة الأجنبية لتغطية العجز. والعكس صحيح تماماً فعندما ينخفض معدل النمو الاقتصادي أو في حالة الركود سينخفض الطلب على العمالة وتبدأ الوحدات الإنتاجية بتسريح العمالة الفائضة. إن استقرار سوق العمل يعني نجاح السياسات الاقتصادية الكلية والقطاعية كالتعليم والتوظيف والمستوى المعيشي للمجتمع.
ولأجل كل هذا يتطلب توفير بيانات دقيقة وتفصيلية عن السكان وسوق العمل وخاصة فيما يتعلق بالطلب والعرض. إن هذه البيانات الدقيقة يجب أن تكون قادرة على تفسير التغيرات والتطورات التي يشهدها سوق العمل. فعلى سبيل المثال عندما تستمر العمالة الأجنبية في الارتفاع وأصبحت تشكل نسبة عالية من إجمالي القوى العاملة، وتنمو بمعدل غير طبيعي، بينما الاقتصاد يعاني من شح في السيولة وركود اقتصادي عندها قد نتساءل عن الأسباب الحقيقية لهذا الارتفاع الهائل وما علاقته بسياسة التعليم ورؤية البحرين المستقبلية 2030 وبالجهود التي تبذلها الدولة لبحرنة الوظائف؟ وأيضا عندما يفشل الباحثون عن عمل في الحصول على الوظائف التي تتناسب وتخصصاتهم العلمية فقد يحتاج الأمر إلى تفسير يقبله العقل، لأن هذه مشكلة لا تتعلق بسوق العمل فحسب بل قد تعني فشل سياسة التعليم وإهدار للمال العام.
المسئولين في سوق العمل يقولون أن “عدد العمال الموجودين في البحرين يتناسب طرديا مع السجلات التجارية”، والتي وصل عددها إلى أكثر من 82 ألف سجل، ولكن هل عدد السجلات التجارية تتناسب طرديا مع حجم النشاط التجاري؟ بمعنى آخر هل كل السجلات فعالة ونشطة أم أن كثير منها تستخدم فقط كوسيلة لدخول العمالة الوافدة؟ وعندما يصرح أحد المسئولين في هيئة تنظيم سوق العمل ويقول هدفنا هو “أن يتحول المواطن من موظف أو من باحث عن عمل الى صاحب عمل وتاجر وان يوفر الوظائف لغيره، وبالتالي عملية العمالة الوافدة مرتبطة ببعضها البعض”، ولو تفحصنا في بيانات ومؤشرات سوق العمل نجد أن هذه البيانات لا تترجم هذا الطموح وهذا الهدف الاستراتيجي، فالواقع عكس ذلك تماماً حيث العمالة الوافدة هي التي تحولت إلى تجار ومستثمرين وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهي التي يستجديها المواطن لتوظيفه. هذه العمالة التي لا تزال احتراماً ومجاملة تنادي البحريني “بالأرباب” ، هي في الواقع أسياد السوق وكبار رجال الأعمال يهيمنون على قطاع واسع من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الصناعة والتجارة والخدمات والمقاولات وتجارة التجزئة والجملة.
ثانياً: أهداف سياسة سوق العمل
من خلال رؤية وزارة العمل فهي تعمل على تقديم خدمات عمالية واجتماعية والعمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة وفق أعلى المعايير العالمية.
اما بالنسبة لهيئة تنظيم سوق العمل فهي تعمل في نسق متكامل مع مجموعة من وزارات ومؤسسات الدولة مستندة في بناء استراتيجيتها على خطة عمل الحكومة والخطة الاقتصادية لمملكة البحرين من أجل ضمان تقديم خدمة مميزة تسهم في نمو الاقتصاد المحلي بشكل مباشر.
ومن الاهداف الاخرى أن يتحول المواطن من موظف او من باحث عن عمل الى صاحب عمل الى تاجر وان يوفر الوظائف لغيره.
ثالثاً: الرؤية الاقتصادية المستقبلية 2030
ما يمكن استنتاجه هو ان القائمون على تنظيم سوق العمل يعملون ضمن الاستراتيجية الاقتصادية للبحرين ورؤيتها المستقبلية 2030 والتي ترتكز على ثلاث مبادئ هي: الاستدامة، والعدالة، والتنافسية، أي :
1. أن تحقق البحرين قدرة تنافسية عالية في الاقتصاد العالمي، وتحقق زيادة الإنتاجية بشكل طبيعي أكثر في ظل مناخ تنافسي يدفع عجلة التنمية الاقتصادية، ويضاعف الأرباح، ويرفع مستويات الأجور.
2. الاستثمار في المواطن من خلال تعزيز وتطوير واستدامة الخدمات الحكومية في التعليم والصحة والخدمات الأخرى.
وطبقا للرؤية المستقبلية سوف تتأكد الحكومة من استفادة جميع المواطنين بشكل عادل من منافع النمو الاقتصادي من خلال ما يلي:
1) التأكد من أن النمو الاقتصادي يخلق فرص عمل ذات أجور متوسطة إلى مرتفعة لزيادة دخل جميع شرائح المجتمع.
2) تأمين المساواة، وتكافؤ الفرص للبحرينيين في سوق العمل من خلال مراجعة قوانين العمل، ونظام الهجرة.
3) مساعدة البحرينيين في الحصول على وظائف ذات أجور متوسطة إلى مرتفعة من خلال برامج الدعم والتدريب المتواصلين.
لقد بينت لنا الرؤية ان الأدوات الممكنة لقياس النجاح في سوق العمل هي :
 المعدل الإجمالي للإنتاجية، وحجم تدفقات.
 الاستثمار الأجنبي المباشر، ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي.
 عدد الفرص الوظيفية الجديدة ذات الأجور المتوسطة إلى العالية التي يشغلها المواطنون البحرينيون.
رابعاً: التصريح المرن
كنا ولعقود من الزمن نعاني من مشكلة العمالة السائبة التي كان يتراوح عددها ما بين 80 الف الى 100 الف عامل. وقد أقر الوزير بأن عدد المخالفين للأنظمة من العمالة الأجنبية قبل إقرار الفيزا المرنة عام 2017 كان يقارب من 100 ألف عامل.
هذه العمالة تقع غالبيتها ضحية تحايل مواطنين يستغلون ثغرات في قانون العمل وضعف الرقابة فيستقدمون عمالاً بتأشيرات ظاهرها من أجل العمل لدى المستقدم في شواغر وهمية في الغالب، وباطنها تسريح العمال ثم ربطهم بـ «أتاوات» سنوية.
وقد شوهت هذه الظاهرة الاقتصاد وساهمت في ارتفاع البطالة وأدت الى مشاكل اقتصادية عديدة حيث كانت تعمل في جميع القطاعات الاقتصادية.
وقبل تطبيق التصريح المرن صرح سعادة وزير العمل ورئيس اللجنة الحكومية لمعالجة مشكلة العمالة السائبة جميل حميدان ” أن اللجنة تعكف حاليًّا على وضع صياغة خطة وطنية شاملة تمس جميع الجهات المعنية لمعالجة مشكلة العمالة السائبة، لافتاً الى أننا حالياً لسنا في أحسن حال، وهناك ثغرات كبيرة تشوب هذه القضية الشائكة”.
اذن قرار التصريح المرن جاء ليصحح الخلل الموجود في سوق العمل والمتمثل في مشكلة العمالة السائبة والتي قال عنها سعادة الوزير بشجاعته المعهودة : ” لقد فشلنا في علاج هذه المشكلة !! “
هنا دعونا نتساءل :
من كان المسئول عن العمالة السائبة؟
مشكلة بهذا الحجم وبهذا المستوى من الأضرار الاقتصادية هل أجريت دراسة حولها لمعرفة اسبابها والمستفيدين منها ؟ وهل اتخذت الاجراءات لمنع تكرارها؟
اتعرفون كم كان المسببون للعمالة السائبة يستفيدون مالياً؟
حسب ما جاء في الجرائد المحلية:
يحصل الكفيل (صاحب السجل) في المتوسط على 1450 ديناراً عن كل عامل لبقائه عامين في البحرين، وإذا رغب العامل في التمديد (وهذا ما يحدث غالباً) يقوم بدفع مبلغ 800 دينار (2116 دولاراً) من أجل تجديد بقائه لعامين آخرين. فلو استطاع كفيل أن يجلب 100 عامل «فري فيزا» (ويقال إن هناك من لديهم المئات منهم) فإنه يتقاضى منهم لأول مرة 145،000 دينار بحريني (383،600 دولار أميركي) من دون أن يبذل جهداً، ومن دون أن يغطي هؤلاء العمال بالتأمين الصحي والقانوني. وإذا ما أراد هؤلاء المئة أن يواصلوا العمل لعامين آخرين فعليهم أن يدفعوا له مجدداً 80 ألف دينار (211،640 دولاراً أمريكيّاً).
ما هو التصريح المرن؟
تصدره هيئة تنظيم سوق العمل يمنح العامل حرية الإقامة في مملكة البحرين والعمل في أي وظيفة غير تخصصية دون كفيل لمدة سنة أو سنتين.
ما هي مميزات التصريح المرن؟
1) يمكن للعامل، العمل لحسابه الشخصي أو مع أي صاحب عمل على أساس تعاقدي لأي فترة من الزمن.
2) يمكنه العمل مع أكثر من صاحب عمل في ذات الوقت بدوام كامل أو جزئي.
3) يتمتع العامل حرية السفر والعودة طالما كانت إقامته صالحة.
4) سيكون لدى العامل إقامة مدة التصريح، بالإضافة إلى تأشيرة متعددة السفرات.
من يستطيع الحصول على التصريح المرن؟
1) العمال الوافدون ذوو تصاريح العمل الملغية.
2) العمال الوافدون ذوو تصاريح العمل المنتهية.
3) العمال الوافدون الذين لم يحصلوا على رواتبهم ولديهم قضية لدى المحكمة العمالية.
ومن خلال هذا المفهوم يمكن القول ان العامل الوافد يمكنه البقاء في البحرين لسنوات طويلة حتى وان كان سوق العمل ليس في حاجة إليه.
العائد المالي المتوقع من التصريح المرن:
كان من المتوقع أن تجني هيئة تنظيم سوق العمل إيرادات قدرها 56،112 مليون دينار خلال السنتين التاليتين بعد تدشين نظام تصريح العمل المرن.
وكانت الهيئة قالت إنها ستصدر 2000 تصريح عمل مرن شهرياً لمدة سنتين. ويسدد العامل الراغب في الاستفادة من التصريح رسوماً قدرها 449 ديناراً ( 1،190 دولار أمريكي ) تشمل رسوم تصريح العمل ورسوم الرعاية الصحية وتأمين تذكرة سفر العودة ورسوم تمديد الإقامة.
كما يدفع العامل رسماً شهرياً قدره 30 ديناراً ( 80 دولار )، ليصل مجموع ما يدفعه العامل خلال سنتين 1،169 ديناراً. وبحساب المبلغ على السقف الأعلى لإصدار تصاريح العمل المرن شهرياً (2000 تصريح ) يكون المبلغ الإجمالي للإيرادات المتوقعة لهيئة تنظيم سوق العمل حوالي 56,112 مليون دينار خلال سنتين أي ما يساوي 148،600،000 دولار أمريكي.
حسب البيانات الرسمية فإن الرسوم المحصلة من العمالة الأجنبية الموجودة في البحرين خلال عام 2019 قد بلغت 153 مليون دينار أي ما يساوي 405 مليون دولار أمريكي.
هل استطاع التصريح المرن القضاء على العمالة السائبة؟
لا طبعا مانراه هو مجرد شرعنة العمالة السائبة وبعضها الذين في وضع غير قانوني (منتهية اقامته).
فالوزارة وكما صرح سعادة الوزير “فشلت في احتواء مشكلة العمالة السائبة” وبذلك أوجدت الفيزة المرنة ليس كحل للعمالة السائبة وإنما للاستفادة المالية من وجود هذه العمالة.
نعتقد إن الفيزا المرنة هي كارثة على سوق العمل والاقتصاد الوطني ولا ارى اية جدوى حقيقية لها.
ان لم يتم توقيف الفيزا المرنة فان الفوضى التي سببتها العمالة السائبة سوف تستمر وسوف تهدد استقرار سوق العمل والاقتصاد الوطني وأرتفاع أعداد البطالة وزيادة في عدد السكان مما سيرهق منظومة الخدمات العامة في البلد وبشكل سيكون صعب تحمل كلفته الاقتصادية.

خامساً: أهم نتائج التصريح المرن :
1) هذه العمالة هي في الواقع عمالة فائضة لا يحتاجها سوق العمل حيث لم يعد صاحب عملهم في حاجة لهم، فبدلا من ان تلغى تأشيرتهم ويغادروا البلد تم منحهم تأشيرة وإقامة مرة أخرى.
2) هذه العمالة السائبة والتي كانت تحرك الاقتصاد الخفي ( عمالة غير مهيكلة، وغير قانونية ) قد تحولت الى عمالة شرعية قانونية وبدون كفيل وتمارس نفس الاعمال والمشاريع التجارية غير المشروعة والتي كانت تمارسها في السابق وهي في وضعها غير القانوني.
3) ان عدد هذه العمالة في ارتفاع مستمر ويتضاعف سنويا مما يعني ان الاقتصاد الأسود قد ينمو بمعدلات مخيفة جدا، حيث ان هذه العمالة قد اقتحمت كل المهن والحرف والقطاعات.
4) وتشير البيانات إلى إن عدد العمالة الوافدة قد شهد ارتفاعا كبيرا خلال العشر سنوات الماضية، حيث ارتفع من 331،000 عام 2006 الى 604،697 عام 2017 ثم الى 594،944 عاملاً عام 2019. وقد انعكس ذلك على عدد السكان غير البحرينين حيث ارتفع عددهم من 404،013 عام 2005 الى 823،610 عام 2017.
5) بخلاف زمن العمالة السائبة من الممكن الان معرفة وقياس حجم الاقتصاد الأسود فلدى هيئة تنظيم سوق العمل كل البيانات التفصيلية عن عدد ووظائف العمالة الوافدة وأنشطتهم الاقتصادية.
6) بهذا الوضع وبهذا النمو الكبير في العمالة الوافدة فقد يتفوق الاقتصاد الخفي بحجمه وأرقامه ونموه على الاقتصاد الرسمي خاصة وأن العاملين فيه وهم بأعداد هائلة يمارسون تجارتهم الغير مشروعة بكل حرية وامان. لذا يجب الالتفات الى خطورة هذا الوضع الخطير على العمالة الوطنية واستقرار الاقتصاد الوطني.
7) ارتفعت التحويلات المالية للعمال الأجانب في البحرين لخارج البلاد إلى نحو 927،2 مليون دينار (2.5 مليار دولار) في العام 2017، أي ارتفعت في العام 2017 بنسبة 3.11 % مقارنة مع العام 2016 والتي بلغت فيه نحو 899 مليون دينار. وقفزت إلى نحو 1.22 مليار دينار (3.3 مليار دولار)- في العام 2018، بحسب إحصاءات رسمية حديثة. ولأول مرة في تاريخ البحرين تتخطى التحويلات الخارجية عتبة المليار دولار بمستوى جديد غير مسبوق.
8) إن استمرار ارتفاع التحويلات المالية المرسلة للخارج سيكون له أبعاد خطيرة على الاقتصاد الوطني. فهي تمثل استنزافا للقدرات والثروة المالية الوطنية، وانخفاضا في دوران رأس المال داخل الاقتصاد مما يعني عدم اكتمال الدورة الاقتصادية لرؤوس الأموال التي يخلقها النشاط الاقتصادي، مما يترتب عليه ضعف في السيولة العامة وانخفاض في الأموال الاستثمارية التي قد تستخدم لتمويل المشاريع التنموية. وكذلك انخفاض في حجم الوعاء الضريبي للاقتصاد الوطني.
9) يمثل هذا المبلغ عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة الخارجية لأنه يمتص 29% من الصادرات النفطية وبذلك يؤثر على الميزان التجاري.
10) يعادل المبلغ المحول من البحرين ثلاثة أرباع المرتبات والأجور التي يحصل عليها العمال الأجانب. بمعنى إنهم يكتفون بربع هذا المبلغ للعيش في البحرين وهذا أمر غير ممكن. ويبدو أيضاً أنهم يحولون مبالغ أخرى غير مذكورة في الميزان التجاري لأنها ببساطة لا تمر عبر القنوات المصرفية. وعلى هذا الأساس هنالك قناعة لدى البحرينيين بأن ما يصرح به العامل الأجنبي من أجور لا يمثل دخله الحقيقي. له إذن مصادر معيشية أخرى. وهذه مشكلة لا تقتصر على البحرين بل تشمل جميع دول مجلس التعاون.
11) يقترح بعض النواب فرض رسوم على هذه التحويلات والتي يمكنها دعم الميزانية بمبلغ 90 مليون دينار سنوياً ( 239 مليون دولار أمريكي).
خامساً: هل استطاع التصريح المرن ان يحقق هدف البحرنة؟
تكشف لنا البيانات التالية المنقولة من الموقع الالكتروني لهيئة سوق العمل حقيقتان في غاية الاهمية هما:
1. ان الاقتصاد الوطني يخلق فرص عمل جيدة في مختلف القطاعات وبرواتب جيدة.
2. غالبية هذه الوظائف تذهب الى العمالة الوافدة.
حسب بيانات سوق العمل استطاع الاقتصاد الوطني
 أن يوفر 340 وظيفة برواتب أكثر من 1500 دينار في الربع الثاني من 2019 حصلت العمالة الوافدة على 324 منها في مقابل 16 بحريني فقط.
 وأن هناك 207 وظيفة برواتب تصل الى 1000 دينار كان نصيب البحرينيين منها 21 فقط بينما حصلت العمالة الوافدة على 186.
 رواتب من 900 دينار وأعلى وفرت 42 وظيفة 38 منها للعمالة الوافدة في مقابل 4 بحرينيين.
 رواتب من 800 وأكثر وفرت 84 وظيفة 70 منها للعمالة الوافدة مقابل 14 للبحرينيين.
 والرواتب من 700 دينار وأكثر وفرت 119 وظيفة حصلت العمالة الوافدة على 83 مقابل 36 للبحرينيين.
 والرواتب من 600 دينار وأكثر وفرت 155 وظيفة 108 منها للعمالة الوافدة مقابل 47 للبحرينيين.
 والرواتب من 500 دينار فأعلى وفرت 283 وظيفة 176 منها للعمالة الوافدة مقابل 107 للبحرينيين.
 والرواتب من 400 فأكثرت وفرت 469 وظيفة منها 410 للعمالة الوافدة مقابل 59 للبحرينيين.

الخلاصة:
هذه الدراسة وهذه البيانات تؤكد لنا حقيقتان جوهريتان وهما :
1. عدم قدرة سوق العمل على تحفيز الإنتاجية وتنمية المهارات الوطنية. وتقليص حوالات العمالة الأجنبية للخارج.
2. ليس هناك علاقة بتكوين رأس المال مع حجم التوظيف للعمالة المحلية.
3. إن الاقتصاد الوطني يخلق فرص عمل وبرواتب جيدة ولكن المشكلة تكمن في كيفية توزيع هذه الفرص حيث أغلبها تذهب للعمالة الوافدة.
4. إن بقاء هذه المشكلة من دون معالجة جذرية ستجعل من سوق العمل سوقا مشوها وغير مستقر.
5. إنه ولغرض إصلاح الاختلالات في سوق العمل وضبط تدفق العمالة الوافدة فإن سياسة توسعة الاقتصاد المحلي وزيادة الاستثمارات الخاصة قد لا تكون مجدية عندما يكون سبب الاختلالات هو السياسة العمالية.
6. حيث أنه قد يكون الاقتصاد قادر على خلق الكثير من فرص العمل إلا أن المشكلة قد تكمن في أن هذه الفرص تذهب غالبيتها للعمالة الوافدة والتي يجب ان يكون دورها محصور في ملئ الوظائف الشاغرة التي تعجز العمالة الوطنية عن ملئها.
7. ضرورة إصلاح سوق العمل وإيجاد الحلول الناجعة لتطبيق استراتيجيات بحرنة الوظائف وأفضلية المواطن البحريني في التوظيف وضرورة قَصر بعض المهن والوظائف على المواطنين سواء في القطاع العام أو الخاص.
8. لقد أصبح الهيكل الحالي في سوق العمل لا يتناسب ورؤية البحرين المستقبلية حيث يعتريه تشوهات سببها هيمنة العمالة الأجنبية على حاضر ومستقبل فرص العمل وبالتالي الاستقرار الاقتصادي، فالبحرين تطمح من خلال رؤيتها المستقبلية لتحويل اقتصادها من الريادة إقليمياً إلى المنافسة عالمياً. وهذا سيكون من خلال زيادة الإنتاجية مع وجود مواطنين يمتلكون المهارات والإمكانيات المناسبة لكل وظيفة يعملون فيها.
إن محور رؤيتنا المستقبلية هو الاستثمار في المواطن من خلال تعزيز وتطوير واستدامة الخدمات الحكومية في التعليم والصحة والخدمات الأخرى. ولذلك لابد من السعي لتطوير والحفاظ على العمالة الوطنية وإستقرارها لأنها ركيزة استقرار سوق العمل ومصدر نمو وازدهار اقتصادنا الوطني.

اقرأ المزيد

وداعا أيها البحريني الجميل!

تعرفت إلى صديقي الراحل احمد البوسطة سنة ١٩٧٦ في مدينة “فارونيج” الروسية عندما وصل اليها لغرض الدراسة في كلية الصحافة. كان أحمد متأكدا من إختياره لهذا الاختصاص وهدفه أن يكون صحفيًا، ولم يتردد في ذلك كما كان يفعل العديد من الشباب.
كلنا كنّا نحن الطلاب العرب في عنفوان الشباب مشغولين بالتوهج الفكري والحماس لبلداننا العربية وتطورها وكان صديقنا الراحل أحمد البوسطة من هذا النوع بدون ان يتكلم بلغة خشبية أو يحب الظهور، ويدعي ما ليس له ويتفاخر لجل التفاخر، بل يحسن التعامل مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والحزبية لانه كان يؤنسن العلاقة مع الناس ويتميز بروح التسامح والطيبة مثل اغلب اهل البحرين الذين تعرفنا إليهم.
وكان أحمد شخصا ودوداً لبقاً يحب المزاح ويجيده، بالذات اذا شعر بتجاوب المقابل وبخاصة اذا فهم الطرفة واللعب بالكلمات والفرق بين اللهجة والفصحى. بالنسبة لي كعراقي لم تكن هناك مشكلة، بل تعلمت بعض المفردات البحرينية من صديقينا العزيزين شوقي الحسن ويوسف فاخر. وكنا نضحك كثيرا لبعض التعابير العراقية والبحرينية خصوصا والخليجية عموماً. كنا نعيش هذه الأجواء الجميلة بين الشباب العربي التي صور جانبا منها الكاتب السعودي غازي القصيبي في روايته “شقة الحرية”.
فكان الراحل احمد البوسطة لا يتعامل مع الانسان على أساس عرقه أو دينه او انتمائه الطائفي الذي اصبح اليوم مرضاً مزمناً مع الأسف الشديد، حتى ال”كورونا” لم تطح به لحد الآن، لكن “راح يجي يومه” إن شاء الله وتنتهي كل هذه النعرات الطائفية التي لا فائدة منها غير التشتت والتفرقة وإلهاء الناس عن التنمية والتطور وإشاعة أجواء المحبة والتعاون!
قد لا يصدق بعضهم وبخاصة من الجيل الجديد والشباب عموما بأننا لم نفكر أبداً بهذه الامور رغم الحرب الأهلية، ولحد الآن لا أعرف انتماء بعض الأصدقاء، وبالتأكيد كان الصحفي البارع أحمد البوسطة سيضحك لو سألته عن هذا الامر.
عاش الكاتب احمد البوسطة كل أيام عمره شخصاً طيب القلب بسيطاً متواضعاً مليئاً بالمحبة للآخرين، لم يلعب بوقته، يقرأ كثيرا، ثاقب النظرة، سديد الرأي، وطنياً بحرينياً وعربياً حتى النخاع، محباً للبحرين ووطنه العربي الكبير في كل شئ: الرياضة في الدول العربية وفي بلده البحرين حيث كان يلعب في فريق كرة القدم للشباب كما اتذكر، والمسرح والرواية، حيث كان معجبا بالكاتب عبدالله خليفة، وكان سببا في ان أتعرف على نتاجاته فيما بعد وان اكتب عن أعماله وبالذات رواية “الأقلف”.
والأكلات البحرينية كان أحمد البوسطة أيضا يفتخر بها ولم ينس حتى ان يحدثنا عن أكلة المجبوس البحرينية وأصر ان نأكلها ونحن في منزل الطلبة فما كان من زميلينا الطيب شوقي الحسن هو والصديق يوسف فاخر إلا أن تطوعا لإعداد هذه الطبخة، وافترشنا الارض لنأكلها بأيادينا على الطريقة البحرينية والعربية مستمتعين بالاجواء.
كان الراحل احمد البوسطة يتحدث عن كل هذه الموضوعات، وكان متقد الحماس إيجابيا بكل معنى الكلمة ترك لدينا في مدينة فارونيج انطباعا جميلاً رغم قصر مدة بقائه فيها حيث غادرها متجها للدراسة في لينينغراد /سانت بطرسبورغ !
وبقي كذلك كما عهدته لم يعرف الإحباط حتى في أحلك ظروف مرضه الأخيرة، يتحدث معي بالتلفون وكأنه لايعاني من شيء، سرد لي قصته مع المرض كلها منذ البداية قبل عدة سنوات وبكل تفاصيلها وإهماله للأدوية ما ادى الى تفاقم الامر، وكأنه يتكلم عن موضوع عادي للغاية، وأن اموره ماشية الان، لدرجة أني اندهشت! لكني فهمت من الأخت العزيزة رفيقة دربه أم فهد عكس ذلك. وهنا لابد من توجيه التحية لأم فهد التي سهرت عليه الليالي. لا أزال حتى يومنا هذا أتذكر آخر محادثة تلفونية معه كان فعلا متفائلا ووعدته بأن أزوره وفرح جدا بحيث سألني، “صج؟ بتجينا؟ يا ريت والله”.
لكن “كورونأ” قضت على “مراجلنا” وجعلتنا “نكرص” بمنازلنا! آخر مرة أردت أن أتحدث مع الصديق الراحل كانت عندما رقد بالمستشفى، واخبرتني أم فهد بأنه نائم، فتحدثنا سوية وتألمت كثيراً لأني لم أسمع صوته وأحاديثه الشيقة، وشعرت بالغصة والألم لكني لم أفصح عن مشاعري لها كي لا ازيد عليها متاعبها وشقائها.
التقيته للمرة الأخيرة هو وزميلنا الصديق العزيز شوقي الحسن في البحرين في فترة إصدار جريدة “الوقت” وكنت أشعر بوضعه غير المستقر ومع ذلك كان مواصلا ومجدا في عمله وكتاباته الرائعة!
وبفضل أحمد البوسطة وتشجيعه كتبت في صحيفة “الأيام” في التسعينات ومن بعدها “الوقت”، هكذا كان احمد البوسطة إيجابيا متفائلا محبا للبناء والخير والآخرين، فوقف معه في محنته الأخيرة ومرضه كل أصدقائه ورفاقه وبالذات الأطباء الذين تضامنوا وتعاطفوا معه، هبوا من كل حدب وصوب للمساعدة في حالته المرضية لأنه كان إنسانا بكل معنى الكلمة قبل كل شئ.
أتذكر انه كتب مقالا بعنوان “إنقاذ ما يمكن انقاذه” عن سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو كعادته لم يرغب بالخراب اليباب لهذا البلد الذي درس وتعلم وتعلّق به وربطته بناسه وشائج كثيرة، فكان يتعامل مع الحدث أيضًا من ناحية إنسانية وسياسية لأنه يشكل خطرا كبيرا على الوضع السياسي في كل العالم.
اتذكر اني اتصلت به وقلت له مماحكا ممازحا إياه : “خلاص عيني احمد انتهى كل شي! يا إنقاذ ما يمكن انقاذه يا بطيخ”. صار يضحك كعادته وكنت اتصوره وانا أمسك سماعة التلفون مبتسما ابتسامته التي تعودنا عليها عندما يصغي إلى الآخرين والتي لم تفارقه حتى في آخر أيامه!
وداعا يا صاحب الفكر الجديد والقلم العتيد!
وداعا أيها البحريني الجميل!
وداعا يا أبا فهد الأصيل!

اقرأ المزيد

رحلت يا رفيقي أحمد ؟ لا ! لم ترحل

وهكذا توقف قلب أحمد ولم يتوقف نبضه المشع على من عايشه وعرفه عن قرب، نفس بهية، زكية، طاهرة، إنسان بسيط، رؤوف، حنون، محب يحمل هموم وطنه أينما حل أو ارتحل.

حمادي سليل عائلة معروفة بتعلقها بالثقافة والفن، فلا عجب أن يكون البوسطة ألمعيًا مثقفًا، ملتزمًا بمبادئه، حريص على نقائها وتطبيق ما التزم به من أفكار سواء في علاقته مع نفسه أو مع المحيطين به من عائلته أو أصدقائه، فأحمد لايتوقف عند حدود أو يتعب رغم الجراح ولا ينكس رايته، فقد ظلت خفاقة وفي أحلك الظروف، شخص مثل أحمد لا يقرّ بالهزيمة فقد نذر روحه وفكره للنضال جنبًا إلى جنب مع شعبه وفي أحلك الظروف رغم المصاعب والآلام، ظلّ وفيًا لمبادئه وأفكاره التي علمته كيف يقف صامدًا، شامخًا، مرفوع الرأس، هامته عالية دومًا وأبدًا .

يمكن لأي شخص أن يمرّ بلحظات ضعف في الحياة، الا أحمد البوسطة فلا تضعفه الانتكاسات ولا الإعاقات، ولا تخلي الآخرين عنه، فهو عفيف النفس لا يأبه للصغائر ويتسامى على الخلافات، يحمل روح وبساطة الأطفال وشقاوتهم البريئة أيضًا.

ظلّ مدافعًا صلبًا لا يلين عن أفكاره في الحرية والسعادة لجموع شعبه، لم يركن للدفاع عن طائفة أو حزب، فقد كان محبوبًا من الكل متواجدًا مع الكل وهدفه واحد وحيد هو إبقاء جذوة النضال مشتعلة لتحقيق أهداف شعبه التي نذر نفسه من أجلها ودفع فاتورة نضاله في محاربته كصحفي متميز عمل في العديد من الصحف المحلية ك “الأيام” و”الوقت” و”الوسط”، إضافة للصحف الخليجية ومن ثم الإعاقة التي أقعدته كليًا عن أي نشاط.

هذا الإنسان البسيط لم تغره المادة ولم تُغيّره السنون ولم تهتز له قناة، لم يطلب تكريما من أحد رغم كل الأدوار المميزة التي عرف بها، فقد كان حريصًا على إعداد كتاب عن مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية، وظلّ وفيا لحزبه وعكف على تدوين سيرة مناضلي الجبهة وعمل ليل نهارمع ثلة من رفاقه لأكثر من عام، وقابل العديد من المناضلين لتدوين سيرهم وعذاباتهم، وسجّل أقوالهم بدقة وبحرفية العارف لطرائق طرح الأسئلة محاولًا معرفة المزيد وبأسلوب ينم عن مقدرة صحفية فائقة الدقة والمسؤولية بنقل الكلمة كما هي مقدرًا لدور كل منهم مستمتعًا ومنتشيًا بتلك الأدوار البطولية، فأبلى بلاء حسنًا في تدوين تلك الأقوال، إلا أن الظروف لم تمهله لإكمال ما بدأه، وخير تكريم له أن يصدر هذا الكتاب بعد استكمال ما قام به أحمد من جهد.

معرفتي بأحمد وعملي معه عرفتني على أسلوبه البسيط في الحياة، فعلى الرغم من إنه حاد الطباع إلا أنه رائع كقصيدة شعر، ملتهب المشاعر، حالم، مرهف الحس والشعور، لهفته للتضحية لا تقاوم من أجل عائلته وأصدقائه ورفاقه وكأنما يوهب حياته للآخرين، دون آبه بما قد يحدث له، ناكرًا لذاته يقبل بالقليل، زاهدًا في حياته، متواضعًا أشد التواضع مع الآخرين.

أحمد لم يستطع الزمن إفساد روحه، ولم يسمح لاحد تلطيخ مبادئه بوحل المادة التي أفسدت الكثيرين وأبقتهم بعيدين عما آمنوا به ونذروا أنفسهم من أجله، وظلت كرامته طريقًا للسمو والرفعة ضاربًا المثل للكثيرين على الإخلاص للمبادئ رغم الإغراءات.

ضخامة الآلام والقدرة على البقاء رغم الظلمة لم تثنه عن مواصلة الدرب العسير الذي وهب نفسه له فكان من الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم تأسيس المنبر التقدمي، وكان أحد أعضاء اللجنة التحضيرية المكلفين حيث لعب دورًا رئيسيًا، فأشعل شمعة في عتمة الظلام لمواصلة النضال جيلًا بعد جيل لغدٍ أفضل، ولأجل وطن حر وشعب سعيد.

هكذا كان حال أحمد عندما تخرّج من قسم الصحافة من مدينة سانت بطرسبورج (لينينغراد) بالإتحاد السوفيتي وعاد إلى وطنه محملًا بالأفكار التحررية والتقدمية ليصيغ مشواره الصحفي استنادا الى تلك الحصيلة من الأفكار، واضعًا نصب عينيه إمكانية تطبيق ما تعلمه في الواقع العملي في وطنه، لذا فقد حرص أشد الحرص على أن يكون صحفيًا مخلصًا، متميزًا، دقيقًا في المادة الصحفية التي يُقدّمها رافضًا أن يملى عليه ما يريده الآخرون، وما يروه بأعينهم كما يقول، مما ترك لدى المسؤولين حيرة في كيفية ترويضه كما فعلوا مع غيره، فظلّ عصيًا عليهم، ناكفهم حتى أبعدوه ومع ذلك لم يستسلم أو يلين أو ينكسر.

هوذا أحمد إذن عاش شجاعا ومات بشجاعة ودونما إذلال، فقد صار ممن يؤثرون عيشة الكفاف على المذلة لأحد، وظلّ باعثه دوما حماسته لكل ما هو نبيل. أحمد ذالك الذى عرفته كان يدون ملحوظاته عن الناس العاديين الذين يلقاهم وعن مدرسيه وزملائه الطلبة، قوي الملاحظة، نافذ البصر قادر على وصف الواقع بدقة مهتمًا بالأدب أشدّ الاهتمام كما اهتمامه بالسياسة والصحافة. تعبيراته البليغة والصور الإبداعية في كتاباته تنم عن مقدرة وإحاطة باسرار اللغة الصحفية وعمق مدلولاتها.

نم قرير العين يا أحمد، فأنت معنا بروحك وبكتاباتك الجميلة وبكل ما قدمته من تضحيات، فلن ننساك يا رفيقي فأمثالك باقون، حتى وإن ذهبت أجسادهم تبقى أرواحهم محلقة، مرفرفة، بين محبيهم.

اقرأ المزيد

صفاء قلب عاشق للوطن والحزب الرفيق الراحل أحمد البوسطة

في الثاني عشر من الشهر القادم يوليو 2020 ، يكمل المنبر التقدمي عامه التاسع عشر ويدخل عامه العشرين منذ انعقاد الاجتماع التشاوري التأسيسي في نادي طيران الخليج في 12/07/2001 في أول تجمع علني لأعضاء ومناصري جبهة التحرير الوطني، حيث فاق عدد الحضور 400 شخص. وشكّل انعقاد هذا الاجتماع التأسيسي نقلةً في تاريخ العمل السياسي في البحرين، واللمسيرة النضالية للحركة الديمقراطية التقدمية التي ظلت لعقود تعمل بصورة سرية، وتعرضت طوال مسيرتها الكفاحية إلى ضربات قاسية من قبل السلطات الأمنية في البلاد، فدفع مناضلوها الثمن غالياُ بين السجون والمنافي وحتى الاستشهاد تحت التعذيب، فيما حرم الكثير من أعضائها من العمل ومنعوا من السفر.
جاءت مرحلة الانفراج السياسي في فبراير 2001 لتنقل البحرين إلى حقبة إصلاحية مغايرة ، فبدأت صفحة جديدة مشرقة ولتطوي صفحة قانون أمن الدولة السوداء التي استمرت لربع قرن من عام 1975 إلى 2001، وفي هذا المناخ انعقد الاجتماع التشاوري للتيار المحسوب على جبهة التحرير الوطني البحرانية وبحضور أجيال مختلفة من الأعضاء والأنصار.
هذا المدخل ضروري لتسليط الضوء على الدور البارز الذي قام به رفيقنا الراحل الصحفي والكاتب أحمد البوسطة في التحضير لهذا الاجتماع الهام، وهو ما لا يعرفه الكثيرون، حيث كان الراحل الذي التحف بتراب وطنه الذي عشقه وحتى وهو يقاوم المرض، واحداً من مجموعة من الرفاق الذين تولوا هذه المهمة التاريخية.
سبق أن كتبنا عن رفيقنا الراحل أبي فهد في “التقدمي” في النصف الثاني من عام 2015 بعد إجراء عملية بتر رجلَيْهِ نتيجة لمضاعفات مرض السكري والجلطات التي أُصيبَ بها، حيث كتبتُ عن أحمد البوسطة الرياضي الذي كان معروفاً في منطقة رأس رمان باسم “حماد”، وأصبح عضوا في منتخب البحرين لكرة القدم، ولعب مع لاعبين معروفين في الوسط الرياضي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فكانت جماهير المنطقة تهتف باسمهِ “حماد” في الملاعب الرياضية، لأنه لاعبٌ ماهرٌ وبارزٌ في صفوف الفريق لهذا أحبه وعشقه الجمهور.
كما كتبتُ عنه ثانياً بصفته صحفياً وكاتباً، كانت رسالة التخرج الجامعي للحصول على شهادة الماجستير من جامعة لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً) في عام 1981، عن الصحافة الحزبية السرية في البحرين، وبشكل خاص عن صحافة جبهة التحرير الوطني البحرانية، وبعد تخرجه عمل لعدة سنوات في صحيفة “الفجر” في أبوظبي، قبل أن يعود إلى البحرين ليعمل على التوالي في صحيفتي “الأيام”، ثم “الوقت” ، كما نشرت صحيفة “الوسط” له عدداً من المقالات، فكان صاحب قلم حر وجريء، يؤكد دائماً على أن على الصحفي التعبير عن واقعه الذي يعيشه.
حديثنا هنا سنركزه على الدور السياسي والنضالي للرفيق الراحل، فعندما طُرحت عليه الفكرة بتجميع الرفاق للاجتماع التشاوري الذي أشرنا له، كي تعود الدماء لتتدفق من جديد في شرايين التنظيم الذي لم تفلح كل الضربات المتلاحقة في اقتلاع جذوره العميقة في أرض أوال، فهو الحزب الذي اجتاز كل الصعاب وواصل مسيرته النضالية، وفي ذلك الوقت كان البعض يروج لمزاعم أن زمن الأيديولوجية والأحزاب العقائدية قد ولى، بما في ذلك بعض “الماركسيين” المأخوذين بنظرية نهاية التاريخ، مكررين: “اتركوا عنكم النظريات الأيديولوجية”، وراحوا يروجون لمصطلحات جديدة هي في جوهرها تسويق للمفاهيم الليبرالية وما تحمله في أحشائها من رأسمالية متوحشة.
وكان الرفيق أبوفهد من أوائل الرفاق الذين وافقوا على فكرة المبادرة، ولاحقاً أطلق على في أحد مقالاته المنشورة في جريدة “الوقت” مسمى “فرقة الكومندوز” على أعضاء اللجنة التي عملت و بصمت للإعداد لذلك الاجتماع قبل أن تتوسع بإضافة رفاق آخرين في لجنة الإعداد، وكان أبو فهد شعلةً من النشاط ، حيث عهدت إليه مع رفيق آخر مهمة الاتصال واللقاء بالرفاق المخضرمين من كوادر التحرير لإقناعهم بفكرة تشكيل تنطيم تقدمي علني يحافظ على الهوية الفكرية والسياسية لحزب عريق قرر البعض تذويبه في شكل وأطر فكرية وسياسية مغايرة، إذ كان جيل الشباب من الرفاق واعياً ومدركاً لخطورة تلك التحولات الايديولوجية في الفكر اليساري للبعض والتي بدأت ملامحها تتضح في منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما طرحت وقتها تسميات ومشاريع جديدة لم تُوفّق في مهمتها، بسبب وعي رفاقنا وتمسكهم بفكرهم وحزبهم، ليس رفضاً للتنسيق الوطني ولكن لفكرة الانصهار أو بالأحرى الضياع الفكري والسياسي.
ليس غريباً على الرفيق الراحل أبي فهد بأن تكون مواقفه واضحة بأهمية دور الحزب مهما كانت ظروفه وأوضاعه، كان مبدئياً في ذلك الرأي وهو الذي انخرط في صفوف الحزب منذ صباه، وبرز دوره مع سائر الشبيبة والرفاق والأصدقاء في دعم مرشحي (كتلة الشعب) التي شكلتها جبهة التحرير الوطني البحرانية من الشخصيات اليسارية والديمقراطية، وخاضت الانتخابات باثني عشر مرشحاً، فاز ثمانية منهم، محقِّقِين انتصاراً كبيراً لليسار في البحرين والخليج العربي، وكان أحدهم المرحوم المحامي خالد الذوادي شقيق رفيقنا الكبير الراحل أحمد الذوادي، في الدائرة التي تشمل رأس رمان ومنطقتي الذواودة والعوضية والفرجان المحيطة بها، كما فاز فيها المرشح الثاني الشخصية الوطنية عبدالرسول الجشي، وبالمناسبة فإنه كان يفترض أن ينزل في هذه الدائرة رفيقنا الكبير الراحل علي دويغر أحد أبرز من كتبوا برنامج كتلة الشعب، ولكن قبل فترة وجيزة من الانتخابات أجبره المقبور البريطاني هندرسون رئيس جهاز الأمن آنذاك على مغادرة البحرين.
في الاجتماع التشاوري في 12 يوليو 2001 انتُخِب أحمد البوسطة عضواً في اللجنة التحضيرية للمنبر التقدمي وكان فيها مسؤول العمل الإعلامي، وساهم مع رفاقه في اللحنة بالتحضير لانعقاد المؤتمر التأسيسي في جمعية المهندسين نوفمبر 2001، مواصلاً بذلك دوره النضالي الذي بدأه قبل سفره للدراسة، واستمر فيه فترة دراسته في جامعة لينينغراد، حيث نشط في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، وشارك في بعض مؤتمراته العامة، كما ناضل في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي البحراني (أشدب) الذي كان له منظمات في بعض البلدان العربية والأجنبية في منتصف سبعينيات وثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي بهدف نشر الوعي التقدمي والسياسي والنقابي والمطلبي في صفوف الطلبة الدارسين في الخارج، فيما كان نشاط ( أشدب ) الرئيسي داخل الوطن.
ولما يتمتع به رفيقنا الراحل من خصال الطيبة والوفاء والالتزام بالمبدأ والدفاع عن حقوق الشعب بثبات ونكران ذات كان محط تقدير واسع في الأوساط الشعبية والوطنية على اختلاف توجهاتها. وكم يؤسفنا في نشرة “التقدمي” أن المرض لم يسعفه لكي يواصل الكتابة في النشرة التي تفخر بما له من مقالات فيها.

اقرأ المزيد

أحمد البوسطة

من النادر أن تتوفر بيئات العمل ومكاتب الوظيفة على زملاء يتمتعون بشخصيات موهوبة وممتعة ومشاغبة ومتفردة وساخرة، تسعد بوجودهم إذا قدموا وتفتقدهم إذا غابوا، في حضرتهم يصير العمل الشاق الممل الضاغط لطيفًا ومحتملًا، عن زميلنا الصحفي الراحل احمد البوسطة أتحدث: إذ مثّل البوسطة أحد وجوه الصحافة البحرينية المضيئة إبان ازدهارها وتعدد أصواتها وتنوع نكهاتها، وعندما كانت الصحف تتنافس لاستقطاب الأقلام المختلفة – بغض النظر عن انتماءاتها الايديولوجية أو المذهبية أو السياسية – ما منحها النجاح والتألق.
من كان يتصور أن الشاب الذي بدأ حياته كأصغر لاعب في منتخب البحرين لكرة القدم سينتهي به المطاف كسيحًا ومريضًا؟
إنها رحلة عمر طويلة ذات منعطفات فارقة وغريبة تتبدى فيها شخصية البوسطة المتمردة السابحة في ملكوتها الخاص، وروحه العنيدة غير القابلة لمجاراة الزمن الذي كان يريد ان يطيعه وفق هواه ومزاجه. انخرط البوسطة في العمل الصحفي متسلحًا بوعي ماركسي عميق ومتجذر، انغمس فيه حتى النخاع وصار جزءاً من تكوينه ونمط حياته، انساب في كتاباته وكلامه، لم يخفه أو يداريه حتى بعد سقوط معقل الشيوعية وتحوّل الرفاق إلى مرافئ أكثر أمنًا واستقرارًا، وبشهادة أكاديمية رفيعة المستوى وبموهبة حقيقية في التعبير والكتابة السلسة مع حسٍ عالٍ بالمسؤولية ناقد للظلم وغياب العدالة.
تعذّر عليه العمل في البحرين في منتصف السبعينات، إبان سيطرة قانون أمن الدولة فذهب إلى المنفى القسري، وعاد الى الوطن مجددًا عندما لاحت بشائر التغيير والإصلاح السياسي وطي صفحة الماضي والتسامح مع المغضوب عليهم وادماجهم في منظومة التوجهات التصالحية الجديدة، بيد ان سفينة البوسطة لم ترسو يوما على ضفة إلا لكي تغادرها سريعًا، لم يعرف المهادنة ولا المرونة ولا نصف القول، يختلف يوميًا ويتشاجر ويعلو صوته ويهدد ويتوعد مع “مقص الرقيب”، عدوه اللدود، ثم يعود ادراجه في اليوم التالي تسبقه ضحكته المجللة مجتهدًا للعمل ضمن الممكن والمسموح وبما لا يمس قناعاته ومبادئه.
قال لاحقًا: إن أجمل مقالاته هي تلك التي كتبها في صحيفة “الوسط” ومجلة “الديموقراطي”،وهي وحدها التي تستحق التوثيق لأنها لم تٌخدش بمقص الرقيب، بطل تراجيدي بامتياز، ظل جيبه خاليًا لكن امتلأت جعبته بالحكايات عن تجاربه اليومية وهمومه واخفاقاته وطرائقه وذكاءه الفطري في التعاطي معها، وفي معاناته وخساراته المتكررة لمصدر رزقه.
ذات يوم في نهاية التسعينات تصوّر له أن بإمكان شخص على شاكلته أن يصير ثريًا ويغادر مرافئ الفقر والعوز التي أنهكته طوال حياته. قدّم استقالته من صحيفة “الأيام”، وباع أثاث منزله وتحصّل على مدخراته التأمينية ومضى إلى تجربة في الاستثمار التجاري – بحسن نية وسذاجة – فخُدع وخسر وضاعت معها حصيلة عمره. اقترض لاحقًا وأجبر نفسه على الالتزام الوظيفي مكرهًا، وبدا كمن ربط نفسه بصخرة ثقيلة لا فكاك منها لتلبية متطلبات دراسة الأبناء.
في تلك الفترة البسيطة من الزمن تجلى فيها ابداعه الصحفي وكتاباته المطعمة بخبراته الشخصية وبالأدب الروسي وبالشعر والروايات وبعشرات الكتب التي قرأها وتشرّبها وأعتنق مبادئها العظيمة ومُثلها الإنسانية في الحب والخير والجمال والعدالة، بيد ان الأمان الوظيفي في مهنة الصحافة كان أمانًا قصيرًا ومنطويًا على خدعة، وقد تجرّع مراراته كل من آمن بحرية الرأي والتعبير واتخذ الكلمة سلاحًا للتنوير والتغيير والإصلاح السياسي والمجتمعي والعدالة والمساواة وحكم القانون والتسامح وتقبل الاختلاف والمختلفين، منذ بدايات الصحافة البحرينية في مطلع القرن الماضي وانتهاء بالصحافة الورقية الراهنة التي ربما جاء كوفيد 19 لينتشلها من أزماتها ويريحها من وضعها المأزوم.
لم يخف البوسطة من شيء ولم يخف على أي شيء، نقطة ضعفه الوحيدة هي عائلته التي قاست معه وتضررت أشدّ الضرر بسبب عطالته وغربته ومرضه، منحته الدولة “مريضا” اضعاف ما حصل عليه وهو معافى، أحبّ الحياة ولكنه تعاطى معها بخفة، نسي قرص الدواء ذات ليلة – ربما سهوًا – فداهمته الجلطة، ذهب الى التأمينات للحصول على ما لديه من مستحقات فقيل له: تستحقها حين يصل عمرك إلى الثامنة والخمسين، قال لهم: وما أدراكم أنني سأعيش إلى هذا العمر ؟

الكاتبة مع الفقيد البوسطة في ندوة بالمنبر التقدمي

اقرأ المزيد

لازمتهُ ضحكته

لعلّها هي أول ما يشدّك إليه، ضحكته المجلجلة، التي يطلقها بعد تعليقات لاذعة في أمر يسترعي انتباهه، والتي أصبحت لازمته لتبريد وطأة تلكم التعليقات التي غالباً ما تكون لاسعة. وهي ذات الضحكة التي وجهت لي الدعوة للاقتراب منه في أروقة صحيفة “الوقت” حينما كانت بداياتي في عالم المهنة حيث كان يحمل مسؤولية قسم الدوليات.
الحوارات التي كنت أشهدها ل “أبو فهد” مع آخرين في مكاتب الصحفية لا تختلف باختلاف الكراسي التي يجلس أمام أصحاب مكاتبها، فالذي يقوله أمام فنيي تنفيذ الصفحات يقوله أمام الكتاب الصحفيين في مختلف الأقسام ويقوله أمام هيئة تحرير الصحفية، لا يُغيّر ما يقوله بتغيّر الشخص الذي أمامه مهما أتفق معه في الرأي أو خالفه مخالفة شديدة.
من هم في مثل أحمد البوسطة يصعب فيهم الرثاء. ولم يدر في خلدي يوماً بأنني سأكتب عن مناقب “أبو فهد”، كما اعتدت أن أناديه أو ناعياً له، لأنه كان جلداً عنيداً وكنت أخاله سيقف كما كان دائماً نداً لخصمه وسيجارته في فمه ينفث دخانها دون اكتراث، حتى لو كان ذلك الخصم هو الموت. فلا يختلف على صفاء قلبه وبياض يده اثنان، وهو من الشخوص النادرة التي يجتمع على احترامها الخصوم والأضداد. وبفقده فقدنا مناضلاً من الطراز الأول، مناضلاً نفاخر به الزمن.
يمكن أن تكون قد خذلته الصحافة كوظيفة ولم تخذله الصحافة كمهنة، فشخصية “أبو فهد” لا يمكن لها إلا ان تكون شخصية صحافي يمسك قلمه ويُسلطه على مكامن القصور والخلل أينما صدر، مهما كانت إدارات الصحف تتفن في القفز على حبل المحاذير وتتماهى مع الكلمة واللعب على المفردات وتلطيف المعاني الظاهرة، كان أبو فهد لا يهادن ولا يحمل الكلمة أكثر من معنى، يقول ما يقوله غير مأسوف عليه ويوسم قوله ذاك بضحكته المجلجلة، حتى تتيقن بأنه قائلها وليس أحد آخر.
بعد إحدى فعاليات “التقدمي” في ملتقى الأحد، كانت تلك المرة الأخيرة التي أراه فيها، بعد السؤال والتحية وتتبع المستجدات الحياتية، وحينما أخبرته بتركي العمل في الصحافة أجاب بكلمة عبارة مجردة رماها ومشى: “حسناً فعلت”.

اقرأ المزيد