المنشور

“نساء” … مأثرة فوزية مطر

باب جديد طرقته الأستاذة فوزية مطر على خلاف المعتاد، ونقلة موفقة، حيث صدر لها كتاب عن “دار فراديس للنشر والتوزيع” بعنوان (نساء)، تضمّن مجموعة قصص قصيرة تروي حال نساء البحرين ومعانـاتـهن، والظلم الذي يتعرضن له من قبل أزواجهن، وعملهن من أجل إعالة أسرهن. القصص أو الحكايات الواردة في الكتاب هي من الواقع المعاش في زمنٍ ما، قبل الطفرة النفطية، ولو أن هذه المعاناة مازالت مستمرة حتى يومنا هذا وإن بنسبٍ أقل، بفعل تطورالمجتمع وزيادة منسوب التعليم وأثره على نسبة الوعي، ومن ثم القوانين المصاحبة لهذا التطور، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بحقوق المرأة .

اختيار الكاتبة لهذا العنوان (نساء)، له مدلول واضح وصريح من خلال تناول وضع المرأة تحديداً في معادلة المجتمع، والدور الذي تقوم به على مختلف الصعد على الرغم من وضعها المأساوي والفقر المدقع الذي عاشته تلك الأسر، مما اضطر المرأة للعمل في المنازل أو بيع بعض المأكولات لمساعدة الأسرة.

ما يميز تلك الحكايات هو الأسلوب الذى صِيغت به، أسلوب ينمّ عن معرفة دقيقة بواقع حياة المرأة في ذاك الزمن، وما لحقها من عسف وغبن وحيف وتـهميش وفرض الوصاية والعنف المنزلي وشحّة المدخول المادي للأسرة.

ثلاثة عشر حكاية في هذا الكتاب الشيّق ترويها فوزية مطر، متطرقة لأولئك النساء وتفردهن وإصرارهن على متابعة حياتـهن رغم قسوة الحياة وضنك المعيشة، وقلة الحيلة في معالجة أوضاعهن، والأمراض المصاحبة للفقر والجوع، نساء كافحن بجدارة من أجل عيش كريم لعوائلهن .

في هذا الكتاب فتحت فوزية مطر كوة في جدار الوعي لدى الجيل الجديد لتضعه في صورة ذاك المجتمع، ليتعرفوا على مقدار المعاناة التي عاشتها النساء في تلك الحقبة من تاريخ الوطن وما قدمنه على حساب صحتهن في مسيرة أشبه ما تكون بالمشي على الجمر، كل ذلك في سبيل العيش بعزة وكرامة، فقدّمن المستحيل من أجل ذلك ولم تنكسر إرادتهن أوتستكين، فصبرن على الأهوال والآلام وسوء المعاملة سواء من الأزواج أو المجتمع، حتى تمّ لها ما أرادت بالصبر والمثابرة، وبالعمل المضني استطاعت أن تنتشل واقع الأسرة وتنقله من حال إلى حال.

(نساء) “حكايات حكاها الواقع حاكها الخيال” كما تقول الكاتبة، وهذا ما فعلته بالتمام والكمال فعكفت على صياغة تلك الحكايات وأنجزت كتاباً جديراً بالقراءة حتى يتعرف من لم يعش تلك الحقبة من الزمن على حال النساء والقيود المفروضة عليهن والحالة المزرية التي عشن فيها بفعل البؤس والتخلف والجوع والمرض ورفض المجتمع لتعليم المرأة، وأهمية هذه الحكايات تنبع من قدرة الكاتبة على إيصالها للقراء بأسلوب أدبي جميل وبسيط وفي نفس الوقت شيّق ومعبر وسهل الفهم للقراء.

كيف السبيل مثلاً إلى تصور مجتمع دون وجود لأولئك النسوة المناضلات من أجل لقمة العيش، كيف السبيل إلى تصور أبناء من غير أم رؤوم تبسط جناح الرحمة والمودة على أبنائها وتعود عنهم لتحميهم من غائلة الجوع والفقر والمرض، هذه الحكايات تجيب على هذا التساؤل، فالمرأة حضرت وبقوة ونفضت عنها غبار التخلف بفعل المجهود الكبير الذي قامت به تلك في زمن مضى في سبيل نيل العيش الكريم.

فالفقر كان يفترس معظم العائلات ويخنقها، وتحت وطأته تئن وتستغيث طلبا للمعونة وكان عمل المرأة ضرورة لسد رمق الأبناء ولو في أعمال بسيطة مقدمة العون للزوج لزيادة دخل الأسرة.

فالليالي والأيام مملوءة دائماً وفي كل مكان من ذلك الزمن بصرخة الجوع التي لا تنتهي، فالضجة التي يحدثها تُلزم الاسرة على البحث عن رغيف خبزها بكل الوسائل الممكنة، وهذا ما فعلته نساء الكاتبة. فقد كان يشقّ على المرأة أن تجلس وهي ترى أطفالها يتضورون جوعاً ولا تـهب لمساعدتـهم، وبالخصوص اذا كان الزوج مريضاً أو يعمل في الغوص شهورا بعيداً عن عائلته.

يمكن القول بأن تلك الحكايات أيقظت تلك الحقبة من ذاك الزمن، وأعادت المرارات التي طبعته واتصلت به لتبقي شرارته وهاجة للأجيال كي يعوا ما كابده الأولون من مشقة وعناء ليفسحوا في المجال للأجيال اللاحقة لتعيش مستورة الحال بعيداً عما كابده اولئك الأولون.

فطراوة تلك الحكايات تظل في الذاكرة الجمعية، وكأنها حكايات ماضٍ بينما هي حكايات واقعية وإن أتت بأسلوب أدبي ألبس تلك الحكايات ثوباً جميلاً، وهذا ما ميّز فوزية مطر في كل كتاباتها، فالدموع والأحزان والآلام التي عاشتها النسوة آنذاك لم تذهب هدراً بل كانت البذرة التي سكنت حنايا روح نساء الأجيال اللاحقة ليعشن حياة أكثر أماناً واستقلالاً بفضل كفاح النسوة المروية حكاياتهن.

لاشك في إنه كان بديهيًا أن يُصاب شعور المرأة الطبيعي من جراء ذلك الكدّ بالغم والكمد في أول الامر على الأقل، على أن هذه اعتبارات لا يمكن في وقت الفقر والجوع تغاضيها فكل شيء مضحى به لحساب العائلة والأطفال.

يستطيع القارئ للكتاب أن يستشعر بأن ما كٌتب يعنيه من قريب أو بعيد، وبالخصوص ممن يعيشون قرى البحرين الساحلية ورحلة المصيف السعفية على الساحل، وهنا تقول فوزية (للمصيف ألقه الخاص في حياة الفتيات والشابات بما يمنحهن من هوامش حرية في الحركة والتنزه لايحلمن بجزء منها في حياة المدينة. كانت القرية الساحلية جنتهن السنوية الموعودة التي يتطلعن لعودة أيامها طوال أشهر العام.)

فمن أعماق السنين البعيدة، كان لوقع هذه الحكايات أثر على تذكر واستذكار أحوال النساء وما لاقيناه من مصاعب وآلام وآمال وما قدمنه من تضحيات ، وكانت قلوبهن تضطرم بأمل عظيم مكتوم في الخروج الى واقع أفضل مما كانوا عليه. كن مجمعات على التفكير بأن رغد الحياة لن يأتي بسهولة دونما عناء وتضحيات ودموع وآلام، سخرن كل طاقتهن لتجاوز هذه المحن ناسيات كل شقاء، كانت المعاناة شديدة، فقدن كل إحساس بالفرح، أمهات وازواجاً وعشاقاً، ولكن ظلت شعلة الأمل مشتعلة رغم تلك الظروف العصيبة.

كتاب احتوى على الكثير من النماذج النسوية المكافحة، ألقت فيه الكاتبة ضوءاً ساطعاً على حالات أولئك النسوة، ولئن كان صحيحاً أن الناس يحرصون على أن يتمثلوا نماذج يسمونها أبطالاً، فإنه من الصحيح أن يكون الأبطال هم هؤلاء النسوة من خلال تلك الحكايات.

(نساء) عمل أدبي رشيق ومبتكر يقيم الصلات مع الواقع أجادت الكاتبة في تصويره وإخراجه بشكل مبهر.

اقرأ المزيد

تحورات ومآل “الطبقة الوسطى”

درج استخدام مصطلح “الطبقة الوسطى” منذ 2500 عام تقريبا. استخدمه لأول مرة الأديب الإغريقي القديم يوربيديس في عام 420 ق.م. على لسان تيسيي، بطل مسرحية “الضارعات”، حين قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات : الأغنياء الذين لا خير فيهم للمدينة، فجُلُّ همهم أن يكتنزوا لأنفسهم، الفقراء والعامة، وهم خطرون لأن همهم استهداف الأغنياء، “.. وحدها الطبقة الوسطى هي عماد المدينة. فهي ممتثلة للقوانين والسلطة”. أي أنه منذ ذلك الوقت تم التأكيد على سمتين للفئات الوسطى (الطبقة الوسطى): مطواعة فكرياً وسياسياً وممتثلة للقانون. وفي القرن التالي طوّر الفيلسوف العظيم أرسطو الفكرة، حين قال في كتابه “السياسة” إن “الدولة المكوّنة من الناس الوسط، ستمتلك أفضل بناء للدولة”. وهذا ما جعل النظم الحاكمة تنظر إليها كسند على مر الأزمان.*
لم يَستنِد استخدام مصطلح “الطبقة الوسطى” آنذاك إلى تعريف محدد لماهية اـلطبقة. وإذا ما جرى الحديث عنها كان يشار إلى مجموعات اجتماعية متعددة، غير متجانسة، تحتل في المجتمع الطبقي مكانة انتقالية بين الطبقات الرئيسية.
في ظروف الرأسمالية تشكلت الفئات الوسطى بالدرجة الأولى من صغار التجار والملاك والحرفيين والفلاحين، وخصوصا أصحاب المزارع، ومن ذوي المهن الحرة (أطباء، محامين، معلمين، صحفيين وغيرهم من المثقفين). وقد سمي هؤلاء بـ “الطبقة الوسطى التقليدية (القديمة)”. وفي المرحلة الاحتكارية من الرأسمالية تزايد دور فئة الإداريين والمدراء ذوي الامتيازات والمستخدمين ذوي الأجور العالية – “الطبقة الوسطى الجديدة”.
أول مرة أُستخدِم فيها مصطلح “الطبقة الوسطى” في التصنيف الرسمي وأُدْرِج في المعجم السياسي – الاجتماعي في العصر الراهن كانت في عام 1913، عندما أطلقت هيئة الإحصاء البريطانية تصنيف middle class على شرائح السكان الواقعة بين الطبقة المسيطرة والبروليتاريا. وقد جاء هذا في مواجهة المفهوم الماركسي الطبقي للتطور الاجتماعي والتعريف اللينيني المشهور للطبقات. ومنذ ذلك الوقت بالذات ينظر علم الاجتماع الغربي إلى “الطبقة المتوسطة” على أنها السند الرئيسي، الاقتصادي والسياسي، لاستقرار الدولة في تناغم مع تعاليم أرسطو.
في كتابه “المبادرة الكبرى” عرَّف ف. إ. لينين الطبقة الاجتماعية على أنها “مجموعة كبيرة من الناس تتميز بـالمكانة التي تحتلها في نظام الإنتاج الاجتماعي المحدد تاريخيا، بعلاقتها (في أغلب الأحيان محددة ومكرسة بالقوانين) بوسائل الإنتاج، بدورها في التنظيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي بأهمية نصيبها من الثروة الاجتماعية التي تحصل عليها، والطريقة التي تحصل عليها. الطبقات هي مجموعة من الناس، بإمكان طرف منها أن يستحوذ على نتائج عمل الطرف الآخر، وذلك نتيجة المكانة التي يحتلها كل طرف داخل بنية محددة للاقتصاد الاجتماعي”. (1)
وعلى هذا الأساس يمكن فهم البرجوازية (بتفرعاتها) والبروليتاريا، بالضبط كما السادة والعبيد، والإقطاعيين والفلاحين (الأقنان) كطبقات اجتماعية وفق التعريف اللينيني. وفيما بين كل طبقتين رئيسيتين متناقضتين تتحرك فئات اجتماعية واسعة صعودا ونزولا. ورغم أن الطبقات الأساسية تظهر وتختفي في مسار التطور وتعاقب التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية، إلا أن الفئات الوسطى ظلت موجودة، وإن تغيرت تركيبتها ومحتواها في كل حقبة معينة.
وفي كل الأحوال يشمل مفهوم “الطبقة الوسطى” الدارج مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، وحتى طبقات بأكملها (كالبرجوازية الصغيرة)، التي تتميز بموقعها في المجتمع ودورها الاجتماعي ومصالحها الخاصة واتجاهات تطورها. يوجد من بينها أصحاب عمل ومستخدمون مأجورون، وأفراد ذوو دخول كبيرة جدا، أو أقل من متوسط أجر العمال المؤهلين، ناهيك عن تعدد مجالات أنشطتها الاجتماعية. نعم، هناك ما هو مشتَرك بين الفئات الوسطى : حراكها “الانتقالي” بالنسبة للطبقات الأساسية، ما يسمح بالنظر إليها كمجموعة بنيوية خاصة في المجتمع الرأسمالي. لكن ليس من أساس علمي، باعتقادنا، لاعتبارها طبقة اجتماعية واحدة. ولهذا فنحن نستخدم مصطلح “الطبقة الوسطى” مجازا ونضعه بين مزدوجين.
سُقتُ ما سبق، مدركا أنه يتعارض مع السائد في فهم غالبية الاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين وغيرهم من المثقفين في مجتمعنا لمفهوم “الطبقة الوسطى”، إذ يرون فيها طبقة في ذاتها ولذاتها وللمجتمع. وهذا ما كشفته النقاشات في مختلف المحافل، بما في ذلك مواد ومناقشات المنتدى الفكري السنوي الثالث للمنبر التقدمي 2017 “البنية الاجتماعية الطبقية في مجتمعات الخليج العربي… السمات والتحولات”. ولعلّ ذلك يعكس، إلى حد، “نجاح” الأيديولوجية البرجوازية في تشويه مفهوم الطبقات.
على اختلاف بنية وسلوكيات “الطبقة الوسطى” عبر الأزمان والحقب، فإننا سنتاولها هنا في الحقبة الراهنة من المرحلة الرأسمالية. ونعني بها تلك الممتدة طوال الأربعة عقود الماضية تحديدا. هذه “الطبقة الوسطى”، النسخة المطورة من “الطبقة الوسطى الجديدة” ، بخصائصها الاقتصادية الاجتماعية الثقافية السلوكية الاستهلاكية هي مجموعة بنيوية اجتماعية من نوع خاص، وهي الآن موضوع تحولات تاريخية كبرى، في إطار التحولات النوعية الحتمية الوشيكة للاقتصاد العالمي والمجتمعات (وهي موضوع حديث مستقل).
قبل ثمانينات القرن العشرين سادت النماذج الأيديولوجية المحافظة، المحافظة خصوصا تجاه الفائدة الربوية. “تغير الوضع فقط مع ظهور “الريغانية” (+ التاتشرية)، أي بدء التحفيز الإقراضي للطلب. وكما يقول الاقتصادي الروسي البارز ميخائيل خازن في مقالته “غروب الليبرالية”: “أصبح بالإمكان حل المسألة. سمحت هذه الآلية (المبنية على إعادة تمويل الدين الخاص) بإيجاد “طبقة وسطى” وطيدة، فاقت نصف إجمالي سكان البلاد، مُشَكِّلةً المرساة “الاجتماعية” التي أمَّنت نمط السلوك الاستهلاكي”. (2)
هذه “الطبقة الوسطى” الاستهلاكية “تحوز ولا تحوز على الملكية”، تتصرف بسلوكية استهلاكية مفرطة، لكن كل ذلك تحت غطاء ورحمة المصارف. وبما أن هذه “الطبقة الوسطى” هي عماد استقرار الدولة حسب أرسطو، إذن فالدولة نفسها غدت “تحت حكم” المصارف أيضا. ولعل الحركة الاحتجاجية الشعبية الواسعة في لبنان محقة تماما حين نعتت الحكم “بحكم المصرف”.
لقد صمم أيديولوجيو الليبرالية نموذجا جديدا للمجتمع يشمل كافة مناحي الحياة، بما فيها الثقافة والسلوك الاجتماعي والأخلاق. وبعد أن كُسِّرت تقاليد الأيديولوجيا المحافظة برز التيه الليبرالي بتطور “فجور القصور (الأثرياء)” إلى نمط في السلوك المجتمعي من عروض المثلية والقمار، إضافة إلى اشتداد النزعة الفردية وإهمال العائلة والتناسل، والغوص في الملذات واستسهال “العيب الاجتماعي” وغيرها من مظاهر السلوك الاستهلاكي التي تفشت في المجتمعات الرأسمالية “المتقدمة”، ومنها إلى بقية العالم. أما المعايير المادية “المضمونة” لمظهرية “الطبقة الوسطى” فقد ظلت السيارة الفارهة والمنزل الفخم على أمل السداد اللاحق، وكذلك السفر للراحة والاستجمام والحصول على خدمات العلاج والتعليم الخاصة وغير ذلك. غدا فرط الاستهلاك يتعدى قدرات المستهلك الخاصة.
لكن هل كان يمكن “للطبقة الوسطى” الاستهلاكية أن تستمر هكذا، ظاهرة أبدية كما تراءى لكثيرين، أم هي تاريخية، محدودة في الزمان؟ المفكر العبقري كارل ماركس تنبأ لها أن تضمحل، وبالذات تحت تأثير أزمات القروض المصرفية والمصارف. وهنا أيضا كان لبعض مثقفينا رأي خاص في ذلك. في إحدى الندوات الصحفية تناول صديقنا الأستاذ إبراهيم شريف تنبؤ ماركس بالنقد قائلاً: “الطبقة الوسطى كانت مفيدة للاستقرار السياسي لنظام الحكم الرأسمالي لذلك لم تضمحل” (3). قيل هذا الكلام والأزمة الاقتصادية المالية العالمية في عز أوارها، وآثارها التدميرية بدت واضحة على “الطبقة الوسطى”. بل أن إرهاصات ذلك التأثير بدأت منذ نهاية عام 2003 مع ظهور فقاعات الرهن العقاري.
نتطرق إلى ذلك لأنه يتعلق بصلب موضوعنا، وحيث الأهمية الفائقة لإدراك كنه العمليات النوعية الجارية في الاقتصاد العالمي ومجتمعات بلدان العالم، وما هي حبلى به من احتمالات، وإلى أين ستتطاير شظايا “الطبقة الوسطى” في المستقبل القريب، وانعكاسات ذلك في بلادنا ومنطقتنا التي آمل تناولها بشكل خاص لاحقا.
المشكلة في أن النفخ في استهلاك وتحسين معيشة “الطبقة الوسطى” على حساب القروض المدعومة بالتحفيز المالي (التسهيل الكمي، أي طبع المزيد والمزيد من الأوراق النقدية دون أن يقابلها إنتاج حقيقي)، اشتغل لعقود، باعثا على ازدهار “الطبقة الوسطى”. لكنه لم يدر ببال المبهورين بالنمو العاصف “للطبقة الوسطى” أن آلية الإصدار النقدي المفرط لا يمكن أن تعمل إلى ما لا نهاية، ولا بد لساعة الحقيقة أن تدق. كان كامل النموذج مصمما ليس لسواد عيون “الطبقة الوسطى” ذاتها، بل لصالح سلطان رأس المال المالي. لقد عاظم النظام المالي العالمي حصته من مجمل الأرباح المحققة في الاقتصاد العالمي من 5% قبل بداية الثمانينات إلى 50% قبيل انفجار الأزمة المالية الاقتصادية 2008 – 2009. وهذه الأرباح لا توظف من أجل التنمية الحقيقية، بل لتنمية القطاع المالي نفسه، بمعنى آخر لتوليد مزيد من الفقاعات المؤدية إلى انهياره. وغدا القطاع المالي بمجمل أنشطته وعوائدها معيقا للإنتاج والتنمية عموما. ومع بداية هذا العام “كانت الدخول الحقيقية في أميركا بنفس مستوى عام 1957، وهي بعد الأزمة ستتدنى أكثر فأكثر” (4). إذن، فانهيار “الطبقة الوسطى” سيكون ناتجا عضويا لانهيار النظام المالي العالمي بنتيجة أزمته الحالية.
هذا ما يحصل بالفعل “للطبقة الوسطى” الآن ومنذ زمن. ولنستعرضه في مثال “منحنى الفيل” الشهير (منحنى بياني يشبه الفيل في مظهره العام) الذي رسمه الاقتصادي المعروف برانكو ميلانوفيتش، خبير البنك الدولي، الذي قارن عدم المساواة في الدخل للفئات الاجتماعية بين عامي 1988 و2008 على أساس تحليل البيانات الكبرى (big data). وهو يشير إلى أن معدل الزيادة في نمو دخل الشريحة السفلى من “الطبقة الوسطى” في الدول المتقدمة استقر عند الصفر، أي توقف (أنظر الرسم البياني). الاستثناءان الوحيدان حتى ما قبل وضع جائحة كورونا – نمو “الطبقة الوسطى” في كل من الصين الاشتراكية والهند، التي لا يزال اقتصادها لم يُركَّب بعد على الليبرالية الجديدة المتوحشة.
مؤلف كتاب “رأس المال في القرن 21” الذي أحدث ضجة عالمية منذ سنوات، الاقتصادي الفرنسي الشهير توماس بيكيتي، وإن اختلف مع ك. ماركس حول محدودية الرأسمالية تاريخيا، إلا أنه اتفق معه في موضوعة تآكل “الطبقة الوسطى”. ووصف بكيتي نتائج منحنى فيل ميلانوفيتش أنها “تبدو أروع كثيرا من الأفكار التي تم اقتراحها في البداية. فالفيل أصبح أشبه بالماموث”. والماموث فيل ضخم منقرض عاش، بالمناسبة، في أوروبا الوسطى قبل مليون عام.
نود أن نشير إلى حقيقة هامة أيضاً: إن فضلاً كبيراً في تعزز مكانة “الطبقة الوسطى” في الدول الرأسمالية، حتى قبل “الريغانية”، كان بنتيجة وجود الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأخرى وإنجازاتها في المنافسة العالمية بين الاشتراكية والرأسمالية. هذا أجبر البرجوازية على فتح الشركات للمساهمة وتقاسم الأرباح. لكن استمرار هذا التعزيز ممكن فقط مع إعادة الإنتاج الموسع والضخ الإقراضي. الآن كل هذه العوامل مفتقدة!!
وهكذا، شيئا فشيئا تتبخر أمام ناظرينا أسطورة الإنسان الاقتصادي – الرجل العاقل، الذي يعيش بدافع وحيد يتمثل في تعظيم رفاهيته الشخصية. ستضمحل “الطبقة الوسطى” ليس فقط بفعل توقف آلة الإصدار النقدي – آلية عمل النموذج الليبرالي (الجديد) عن الاستمرار، بل وأيضا لأن “النخبة العالمية” لم تعد بحاجة إلى الدور الاقتصادي الاجتماعي “للطبقة الوسطى الاستهلاكية” كمحرك لنموذج آفل تاريخيا. ومع انهيار كامل النموذج لن يستمر المال، كما كان، مصدر السلطة بالنسبة “للنخبة العالمية”. سيوجد مصدر السلطة بالنسبة لها في مكان آخر – في الذكاء الاصطناعي، الذي سيشكل من وجهة نظر “النخبة العالمية” جوهر النموذج الجديد لما بعد انهيار الهرم المالي العالمي القائم على الدولار الأميركي. فعن طريقه تنوي “النخبة العالمية” ممارسة سلطتها على شعوب العالم وتوجيهه. هل هكذا سيكون الأمر حقا، أم أن لإرادة الشعوب، ممثلة بقوى الخير والتقدم رأي آخر سيغلب ويفرض نماذجه الخاصة للتطور البشري اللاحق ؟ هذه مسألة نضالية قادمة أمام البشرية التقدمية.

الهوامش:
*استعنت بإثنين من أعمدة مسرحنا البحريني، الفنانين خليفة العريفي وحسن عبد الرحيم مشكورين، للإستنارة من تاريخ المسرح العالمي.
(1) ف. إ. لينين. مجموعة المؤلفات الكاملة باللغة الروسية، م. 39، ص. 15.
(1) http://worldcrisis.ru/crisis/3295754?utm_source=subscr&utm_medium=mail&utm_campaign=best
(3) صحيفة”الوقت”، 7 يوليو 2009.
(4) م. خازن، الجريدة البرلمانية http://mospravda.ru/2020/02/25/143347/.

اقرأ المزيد

تنمية منزلية

هجر الناس المقاهي والنوادي والمنتزهات والتجمعات العائلية وكل مناسبات الاختلاط البشرية واقاموا في منازلهم – ربما – لفترة لم يشهدوها طوال حياتهم وذلك على اثر جائحة كورونا، بيد أن هذا المكوث الطويل في البيت والفراغ وقلة الأعمال وانعدام فرص التوظيف الرسمي والحر منذ فبراير الماضي، انتج قلة في الموارد المالية ووفرة من الوقت ومناخاً ملائماً لاستغلال المنازل واستثمار مساحاتها في الأعمال والهويات العديدة.
هذا المقال ليس مبنياً على الأرقام أو الإحصاءات، إنما على عددٍ من الملاحظات والمشاهدات والمتابعات الإلكترونية لعددٍ من المواقع المتخصصة في الزراعة وتنسيق الحدائق والاستزراع السمكي وتربية الطيور والدواجن والحيوانات وإقامة مناحل وخلايا النخل والاعمال الخشبية الجديدة وغيرها، وربما يصلح هذا المقال كنواة لتحقيق صحفي موسع ولدراسة شاملة لمعرفة حجم هذا الاقتصاد الجديد واثره على الدخل الوطني والاعمال المستجدة وغيره .
والواقع أن وراء كل عمل جديد قصة تشي بأن الحاجة هي أم الاختراع فعلاً، كما يقول المثل السائد ، وسمعت من احد الشباب البحرينيين أنه اتجه إلى العمل الحر من منزله على اثر خسارته لوظيفته كمهندس مدني في عام 2011، إذ تخصص في تصنيع السماد العضوي والمبيدات الحشرية الطبيعية في منزله. آخر قال إنه بدأ العمل بعد حصوله على تقاعده المبكر فكان أن توسع في حديقته المنزلية، وأقام فيها ركناً لتصنيع كراسي الحدائق ومشتلاً تجارياً، وكثيرون تخرجوا من الجامعات وجلسوا على رصيف العطالة ينتظرون الوظيفة لسنوات دون طائل، فلم يجدو مفراً في النهاية من ابتكار مصادر لأرزاقهم غير الطرق المعتادة والتقليدية
أعرف كثيرين عادوا إلى هوايات سابقة هجروها اثناء الحجر الطوعي أو القسري، أو استجابة لقرار الحكومة بالعمل عن بعد تفادياً للاختلاط والتجمعات، وقد وجدوا فرصاً للتعلم والتدريب واكتساب مهارات جديدة بالمجان على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة كالرسم والتصوير وأعمال الجبس، حتى اسقف المنازل والغرف المركونة والزوايا الصغيرة المهملة جرى استغلالها وتوظيفها في كثير من منازل أصحاب الدخل المحدود وتم تحويلها الى مساحات للرياضة على اثر اغلاق الصلات الرياضية العامة.
ولقد لعب الإنستجرام دوراً كبيراً في تعريف الجمهور بأعمال ومهارات الشباب الجدد وأفكارهم وابداعاتهم. قبل عدة أيام تعرفت إلى شابة بحرينية تعمل، هي وخطيبها، على إقامة الديكور وتزيين الغرف لمناسبات الافراح واستقبال المواليد الجدد، كلاهما يتجه إلى طالبي الخدمة بلا أدوات ولا معدات، يحملان هاتفهما وكمبيوترهما الخاص فحسب، الإنستجرام هو دكانهم ووسيلتهم للتفاعل والتعاطي مع الزبائن، وأما تلك المصورة الفوتوغرافية المتخصصة في تصوير أطباق الأكل للمطاعم والفنادق، فقد قامت بمنح متابعيها دورات مجانية للتصوير على الإنترنت فكسبت جمهورا جديدا ورواجا تجاريا ومزيدا من الخبرة في معرفة الأذواق المختلفة.
إن التنافس كبير وعلى أشدّه بين المبتكرين الجدد في سوق العمل الحالي للبقاء في السوق وتحقيق الاستدامة في العمل او الحرفة في زمنٍ لم تعد فيه الوظيفة أمراً سهلاً، وذلك لن يتحقق دون الابداع وتقديم كل ما هو مختلف وجديد وبسعر تنافسي.
ونعلم أن العمل الافتراضي الإلكتروني أو من المنازل في أي قطاع ليس مجانياً، إلا للأسر المنتجة ولمشروع برنامج خطوة للمشروعات المنزلية الذي ترعاه وزارة التنمية، لكن تفرض الدولة رسوماً تعدّ قليلة نسبياً للسجلات التجارية الافتراضية، وذلك لحماية حقوق الطرفين المستهلك وصاحب المهنة معاً، وربما تساهلت الحكومة مؤخراً وبسبب تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد مع بعض الأعمال والهوايات التي تحوّلت إلى مهن تجارية مُولدة للمال، وتدار عبر الانستجرام وبدون رسوم، من هنا تجيء أهمية اليقظة والوعي بالنسبة للمستهلك، وما يُطمئن أن جميع هذه المواقع خاضع للرقابة الإلكترونية الحكومية، حتى وان كانت مجانية خصوصا مع انتشار وازدياد هذه المواقع وعدم تقيّدها بأي شروط، وقد لا تخلو من الغش والاحتيال أو التحلل من المسؤولية عند وقوع التجاوزات.
وكل يوم أتلقى على هاتفي النقال مواقع عديدة لتخصصات وأعمال تتضمن أفكاراً من صنع شباب وشابات بحرينيات تقع في مناطق مغمورة وبعيدة وخارج الأسواق المعتادة التي تأثرت بشدة جراء المنافسة غير المتكافئة مع هذه الدكاكين الافتراضية المجانية، أسعد لإبداعهم وأعيد نشرها على أكبر نطاق من باب الدعم والتشجيع، وأتوجه الى محلاتهم مدفوعة بحب الاستطلاع والفضول الصحفي واكتشاف الجديد، مسترشدة بخدمة ال GPS (الجي بي اس) – نظام التموضع العالمي) للوصول إلى أماكنهم على أرض الواقع.
حقاً إنه عالم جديد ومختلف ولا يزال مفتوحاً على شتى الاحتمالات.

اقرأ المزيد

أبو الفعايل .. لن نقول وداعاً!

بمناسبة أربعينية الراحل العزيز الفنان سلمان زيمان عرض المنبر التقدمي فيلماً يسجل بعض مراحل ومحطات وإبداع وسجايا فناننا الراحل “بو سلام” من خلال الحديث مع شخصيات اقتربت منه كإنسان مناضل وفنان مبدع، سخر حياته للفن الملتزم عبر مسيرة فنية متميزة، في زمنٍ تراجع فيه الإبداع وتقلصت مساحة الفن الراقي الملتزم بقضايا الإنسان والوطن.

أذكر جيداً كيف أبهرنا “بو سلام” بفنه وبصوته المميز مع بدء سطوع اسمه فنياً، وتحديداً في أوساط طلبة البحرين في الداخل والخارج نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات القرن الماضي، حينها كان وكنا طلاباً متوزعين في الجامعات ومعاهد الدراسة خارج الوطن، وفي بقع جغرافية متباعدة أحياناً حول عالمنا الواسع، الذي كان حينها يضج بصعود لافت للعديد من الحركات الوطنية والسياسية عربياً ودولياً، بمثل ما كان يضج بأفكار التنوير والتقدم، ويفرد مساحة مهمة لكوكبة من الفنانيين العرب الذين أبدعوا ودعموا قضية شعبنا الفلسطيني الصامد، وكان سلمان زيمان و”فرقة أجراس” في مقدمة هؤلاء المبدعين المتميزين.

اللافت أن فناننا الراحل “بو سلام” كان صعوده بداية كمحبٍ وعاشقٍ للأغنية اليمنية بما احتوته من تاريخ وعبق ومعان وكلمات وألحان مميزة لدينا نحن أهل الخليج عامةً، إلا أن سلمان زيمان بما تشرّبه من فكرٍ وقيم تقدمية ووطنية وقومية، كان قد استطاع أن يُوّظف بوعي إمكانياته الفنية وصوته القوي المميز لاحقاً، وبمعية “فرقة أجراس” التي أسسها مطلع الثمانينات مع مجموعة من إخوانه وأخواته ورفاق دربه، في خدمة القضية الفلسطينية والقضايا الوطنية والقومية، وعبراختياراته المميزة لقصائد شعراء كمحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وأبو القاسم الشابي وصلاح عبدالصبور وغيرهم من القامات الشعرية والأدبية والفنية الكبيرة، بالإضافة إلى قامات بحرينية وخليجية من بينهم علي عبد الله خليفة وإبراهيم بوهندي وعبدالحميد القائد وفتحية عجلان ومسفر الدوسري وغيرهم، وكانت جميعها مساهمات تعجّ بحب الأرض والوطن والقضية، وهكذا استمر مشواره الفني بزخمٍ أكبر لاحقاً، حتى برز بعدها كوجه بين أهم الفنانين العرب الملتزمين بالفن الجاد وبقضايا الوطن والقضية الفلسطينية.

وإذ نحتفي بأربعينية الراحل العزيز، فإننا نحن أصدقاؤه ورفاق دربه، سنظل نستشعر وجوده بيننا بصوته وانتماءه وحبه لأرضه ووطنه ولقضايا أمته، وللكلمة الراقية وللمعاني الإنسانية النبيلة التي دافع عنها سلمان زيمان طيلة مشواره الفني الحافل، وبالطبع سنظل نستشعر وجوده الدافىء بيننا، ونحن نتابع تكالب قوى الشر على أمتنا وقضيتنا الأولى: القضية الفلسطينية، ومعاناة شعبنا العربي الفلسطيني في الداخل والشتات، في زمنٍ تتهافت فيه أقلام مأجورة ووسائل إعلام وحكومات مندفعة بسرعة البرق للإرتماء في أحضان عدوٍ يتربص بأمتنا وبخيرات ومستقبل شعوبها وسط عالمٍ يضجّ بالتحولات الجارفة التي تنذر بعواقب وخيمة لا نعرف مداها.

ويبدو أن “أبا سلام” الذي استعجل الرحيل، قد اصرّ أن يغادر دنيانا تاركاً لنا أن نعيش غصةٍ توالي فراق الأحبة والسقوط المدوي لمسلمات وقيم ومبادىء وأخلاقيات طالما تمسكنا وسنظل متمسكين بها، وفاءً لضمائرنا التي ترفض السقوط، واحتراماً للراحلين ممن حملوا مشاعل الحرية والتنوير وقضايا الإنسان، كما حملوا أوطانهم وقضايا شعوبهم وهم القابضون على الجمر في زمن السقوط والخيبات.

في أربعينية راحلنا العزيز بو سلام نقول له: نم قرير العين، وستبقى رسالتك وأفكارك ومبادؤك الوطنية والإنسانية التي ضحيت وناضلت من أجلها مع المئات بل الآلاف من محبي الحرية والتقدم في وطنك وأمتك، وسيزهر عالمنا البائس حتماً مستذكراً بفخر كل الراحلين الأوفياء.


آخر مرة ظهر فيها سلمان زيمان أمام الجمهور في احتفالية المنبر التقدمي بالذكرى 65 لتأسيس جبهة التحرير الوطني في 15 فبراير 2020

اقرأ المزيد

حاجتنا إلى برنامج اشتراكي!

في الفصل السابع من (فن الحرب) لماكيافيلي، يبين فابريتسو لباتيستا الشروط الأساسية للدفاع عن أي مدينة (بجانب من الأسباب الطبيعية)؛ إن تُرك سور المدينة عالٍ فهذا يجعل المدينة عرضة لهجمة مدفعية وإن تُرك منخفضاً فأن ذلك يسهل للعدو اختراقه، وإذا كانت الخنادق موضوعة أمام السور فإنه من السهل على العدو اجتيازها، لذا يرى فابريتسو أنه من الأفضل لو بقيت الأسوار دائماً عالية فيما الخنادق تكون وراء الأسوار لا أمامها. هكذا، إن تمكن العدو من اختراق السور فسيكون عليه مواجهة الخنادق الداخلية. لكن الأهم من ذلك كله، حسب فابريتسو، الشرط الأساسي لحماية المدينة هو توفر جند مجهز، ومنظم، وشجاعا.

لنترجم رأي فابريتسو، وهو لسان حال ماكيافيلي، بشكله المعدل بالنسبة إلى التنظيم السياسي الاشتراكي: الأسوار والخنادق تساوي قوة/ضعف التحام النظرية بالممارسة والعكس بالعكس، ايّ وجود برنامج سياسي اشتراكي واضح وفقاً لنظرية اشتراكية علمية. بينما الجند المجهز تحت قيادة الجنرالات يعتمد على علاقة قاعدة الحزب باللجان المسؤولة (اللجنة المركزية، المكتب السياسي)، ايّ الديموقراطية المركزية.

الآن، افترضوا أننا أمام هكذا جند (لا يهم مدى تنظيمه) دون أسوار، ولا خنادق، ولا جنرالات، ولا مدينة حتى! هكذا هو حال أي تنظيم اشتراكي من دون برنامج اشتراكي ولا نظرية علمية.

في السنوات الماضية انتقدتُ البرنامج السياسي للمنبر التقدمي جاعلاً من الاشتراكية العلمية معياراً استند عليه في النقد. فالنقد العلمي ليس بانتقاد، بل هو التمحيص، والفحص، والتقييم. أما النقد السياسي فهو فحص الأساس الطبقي الكامن وراء كل شيء، فإنه يبرز علم الصراع الطبقي في الأساس. وذاك يفترض هذا في الاشتراكية العلمية. هكذا، رأيتُ – ولم أنكر ذلك أبداً – بأن البرنامج السياسي للتقدمي لا يمت بصلةٍ، لا بشكلٍ دوغمائي تقليدي ولا بشكلٍ محدث، بالاشتراكية (رغم أن هذا البرنامج السياسي هو الوحيد محلياً الذي يقر بإتباعه الرسمي للاشتراكية)؛ وبالتالي الأساس العلمي مفقود فيه، والأساس الطبقي الذي يستند على الصراع الطبقي البروليتاري ايضاً مفقود.

هذه حقيقة، وأي شخص يختلف معها إما لا يفقه شيئاً في علم الماركسية وإما أنه لا يمتلك حجة واضحة ليقدمها. هذه، أكررُ، حقيقة ولا عيب فيها؛ وأنها كحقيقة نتيجة لعوامل تاريخية عدة ذكرتها في مثل سلسلة النقد التي تفضلت نشرة “التقدمي” بنشرها بروحٍ ديموقراطية لا بد أن نحييها عليها.

لماذا أصبح من الضروري اليوم بلورة برنامج اشتراكي؟، أدعو القارئ ليفكر ما إذا نجحت البرامج السياسية اليسارية البحرينية التي بمجملها إما خضعت كلياً لليبرالية (”التعويم الإيديولوجي“ أو نظرية ”تبريد الماركسية“) وإما وقعت كلياً في الإصلاحية والقمائة البرلمانية (وهذه هي النزعة الطاغية في التقدمي). اتخيل نفسي الآن أمام مجموع اليساريين القدامى، كل منهم خاض ما خاضه من النضال في الماضي (وأي نضال كان!)، وواحد منهم بكل دماثة أخلاق يقف قائلاً: ”لكن الديموقراطية درباً طويلاً، وخطواتك التي تدعو إليها سريعة وتتجاوز المراحل؛ الديموقراطية لهي تربية – ذاتية تدرجية!“. لكن ما عساني أن أقول سوى بإنكم قد خلطتم ما بين الحذر، وهو واجب، وما بين التدرجية/التطورية وذلك يمثل خطراً أعظم، إذ إنه يحول دون وجود خط سياسي صحيح.

لقد بينتُ، في مقالٍ سابق لم يتحول فحواه إلى بحث بعد، بأن الجهاز المسيطر في الدولة البحرينية هو الجهاز القبائلي لا البرلماني، وذلك بحد ذاته ما يسبب ما سميته بالأزمة المؤسساتية. كما أنني رأيتُ بأن المشاركة في البرلمان لهي خطوة صحيحة ما إذا كانت هذه الخطوة تمثل كشف هذه الأزمة المؤسساتية للجماهير الشعبية، والعمل على هذه العقدة بالضبط. إن الذين يعتقدون بأنه سيكون هناك تطور خطي، وتدريجي، وهادئ، للديموقراطية في البحرين واقعون في وهم؛ فإن طريقة تمفصل الأجهزة نفسها تمنع على هذا التطور الخطي أن يكون ممكناً. هكذا تحول، بكل بساطة، مستحيل. هذه العقدة، ”الشرباكة“ مثلما نقول هنا، هي أبدية بتأبد شكل تمفصل أجهزة الدولة: المسيطرة والتابعة.

أكررُ السؤال: لماذا البرنامج الاشتراكي اليوم؟ للاسترشاد بالعمل السياسي الاشتراكي المفقود في ظل الأوضاع الراهنة والقادمة في البحرين تحديداً. أنا أعلم ماذا سيقال بهذا الشأن، استطيع أن اسمع الاستنكار بشكل مسبق والذي أصبح شيئاً أشبه بالحجة القديمة التي تعرقل كل عمل حقيقي: ”كيف يمكن ذلك إن لم تكن الشروط الموضوعية والذاتية حاضرة؟“، وإن سألناكم – في المقابل – أيمكنكم تفيدونا بتفاصيل هذه الشروط؟ ستجيبون: ”لا بد أن يكون هناك وعياً اشتراكياً قبل أن نتقدم بها ونعمل عليها، ومن أجل أن يتوفر هذا الوعي لا بد من العمل على الديموقراطية أولاً“.

لكنكم، الأعزاء الأفاضل، تخلطون الأمور ببعضها! ليست التوعية هي شرط تبلور برنامج اشتراكي، بل وجود البرنامج الاشتراكي هو شرط وجود التوعية الاشتراكية. أدعوكم أن تفكروا معي قليلاً: وجدتم في الديموقراطية شرطاً ضرورياً لكل شيء، ونسيتم بأن الديموقراطية (والحق البورجوازي عامة) ليست محل تقديس الاشتراكيين ونحن ندعو تجاوزها أصلاً، وبعدها حملتم الكتاب بيمينكم ”هلموا إلى البرلمان!“. الدفاع عن الشعب، الدفاع عن المواطن، رفع المستوى المعيشي، إصلاح العقود العمالية؛ جميل! لكن حبذا لو يجيبني أحد، ما معنى كل هذه المطالب إن لم تكن مبنية، إن لم تكن مؤطرة، إن لم تكن تعمل من أجل، برنامج سياسي اشتراكي واضح؟ ما الفرق ما بين النائب العادي الذي يطالب بمثل هذه المطالب وما بين مجموعة من ”التقدميين“ يطالبون بها؟

لأن برنامجاً اشتراكياً مفقوداً، تجد بأن هذه المطالب إما تأتي كشكل ردات فعل وإما مبنية على أسس حقوقية؛ ولكنها ليست منظمة، ولا تسير من أجل وضع العمل الاشتراكي في مختبر الحياة اليومية. لا تظنن بأنني احصر كلامي بالعمل البرلماني وحسب، إذ إن ذلك وجه واحد من المسألة كلها، بل أتكلم عن العمل السياسي ككل. تخيلوا معي بأن لو لم يفز مرشحون تقدميون بمقاعد في البرلمان، حينها عملنا السياسي ايضاً سينحصر في منطق الفعل وردة-الفعل؛ لن يتغير شيء على الإطلاق. المشكلة ليست مشكلة النوايا الداخلية لأي فرد أو لأي جمعية، بل مدى صلابة البرنامج السياسي. مثلاً، فيما عصرنا هذا يفرض كون العمل الاشتراكي مرتبطاً بإقامة تحالف ضد رأس المال الاحتكاري (واللحظة التي نقول فيها بذلك، في بلد كولونيالي مثل بلدنا، فإننا بالضرورة أيضاً نشير إلى رأس المال الامبريالي)، أجدكم تكتفون بالعتب على ”ذوي الدخل العالي“، أو ”أصحاب العمل“ (وهي عبارة مضللة للغاية، ويجب التخلص منها تماماً)؛ فلا تسمون الأشياء بمسمياتها.

حالما نفهم ذلك، سنفهم ما ينبغي عمله. حالما نقول بإن رأس المال الاحتكاري الكولونيالي في تطوره لا بد، حتماً، أن يضر بالمصالح المباشرة للطبقات الشعبية سنفهم ما الإصلاحات، ما المطالب، التي يجب علينا العمل من أجلها. إصلاحٌ عن إصلاحٍ يفرق. على سبيل المثال، لو طالبنا بضرورة توفير المستلزمات الإلكترونية والحاسوبية لطلبة المدارس الذين ليس في مقدورهم الحصول عليها في ظل انتشار وباء كورونا (على نفقة الدولة) فإننا سنكون قد دافعنا عن أحد المطالب اليومية والفورية للطبقات الشعبية (وهذا أمر قد يقوم به أي نائب أو أي جمعية أخرى، أو حتى قد تبادر به الحكومة نفسها)، ولكن إن طالبنا بضرورة إصلاح فوري لقوانين العمل الخاصة بالعمال الأجانب المهاجرين (وذلك يتضمن إصلاحاً في مفهوم المواطنة حقوقياً، ايّ إصلاحاً سياسياً أيضاً): توفير لهم النقابات، ونشرات تعبر عن لسان حالهم، تمثيلات سياسية، ضبط قانوني لساعات العمل الثمان، رفع أجورهم، إلخ؛ سنكون قد أضررنا، عبر ”الإصلاح“، بالمصالح المباشرة لا لرأس المال الاحتكاري وحسب بل غير-الاحتكاري ايضاً. تصوروا، إذن، بأنكم قد ساويتم مدى أهمية إصلاحين يختلفان اختلافاً كلياً في محتواهما البنيوي؛ أو، إن صح التعبير، يختلفان اختلافاً كلياً في مدى ”ثوريتهما“.

البرنامج الاشتراكي كفيل في تحديد هذه التوجهات والإصلاحات بالتحديد. الآن أسمع من الجهة الأخرى استنكارات: ”نتفق معك! لكن كيف يمُكن لهذا البرنامج الاشتراكي أن يعمل بشكل سليم إن لم نكن قد وصلنا إلى الديموقراطية التامة بعد؟“. حسناً! هؤلاء مقدسو الديموقراطية الليبرالية يوقعون أنفسهم في شرك ما: ما دامت الديموقراطية ليست تامة في البحرين، إذن – حسبهم- لا طائل من العمل في المؤسسات شبه-الديموقراطية. تخيلوا لو كنا أمام لينين في 1921 وقلنا له، أربع سنوات بعد ثورة أكتوبر، بإن مشاركة البلاشفة في الدوما لم يكن مهماً لأن الديموقراطية الروسية حينها لم تكن تامة. تخيلوا ذلك فقط! كم سينهال علينا بنقده اللاذع وكم سيتهمنا لا بالانتهازية وحسب، بل الليبرالية؛ وهذا بالضبط ما قاله للمناشفة الذين وقعوا كلياً تحت سطوة الليبرالية. ليس بوسع أحد المزايدة أمام قامة مثل لينين، ونحن جميعنا لا شيء سوى نقطة في محيطه، ولا المزايدة أمام روزا لكسمبورغ حين قالت: ((تمثل الانتخابات وسيلة جديدة للصراع. أما أنتم، فأنتم قابعون في أفكاركم القديمة، إذ إنكم لا تلاحظون سوى كلمة ”امبراطوري“ من عبارة: البرلمان الألماني الامبراطوري. فلا تتخيلون أي إمكانية لاستعمال البرلمان بروح ثورية… نحن بحاجة إلى شكل مطور للراديكالية، بدلاً من فجاجة منطق ”إما وإما“. بلا شك، هذا المنطق الفج مريح أكثر، ولكنه لا يعدو كونه تبسيطاً الذي يحول دون تعليم وتنوير الجماهير.))

إننا نعلم (كما كانت لوكسمبورغ تعلم ذلك بشأن البرلمان الامبراطوري) بأننا أمام برلمان ليس ديموقراطياً بالمعنى الكامل للكلمة، ولن يكون كذلك في أي وقت قريب. لكن هل سينكر أي أحد بأن البرلمان، رغم هذه النواقص، هو المكان المناسب لإظهار هذه الحقيقة للجماهير؛ لإظهار حقيقة أن البرلمان نفسه ليس ديموقراطياً بالكامل؟ أهناك طريقة أدهى من الدخول للبرلمان وكشف نواقصه للجماهير من الداخل؟ والبرنامج الاشتراكي المنشود لا بد أن يعمل بلا هوادة ضد هذه النزعة.

أكرر: إن وجود البرنامج الاشتراكي هو شرط توعية الجماهير لا العكس. إن اليسار الليبرالي لا يتخيل إمكانية ذلك لأنه يريد الديموقراطية الليبرالية أن توجد بشكلها الكامل أولاً؛ وذلك لأنه يقع كلياً تحت سطوة العمل العلني الليبرالي، ولا يتخيل عملاً سياسياً خارجاً عن البرلمان. بينما أنتم تجدون بأن العمل في أدنى مستويات الديموقراطية هو كافٍ لتعميقها، وتكتفون فقط بالعمل البرلماني كما لو كان شيئاً مقدساً (وهذا بالضبط معنى القمائة البرلمانية)، وهذه الفكرة بحد ذاتها مغلوطة؛ إذ بينتُ بأن الجهاز المسيطر ليس الجهاز البرلماني. القضية ليست قضية عما إذا كان البرلمان ديموقراطياً بشكل كامل أم لا، وبلا شك سيكون علينا أن نطالب دائماً بتعميق الديموقراطية والحقوق السياسية عامة، بل قضية كيف يمكن توعية الجماهير ببرنامج اشتراكي – وضرورته- عبر البرلمان وخارج البرلمان في مثل الوقت؛ بتوعية الجماهير بالأساس الطبقي وراء معاناتها، بحقيقة صراعها الطبقي مع تنامي رأس المال الاحتكاري.

يجب على البرنامج الاشتراكي، إذن، أن يحدد بوضوح، بلا أي مواربة، بأنه لا يدعو – في الأمد الطويل – للتحرير الاجتماعي للطبقة العاملة وحسب، بل كافة الطبقات الشعبية ايضاً؛ عبر تقويض الملكية الخاصة للوسائل الإنتاج، ايّ عبر تشريكها بالتحديد. وهذا لا يحصل إلا حين يكون القرار السياسي متركز في يد الممثلين الشعبيين في المجالس الشعبية. حصول ذلك يؤدي إلى فك-الربط البنيوي بالمنظومة الامبريالية ككل، بما إن أبنيتنا الاجتماعية هي أساساً كولونيالية.

لكن في الأمد القصير لا بد أن يقر هذا البرنامج بالأهمية القصوى لإقامة تحالف يساري أو شعبي ضد رأس المال الاحتكاري، ويتضمن ذلك خطوات اقتصادية وسياسية كبرى؛ مثل الصراع من أجل تطبيق مبدأ الضرائب التصاعدية (مثلاً، الضرائب الموضوعة على معدل الربح الرأسمالي، والعقار، والأرض الزراعية، وعلى الميراث، بدلاً من تلك الموضوعة على الاستهلاك الشعبي)، العمل على خفض الدين العام لا عبر الخصخصة بل عبر تطبيق تلك الضرائب التصاعدية وخفض النفقات الإضافية (التي تنتمي إلى، كما يطلق عليها الاقتصاديون، القطاع الثالث)، إلغاء الضرائب غير المباشرة التي تضر مباشرة بالمصالح اليومية للطبقات الشعبية، الصراع من أجل تثبيت قوانيناً حازمة لحماية العمالة الوافدة (خصوصاً فيما يتعلق بساعات العمل، ويوم العمل، وتطبيق نظام تأميني حقيقي، أو باختصار ”قوانين موحدة للحد الأدنى للأجور“، بالإضافة إلى التمثيل السياسي والنقابي لها)، التشجيع الدائم لانفتاح سياسي وإعادة الحياة السياسية للجمعيات المعارضة كلها، والانفتاح الصحافي في البلد (الصحافة المعارضة) وذلك ينصب في مصلحة المشاركة الشعبية في النقاشات العامة (قضايا النسوية، والطائفية، والعرقية، البيئية، مناهضة-الامبريالية، إلخ).

وعلى الرغم أن الصحة والتعليم مجانيين في البحرين، إلا سيكون علينا أن ندعو إلى إصلاح حقيقي في النظام التعليمي والصحي، إذ إن التدني النوعي المستمر لهما يدفعان أساساً لتدني نوعية صحة وتعليم الفرد. هكذا، خصخصة هذين النظامين لن يحصل عبر إلغاء مجانية التعليم والصحة، بل عبر المنافسة في النوعية: ما بين القطاع العام والخاص (وذلك سيدفع الطبقات الشعبية، في الحالات القصوى، نحو القطاعات الصحية الخاصة للعلاج).

سيعذر القارئ نسقيتي وتسرعي، إذ إن ليس واجب هذا المقال، ولا واجب كاتب المقال، أن يذكر تفاصيل أي برنامج كان؛ فهذا العمل لهو عمل جمعي. هكذا، لا يعمل البرنامج على السياسات الاشتراكية وحسب، ايّ عبر التوعية الاشتراكية، بل على التوعية السياسية للطبقات الشعبية بضرورة الصراع ضد رأس المال الاحتكاري. أنا أقول رأس المال الاحتكاري ولم أذكر شيئاً حول رأس المال الامبريالي لأنني افترض بأن للاثنين علاقة بنيوية ببعضهما البعض، ولكن ليس هذا المقال المكان المناسب لشرح وتفصيل هذه القضية المطولة. إنني أكتبُ هذا المقال ليس لأن لدي حلاً جاهزاً لما ينبغي القيام به، بل لأنني أعي بوضوح ما لا ينبغي القيام به. سيكون على القراء أن يفكروا لأنفسهم حول ضرورة البرنامج الاشتراكي، ولديهم خياران لا ثالث بينهما: إما يبقيان في الحالة الراكدة الراهنة، البيروقراطية الحزبية (أو البيروقراطية المركزية حسب تعبير غرامشي)، الجمود العقائدي، وإما أن يجرؤا على العمل الجاد، والنشاط رغم صعوبة الحركة، الماركسية الخلاقة بدلاً من ماركسية الكتب الأكاديمية. في كل الأحوال، حباً لله، اختاروا شيئاً ولا تقفوا صامتين. وبكلمات الشاعر اليوناني اليساري مانولس آناغنوستاكس:

لستُ أدعوكم أن تكفوا عن العيش
ولا أتطفل على حياتكم اليومية
ولا أمنع عنكم صحفكم المحببة
ولا أكتم مناقشاتكم في صالونات الحلاقة
أنني أطلب منكم شيئاً واحداً، كلمة واحدة:
هل أنتم مع أم ضد؟
فكروا في الأمر ملياً، وسأكون في انتظاركم.

اقرأ المزيد

المثقفون والكتاب الخليجيون والترويج للتطبيع مع الكيان الصهيوني

أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة

محمود درويش

نبدأ مقالنا بهذه الأبيات الرائعة للشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، لنقول إن أفظع شيء هو تبرير عملية التطبيع من قبل مثقفين وكتاب خليجيين يريدون ترسيخ ثقافة التطبيع مع الكيان الصهيوني بأقوال وكتابات لا يمكن أن تصدق كيف لهذا المثقف أو الكاتب الذي كان بالأمس القريب يكتب عن القضية الفلسطينية وعن أطفال فلسطين الذين يُقتلون في وطنهم أو الذين يشاهد العالم بكاءهم وجرافات الاحتلال الصهيوني تهدم بيوتهم في القدس الشرقية، لتحرمهم من العيش في بيوتهم وتريد ان تمحي ذكرياتهم.

عرضت العديد من القنوات الفضائية تلك المشاهد المؤلمة، والبعض من أطفال فلسطين لازال آباؤهم في السجون والمعتقلات الصهيونية، فماذا عسى هؤلاء المطبلين لسياسة التطبيع مع العدو الصهيوني أن يقولوا إلى أطفال فلسطين لكي يبرروا التطبيع مع من يسلبهم حقوقهم المشروعة حتي في العيش بسلام، تطبيع يبرر أفعال القتلة الصهاينة وعنصريتهم تجاه الشعب الفلسطيني، الذين فاقت عنصريتهم وأفعالهم الإجرامية ما قام به نظام نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا.

ألم يصدر قرارعن الجمعية العامة للأمم المتحدة ( 3379 ) في 10 نوفمبر من عام 1975 باعتبار “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، مطالباً جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي تشكّل، حسب القرار، خطراً على الأمن والسلم العالميين. ولكن القرار أُلغي في عام 1991 عندما اشترطت (إسرائيل) ذلك لقبولها المشاركة في مؤتمر مدريد.

وبالرغم من إلغاء القرار، استمرت الحكومات الصهيونية المتعاقبة في الممارسات العنصرية ضد أبناء الشعب الفلسطيني من سيِّئ إلى أسوأ بالأخص مندذ مجيء رونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وما قام به من نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس بتاريخ 14 مايو 2018، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن بتاريخ 10 سبتمبر 2018 وكذلك قراره بوقف الدعم المالي لوكالة الغوث “الأونروا” التي تُعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، في محاولات للضغط على القيادة الفلسطينية لكي توافق على المشاريع التآمرية الأمريكية والصهيونية بما في ذلك “صفقة القرن”. يفعل ترامب ذلك وهو الذي يوشك على انتهاء ولايته في نوفمبر القادم 2020، ولا نعرف ما إذا كان سيُنتخب من جديد في ظل استمرار التظاهرات في العديد من الولايات ضد سياساته العنصرية وإخفاقه في التعاطي مع وباء كورونا، وقضايا عديدة، داخلية وخارجية.

المستفيد الأوحد من سياسته هو الكيان الصهيوني وبشكل خاص حكام هذا الكيان، وينتظر نتنياهو العديد من المحاكمات في قضايا فساد متورط فيها، وهناك مظاهرات مستمرة ضده منذ أشهر وضد سياساته، فاتفاقيات التطبيع الموقعة تساعد قوات الاحتلال الصهيوني المعادية للفلسطينيين والعرب وتشجعها على التمادي في قمعها وقتلها لأبناء الشعب الفلسطيني والاستمرار في دعم المستوطنين، وضم العديد من الأراضي في الضفة الغربية، وتحت يافطة شعارهم القديم (السلام مقابل السلام) وشعارهم الجديد (الاقتصاد مقابل الاقتصاد)، وليس (السلام مقابل الأرض).

أكدّ الأمناء العامون للفصائل الفلسطينية على ذلك في مؤتمرهم المشترك المنعقد بتاريخ 10 سبتمبر 2020 في بيروت ورام الله في نفس الوقت، وجاء في مقدمة بيانهم (في هذه اللحظات المصيرية من تاريخ شعبنا، والتي تتعرض فيها قضيتكم المركزية لمخاطر التآمر والتصفية ومحاولات اختزالها في حلول معيشية، وتجريدنا من حقنا في تقرير مصيرنا، وإقامة دولتنا المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران عام 1967، والقدس المحتلة عاصمتها، كما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني، وحل قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم الذين هجروا منها على اساس القرار 194، تأتي المؤامرات والمخططات التي تقوم بها حكومة الاحتلال والإدارة الامريكية الحالية، من خلال صفقة القرن ومخططات الضم، وتمرير التطبيع المجاني الذي رفضه شعبنا بأكمله).
من يعمل ويشجع التطبيع مع الكيان الصهيوني عليه أن يتعلم الدرس الأبلغ ويستفيد من التجارب العربية السابقة، وبالأخص الاتفاقيات مع مصرعام 1978 ومع الأردن عام 1994، فماذا حققت على شتى الاصعدة، ليجري الحديث عن الفوائد الاقتصادية والتجارية والصناعية والسياحية، المتوقعة من التطبيع الجديد؟. ويمكن العودة إلى الكتابات والتقارير الصحفية العديدة التي كتبت من قبل كتاب وشخصيات أردنية وازنة، فهي تذكر ذلك وبالتفاصيل .

أما القول بأن هناك مخاطر تهدد دول المنطقة من هذا الطرف أو ذاك، فيتطلب تقوية الجبهة الداخلية لكل دولة والاعتماد على الشعوب، فهي السند والحامي لبلدانها عند الشدائد، وتجربة احتلال دولة الكويت الشقيقة من قبل نظام صدام في أغسطس 1990، ماثلة أمام الجميع، حكاماً وشعوباً، يجب تقييمها والاستفادة من تلك الأخطاء، بتعزيز الحريات العامة وتطوير التحولات الديمقراطية وترسيخ مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وهي كفيلة بتقوية الجبهة الداخلية والتصدي للتهديدات الخارجية المحدقة بأوطاننا وشعوبنا من أي جهة كانت، وحل الخلافات والإشكالات بين دول مجلس التعاون الخليجي، فكل تلك عوامل تساعد على التهدئة والاستقرار وتقوي من أواصر العلاقات الأخوية والتعاون بين الأشقاء في الخليج العربي والمنطقة وتؤدي إلى الاستقرار والأمان والتنمية في بلداننا، أما التطبيع مع الكيان الصهيوني لن يجلب الاستقرار والسلم لبلداننا وشعوبنا طالما هو مستمر في احتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية ويقف ضد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

اقرأ المزيد

السبيل لإخراج صناديق التقاعد من التعثّر

لا يختلف اثنان بأن وضع صناديق التقاعد يحتاج إلى معالجة طارئة، لانقاذها من حالة التعثر التى وصلت لها وإبعادها عن شبح الافلاس، كي لا نصل إلى فقدانها قدرتها على الإيفاء بالتزامتها، لا سمح الله، للمتقاعدين الحاليين أو من سيتقاعدون في المستقبل. فحالة اللاتوازن التى تمرّ بها ما بين الاشتراكات والمدفوعات أصبحت أمراً يقلق الجميع من المسؤولين والمهتمين بشأن العمال والموظفين وعوائلهم.
ما وصلت إليه هذه الصناديق هو نتيجة لقرارات تراكمية على مرّ السنين، أدّت إلى الحالة التى يستوجب الوقوف عندها وتحليلها تحليلاً متجرداً بعيدًا عن أية أهداف ،سوى مصلحة صناديق التقاعد، ومحاولة للبحث عن بعض الحلول والمقترحات التى قد تساعد في خروجها من الوضع المأزوم الذى وصلت إليه.
وعليه، لابد من النظر بصورة تحليلية لكل صندوق على حدة، لمعرفة وتحديد الأسباب التى أوصلته إلى هذه الوضعية المقلقة والتى تستوجب التدخل الطارىء من أصحاب القرار باتخاذ اجراءات انقاذ طارئة.
يوجد في البحرين أربعة صناديق تقاعدية هي: (صندوق التقاعد المدني، صندوق التقاعد للقطاع الخاص، صندوق التقاعد للقطاع العسكرى، وصندوق النواب والشوريين والبلديين)، ولكل صندوق منها حالته الخاصة وظروفه التى تحتاج إلى علاج بصورة مستقلة، علماً بأن صندوق التقاعد العسكري في حالة أفضل من بقية الصناديق وذلك لانضباط ادارته، وتوازن الاشتراكات والمدفوعات بعيداً عن الصناديق الأخرى.
ومنذ بداية تأسيس منظومة التقاعد تمّت هندسة مزايا التقاعد لكل صندوق بناءً على نسبة الاشتراكات التى يدفعها المؤمن عليه وأصحاب العمل، سواء كانوا جهة حكوميه أو قطاعاً خاصاً، بالإضافة إلى نسبة العوائد المتوقعة من استثمار فوائض الاشتراكات، لتكون رافداً لمعاشات التقاعد للمستقبل.
فجات نسب الاشتراكات، بحسب المشرع آنذاك، متساوية، تغطي مزايا التقاعد وتفيض جزءاً يتمّ استثماره، ليضاف إلى الحصيلة الكلية للصناديق، وبسبب التغيرات التى طرأت على الاشتراكات والمزايا في كل الصناديق حصلت حالة عدم توازن بين الاشتراكات مقابل المزايا التقاعدية التى تصرف للمتقاعدين، فأصبحت نسب الاشتراكات كالاتي :
أولاً: القطاع الخاص

• 6% من راتب العامل
• 9% من رب العمل
• المجموع 15% من مجموع الراتب

ثانياً: القطاع العام
• 6% من راتب العامل
• 15% من رب العمل
• المجموع 21% من مجموع الراتب

ثالثا: أعضاء مجلسي الشورى والنواب والمجالس البلدية

• 10% للموظف
• 20% للحكومة

راكم ذلك حتى 2019 مبالغ احتياطية للصناديق، موزعة كالتالي:
• القطاعان العام والخاص ومجالس الشورى والنواب والبلديين: 3.9 مليار تقريبا لعام 2019
• ناتج مجموع اشتراكات الصناديق مشتركة 569 مليون تقريباً.
• بالإضافة إلى متوسط عوائد بحوالي 90 مليون دينار سنوياً.
• مقابل مجموع التزامات ومعاشات الصناديق مشتركة تبلغ 568 مليون تقريباً، مما ينذر بوجود حالة عدم توازن او تطابق ما بين الاشتراكات واللاتزامات .

ففي العام 1986 تمّ تخفيض نسبة اشتراكات اصحاب العمل في القطاع الخاص لتكون 9% بدلا من 15% ، وهو ما أخلّ بميزان التعادل ما بين محصلة الاشتراكات وقيمة المزايا الممنوحة للمتقاعدين، وتسبب في خسائر كبيرة لصندوق التقاعد الخاص بلغت بالقيمة الحالية حولي 124 مليون دينار سنوايا على الأعوام الماضية. وهذا يعتبر احد اسباب الخلل التى ادت الي حالة عدم التوازن في صندوق القطاع الخاص.
ولو نظرنا بصورة سريعة لتركيبة الاستثمارات لاحتياطيات الصندايق التقاعدية ( المدني والخاص والشورى والنواب والبلديين )، سنرى بأنها تتكون من استثمارات في الأوراق النقدية والسندات تبلغ حوالي 2 مليار دينار بحرينى واستثمارات عقارية بحوالي 260 مليون دينار بحرينى، وودائع نقدية لدى البنوك 850 مليون دينار بحرينى تحقق عوائد في المتوسط لآخر خمس سنوات بنسبة 2.7% على جميع الاستثمارات التى تتكون من جزئين: (استثمارات قام بها الفريق المختص بالشركة التابعة للتقاعد، شركة أصول، بعد الدراسة والتمحيص الحرفي بلغت نسبة عوائده خلال الخمس سنوات الماضية 7.8% ، بالإضافة إلى استثمارات موجهة لأسباب أخرى، قدّمت على سبل دعم لوجستى أو انقاذ لمؤسسات مالية لأهداف وطنية، لا تحقق العوائد المرجوة أسوة بالاستثمارات الأخرى) أدت إلى متوسط عوائد بحوالي 90 مليون سنوياً، كان أسوأها عام 2018 حين انخفضت الأرباح لتصل إلى 54 مليون .
فلقد باتت واضحة حالة اللا توازن منذ العام 2015 وتضاعفت بصورة دراماتيكية في عامي 2018 و 2019 وذكل جراء إغلاق وتحويل صندوق تقاعد الشورى والنواب والبلديين على صندوق التقاعد بكافة مستحقاته التى تدفع إلى 297 عضو بتكلفة سنوية تبلغ 5.7 مليون دينارسنوياً، دون أي اشتراكات تدفع من المؤمن عليهم والتى كانت تبلغ في السنة 2 مليون دينار تقريباً، بالإضافة إلى طرح برنامج التقاعد الإختياري لموظفي الحكومة الذى خرج ضمنه 8203 موظف بلغت تكلفة معاشاتهم السنوية 62 مليون دينار، وتكلفة مكافأة نهاية الخدمة 99 مليون دينار، وتمت إضافة خمس سنوات فرضية لحسابتهم بتكلفة دفترية نبلغ حوالي 500 مليون دينار. رفعت معاشاتهم التقاعدية بنسبة 20% .
وفي الجهة الأخرى خفضت الاشتراكات التى كانوا يدفعونها بمبلغ 108 مليون سنوياً، الأمر الذي خلق سابقة لم تعهدها الصناديق طول الفترة السابقة. فوصل النقص بين الاشتراكات والمدفوعات بنسبه 10% بين كل الصناديق، فكان نصيب الصندوق المدني عجز في التوازن بين الاشتراكات والمدفوعات 9% وعجز بين صندوق القطاع الخاص 1% . وهذا نتيجة عجز اكتواري يساوي 14 مليار بحسب الدراسة الاكتوارية التى أعدّت لمدة 50 سنه قادمه حتى عام 2068.
قدّمت إدارة التامينات حزمة اصلاحات طارئة حملت المزايا التقاعدية تكلفة الإصلاح، فأوقفت الزيادة السنوية التى كانت تدفع للمتقاعدين بنسبة 3% سنوياً، محسوبة على الراتب التقاعدي لتغطية تكلفة التضخم في تكلفة المعيشة. كما منعت الجمع بين المعاشات للمتقاعدين، ومنعت، أيضاً، الجمع بين الراتب والمعاش لمن يعمل ويتقاضى معاشاً تقاعدياً، وأمرت بدمج الصناديق بهدف تقليل التكلفة التشغيلية.
وكان متوقعاً أن تلامس الإصلاحات أسباب العجز الفعلية، التىأاوصلت الصناديق لحالة عدم التوازن وهي:
– تغطية معاشات صندوق الشوري والنواب والبلديين .
– تصحيح وضعية اشتراكات ارباب العمل بالنسبة للقطاع الخاص واعادتها للنسبة الأصلية، وهي 15%
تغطية تكلفة شراء سنوات اعتبارية لبرنامج التقاعد الاختياري لموظفي الحكومة.
– احتساب فوائد حقيقية على الاستثمارات التى قدّمت لدمع بعض المؤسسات أو استرجاعها حين موعدها.
– اعادة النظر في التكلفة التشغيلية التى قفزت بنسبه 130% عما كانت عليه قبل العام 2015 .
– الاستخدام الأمثل للأصول الثابتة للصناديق وتشغيلها بصورة فاعلة، فيجب ترك المبنى المؤجر والعودة إلى المباني المملوكة للصناديق.
– اعادة تشكيلة المحفظة الاستثمارية، وإعطاء مساحة أكبر لفريق الاستثمار للبحث عن استثمارات مجزية بدلاً من الودائع الثابتة ذات المردد الضعيف مقارنة بالفرص الاستثمارية الأخرى.
– تطوير الاستمثار في العقار المملوك للهيئة بدلاً من ترك الأراضي بيضا دون مردود.
– وضع دراسة اكتوارية شاملة تعطي ابعاداً مدروسة لكل قرار وعوائده المتوقعة على الصناديق، ورسم خطة واضحة تبين المدد الزمنية المتوقعة من كل تغيير.

اقرأ المزيد

المسكوت عنه رسمياً حول أعداد العمالة غير المنظمة

يتفق الجميع على أن العمالة غير المنظمة فى حدّ ذاتها، هى ظاهرة عالمية الطابع، وتعانى منها الدول المتقدمة مثلما تأن من وطأتها الدول النامية، وهي ليست وليدة اليوم، إلا أن تقدّم وتطور البشرية، الذي بدأ مع الثورة الصناعية ساهم في تغيير نمط الحياة وفق متطلبات المرحلة عند انشاء المصانع بما تحتويه من عمالة منتظمة فيها، مما أضفى على جميع جوانب الحياة صفة التنظيم وعلى جميع الصعد الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الأنشطة الانسانية، مع بقاء هذه الظاهرة بدرجات متفاوتة بين بلد وآخر لعدة عوامل.
فوفق تعريف منظمة العمل الدولية؛ يضم الاقتصاد غير المنظم كل الأنشطة الاقتصادية للعاملين، وكذلك الوحدات الاقتصادية التي لا تشملها الإجراءات الرسمية ومقتضياتها التنظيمية والتشريعية، وبذلك فإن فئة العاملين في هذه القطاعات والأنشطة لا تشملها القوانين، أو لأن القوانين التي من المفترض أن تحميهم غير مطبقة.
وينتج من هذا التعريف أن الاقتصاد غير النظامي أو (غير المنظم ويسمى أيضاً غير المهيكل أو غير الرسمي) يفتقر إلى الآلية التنظيمية، وبذلك ينعدم فيه تطبيق ما تنصّ عليه قوانين العمل والحماية الاجتماعية وغيرها من القوانين، بما فيها افتقار العاملين فيه لحقهم في التنظيم النقابي.
وبالمقاربة الحقوقية للموضوع، لمفهوم “العمل غير المنظم” وما ينتح عنه من صعوبة، إذا لم نقل انعدام امكانية تحقيق شروط العمل اللائق، والتي تتطلب ضمان التحقق من العديد من الحقوق الأساسية في العمل وتتمثل في أوجه المعاناة التالية للمصنفين تحته:
o عدم خضوعهم للقانون أو في الممارسة.
o لا يتمتعون بالحماية الاجتماعية (التأمين الاجتماعي – تعويضات التعطل)
o ساعات عمل غير محددة ولا يتحصلون على إجازة السنوية أو مرضية مدفوعة الأجر.
o أجور خارج سلم الأجور المعتمدة أو المحددة.
o أصحاب عمل غير محددين ومواقع عمل غير محددة وبدون عقد عمل.
o افتقادهم للإخطار المسبق بالفصل من العمل، أو تعويضات الفصل عن العمل.
o لا معايير واضحة لتعريف الوظائف والمهن.
o وغالباً ما تنتشر بينهم الوظائف المؤقتة، أو الوظائف ذات المدة القصيرة والمحددة؛ والغالب منها خارج بيانات العمل الوطنية أو أنها تساهم في التضليل عليها.

وقد شهدت هذه العمالة طفرة في أعدادها، وذلك بسبب سياسات العمل المتوافقة مع توجيهات المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي)، والتي تقوم على أساس إنهاء تدّخل الدولة لتقنين سوق العمل، أو كما تطلق عليه ( تفعيل مرونة سوق العمل) عن طريق إزالة هذه القيود، بتغيير قوانين العمل تحت ذريعة إستقطاب مزيد من الاستثمارات الخاصة، ولتحسين التنافسية للرفع من قدرة الاقتصاد، ومن أجل تقليص تكاليف التشغيل ويتضمن تسهيل عمليات التوظيف والتسريح، ورفع القيود عن العمل بعقود محددة الأجل، وإعطاء أصحاب الشركات حرية أكبر لتحديد ساعات العمل. هذا عدا عن خصخصة القطاع العام، خاصة في القطاعات الخدمية (كهرباء – صحة – تعليم – مواصلات .. وغيرها).
ويؤكد صندوق النقد الدولي على أن مرونة سوق العمل يعدّ عاملًا أساسياً في قياس سهولة ممارسة أنشطة الأعمال التي يعتبرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مدخلًا أساسياً لتحرير طاقات القطاع الخاص، خصوصاً ما يتعلق بتوظيف العاملين، وفصلهم من الخدمة بسبب “التوظيف المفرط” وبذلك يتم تخفيض تكلفة الفصل.
ودائماً ما تكون وصفة هذه المؤسسات لجميع الدول لمواجهة أزماتها الاقتصادية ضمن حزمة الشروط للحصول على القروض المطلوبة وتترافق مع:
• تجميد أو خفض التوظيف في القطاع العام
• إخراج أعداد كبيرة من العملية الانتاجية لسياسات الخصخصة في القطاع العام والقطاع الخاص.
• عدم إستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل من المواطنين.
• توفير العمالة من مقاولين الباطن.
• مزيد من تسهيلات جلب عمالة وافدة متدنية الاجور.
• غياب وإفتقار شبه تام للعديد من الحقوق لقطاع كبير من أعداد القوى العاملة.
وأدى تراجع العمل الرسمي المهيكل أو المنظم الى نتائج تجلت في:
• تنامي أعداد العمالة غير النظامية وبعدة أوجه في ما بين العمالة الوافدة (السائبة وحاملي الترخيص المرن)، وذلك لعدة أسباب من ضمنها المتاجرة بالتأشيرات أضف اليه ما ينتج عن تعثر بعض اصحاب الاعمال مما يؤدي الى عجزهم من دفع مستحقات عمالهم خاصة حق مكافأة نهاية الخدمة، التي تتراكم على صاحب العمل، نتيجة لعدم خضوع هذه العمالة لمظلة التأمين الاجتماعي، مما يؤدي إلى تهريب هذه العمالة إلى السوق كعمالة سائبة والتي عالجتها الجهات التنفيذية بالتصريح المرن.
• ندرة فرص العمل وإنعدامها في العديد من التخصصات مما أدى إلى بطالة لأعداد كبيرة من العمالة الوطنية ولسنوات طويلة، حيث توجهوا إلى هذه الأعمال وخاصة في صفوف النساء.
• إنسحاب الدولة من مسؤوليتها المجتمعية في عدة مجالات ومن ضمنها مسؤوليتها في كفالة الحق في العمل بتقديم مشاريع هشة تعتمد على مثل هذه العمالة وتنتقص العديد من الحقوق، ومن الأمثلة عليها (العاملات في حياكة الصوف، أو الرائدات الاجتماعيات وكذلك العاملين في مشروع المنزل المنتج .. وغيرها).
• تنامي العمل غير المهيكل.
• تراجع في منظومة التنظيم العمالي كنقابات.
وهنا يبرز سؤال عن الحجم الحقيقي لأعداد هذه العمالة والقطاعات التي تعمل فيها في البحرين:
لغياب الإحصائيات الرسمية ولإفتقارنا إلى مراكز الدراسات المستقلة، ولتداخل بعض الإعتبارات لدى المسؤولين في الجهات التنفيذية بتجاهل أو عدم الإعتراف بهذه الظاهرة أو التقليل منها، سنستقي مما يرشح من بعض التصريحات والإعلانات الرسمية، ومن خلال هذه التصريحات نقدرها كالأتي:
في صفوف العمالة الوافدة هناك ما يقارب 30 ألف من حملة الترخيص المرن، إضافة إلى ما يزيد على 50 ألف من العمالة السائبة ايضاً (بما مجموعه أكثر من 80 ألف عامل) من العمالة الوافدة.
بالنسبة للبحرينين، حاولت أن استنبط بعض الأرقام من التصريحات وبعض الإحصائيات الرسمية.
فوزير العمل يذكر في منشور على موقع الوزارة الإلكتروني عن أعداد ونسبة البطالة في عام 2018 أن إجمالي عدد القوى العاملة الوطنية هو 197123 بينهم 8399 عاطل عن العمل، وبمقارنتها بإحصائيات هيئة التأمين الاجتماعي من المواطنين التي تبين أن أعداد المشتركين في هيئة التأمين الاجتماعي في نفس الفترة ما مجموعه 147458 مشترك بحريني يتضح عندنا أن عدد غير المؤمن عليهم 41266 وبنسبة يقارب الـ22% بين العمالة الوطنية، وهم من أشار إليهم الوزير من العاملين كسواق وأصحاب مهن .. الخ، اي ممن يعدّون عمالة غير منظمة.

وبذلك يمكن القول إن أكثر من خمس العمالة الوطنية تعمل في هذا القطاع، علاوة على ما يقارب 16% من العمالة الوافدة وبمعدل إجمالي يفوق 17.5% .

اقرأ المزيد

تقييد المناقشة العامة – تضييق جديد على الدور الرقابي لمجلس النواب

البرلمان كما يقول فقهاء القانون العام هو قبل كل شيء جمعية مراقبين، مهمته الأولى – وربما الأكثر أهمية من التصويت على القوانين – هي مراقبة الحكومة عن طريق طرح موضوع عام للمناقشة وتوجيه الأسئلة والاستجوابات وسحب الثقة، وتشكيل لجان التحقيق ومناقشة الميزانية وإجبار الحكومة على تبرير تصرفاتها وقراراتها أمام الناس (أنظر في ذلك الدكتور عثمان عبد الملك الصالح الرقابة البرلمانية على أعمال الإدارة في الكويت، مجلة الحقوق والشريعة – جامعة الكويت – العدد الرابع السنة الخامسة ديسمبر 1981).
وقد أقرّ دستور مملكة البحرين 2002 شأنه في ذلك شأن دستور1973 مبدأ إخضاع أعمال الحكومة للرقابة البرلمانية، إلا أن دستور 2002 رغم انه قد انتقص من وسائل هذه الرقابة بأن ألغى بعضها، وقلّص من صلاحيات بعضها الآخر، إلا أن هذه الوسائل ظلت في هذا الدستور أدوات هامة بيد أعضاء مجلس النواب لمراقبة الحكومة متى ما استخدمت استخداماً فعالاً، ومتى ما ألغيت القيود التي وضعتها اللائحة الداخلية عليها، ومتى ما وجد النائب الذي يتقن فن استعمالها.
غير أن قراءة تجربة أعمال مجلس النواب الجديدة التي بدأت في ظل المشروع الإصلاحي منذ الفصل التشريعي الأول في ديسمبر 2002 وحتى دوري الانعقاد الأول والثاني من الفصل التشريعي الخامس الراهن 2020، تكشف أن الحكومة رغم القيود التي وضعتها على وسائل الرقابة البرلمانية كانت وما تزال تخشاها، وظلّت الحكومة على مدار عمر هذه التجربة تضع من القيود الجديدة على هذه الوسائل.
ولعل أحدثها ما قامت به مؤخرا في ديسمبر 2020 بإصدار مرسوم بقانون رقم (26) لسنة 2020 بتعديل المادة (173) من المرسوم بقانون رقم (54) لسنة 2002 بشأن اللائحة الداخلية لمجلس النواب ودون ان تكون هناك تدابير لا تحتمل التأخير، فنصّ هذا التعديل على قيود جديدة بشأن طلب المناقشة العامة أقلّ ما يقال عنها أنها أفرغت المناقشة العامة من محتواها ومن الغاية التي شرعت لأجلها، حين نص التعديل على أنه:
• لا يجوز لأكثر من عشرة أعضاء الاشتراك في المناقشة العامة.
• و يجب ألا تزيد مدة المناقشة لأي عضو على خمس دقائق.
• ولا يجوز أن تتضمن المناقشة توجيه النقد أو اللوم أو الاتهام، أو أن تتضمن أقوالاً تخالف الدستور أو القانون أو تشكل مساساً بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضراراً بالمصلحة العليا للبلاد.
المقصود بالمناقشة العامة
يقصد بطرح موضوع عام للمناقشة هو طرح موضوع له أهمية عامة للمناقشة داخل البرلمان، يشترك فيها جميع أعضائه بقصد استيضاح سياسة الحكومة حول هذا الموضوع، وتبادل الرأي بشأنه، ويعدّ من الأساليب الرقابية الهادئة التي تهدف إلى إجراء حوار بين البرلمان والحكومة حول موضوع له أهمية معينة؛ بقصد الوصول إلى حلٍ يتفق عليه الطرفان، ولذلك فإن البعض يعدّه من قبيل تبادل الرأي والتعاون بين البرلمان والحكومة من أجل تحقيق المصلحة (أنظر د. يحيى الجمل. النظام الدستوري في جمهورية مصر، التوكيلات التجارية العالمية، 1974، ص 226).
ما مدى انسجام التعديلات مع خصائص المناقشة العامة؟
إذا كانت المناقشة العامة كوسيلة من وسائل الرقابة البرلمانية تحمل هذا المعنى، فما مدى انسجام وتوافق التعديل الذي أجراه المشرع على المادة (173) من المرسوم بقانون رقم (54) لسنة 2002 بشأن اللائحة الداخلية لمجلس النواب مع الخصائص التي تمتاز بها وسيلة طرح موضوع عام للمناقشة ؟؟
التعديلات تتعارض مع خاصية عمومية المناقشة العامة

أن من اهم وابرز خصائص المناقشة العامة التي أوجدها الفقه والقانون الدستوريين، أنها وسيلة جماعية وأن المناقشة فيها يتعين تكون عامة، وأن الأساس الجوهري التي تقوم عليه وتمتاز به وسيلة طلب طرح موضوع عام للمناقشة العامة كوسيلة من وسائل الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة هي ان تكون المناقشة عامة بمعنى أن يشارك فيها جميع أعضاء المجلس النيابي أو على الأقل الراغب منهم، وذلك باعتبارها وسيلة جماعية وليست فردية بنص الدستور في مادته ( 68 / البند ب) التي تستلزم أن يتوافر في طلب طرح المناقشة العامة عدد موقع من خمسة أعضاء على الأقل .

وبناء عليه وهديا به فإن ما أجراه المشرع من تعديلات على نص المادة (173) من اللائحة الداخلية لمجلس النواب بتحديد عدد عشرة أعضاء فقط للاشتراك في المناقشة العامة يخالف ويناقض الأساس الذي يقوم عليه طلب طرح موضوع عام للمناقشة العامة، وهو عمومية المناقشة، أي حق من يريد من أعضاء مجلس النواب في المناقشة دون تقييد ذلك بعدد معين.

غير أن هذا الرأي يصطدم بما فسرته المذكرة التفسيرية للمادة (68 / البند ب) من تفسير ملتوٍ يخالف ما استقر عليه الفقه الدستوري وما تسير عليه معظم الدول في دساتيرها حين نصّت على أن تنظيم طرح موضوع عام للمناقشة العامة سيخضع (وفقاً للإجراءات التي ستنص عليها اللائحة الداخلية للمجلس وخاصة تحديد عدد من يشترك في المناقشة).
إذ يعدّ وفقا لتفسير المذكرة التفسيرية المذكورأن تعديل اللائحة الداخلية بتقييد عدد المشاركين في المناقشة العامة لا شبهة فيه من الناحية الدستورية باعتبار أن للمذكرة التفسيرية قوة إلزام مساوية لنصوص الدستور.
لا جدوى من المناقشة دون توجيه النقد واللوم
إذا كان من المقبول أن يحدد التعديل وقتا للمناقشة مدته خمس دقائق لكل عضو من الأعضاء العشرة، وإذا كان صحيحاً أن ينص التعديل على عدم إجازة توجيه الإتهام في المناقشة العامة – لأن هذه الوسيلة لا تهدف إلى توجيه الاتهام للوزير بهدف تحريك مسؤوليته السياسية كما هو الحال في الاستجواب ،بل تهدف إلى الوصول إلى حلٍ بإصلاح الوضع أو المشكلة محل موضوع المناقشة بالتعاون بين البرلمان والحكومة -.
غير أنه ليس من المقبول على الاطلاق أن يشتمل التعديل على عدم إجازة توجيه النقد أو اللوم إلى الوازرة المعنية عند مناقشة موضوع عام يتعلق بها، فلن يكون لمناقشة الموضوع العام أي جدوى ولن يحقق الهدف منه دون نقد أو لوم، وسيكون النقاش فيه مضيعة للوقت، فلا إصلاح للمشكلة دون انتقاد.

اقرأ المزيد

قراءة في واقع الحركة النقابية البحرينية – 5

العمل في صفوف الحركة النقابية جوهر النضال العمالي اليومي، تحت القيادات والكوادر العمالية التي يمتلك أفرادها الوعي الحقيقي والحس الوطني، وثقافة الدفاع عن مصالح سائر الشغيلة بعيداً عن الاصطفاف الفئوي والطائفي.
هذا ما عرفناه من خلال تجاربنا وقراءتنا لتاريخ الحركة العمالية والنقابية العربية والعالمية، وكيف توكل المهام للقيادات العمالية كي تضع الأهداف المرحلية والاستراتيجية لنضال الكادحين من أجل حياة كريمة تسودها أسس العدالة الاجتماعية والتحرير من صنوف القهر والاستعباد.
كما أن جماهير الكادحين تلتفت عادة حول القيادات العمالية والنقابية الصادقة، التي يمكن أن تتعرض في غمرة نضالها لأنواع التعسف من قبل المعارضين للأنشطة العمالية والنقابية حسب مواقفهم الاجتماعية والسياسية، ممن لهم مصالح في تحجيم دور الانشطة العمالية.
وهنا يمكن أن نشير إلى البيان التضامني الذي صدر من قبل القيادات النقابية في التيار المستقل بتاريخ 26/7/2020 مع النقابي السيد مجيد الحليبي رئيس نقابة شركة جرامكو والذي تعرض للمضايقات وتمّ منعه من دخول الشركة، فقد حظي هذا البيان بدعم و تأييد شرائح واسعة في وسط المجتمع المدني والسياسي مما ساهم في حل المشكلة.
نحن كنشطاء في الحراك النقابي والعمالي الوطني عبر المنبر التقدمي نطالب دوما بحماية النشطاء النقابيين ليلعبوا الأدوار المشرفة في الدفاع عن مصالح العمال، وأن لا تطبق الشركات أجندة القوى المعادية للتحركات المشرفة للقيادات النقابية المستقلة، ونحن ندرك جيداً ان من استحوذ على القرار النقابي في البحرين جراء أوضاع مختلفة وخصوصا بعد احداث 2011 قد تقاسموا المنافع والمناصب، وهم يسعون اليوم لعرقلة أنشطة النقابات المستقلة التي تطالب بالتغيير والتطوير وجعل النقابات في البحرين فاعلة بعيدا عن الجمود والمصالح الشخصية.
ان خط التغيير والتجديد والاصلاح حتما سوف يصطدم بعقبات مختلفة، كالمفتعلة للحد من شاط القيادات النقابية الرافضة لما يجري في وسط الاتحادات النقابية في البحرين، مما يتطلب العمل الواعي، والإيمان بأهمية العمل الجماعي في الساحة النقابية.
من اجل المقارنة المهمة ولمعرفة الدروس، وأن لا تكون الحركة النقابية تحت سيطرة قوى فئوية وطائفية تعتقد أن هي من أسست وأدارت الحركة العمالية في البحرين، قررت أن استعرض في الحلقات القادمة محطات مضيئة من نضال الطبقة العاملة في بلادنا،على مدار عقود مختلفة خصوصا النضال العمالي في ظل هيمنة الاستعمار البريطاني على البحرين، وما بعد الاستقلال الوطني وسن دستور عام 1973 وما تلاه من أحداث في الهجمة الشرسة على الديمقراطية وسن قانون أمن الدولة، وتعرض الحركة العمالية والنقابية والوطنية للقمع مرورا باعتقالات 1986، لنُعرّف بدور القوى التقدمية في تأسييس الحركة العمالية والنقابية وتطويرها.

اقرأ المزيد