المنشور

على شفا الموت

شهدت الفترة خلال عامي 2006 – 2008 حوادث مرورية راح ضحيتها عمال يتمّ نقلهم في مركبات غير ملائمة، حسبما أوضح مدير إدارة التراخيص بالإدارة العامة للمرور حينها ‬بينت الإحصاءات المرورية خلال تلك الفترة ‬ تزايد الإصابات والوفيات إثر حوادث شاحنات نقل العمال‮ (‬السكسويل‮). ‬‬
هذا الأمر دعا وزير الداخلية حينها لإصدار القرار القرار رقم‮ (٣٥) ‬لسنة ‮٨٠٠٢، والذي نصّ على أنه “لا‮ ‬يجوز نقل الركاب في‮ ‬أية مركبة ليس بها أماكن معدّة للجلوس من المصنع المنتج للمركبة تتوفر فيها مواصفات السلامة،‮ ‬ولا‮ ‬يسمح بوجود ركاب أو أشخاص في‮ ‬الأماكن المخصصة للحمولة بمركبات النقل على اختلاف أنواعها، ويعمل به اعتباراً‮ ‬من أول‮ ‬يناير ‮٩٠٠٢”. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قرار منع نقل العمال في المركبات غير المخصصة لذلك كان ثمنه أرواح أولئك العمال التي زهقت حتى لا يتحمل صاحب العمل عبء تخصيص مركبة ملائمة لنقلهم من مقار سكنهم لمواقع العمل. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
اليوم وبعد أكثر من 10 أعوام على ذلك القرار، يحصد الموت أرواح 4 عمال في حادثتين منفصلتين وفي أقل من شهر، بسبب غياب الإجراءات الرادعة، الحادث الأول راح ضحيته أحد عمال البناء الذي سقط من مبنى قيد الإنشاء ولقي حفته في الحال، فيما الحادث الآخر الأكثر تداولاً كان وفاة 3 عمال حينما كانوا يهموّن بصيانة إحدى قنوات الصرف الصحي، فيما استطاع الدفاع المدني انقاذ زميلهم الرابع من براثن الموت.
النقابي المخضرم وعضو ومجلس النواب عن كتلة “تقدم” سيد فلاح هاشم قال في تصريح له إن: “التشريعات والقرارات المعنية بالصحة والسلامة المهنية ستبقى حبراً على ورق وستؤدى إلى مزيد من الضحايا بين العمال ومزيد من الألم لأهاليهم، إذا لم يتمّ تنفيذها ومراقبة ذلك بجدية”. مشيراً إلى أن: “مملكة البحرين سبق لها وأن صادقت على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (155) لسنة 1981 بشأن السلامة والصحة المهنية وبيئة العمل بالموافقة عليها عبر قانون رقم (25) لسنة 2009، كما وأصدرت قرارات وزارية تنفيذية معنية بالصحة والسلامة المهنية، تتوافق بدرجة كبيرة مع المعايير الدولية، منها القرار رقم 8 لسنة 2013 بشأن تنظيم السلامة والصحة المهنية في المنشآت، وما نصّ عليه من تشكيل لجان مشتركة في جميع مواقع ومنشآت العمل”.

وأرجع هاشم ضعف الرقابة على تنفيذ وتطبيق ما تنص عليه من إجراءات وتراخ ٍ مستمر في المتابعة من الجهات التنفيذية، إلى “قلة العامل البشري في وزارة العمل المعني بمتابعة هذا الموضوع، وعدم تشكيل اللجان المعنية بالسلامة والصحة المهنية في معظم المنشآت والمواقع العمالية”.

العمال هم الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، وعليه فإن أراوحهم ستقبى على شفا الموت حينما لا ينظر إلى تفعيل تنفيذ التشريعات والقرارات الخاصة بالسلامة والصحة المهنية وبيئة العمل، بجدية وإلتزام أخلاقي أولاً وأخيراً.

اقرأ المزيد

تقارير ديوان الرقابة.. بين الحكومة والنواب

لا أستطيع أن أزعم أنني قرأت كافة التفاصيل الواردة في التقرير الأخير لديوان الرقابية المالية والإدارية (2019-2020)، والذي يحوي بين دفتيه ما مجموعه 322 صفحة، تُوّثق ما عوّدنا عليه الديوان منذ تقريره الأول وحتى الآن من حرفية ومهنية لا يرقى لهما الشك، ولو أن التقرير الآخير ربما يكون على جانب كبير من الوضوح والتسلسل في طرح جوهر الملاحظات بدلا من الاسترسال في التفاصيل التي ربما اضاعت الكثير من المضامين المهمة في التقارير السابقة، وذلك ما يحسب للتوجهات المعلنة كما جاء في مقدمة التقرير لمباشرة ومتابعة أعماله ضمن استرتيجية ومنهجية عمل جديدتين.
ومن المهم هنا التأكيد على أن الديوان يسترشد، بحسب ما جاء في المقدمة، بالمفهوم العالمي للقيمة المضافة المتبع لدى مختلف الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وذلك بحسب معايير “الانتوساي” (إن القيمة المضافة والهدف الأسمى لمختلف اجهزة الرقابة والمحاسبة هو إحداث الفارق في حياة المواطنين، وذلك من خلال تحسين أداء الجهات الحكومية وتعزيز عوامل الثقة والشفافية)، وهذا بطبيعة الحال هو جلّ ما نطمح إليه كمواطنين وجهات أهلية في الحفاظ على موارد الدولة وماليتها وممتلكاتها.
لن أدخل في الكثير من تفاصيل التقرير الذي نحن بصدد مناقشة حيثياته، والأرقام والميزانيات، فهي كثيرة ومتكررة بكل أسف على مدى قرابة العقدين، لكنني سأكتفي بطرح السؤال الجوهري الذي يطرحه رجل الشارع العادي ويتم تداوله في المجالس والمنتديات كاستجابة تلقائية لما يحدثه الإصدار السنوي لتقارير الديوان وهو.. ماذا بعد؟! وما الذي سيفعله مجلس النواب باعتباره جهة رقابية وتشريعية تجاه ما يطرحه التقرير…؟!
تلك التساؤلات مشروعة تماماً، ومن المهم التركيز عليها وعدم تجاهلها سواء من السلطة التشريعية او من الحكومة ذاتها، باعتبار الأخيرة تحديداً مسؤولة مسؤولية مباشرة عن سرعة تصحيح جملة الأوضاع المعوجة والمخالفات والتجاوزات المالية والإدارية، التزاما منها على ما دأبت على طرحه باستمرار، من أن الحفاظ على المال العام وحماية ممتلكات الدولة والشفافية حيالها أولوية قصوى أمام السلطة التنفيذية!
نحن أمام تقرير جديد في سلسلة تقارير تعمدّ الدولة مباشرة بعد تقديم نسخ منه لجلالة الملك والسلطتين التنفيذية والتشريعية لتشكيل – لجنة – لتدارس ما جاء في تلك التقارير، ثم سرعان ما تنتهي تلك الإحتفالية دون أن نسمع جديداً عن الإجراءات المتخذة عملياً، لتصحيح الأوضاع، أو تقديم المتجاوزين والمتلاعبين مالياً وإداريا، ومهما كان موقعهم وحجمهم للمساءلة، فالدستور الذي نحترمه ونقسم على احترامه يؤكد أن للأموال العام حرمة يجب الحفاظ عليها (..).
في التقرير الأخير هناك وجوه متكررة من التلاعب والتسيّب مالياً وإداريا، ما يكفي لتغييرات جذرية وجوهرية في هياكل وزارات وجهات حكومية عديدة، على الرغم من أن التقرير الأخير يقول في مقدمته إن نسبة ما تمّ انجازه من تنفيذ لتوصيات التقرير السابق قد بلغت 80% ، وهي نسبة جيدة جدا بطبيعة الحال، لكننا حتماً لا نفهم إصرار وزارات وجهات عديدة، عاماً بعد آخر، على تكرار ذات التجاوزات والمخالفات للوائح المالية والإدارية دون أن يرفّ للمسؤولين فيها جفن، ودون وجود اجراءات إدارية رادعة.
هناك مخالفات في تحصيل عشرات الملايين من أموال الدولة، وهناك توظيف خارج القانون، وعلى حساب الكفاءة والكم لأجانب على الرغم من توجهات الدولة المعلنة بإحلال البحرينيين، وهناك تجاوز مستمر لقانون المناقصات، وتحايل والتفاف لعدد كبير من الجهات على لوائح إرساء العقود والمناقصات، وهناك تجديد لعقود خارجية وداخلية لموردين دون الرجوع لمجلس المناقصات (وهذا احتيال واضح ومتكرر ويحدث عن عمد وتقصّد لوزارات يتزايد عددها عاما بعد آخر)، وهناك تجاوزات متكررة للمادة (32) من قانون الميزانية والتي لا تسمح لأية وزارة أو جهة حكومية ب زيادة مصروفاتها المعتمدة إلا بقانون!
وهناك تجاوز متعمد لضوابط عمل الساعات الإضافية في جهات حكومية عديدة، وهذا يفهم منه التنفيع على حساب حرمة المال العام، وهناك وزارات تدفع نقداً ايجارات السكن لموظفيها الأجانب في وقت توفر لهم سكن خاص في مبان تؤجر بالملايين…الخ
وأمام هذا المشهد تبقى اسئلتنا تبحث عن اجابات عاجلة، ونحن نجهد من أجل تحقيق التوازن المالي المطلوب، ولكي نكون أكثر إقناعاً أمام المواطن البسيط، الذي بات يلهث لضمان مكتسباته المهددة فعلياً، في وقت يطالب مشروع الميزانية المعروض للمناقشة على السلطة التشريعية بزيادة “الإيرادات غير النفطية”، أي الضرائب تحديداً، وأي ضرائب؟!
أليس مطلوباً أن تقوم السلطة التشريعية بدور أكبر خلال الفترة القادمة لتحقيق المساءلة عن تلك التجاوزات والتعدي على المال العام توفيراً لمئات الملايين المضيعة التي نحن في أمس الحاجة اليها؟! أليس مطلوباً أن ترينا الحكومة بقيادتها الجديدة الشابة خطوات أكثر حسماً، لحماية المال العام وممتلكات الدولة، والتفكير بأساليب مبتكرة لضبط موارد الدولة ومحاسبة المتجاوزين علنا وبما يسمح به القانون، حتى نحقق الغاية من وجود تقارير سنوية للرقابة وسلطة تشريعية ورقابية ينتظر منا الكثير في زمن صعب وظروف قاسية كالتي نعيش؟!

اقرأ المزيد

من السبعين إلى التسعين

لم تكن امي حين بلغت السبعين من عمرها واهنة أو ضعيفة، بل سيدة نحيفة، خفيفة الوزن وسريعة الحركة، تنتقل كالفراشة بين الغرف والأحواش، تصعد أدراج بيتنا القديم وتهبط بسرعة قياسية، ولم تكن تعاني أي مرض من أمراض الشيخوخة، فلا ضغط دم ولا سكر ولا هشاشة جسدية أو ذهنية، حتى النظارة الطبية لم ترتدها إلا في منتصف الستينات من عمرها ومن أجل الخياطة فقط.
كان أول قرار اتخذته العائلة بشأن امي في هذه المرحلة الزمنية هو إيجاد دور جديد لها ونقلها إلى بيت آخر بتصميم عصري، بيت يناسبها ويناسبنا نحن أيضا حيث سنقضي في هذا البيت أياماً وأوقاتاً كثيرة، ادماج أمي في حياتنا قرار تشاركناه معا، نحن الأبناء الاربعة عشر، فليست امي هي تلك الشخصية السهلة المستسلمة لعمرها أو القانعة والراضية بقدرها الجديد المحدود، ولا نحن قادرون على الإستغناء عنها أو منحها مساحة صغيرة أو هامشية في حياتنا، وهي المرأة الاستثنائية الجبارة التي أنشأت وادارت عائلة كبيرة وحدها دون معين، ولقد بذلت أمي كل ما بوسعها، بل وناضلت من أجل هذا الإدماج، أي أن نكون جزءاً من حياتها، وتكون هي جزءا من حياتنا، تلك كانت رؤية أمي، وقد تحقق لها ما أرادت وما تمنت وما سعت من أجله.
في العام 2003 حين دخلت بيتها الجديد، كان الأبناء جميعا قد تزوجوا واستقروا في حيواتهم الجديدة، وكانت أمي تخطو نحو الخامسة والسبعين، لكنها، هنا في هذا البيت، بدت كامرأة جديدة ومتفرغة لهواياتها وصداقاتها ومشاريعها وضيوفها وأبناءها وأحفادها، وفي نسج علاقات جديدة ومختلفة وتبادلية مع كل فرد في أسرتها الكبيرة، وكانت تفاجئنا بل وتتفوق علينا في حيويتها وأفكارها وفي توقها الدائم للتغيير وعدم استكانتها للجمود، احتفلنا معها بأفراحنا وانجازاتنا وتشاركنا امنياتنا وطموحاتنا، وكانت هي في قلب هذه المناسبات من زواج وولادات وأعياد ميلاد ومشاريع عمل وسفر.
سافرت أمي مع أغلب ابناءها اثناء مرحلة تلقي تعليمهم العالي في الخارج، مصر والهند وبريطانيا وأمريكا. ثم سافرت معنا لاحقاً في رحلاتنا السياحية إلى سوريا ولبنان والقاهرة ودول الخليج وتركيا وإيران، ثم اخذناها إلى رحلات استجمام وعلاج إلى الأردن وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ولبنان، ثم رافقت اختي الصغيرة في رحلة ولادة ابنها البكر في أمريكا، وتلك كانت رحلة طويلة ومرهقة لامرأة في منتصف السبعين من عمرها، بيد أن إصرارها على التواجد معنا في أهم الأيام وأصعبها يشي برغبتها الشديدة في عدم الانفصال عنا، وبعشقها لمواجهة الصعاب وحب المغامرة والتجربة واختبار اقصى درجات التحمل والصبر.
ذات مرة لقيت صعوبات عديدة في إحدى رحلاتها فظلّت تردد “يفترض بامرأة في عمري ان تكون مستقرة في بيتها لكني أصارع الدنيا عنوة وغصباً عني وعنها”.
تغلغلت أمي في أدق تفاصيل حياتنا. كان بيتنا في النعيم في وسط المنامة محطة عبور أساسية لنا جميعا بعد رحيلنا وانتقالنا منه، وكان هو “المطعم” أو “المضيف” لموظفي المنامة من أبناءها وأحفادها لاحقاً والذين يفدون اليها من مقار أعمالهم في العاصمة ظهراً وعصراً ومساءاً، أما بيتها التالي في “أبو صيبع”، فقد توسط أغلب بيوت أبناءها، وهي التي باركت اختيار موقعه وحرصت على تأثيثه واختارت ألوانه الزاهية البراقة وملأته بالنباتات والزهور.
ادماجها في حياتنا نهج سرنا عليه جميعاً ما أمدّ في عمرها وجعل شيخوختها سعيدة ومتجددة، وحقق للأسرة وحدتها وترابطها واجتماعها على مصالحها ونبذ الخلافات والشقاق والفرقة بين أفرادها.
حين كبرت العائلة وتمددت وجاء الأحفاد وبرزت الإشكالات العائلية المعتادة لأي اسرة كبيرة، قررنا أن نتعاطى مع هذه المستجدات ضمن مجلس خاص للعائلة، وأبقينا أمي بعيدة إلى حدٍ ما عن هذه الأعاصير العابرة حماية لصحتها وقولونها العصبي، لكن سرعان ما تحوّل هذا المجلس إلى نواة لحصد وتتبع إنجازات أبناء العائلة واحفادها في مجالات التحصيل العلمي والوظيفي، وجاءت أمي إلى هذه الاحتفالات لتوزيع الأوسمة وشهادات التفوق والهدايا، قالت امي لاحقاً: إن تلك كانت أجمل لحظات عمرها.
وحين وهنت صحتها وتعذّر عليها المشي والحركة، جئنا بالصور وبأفلام الفيديو إلى سريرها وحرصنا على أن تعرف وترى وتشارك معنا بحواسها وبقلبها ووجدانها، وتفرح وتشجع وتبدي رأيها وتمنح استحسانها وبركاتها، يهمس لها أحد أخوتي “عندي مشروع كبير وجئت طالبا دعواتك”، فتنخرط معه في مشروعه وتصبح جزءاً منه، وتهاتفه يوميا للسؤال والاستفسار.
تسألون عن سر العمر المديد، هذا هو الجواب، فقد تشاركنا معها مرحلة شيخوختها عبر ادماجها في حياتنا بكل تفاصيلها كي لا تشعر بوطأة الفراغ ووحشة الشيخوخة، وكي يستمر حبل الترابط والود والرحمة بيننا وبينها دون انقطاع، وتلك كانت رؤية امي لنفسها وعلى امتداد مراحل عمرها، وقد كنا نحن أبناءها عناصر أساسية وفاعلة في تحقيق هذه الرؤية.

اقرأ المزيد

حول الجذور الاقتصادية الاجتماعية للحالة الانتخابية في أميركا

على كثرة وتنوع المعلومات التي تُحشر في أدمغتنا تباعاً حول الانتخابات الأمريكية يبقى مصدرها ماكنة الإعلام الأميركية. وهي ليست خاضعة للمال السياسي، كما في كثير من البلدان. أصحابها هم رأس المال الكبير، الطرف المباشر في الصراع الانتخابي. كما أن النظام الانتخابي يرفض التمثيل النسبي ليسمح فقط بتنافس الحزبين الرئيسيين ويستثني بقية القوى السياسية، فلا ينتشر خطابها، وإذا ما أردنا فهم حقيقة ما يجري فمن الضروري أن نستخدم مصادر أكثر صدقية.
غالبا يصوَّر لنا أن شخصية وتصرفات ترمب هي التي أسقطته. دعونا نحكم من خلال التجربة الذهنية التالية: مَنْ مِنْ رؤساء أميركا كان جمهوريا فظاً، جعل من التمثيل والإعلام سلم شهرته منذ شبابه، نُصِّبَ كهلا، وقف ضد المهاجرين والإجهاض والمعونات والرعاية الصحية الشاملة، ولصالح خفض الضرائب على الشركات والأثرياء، دخل في نزاعات مع ثاني أكبر اقتصاد عالمي، سحب جنده من الشرق الأوسط، نابي الألفاظ وداعٍ لقمع المحتجين بقسوة، استثار كراهية قسم من الشعب وسماه سياسيون أجانب “صنيعة القوى الرجعية” ؟
دونالد ترمب؟ صح. لكن مهلا، ألا ينطبق ذلك بالضبط على الرئيس الأربعين رونالد ريغان. دونالد ورونالد شبيهان كالتوأم بصفاتهما السياسية والسلوكية. لكن ريغان فاز في الفترة الثانية بأغلبية لم يسجلها أحد حتى الآن 525 صوتا، أي 97.6% من أصوات المجمع الانتخابي. أما ترمب فخسر، إذ حصل على 232 صوتا (43.1%). إذن، يمكن أن نتفق أن المواصفات الشخصية والسياسية ليست حاسمة، رغم أثرها بالطبع. بين الرئيسين الجمهوريين فرق جوهري. ريغان جاء ليبني إدارة حكم الرأسمالية المالية التي تمكنت وآن لها أن تحكم، فدعمته بلا حدود، حاشدة غالبية “الطبقة الوسطى” الصاعدة. أما ترمب فجاء ليقوض أركان تلك الإدارة. ولكي نفهم قصته نحتاج الغوص بحثاً في الجذور الاقتصادية الاجتماعية التي هيأت لمجيئه. فهيا بنا.
أشار ك. ماركس إلى ظاهرة نقل صناعات كبرى إلى البلدان الأقل تطورا، حيث رُخص الطاقة والأرض والأجور والموقع الحيوي، رغم أنها ستستورد خامات الإنتاج من أقاصِ في المعمورة، ثم تصدر منتجاتها إلى أقاصِ أخرى (وكأن “ألمنيوم البحرين” بباله؟). هذا ميل طبيعي في تطوّر الرأسمالية. لكن هناك أسباب أيديولوجية فاقمت من هذه الظاهرة: بنتيجة الحرب العالمية الثانية تزايد تأثير الاتحاد السوفييتي وأفكار الاشتراكية عالمياً، ورأى أيديولوجيو الرأسمالية في تنامي عدد وتنظيم الطبقة العاملة في المؤسسات الإنتاجية الكبيرة خطراً يهدد مستقبل الرأسمالية، باعتبارها حاملة للأيديولوجية الماركسية – اللينينية وقاعدة اجتماعية للثورات الاشتراكية، وتجعل من “الشبح الذي يجول أوروبا” أكثر مرعبا. وَرَدَ في أذهانهم تفتيت الصناعات الكبرى إلى أصغر، ومعها تفتيت القوى العاملة. لكنهم اصطدموا باستحالة ذلك نظرا للخصائص التكنولوجية للصناعات العملاقة، فتم تحويلها إلى جنوب شرقي آسيا أساسا. المؤسسات الإنتاجية الأخرى جُزئت إلى “إنتاجيات” أصغر، “أضيق تخصصا”.
أضعف هذا التوجه قدرات الدولة الأميركية، وفرَّغ الكثيرين للتشغيل في مجال المال، وآخرين في مجال الخدمات الأخرى. أي، بدأ تراجع الاقتصاد الحقيقي مقابل تعاظم قطاع المال. وبدا المجتمع سريع التأقلم مع الواقع الجديد. أصبح الكسب في قطاعي المال والمضاربات العقارية وفي قطاعات التجارة والخدمات أقل عناء من الكدح في الإنتاج، وغدا الاستيراد مفتوحاً والقروض الاستهلاكية متيسرة و”الطبقة الوسطى” تتنامى. “احتل” المال الدولة بعد أن خرج من عباءتها و”امتلك” المجتمعَ بالقروض والأموال “السهلة”. وقد استشرت هذه الظاهرة في بلدان المليار الذهبي ثم في أطراف العالم الرأسمالي، التي هيمن فيها ما يسمى “حكم المصرف”… ظهرت العولمة الرأسمالية بأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة.
تعايشت أمريكا مع ذلك من الثمانينات وحتى بداية الألفية وفق معادلة (إصدار دولارات – استيراد استهلاكي – زيادة الدين العام)، لكن مع حلول عام 2008 اتضح أن الاقتصاد يتأزم، ولم تعد البلاد تملك إلا سلاحين: طبع المزيد من الدولارات لمعالجة الأزمات المتصاعدة، والقوة العسكرية لفرض “هيبة” الدولار كوحدة أساس في الحسابات العالمية ولتغطية الدين العام والإبقاء على العولمة الأميركية كنظام لإدارة العالم.
بذلك ظهر تهديد حقيقي يحتقر قيمة العمل المنتج وكل منظومة العلاقات الاجتماعية والقيم والسلوك والوظائف الاجتماعية للعمل ورأس المال والبنى الفوقية من تشريعات وثقافة، وكنتيجة حتمية انهار ذلك العالم ليظهر على إثره “مجتمع المستقبل” الذي توجهه نخب تتخذ القرارات مختفية وراء كواليس العروض السياسية، ولا تتحمل أية مسؤوليات عما تمارسه من أعمال.
وفي الوقت الذي أصبح الاقتصاد الأميركي يَهِنُ أمام تقدم العملاق الاقتصادي الاشتراكي في جمهورية الصين الشعبية، جاء ترمب “حاملا السلم بالعرض” ضد المؤسسة الأميركية، بجمهورييها وديمقراطييها، ببرنامج اقتصادي يحمل نهجاً مغايراً للرأسمالية المالية، وليسحب نظام الإدارة من بين أيديها لصالح الرأسمالية الإنتاجية – التكنولوجية الأميركية، التائهة في المنافي والمنهَكة في الداخل. والحقيقة، هذا يخدم حاجات التطور الاقتصادي الأميركي.
المفارقة الخطيرة أن هذا التوجه الصائب يقوده ترامب بأيديولوجيته القومية الشوفينية المتمحورة حول “أمريكا أولاً”، المعادية للملوَّنين والأجانب وللضمان الاجتماعي، والمنحازة كلياً لمصالح كبريات الشركات، تناهضه عولمة رأسمالية (تسمى مجازا الأممية المالية “fintern”) بكل ما تدعو إليه من “ديمقراطيات على شاكلتها” بإطلاق “الاستعباد المالي” والتحرر من كل شيئ، بما في ذلك منظومات القيم وقواعد الأخلاق والسلوك الإنساني السليم. وهكذا فنحن أمام أيديولوجيتين متصارعتين، لكنهما تعكسان وجهي الأزمة العامة للرأسمالية التي تستنفذ بتسارع إمكانات تطورها.
التناقض الخطير الآخر هو أن ترمب، داعية الاقتصاد المنتج والذي يعتبر، أيديولوجيا، حامي القيم والتقاليد الدينية المسيحية والتماسك الأسري قد صنع ثرواته من أنشطة غير منتجة كالمضاربات العقارية، وأخرى معابة في المجتمع المحافظ (حفلات المجون والترفيه وصالات القمار). هذه التركيبة المعقدة توضحها تركيبة القاعدة الانتخابية لترمب: أولا، ذوو الدخل الذي يفوق 100 ألف دولار في السنة (المتضررون من ضرائب الديمقراطيين)، ثانيا، الأسر المحافظة، ثالثا، البِيض، الذين رجحوا ترمب على بايدن بتناسب 57 مقابل 43%، بينما خسر بين الملونين بشكل كارثي 12 مقابل 87%.
العامل الاقتصادي هو الحاسم عادة في الانتخابات الرئاسية الأميركية: «It is the economy, stupid!» شعار حملة بيل كلنتون الانتخابية. فاز أوباما في الجولة الثانية 2012 لأنه “نجح” في فترته الأولى في إضعاف لهيب أزمة 2008 عن طريق رشّات ناعمة متتالية من الإصدار النقدي. لكن فترته الثانية أظهرت الفاعلية المؤقتة فحسب لتلك السياسة التي، وإن نفعت النخب المالية، إلا أنها لم تنفع حتى ممثلي “الطبقة الوسطى” التي أخذت في التآكل سريعا، ناهيك عن الطبقات الدنيا، بسبب تراكم الديون وفقدان فرص العمل. لذا فاز ترمب بوعوده الاقتصادية الانتخابية رغم قساوة ولا أخلاقية معارك انتخابات 2016 من الجانبين.
وقد “تعاهدت” النخب المالية أن تَحُول دون حكمه، وفي أضعف الأحوال، تجعل الأرض تميد تحته طوال رئاسته الأولى، لتكون الأخيرة. ولعلنا نذكر الأحداث التي أشعلها الديمقراطيون من ديسمبر 2016 إلى يناير 2017 قبيل تنصيبه، مستفيدين من كل تمارينهم في “الثورات الملونة” و”الربيع العربي”، ثم مساعي تنحيته التي طالت حتى فشلت. ورغم كل مساوئ ترمب، بعنصريته البغيضة في الداخل والخارج، وفيما ارتكبه بحق الشعب الفلسطيني وقضية العرب الأولى، وانحيازه الاجتماعي لصالح كبار أصحاب الأعمال، إلا أنه كان وفياً لبرنامجه، إذ نجح في إعادة عدد من الصناعات الكبرى كالسيارات إلى أميركا وضرب أرقاماً قياسية في توفير فرص عمل جديدة. وبسبب تركيزه على حشد الإمكانيات من أجل الداخل، ابتزّ الخارج ماليا دون أن يتجه إلى إشعال حروب كبيرة فيما عدا الضربة التي وجهها ضد سوريا واغتيال قاسم سليماني.
إلا في هذه الانتخابات.. لم يلعب الاقتصاد دوره الحاسم. جائحة كورونا جرفت كل إنجازاته، ومقتل فلويد عقَّدتا الأوضاع بشدة. لولا الإثنتين لفاز ترمب بلا منازع. لكن المنافسات الانتخابية اتخذت مسارا آخر، هو امتداد للطابع العنفي واللاأخلاقي لانتخابات 2016، ما وضع أميركا على كف عفريت. لا أحد يجزم كيف ستسير عليه الأمور حتى 20 يناير 2021، لكن الواضح أن المسار القانوني والتقليدي بدأ يأخذ مجراه محفوفاً بخطر الارتداد. دعونا نأخذ بالمؤشرات القائلة أن جو بايدن سيصبح الرئيس المتوج في 20 يناير. لكن حظوظه ليست وافرة في أن “يصبح رئيس كل الأميركيين” كما يردد. أميركا منقسمة بالتساوي تقريبا، واستُنفذت إمكانيات الحشد الأفقي (كسب الأنصار). لا تزال مفتوحة فرص وصول النخب إلى تفاهم لوقف المواجهات. لكنها مع كل يوم يمضي تصبح أبعد منالاً، لتفسح الطريق أمام صراعات القوى بوسائل القوة. وهذا ما لا يتمناه المرء لبلد بعظمة أميركا وما لها من تأثير على العالم.
الإشارات تشي بأن طاقم أوباما سيحيط ببايدن في البيت الأبيض ويجعله في “حضانته”، لكنه يستحيل أن يكرر بايدن صورة الرئيس أوباما، إذ أن برامج الأخير لم تعد تعمل لأسباب مهمة اعترفت ببعضها هيلاري كلنتون في مقالها “البرنامجي” منذ فترة في “Foreign Policy” الذي يُعتبر الاستراتيجية الفعلية “للدولة العميقة” في أميركا بشأن استعادة الهيمنة العالمية. وسوف لن نحتاج إلى الانتظار حتى 20 يناير لمعرفة نهج وطريقة عمل بايدن. فهاهي كلنتون صاغت الأسس في مفاهيم دقيقة وغير قابلة لازدواجية الفهم.
وأخذا بعين الاعتبار مكانة “آل كلنتون” في التصنيف السياسي الأميركي فإن حظوظ تطبيق هذه الاستراتيجية جد كبيرة. المفارقة أن المقال يتضمن اعترافاً قوياً بأن ترمب كان محقاً، ومن الصعب بعد رئاسته بناء استراتيجية دون تضمينها نقاط ارتكازية غرزها في التفكير السياسي هذا الملياردير النيويوركي الغريب الأطوار. فقد ذكرت أن الإدارات السابقة لكلا الحزبين لم تُقدِّر آثار السياسة الاقتصادية على الأمن الوطني حين أضعفت القطاعات الهامة استراتيجياً، وأبعدت سلاسل الإنتاج الحيوية إلى الخارج، وكان من المصلحة أن يعمد الديمقراطيون إلى إبطاء الاتفاقيات التجارية الجديدة. يتضح لنا مما تقوله كلنتون إن العولمة على الطريقة الأميركية قد ماتت (هل قتلها ترمب؟).
تولي كلنتون اهتماماً أكبر للصراع مع الصين أكثر من روسيا، التي تليها بعد الفاصلة دائما. فكرة التعايش السلمي معهما لا تخالجها مطلقا، وهي تفهم الدبلوماسية كأداة تهيئ فرصا أفضل للضغط بوسائل القوة. وفي العلاقة مع أوروبا ستطلب أميركا، إضافة إلى الدفع نقداً، القيام بأعمال تساعد أميركا لإحراز أفضليات قبالة الصين أو روسيا. الخبر الجيد الوحيد هو العمل على تجنب حرب نووية مع الصين أو روسيا، لكن إمكانية ضربات صاروخية (وإنْ غير نووية) تظلّ تثير القلق.
استخدام القوة ينسجم وتاريخ بايدن السياسي الذي يعتبر أن روسيا هُزمت في الحرب الباردة ولا يحق لها المشاركة في السياسة الدولية “العليا”، وأن مجمعها النووي يجب أن يخضع للمراقبة. لكن Bloomberg أفادت أن مسؤولين روس يقَيِّمون العلاقات مع الغرب كحربٍ باردة جديدة، المواجهة فيها أيديولوجية، حيث تدافع موسكو عن القيم المحافظة في وجه الليبرالية الغربية. بالنسبة للشرق الأوسط والخليج كان بايدن شديد الحماس للحرب على العراق، ثم إلى تشطيره ثلاثا. طبيعي أنه سيتناقض ورؤى ترمب المعادية للقضية الفلسطينية والمتهاونة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية، لكنه لن يرتدَّ على “منجزات” ترمب، وسيكون أخفض سقفا من أوباما في هذا الصدد، وكذلك بالنسبة لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وبالنسبة لإيران يبدو أنْ ليس العودة للاتفاق النووي فقط ما سيشغل بال أميركا، بل وسيصبح إبعادها عن الصين هدفاً منشوداً.
ورغم اللغط الكثير حول كيف سيكون أثر الإدارة الأميركية، أو الدول الكبرى عموما، على الديمقراطية في منطقتنا، فقد أثبتت كل تجارب الماضي أنْ لا تعويل على قوى خارجية لتحقيق نقلة ديمقراطية حقيقية ما لم تكن موضوعة داخلياً على جدول أعمال جميع أطراف المعادلة، سلطة سياسية وقوى سياسية، كمشروع وطني تنموي نابع من حاجات الدول وشعوبها، عملاً بالقاعدة الذهبية “أنك إن اعتدت الإتكاء على عكاز، فستفقد القدرة على المشي”.. تجربة مملكة البحرين العملية تقول أن ذلك ممكن إلى حد معقول. مثلا، أطلق جلالة الملك المشروع الإصلاحي بروح ميثاق العمل الوطني في بداية الألفية قبل أن تعلن الولايات المتحدة في عام 2003 مشروع التحويل الديمقراطي للشرق الأوسط الكبير. وقد نال المشروع البحريني خلال سنوات تطبيقه الأولى احترام العالم وغدا مثالاً قبل أن يتعثر فيما بعد، لأسباب يجب أن يراجع كل طرف مسؤوليته بشأنها. وفي هذا الصدد تبقى فكرة الحوار الوطني من أجل تجسيد الوحدة والإرادة الوطنية مطلوبة بإلحاح. ومع تقلد سمو ولي العهد لرئاسة مجلس الوزاء لنا، معا، الحق في أن نأمل ونسعى لهذا.
عودة إلى أميركا، فالأرجح أن بايدن لن يتمتع باستقلالية كافية، إذ يرى بعض المحللين أنه سيصبح الرئيس – الزومبي، لأسباب تعود إلى وصاية “الدولة العميقة”، وكذلك طبيعة التحالفات التي يعتمد على دعمها، والتي وَحَدَتْها مناهضة ترمب، من داخل وخارج الديمقراطيين – من قوى اليسار الراديكالي إلى اليمين الذي يضم ديمقراطيين وجمهوريين أيضا. عموما، بين الديمقراطيين يُحتسب بايدن على يمين الوسط. وإذا كانت هناك شكوك جدية في قدرة إدارته على إعادة توجيه الاقتصاد الأميركي صوب الإنتاج، فلا شكوك بأن للآلة العسكرية الأميركية حظوظ أوفر لمواصلة نشاطها حول العالم.

اقرأ المزيد

الليندي حاضر لم يمت

دروس انتفاضة تشيلي التشرينية

لم يكن مفروشاً بالورود الانتصار الذي حققه شعب تشيلي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية في استفتاء اكتوبر/ تشرين الأول الذي أسفر عن تصويت الغالبية العظمى (بنسبة 78 % من الناخبين)، لصالح إلغاء الدستور الموروث من عهد الدكتاتور الراحل أوغستو بينوشيه ولصالح دستور عقدي جديد، فهذا الانتصار جاء نهاية طريق طويل مغمس بالدم لنضالات 47عاماً ( 1973 – 2000 ) خاضها الشعب التشيلي بجسارة وقدم خلالها تضحيات هائلة تتوجت بانتفاضته التشرينية في اكتوبر / تشرين الأول من العام الماضي 2019 والتي اُطلق عليها أحد التقارير الإخبارية لقناة فرانس 24 “الثورة المفقؤة ” لكثرة ضحاياها من الجنسين التي فقأت أعينهم بتصويب متعمد من قوات الشرطة.

لا أحد من الشعب الأميركي يجهل ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول عام 2000 ؛ لكن قلة منهم من يعرف ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر / أيلول من عام 1973 لشعب تشيلي باعتباره اليوم الذي ارتكب فيه الدكتاتور المدحور أوغستو بينوشيه خلال انقلابه العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي مذابح شنيعة بحق خيرة أبناء شعب تشيلي البررة بتخطيط ودعم من وكالة المخابرات الأميركية (CIA).

وفي الانتفاضة التشرينية، ورغم مرور 30 عاماً من سقوط النظام الفاشي منذ1990 فإن ميراثه القمعي كان حاضراً بقوة لما يتبدد بعد؛ متمثلاً فيما أرتكبته قوات الشرطة بحق المنتفضين السلميين من جرائم لا تقل فظاعةً عما أرتكبه أسلافها في عهد الدكتاتور المدحور، فنحو ألف وخمسمائة شاب وشابة جرى اعتقالهم خلال تلك الانتفاضة، وأكثر من 30 سقطوا شهداء، فيما فُقأت أعين المئات، وبضمنهم مراسلون ومصورون صحفيون ذكوراً وإناثاً.

ومثلما كان الإرث الوحشي القذر لعهد بينوشيه في قمع الانتفاضة حاضراً كانت الرموز الوطنية من ضحايا انقلابه حاضرة لم تغب من ذاكرة الشعب، فقد كان الثوار المنتفضون يتجمعون في ذكرى مقتل الليندي بالقرب من قصر الرئاسة وهم يهتفون “الليندي حاضراً خالداً لم يمت”. كما تجمعوا أمام الملعب الذي عُذّب فيه حتى الموت فنان تشيلي الوطني الكبير فيكتور جارا، والذي سُمي في 2003 بإسمه، وكانت الحركة النسائية المطالبة بالمساواة وملاحقة رجال الشرطة المغتصبين حاضرة خلال الانتفاضة متحدية فقء العيون والملاحقة.

على أن انقلاب بينوشيه ترك ندوباً ودروساً عظيمة لا في تشيلي وحدها؛ بل على صعيد الحركة اليسارية العالمية، ففي الوقت التي تقطع حركات يسارية بعدم جدوى النضال السلمي في ظل الأنظمة الاستبدادية بغض النظر عن مدى توافر الشروط الملموسة لاعتماد النضال المسلح، وكانت قيادة الثورة الكوبية في الغالب مع هذا التوجه؛ وليس خالياً من الدلالة في هذا الصدد البندقية التي أهداها جيفارا إلى الرئيس الليندي والتي دافع بها خلال قصف قصر الرئاسة، وقيل بأنه استخدمها في إطلاق النار على نفسه كي لا يقع أسيراً في أيدي الإنقلابيين.

و بموازاة ذلك جرت في أعقاب انقلاب تشيلي وانتكاسة التجربة الاشتراكية القصيرة (1970 – 1973) حوارات فكرية بين مدارس اليسار والفكر الاشتراكي العالمي على صفحات الدوريات والمجلات النظرية، وفي اللقاءات والندوات العلمية حول جدوى النضال السلمي للوصول إلى السلطة وبناء الاشتراكية في البلدان التي تتبنى أحزابها وقواها هذه الطريق في ظل أنظمة لا تتورع طغمة عسكرية فيها عن الدوس على الدستور واُسس النظام الديمقراطي فيها دون حصانات مكينة رادعة تصد بقوة عسكرياً وشعبياً ودولياً مثل هذه الانقلابات على السلطة المنتخبة، وهذا لا يتحقق إلا في ظل سلطة برجوازية قطع نظامها السياسي شوطاً كبيراً من التطور والممارسة الديمقراطيتين على غرار الأنظمة الديمقراطية الغربية بحيث تكون ذات قدرة على شل أيدي العسكر في مطلق الأحوال عن الانقضاض على السلطة دون تفويض دستوري صريح .

ولعل هذه المهمة هي على رأس أولويات المجلس التأسيسي المنتخب لسنّ دستور ديمقراطي عصري جديد يسمح بتطهير ما تبقى من مواريث وأدران أجهزة القمع في الشرطة وأجهزة السلطة التنفيذية عامة، ويؤسس لسلطتين قضائية وتشريعية مستقلتين.

اقرأ المزيد

حفل غداء على قارب

تأملوا اللوحة جيداً. ماذا ترون؟ مَن هم يا ترى هؤلاء الأشخاص؟ ماذا يفعلون؟ حدّقوا في معالم وجوههم قليلاً.

سترونهم باسمين، ضاحكين، فالبعض منهم منهمك بمحادثة الآخر بتفاعل لافت. والبعض الآخر مشغول بمحاكاة الطبيعة الفرحة من حوله. ما يعطي وحدة كبيرة وحضورًا كبيرًا للوحة بأكملها ليس هو النساء، دعنا نقول ذلك، وإنما النظرة التي تربط الشخصيات في التكوين.

جميل كم التضاد بين الأزرق والأحمر والأخضر الذي يعكس أسلوب الفن الانطباعي، أو قبعات القش الصفراء التي تخطف عين المشاهد لتذكره بجو الصيف المشمس. يمتد البعد البؤري إلى نقاط عدة في اللوحة ليشمل المظلة المخططة التي تضفي حميمة على المشهد، أو الأشجار الحاضنة للحضور بجوّها الباهي. سهل على المشاهد الضياع في تفاصيل هذه اللوحة، فكل الألوان موجودة، وكل الحضور مشغول بعمل ممتع ما.

تلك هي لوحات رينوار الإنطباعية. هذه اللوحة التي أسماها الفنان في الأساس: “غداء مرتدي القبعات”، تحكي قصة مجموعة من الأصدقاء العائدين من رحلة على متن قارب، و اجتماعهم حول مائدة غداء عطلة نهاية الأسبوع الخالية عادة من الهموم. إن تفكرّنا قليلا، لأدركنا أنه من الطبيعي أن يثمر عن اجتماع البشر راحة نفسية وشعور عميق بالطمأنينة، ذلك لأن المرء لا يستطيع الفرح لوحده، لاحتياجه إلى الآخر لخلق شعور السعادة وتعميمه.

رسم الفنان الفرنسي بيير أوغست رينوار هذه اللوحة في العام 1881، ليعكس التغيير الذي طرأ على مجتمعه إبان الثورة الصناعية، حيث نجد في هذه اللوحة اشتياقاً لبساطة الحياة وعفويتها، زد على ذلك شغفاً بتصوير الملامح البشرية والمشاهدات من الحياة العامة السعيدة، وكأنما رينوار يعانق مخيلته ليذكرنا بحلاوة غداء نهاية الأسبوع مع الأحباب.

ولادة رينوار على مشارف نهاية القرن التاسع العشر ومعاصرته بداية القرن العشرين جعله يعيش حربين، عانت خلالهما الإنسانية من انعدام روحها، ومن تلاشي قيم السلام والحب والتسامح، أي كل العوامل الأساسية التي تجلب السعادة للبشر. لهذا السبب، رفض رينوار خلال كل مسيرته الفنية إدخال آثار التوترات السياسية والمجتمعية على لوحاته، معللاً ذلك بأن الفن انبثق لإعطاء البشر ما لم يستطيعوا اهدائه لأنفسهم: السعادة والسلام. الفن وظف لجعل الحياة أفضل، لخلق مأوى آمن للحب والشغف، حيث المخيلة تستطيع أخذ قسط من الراحة بعيداً عن اضطرابات الحياة اليومية.

يرجح بأن رينوار، ومن أجل رسم هذه اللوحة، قام بجمع عدد من الأصدقاء من الوسط الفني في مطعم “ميزون فورنيه” العائم. وهو مطعم يعود لصديقه ألفونس فورنيه الذي أنشأه عام 1875 بعدما اشترى قطعة أرض على ضفاف نهر السين لتحويلها لفندق ومطعم. لسوء حظه، أتت الثورة الصناعية لتتخلص شيئا فشيئا من المؤسسات الصغيرة، فهجر المطعم، حتى عادت إليه الحياة مجدداً عام 1999 ضمن مبادرة من عمدة المدينة وبتمويل من جمعية أصدقاء الفن الفرنسي الأمريكي.

بيير أوغست رينوار أضحى أهم الفنانين الانطباعيين الذي بفنه نشر رسالة مفادها الآتي: “لا أحد منا يستطيع تذوق متعة الحياة لوحده، فقد خلقنا جميعا لنتعايش مع بعضنا، وذلك ضمن اتحاد مع الطبيعة الحاضنة لكل البشر”.

الجدير بالذكر، أنه من أجل أن يجني رينوار قوت يومه من ممارسة ما يحب، كان يدق أبواب الفرنسيين الأغنياء لرسمهم، مما كان يعطيه جدارة أن يقول: ”إن لم يكن الفن مصدر امتاع لي، فإنني بالتأكيد ما كنت لأمارسه”.

اقرأ المزيد

تقرير الرقابة .. حقاً ماذا بعد ..؟!

الى جانب ما يغرق البحرينيين من هموم، يأتى التقرير السابع عشر لديوان الرقابة المالية والادارية
لعامي 2019 -2020 ليثير مجدداً المواجع، ويضيف اليهم هماً، وأي همّ!
ولأنهم ألفوا الهموم، وباتوا على قناعة بأن ردود أفعالهم على أي تقرير جديد يصدره ديوان الرقابة لن يجدى، وباتوا يشعرون أن كل ردود الفعل لم ولن تكون مثمرة ومجدية فى يوم من الأيام، ربما لهذا السبب كان استقبالهم للتقرير الجديد فاتراً بشكل غير مسبوق. لم ينشغلوا به كعادتهم كل عام، لا من قبل الصحف، ولا من الكتّاب، ولا من النشطاء، ولا من غيرهم ممن تعوّدنا منهم ردود فعل على كل تقرير يصدر، بما فى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، مرّ بما يشبه اللامبالاة، كأن ثمة قناعة بأن باب الأمل موصود، وان أمر محاسبة مسؤول معدوم كأنه قدر مكتوب، او فى مصاف التمنيات والمستحيلات، وهذا أمر جدير بالدراسة والتحرى والمراجعة!
حتى أولئك النواب الذين دأبوا على استثمار كل تقرير جديد يصدر ويبدون ضجرهم، ويستعيضون عما يجب أن يقوموا به تحت قبة البرلمان بالشوشرة واستثارة المشاعر، والتهديد والوعيد، وإغداق الوعود، والاستعراضات الاعلامية الخالية من كل المفاعيل، كفّوا هذا العام عن قول ما سمعناه وقرأناه مراراً وتكراراً ولم يعد يشدّنا.
هؤلاء يتناسون أن جبهة المواجهة الحقيقية على التجاوزات والمخالفات، وتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة رغم كل القيود، محلها تحت قبة البرلمان، ولكن يلاحظ بأنه حتى هؤلاء النواب لم تكن ردود أفعالهم هذه السنة كالمعتاد، أو بنفس الزخم المعهود، ربما هى منهجية جديدة من قبلهم فى التعاطي مع التقرير يواكبون بها المنهجية الجديدة لديوان الرقابة المالية والادارية التى أعلن عنها فى إنجاز تقريره الجديد، ربما أراد النواب ذلك ليستخلصوا من هذه المنهجية ما يفيد.
من باب التنبيه والإحاطة، فإن ما نشرته الصحف المحلية هو ملخص مقدّم من ديوان الرقابة المالية والإدارية مكون من 13 صفحة فقط، التزمت او ألزمت الصحف بنشرها خلافاً لما كان يحدث طيلة السنوات السابقة حيث كانت الصحف تتسلم التقرير كاملاً بعدد صفحاته التى تتجاوز فى الغالب 400 صفحة، وكل صحيفة تختار ما تشاء لتسلط الضوء عليه، وبالتفصيلات التى تراها مناسبة، وبالعناوين اللافتة والمثيرة.
نحن هنا لسنا فى وارد استعراض ما جاء فى التقرير الأخير، ولا شئ منه، وهو فى معظمه، وكالعادة، يكشف بأن هناك من لم ينهضوا بمسؤولياتهم كما يجب، وأن هناك ما يستوجب استنفار أدوات المساءلة والمحاسبة، ولكن أردنا أن نتوقف أمام بعض ما يسترعى الانتباه، ومن يتمتعون بموهبة التقاط الاشارات فإن هناك الكثير مما قد يستوقفهم !
إضافة إلى ذلك، يسترعى الانتباه أن التقرير الجديد كما ذكرنا قوبل هذا العام بتعامل فاتر وغير مألوف، والتصريحات النارية لبعض النواب توقفت بالرغم من أن كلام بعضهم من واقع تجارب سنوات مضت محض ثرثرة فارغة لم تحقق نتيجة تذكر، وكأن الكل عاجز عن الفعل وعن استخدام أدواته الدستورية فى المساءلة والمحاسبة، رغم ان الثابت بان النواب هم ممن يفترض ان يبنوا مداميك هذه الأدوات، لا أن يراكموا الخيبات ويدورن ليعودوا الى بيت القصيد، وبيت القصيد هنا متوّج بعلامات الاستفهام والتعجب خاصة حيال بعضهم، أو كثير منهم ممن جعلوا قيم المساءلة والمحاسبة تدور فى ارجوحة الضياع، كما كان الحال سابقاً ولاحقاً وحالياً حتى الآن على الأقل، وكأن هناك من يصر ويتعمد على ان يجعل هذه الأدوات والقيم عاطلة او معطلة، او تعانى ما يشبه البطالة السافرة أو المقنعة، وهذا أمر مكلف للغاية و يبعث على الحزن والأسى.
اما المواطن فهو أمام “الغابة الخلاقة” من المخالفات والارتكابات والفساد والمساس بالمال العام من قبل دائمي الجشع للمكاسب والمصالح والمنافع الخاصة ويتربحون من وظائفهم بأبهى ما عندهم، هذا المواطن سيظل يحلم ولو بمحاسبة ومساءلة مسؤول واحد، لا إلى ما يعزز شعوره بأن من يرتكبون المخالفات محصنون من المساءلة والعقاب، وبالتالي لازال المواطن يحلم بالابتعاد عن الدوران فى المكان، والمراوحة فى العجز الذى يجعل كل تقرير الرقابة من تقارير الرقابة فى دائرة الإقامة الجبرية عند نقطة الصفر، فلا نعرف متى نغادر حالة تكرار المخالفات أو حتى الملاحظات التى يصر البعض على تسميتها كذلك من قبل العديد من الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للدولة.
كما لا يعرف المواطن اي جواب على سؤال يفرض نفسه وهو: ما فائدة اي تقرير رقابي يصدر عن جهة موثوقة ورفيعة المستوى تتابع وترصد وتوثق بما تملكه من كوادر وأدوات وصلاحيات مظاهر خلل ومخالفات أوحتى ملاحظات وفى نفس الوقت تسمح لذات الجهات، وليس جهات رقابية اخرى محايدة، ان تفند، او تبرر، وإن اعترفت فى ردودها فعلى طريقة “سنتخذ اللازم”، ومادام هناك من بشرّنا بأن اللازم سيتخذ فكيف يمكن تفسير تكرار المخالفات، بل ويبقى من ارتكبوا ذات المآخذ والمخالفات فى مواقعهم، ثم أليس من حق المواطن معرفة طبيعة الإجراءات التى اتخذت فى سياق اتخاذ اللازم!
لا نظن، رغم أن بعض الظن إثم، أن طريقة التعامل مع التقرير الرقابي الأخير ستختلف عن التعاطى مع التقارير السابقة التى نكأت جروحاً وكشفت عن تقيحات لم تمتد اليها يد بالتطهير والعلاج، من هذا الباب والحيرة تملؤنا نقول: ليس مفاجئاً أبداً القول إن كل تقرير ينسينا ما جاء فى التقرير الذى سبقه، لقد تعودنا بعد كل تقرير أن يظهر من يؤكد لنا بما معناه بأن التحقيق قائم حيال بعض الوقائع ذات الشبهة بارتكاب الفساد، أو تلك التى تسببت فى أضرار ناشئة عن اهمال وهدر فى التعامل مع المال العام، والإنفاق فى غير الأوجه المحددة، ووُعدنا اثر كل تقرير باستظهار الحقيقة، او على وجه الدقة، جملة الحقائق التى لازلنا بانتظارها، ولازلنا فى انتظار تسمية الأمور بإسمائها، منذ سنوات ولازلنا فى الانتظار، كما لازلنا فى انتظار اعلان محاسبة او اسقاط وزير او احالة مسؤول إلى النيابة العامة، أو القضاء.
ونحن نعلم جيداً أن شيئاً من هذا النوع الذى يزخر به أي تقرير من تقارير ديوان الرقابة لو حدث فى بلدان أخرى لكانت هناك أصداء نعرفها جميعا، أبرزها استقالة أو إقالة المعنيين، وإحالتهم للمحاكمة، هذا إن لم يؤدِ ذلك إلى استقالة الحكومة برمتها، من باب الشعور بالمسؤولية التضامنية الأدبية والسياسية، ولأن قيمة المسؤولية حاضرة على الدوام ولا تغيب عن الوعي العام، حيث لها أثر واعتبار ومكانة عالية فى القيم السائدة، وهذا أمر لا مساومة عليه فى تلك البلدان، ولا مجال للتفريط أو الاجتهاد فيه.
مؤسف أن ما يجرى يرسخ لثقافة التجاوزات وتكرار ذات المخالفات وأوجه الخلل فى أكثر من تقرير، وهو ما يشكل صدمة وخيبة فى آن واحد، صدمة من أن آليات المساءلة والمحاسبة لضبط الأداء المالى والادارى فى منظومة العمل الحكومى بالشكل اللازم لم تستيقظ بعد من رقدة العدم، والخيبة أولاً من ردود تكاد أن تكون معلومة مسبقاً، ولا تشفى الغليل ولا تضمن بأن عنصر الحساب والعقاب قد أخذ مساره الصحيح فى شأن هذا الملف او ذلك التجاوز، والخيبة ثانياً من تكرار المخالفات والتجاوزات، اضافة الى الجديد منها، والخيبة اخيراً من نواب كلما يوضعون أمام مسؤولياتهم بعد كل تقرير لا يخرجون عن دائرة الكلام المراوغ من نوع “لن نسمح بمرور التجاوزات مرور الكرام، وسنتخذ أدواتنا البرلمانية”، وقائمة المراوحة معروفة، كما هي معروفة قائمة المراوحين.
نصيحة للجميع: اكبحوا جماح تشاؤمنا، ولا تنسوا انكم أمام امتحان جديد فلا تمعنوا فى جعل العمل البرلماني محبطأً، باختصار لا تعملوا ضد أنفسكم!

اقرأ المزيد

فريد رمضان السارد المنشغل بالهوية

تشكّل التجربة الروائية لفريد رمضان حالاً إبداعية جديرة بالمعاينة الرهيفة، في نطاق المشهد السردي في البحرين، وبمقدار ما تعدّ هذه التجربة مشتبكة في الموضوعات التي تعالجها بمجمل المعطى الروائي لسابقيه ومجايليه من كتاب السرد في البحرين، من حيث الاهتمام برصد وتتبع تحولات مجتمع البحرين الذي عرف تاريخه مواضع توتر اجتماعي وسياسي عدة، فإنها تشكّل حالاً خاصة في طرقها لدروب جديدة.
يجعل فريد رمضان من شخوص رواياته: التنور(1994)، البرزخ (2000)، السوافح (2006)، مقيمين لا عابرين، لأنه لم يستعن فقط بالمادة التاريخية وحدها التي انكبّ على جمعها، وإنما إلى معايشات، ينتسب بعضها إلى ما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية للكاتب، أو سيرة المكان الذي يختاره ميداناً لأحداث رواياته.
يشتغل فريد رمضان على مادته الروائية بعناية الباحث الذي يجمع من مصادر البحث ومراجعه المختلفة كل العناصر الضرورية لإقامة المعمار الروائي بما يضمه من أحداث ووقائع وتفاصيل أمكنة وشخوص تجمع بين الواقعي والمتخيل، وهو لا يتردد في تجليس وقائع حصلت في تاريخ المكان الذي يكتب عنه على سياقات أخرى مختلفة، وينسب أفعالاً وقعت فعلاً في تاريخ الحيز المكاني الذي تدور فيه أحداث رواياته (حي البوخميس وقرية البسيتين في جزيرة المحرق، وحي النعيم بالمنامة)، إلى شخوص هم من ابتكار المخيلة، أو هم حاصل تركيب بين الواقعي والمبتكر.
ولا ينجو الكاتب من تأثير الذاكرة، ذاكرته كفرد، وهو طفل أو صبي، وهو يحكي، فالذاكرة تضطلع بعمل استثنائي في التغلب على الفقدانات الفردية والجمعية، إن حي البوخميس أو قرية البسيتين كمكانين يحتويان أحداث روايتي (التنور) و(البرزخ) لم يعدا قائمين بالصورة التي نقرأهما في الروايتين، فقد جرت تحولات ديمغرافية حاسمة غيّرت صورة المكان وبدلت أهله، ومن اجل إعادة تقديم صورة المكان كما كان، فان الذاكرة تسعف الكاتب في سدّ الثغرات الناشئة بسبب هذه التبدلات.
ولا يقف الأمر عند حدود هذا المعطى المكاني فقط، فالذاكرة تؤدي ما يمكن أن نعتبره وظيفة “ثقافية”، في تكوين وعي الطفل أو الصبي فريد رمضان، الذي سيغدو روائياً، وفريد رمضان ان بدا، ظاهراً، انه ينشغل ببيئات محلية يختارها كنماذج، أو كحيز مكاني في مقطع زمني معين، فانه لا يحتفي بهذه المحلية، ولا يعطيها الأولوية، فالبيئة التي تنطلق منها أحداث رواياته وفيها تتحرك شخوصها، ليست سوى عينات لاختبار تحوّلات المجتمع وتفاعلاته، والمقصود بالمجتمع هنا هو ما نعدّه بعداً وطنياً جامعاً، فما يمور به حي النعيم في “السوافح” وقرية البسيتين في ” البرزخ” من أحداث يبدو وثيق الصلة بحراك أوسع، ليس من شأن الكاتب أن يغرق نفسه في تفاصيله، ولكن أحداث رواياته تقدّم الضروري من المفاتيح لولوج عوالم تتخطى محدودية المكان الصغير الذي ينشغل الكاتب برصد التحولات فيه.
واللافت في كتابة رمضان، أنه ينطلق من إحساس بالحدب والحنو على شخوصه الآتين إلى البحرين من سياقات جغرافية وثقافية أخرى، رغم أنها قريبة ومتشابهة في الكثير من الأوجه مع بيئة البحرين التي أتوا إليها، وسرعان ما وجدوا نفسهم ينخرطون في سياقها الحياتي، وبالتالي تأتي هذه الكتابة مشبعة بروح التسامح الإنساني، التي تنطلق من نبذ فكرة “أصالة” المجتمعات بمعناها المبتذل والسوقي، ففي عالم اليوم بات صعباً الحديث عن الصفاء العرقي أو الإثني أو حتى الديني، فالمجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا الخليجية هي حاصل تفاعل مكونات مختلفة متعددة المشارب، والمفارقة تكمن في أن الروح المهيمنة على روايات فريد رمضان تأتي في زمن انفجار الهويات الفرعية واشتباكها في العالمين العربي والإسلامي.
التدقيق هنا ضروري، فالشغل الروائي لفريد رمضان لا يرمي إلى القول بأن البنية السكانية لمجتمع البحرين هي مجموعة هوامش أو فروع تقاطعت عند مرحلة معينة، فأي مجتمع هو في نهاية المطاف يتكوّن من متنٍ بشري تشكّل تاريخياً واستقر في بيئة جغرافية معينة، ولكن هذا المتن لا يمكن أن يظل منغلقاً على نفسه، وفي حال جمود أو”صفاء” عرقي، خاصة في حالة بلد مثل البحرين هي مجموعة جزر وميناء مفتوح على الوافد إليه من محيطه، مما يجعل من هذا المتن السكاني المتشكل تاريخياً في حال صيرورة دائمة بانضمام عناصر جديدة إليه عبر الهجرات وأوجه الرحيل المختلفة، مع ملاحظة مقدرة هذا المتن على استيعاب الوافدين الجدد إليه، وإدماجهم في بنيته، فلا تعدو هذه العناصر تضاريس نافرة على سطح مستوٍ، وإنما تندغم في النسيج القائم، فتُضفي عليه حيوية إنسانية وثقافية جديدة نابعة من جينات تشكّلها الأصلي في المواطن التي أتت منها.
تحضر الهجرة في روايات فريد رمضان كخيار قسري، حين تجد شخوص رواياته نفسها محملة على أن تقتلع من بيئاتها الأصلية لا بمحض إرادتها الحرة، وإنما لأنها لم تعد تحتمل العيش فيها، إما بسبب ضيق اليد وانسداد أفق الحصول على الرزق كما هو الحال في شخوص “التنور” خاصة، أو هروباً من ملاحقة محققة كما في حال هجرة العائلة العراقية من البصرة إلى البحرين في رواية ( البرزخ)، وتتداخل في الرواية الواحدة الأسباب، كما هو الحال في رواية “السوافح” مع هجرة الجد من الإحساء خوفاً، أو جرياً وراء قدر غامض صنعته المصادفات وحدها في حالة الزوجة خاتون التي رحلت من البصرة إلى النجف بالعراق، وفي ضريح الإمام علي صادفها بطل الرواية، حين وقعت عيناه عليها وهي تشترك في تنظيف فناء الضريح، فقرر من لحظتها أن يتزوجها، ويأخذها معه إلى البحرين.
الرحيل هنا إذ يبدو مخرجاً، وهروباً من وضع لم يعد يُحتمل، فإنه ينطوي على معاناة إنسانية مؤلمة، حين يجد المرء نفسه محمولاً على قطع جذوره مع البيئة التي نشأ فيها وألف ناسها وتفاصيلها وتشكلت له فيها ذاكرة، ثم أن الهجرة في الغالب تأخذ الطابع الفردي أو العائلي المحدود، أو أنها مجرد انتقال مؤقت من مكان إلى آخر، ضمن نطاق جغرافي كان ممتداً وربما بدا في أعينهم واحداً، على أمل العودة، مرة أخرى، إلى مسقط الرأس، مما يعني أن من هاجروا يُخلفون وراءهم في أوطانهم الأم أحبةً وأهلاَ، يظلون مشدودي الفؤاد إليهم، بما في ذلك الأموات منهم الذين حوتهم تربة ستبدو نائية، فيبدو إحساس القرب حتى من قبور من نحبّ من الأموات يهبنا الألفة، فما بالك بإحساس القرب من الأحياء من هؤلاء الأحبة؟.
وتزداد المعاناة فداحة حين يتحول الرحيل الذي خطط له في البداية على أنه مؤقت إلى إقامة دائمة في المكان الجديد، الذي تنبت للقادمين إليه جذور في أرضه، لا يعود بالوسع اقتلاعها ثانيةً.
الإحساس المثقل بالألم جراء الرحيل يُعبر عنه الكاتب من خلال استعادة ذكريات المكان الأول، ونجوم السماء الأولى، فمن يقرر الهجرة يصبح مشطوراً بين شعورين كلاهما مُعذب: الرغبة في الرحيل هروباً أو نأياً عن بيئة طاردة، أياً كانت الأسباب، مع ما تنطوي عليه هذه الرغبة من خوفٍ من المجهول، وترقب مقلق لما يحمله الغيب من مفاجآت في ديار غير معهودة عند الراحل إليها، فلا يعرف إلى أية مصائر هو ذاهب، حتى لو كان وازع الرحيل عنده من القوة بحيث لا يُقاوم.
ومن جهة أخرى فإن ألم الإقتلاع من المكان الذي ألفته هذه الشخوص لا سبيل للتخلص منه، لأنه مهما كانت قسوة هذا المكان، فإنه، على قسوته، يتحول حين نغادره قسراً محمولين على الهجرة، إلى فردوس فقدناه أو أوشكنا.
لكن المعاناة لن تنتهي هنا، وإنما ستأخذ تجلياً آخر عند الوصول إلى المكان المُشتهى، بديلاً عن المكان الذي هجرناه، وهذا ما سيجد تجلياته في المصائر الفاجعة أو المُعذبة لشخوص روايات فريد رمضان، التي ستظل ملاحقة بالألم في مكانها الجديد في البحرين، فنحن إزاء جُهود مُضنية لتأسيس حياة جديدة، كأن لحياة المرء أكثر من بداية، ويزيد من فداحة هذه البداية الجديدة أنها تنشأ على أرض غريبة.
يصح هذا القول رغم ما يشيعه الوصف الممتع الدافئ للكاتب من شعور بالألفة في نفوسنا نحن القراء، وربما في نفوس القادمين الجدد، لأمكنة نعرفها جيداً كمرفأ المنامة، أو شارع باب البحرين الذي يفضي إليه قوس أثري من الآجر، وما في حركة السوق من حيوية وزخم، في جزيرة تقذف إليها السفن قادمين جدد كل يوم: “يمران أمام باب البحرين الذي يبدو في هذا النهار الجديد بؤرة للابتهاج والحبور، فالمبنى المطلي بالجير الأبيض الناصع يطل على مرفأ المنامة الكبير، وميدان الجمارك، حيث يمكن للمرء مشاهدة حركة العمال، والسفن، والقوارب، بأحجامها وأعدادها الكثيرة التي تصل أحيانا إلى مائة سفينة. (التنور ض 76).

اقرأ المزيد

يتفكّرون

حينما بدأت قصة الخليقة، وتعددت رواياتها، تفرّع البشر إلى كل المهن، لم يكن الدين مهنة تكسُّب مثل الوظيفة بشكلها الحالي، بل هي محل احترام وتقدير على مرّ الأزمان. لكنه في وقت ما، وفي ظروف ليست غامضة تماماً، أصبحت الأديان محلّ تجارة خطيرة ذات مردود مادي وسلطوي كبير، وتخويل بإدارة أمور البشر في أدق التفاصيل.
وهكذا تعامد الطرفان: طرف سلطة دينية أبوية مجتمعية لها حرية الحكم والتحريك وإصدار قوانين –مطاعة بالضرورة – يتقاطع بعضها مع العقل، وطرف آخر سلّم مسؤولية التفكير ببساطة لشخص أو جماعة من الطرف الأول، ضمن لائحة لا جدال ولا تشكيك. فالفرد المكتفي بقدر محدود من العلم، يخاف من مزيده؛ لأنه من سيوضع في ركن المسؤولية التي سلمها هو بإرادته وقناعته التي ترى أن الطريق الأسلم للنجاة هو البقاء مع العموم ممن سلموا قبله، وما سيجري عليهم سيجري عليه داخل حلقة الأمان هذه؛ لا خوف ولا قلق!
وليست هذه فكرة للعبث بمعتقدات، أو خرق ما يسمى بالتابوهات التي عفى عليها الزمن بفضل تطور الأدوات المعرفية، فمازالت هناك طرق التفاف كثيرة متاحة لطرح الموضوعات، وعقلنة كثير من الأمور، بأسلوب لا يتصادم مع صاحب الرأي الآخر؛ فقط للفهم، وحتى يكون السلوك بعدها على يقين من صحته، وليس اتباعاً لما تمّ توارثه، دون معرفة مناسبته أصله/ ضرر تركه/ أو فائدة متابعته. حتى أن بعض المشتغلين بالدين أعادوا تشكيل ما أكدّت عليه الأديان من مثل عليا في التسامح والمحبة والسلام، وتخصصت في تفاصيل الاختلاف؛ حتى تحشد الأتباع ضد من يخالفهم، بوصفهم الفئة الفائزة بالجنة، وما عداها ذر في هواء، وعلى ضلالة قطعاً.
أن تكون داخل الجماعة، لا يعني بالضرورة أن تفكر بطريقتهم، وتتبنى أفكارهم إن كانت على غير قناعتك، بعد إشباعها بحثاً – بالتأكيد لا -؛ وليست لأنها لم توافق هواك. فالبحث عما وراء الجدار، ورؤيتك بنفسك للمحتوى، أفضل من أي وصف وشرح يأتي ممن وكّل نفسه أن يقوم بذلك مقابل إجلال قد لا يستحقه.
فكيف يرفض المرء فكرة الترفع عما دفعت إليه الأديان أصلاً؛ في التأمل والعبادة النابعة من الشكر الصادق لكثير من النعم، والدعوة للتأمل في التكوين والخلق، في حين أن التفكُّر ورد – مثلاً – في القرآن الكريم نحو تسع عشرة مرة، معظمها مقرونة بالتدبر، وإدراك المعاني والإيمان؟ وفي هذه الحالة، يجب على الدينيين “الحقيقيين” الدفع بتنوير العامة، عبر فتح أفكار تنحو لسيادة العقل، والتحرر من التبعية غير المبررة، مع التأكيد الشديد والحازم جداً في أن الوصول إلى نتيجة – بعد التفكر- يجب أن تحدث بتريث، وعلى مهل مُرضٍ.
وقد قُدّمت صورة السلطة الدينية بأشكال مختلفة في الدراما، حسب توجه القائمين عليها أيضاً. فعندما يعمدون إلى تقديم “علي الظاهري”، الذي جسّد شخصيته عادل إمام في فيلم “الإرهابي” 1994، من تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال، في وقت كان الإرهاب يرتكب باسم الدين، بيّن الفيلم كيف تنتقى عينات مثل البطل: جهل، وفقر، وجوع، وقابلية تلقائية لعمل ما يؤمر به، حتى لو كان قتل أبرياء، تحت مظلة الدين.
وحين تطرأ أسئلة مشروعة جداً حول شيء ما، يُمنع بشكل قاطع من الجدال، رغم أنه لم يتخطَّ مرحلة الفهم أصلاً، وتحصيل الأجوبة عن الأساسيات التي يتبعها ويمثلها، باعتبارها من مهام الكبير/ الأمير، الذي سيفتح له السؤال والنقاش باب تهديد لمكانته المكتسبة، وهو يتلقى أموالاً من جهة ما غير معلومة، إلا له ولمن في مقامه، يلقي بفتاتها على “الظاهري” وأمثاله ممن يعبرون هذه الحياة مغيبين، بلا بصمة شخصية لهم، دون أن يتجرأوا على السؤال أو المقارنة، لأنهم – أمام الكبير- لازالوا في مرحلة القصور العقلي التي لا تسمح لهم بتجاوز حدود وهمية مرسومة للمحافظة عليهم وعلى المجتمع الذي يتم تحشيدهم للدفاع معتقداته بالشكل المطلوب.
وبينما البطل هنا مغلوب على أمره، مهما كان “فاعلاً”، منذ استشعرت الدراما خطر الإرهاب على المجتمع، يتم تقديم الشكل المتشدد الذي يشبه أحياناً نماذج قريبة من محيط حياة الفرد، لكن بمبالغة في رسم شخصياتها، حيث يميل القائمون عليها إلى إيصال رسالة: اخرج من القوقعة، فالعالم يتسع لمزيد من الأخطاء وأنت تمارس انسانيتك. فكِّر بلا قيد، وأعمل عقلك كما أراد الله لك. لذا نرى الاختلاف في شخصية “الديني” باختلاف موقعه، ونضجه، وتكوينه الفكري أيضاً. في مسلسل “الداعية” (2013) تأليف مدحت العدل وإخراج جمال العدل الذي قدم الشاب الوسيم صاحب البرنامج الديني على إحدى الفضائيات، والذي يحمل آراء حادة/ متطرفة/ وواثقة أيضاً، وهذه الثقة تتسرب إلى مريديه في هيئة إيمانية لا تقبل الحياد، لأنه أقفل باب النقاش بزعم الوصول إلى الحقيقة المطلقة غير القابلة للتفاوض.
وفي المقابل، هناك من يسخِّر نفسه لأن يكون تبعاً طول حياته. لذا فجمهور الداعية موجود ومتجدد أيضاً، وهو أمين في آرائه التي لا يعيش انفصاماً عنها، حتى مع أسرته الصغيرة التي يحمل عبء مسؤولياتها صغيراً، وقت كان والده يلهث وراء ملذاته، فالحرام حرام بحزم داخل المنزل، والموسيقى حرام، والأفراح الصغيرة التي تخلفها ذكرى أعياد الميلاد بدعة تؤدي إلى النار مباشرة، حتى يتعرف على جارته؛ عازفة الكمان في الأوبرا، ويحدث التغيير الدراماتيكي المنتظر من الدراما، والنادر في الحياة!
هذان النموذجان تحديداً يؤكدان أنه متى ما وُجدت الحرية، سيوجد الفن الذي يُحرر العقل من الجمود والنمطية، وميل الحياة لمزيد من الحب والجمال والسلام، لأنها قيم لا يمكن أن تتوفر في الأجواء المنغلقة التي تحكم قبضتها على مصادر السعادة، وترى المتع الجميلة الكائنة في لوحة تشكيلية، أو مسرح، أو أي فن، منبعاً للفساد وميوعة المجتمعات.
إن التفكّر هو المنحة العظيمة التي يجب أن تستغل بالشكل الأمثل، الذي يضيف للحياة نكهة، ولوناً، وتميزاً عن الآخرين، ومنطقة خاصة لا تشبه الآخرين. ولو أراد الخالق أن تكون تبعاً، لما ساوى في اكتمال تكوين عقل إنسان وآخر، أحدهما قرر أن يكون نسخة مطيعة مغمضة العينين والقلب!
وبين فرق الزي العصري للداعية، وعلي الظاهري بالشكل النمطي المهلهل للمتطرف، فإن المضمون واحد، والتعبئة من مصدر واحد؛ التكسب متعدد، ولكنه متشابه، والمجتمعات تبحث عن مخلص يجنبها عناء التفكير. وقد تكون مسألة السلطة مبررة، حين كانت المعرفة مقتصرة على من يجيد القراءة والكتابة، وتتوافر لديه مصادر التعلم قديماً، لكنه غير مقبول بعد انقضاء هذه المرحلة، وتراجع نسب الأمية في كل العالم بفضل تصاعد الاقتصاد وتبعاته، وما ينتج عنه من تحسين نوعية الحياة، وعليه توفر المعرفة بكافة أشكالها ومصادرها الورقية، أو عبر محرك البحث السريع، وهي مراجع تمكن القارئ الواعي من التبحُّر في أي تخصص – ربما نستثني منها التخصصات العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى ممارسة عملية – من تكوين أفكار ونتائج يتوسل إليها بقناعة الباحث الذي لا يمانع أن يصحح أو يحدثها بناء على مستجدات وحقائق مادية جديدة.
كما أن من غير المنطقي أيضاً أن يعمم هذا الشكل على كل من ينتمي للسلطة الدينية. ولكن التركيز على من يحولها لمحل “استرزاق”، أو كسب عيش، سواء عبر العطايا التي تأخذ شكل “الأتاوة” المقنعة، أو جزية تعطى ظاهرياً برضا، وباطنياً بحسابات ثواب وعقاب في الدنيا وفي الحياة الأخرى، دون القدرة على تحييد العقل والتفكير في ماهية المنح.
وبمجرد الاطلاع على بعض كتب السيرة، أو حتى الدراما التي كتبت حولها، فإن قليلاً من الوعي سيكشف مدى “التأليه” غير المبرر لأشخاص لهم بالتأكيد أخطاؤهم كبشر، والتي تدفعهم أنفسهم البشرية إلى الميل نحو شهوة ما، مما يجعل الصورة المثالية غير مقنِعة على الإطلاق، حتى وإن ملنا عاطفياً لأشخاص معينين، بحكم مواقف شهدناها، أو تاريخ يروى أو يسود من قبل آخرين يسلطون الضوء على الجانب الإيجابي الذي يخصهم تحديداً.
إن إجلال ممثلي الدين – أو من في دوائرهم – يجب أن يتفق مع المنطق، ولا يتم التسليم لمجرد الدرجة العلمية، التي غالباً لا تكون موجودة، لأن مجرد الانتظام في دار عبادة، وتغيير الزي، وحفظ نصوص مقدسة، يخول صاحبها إلى تبوّأ سلطة واحتراماً يفوق التعامل مع بقية البشر، أو ممارسة أفكار اعتدنا على وجودها في كل أمور الحياة دون إدراك معناها وجوهرها، وبدون إعطاء أنفسنا فرصة للتفكير والمراجعة وتفعيل العقل الذي ميز به الإنسان دوناً عن غيره من المخلوقات، وإلا سنشكو الخوف من التقدم دون أن نعرف مصدره ولا الحدود التي تحول دون تحقيق الفهم والاطمئنان إلى قناعاتنا، والخشية من مصير آخرين قرروا التقدّم وتراجعوا لأنهم شاهدوا تصنيفاً وعقاباً أو سمعوا به فآثروا السلامة صامتين.

كلام الصور
صورة 1
عادل إمام في مسلسل “الإرهابي”
صورة 2
لينين الرملي
صورة 3
هاني سلامة

اقرأ المزيد

الطبيب الراهب الشاعر هيبا

لكل داء دواء، ولكل مشكلة حل، أعني لمعظم الادواء أدوية، ولأغلب المشاكل حلول. هذا ما قاله هيبا في بداية مشواره نحو الرهبنة، إلا ما طال الخلافات بين الكنائس، فمنذ أن حلت الاختلافات بينها حول طبيعة المسيح وهو جوهرالديانة المسيحية أصبح الانشقاق والفرقة، ومن ثم الاقتتال سبباً للتفكير ومن ثم التفسيروالتدبير، فذهبت ريحهم، وحلت الخلافات بينهم، وأصبح التربص لكل مذهب بالاخر ديدنهم، وكل يرى رأيه الأصوب وتفسيره الأنسب، وفهمه الاوفر، ويحشد حوله الأساقفة والقساوسة والرهبان وزعماء الكنائس والصعاليك لتدعيم رأيه وفرضيته وفرصته للنجاة مستندا إلى النصوص من الأناجيل الأربعة.

(عزازيل)، رواية ليست كباقي الروايات، ملحمة تاريخية بطلها -هيبا- الطبيب والراهب والشاعر أيضاً، الذي يجيد أربع لغات: اليونانية والعبرية والقبطية والآرامية، دارس للمنطق وكتاب التاسوعات لأفلوطين، وهو محب للكتب، ويقتني منها الكثير وعلى الأخص الممنوعة منها والمحجوبة عن العامة، والمتيسرة للقلة من المؤمنين المسيحيين.

واسم هيبا ما هو إلا النصف الأول من هيباتيا عالمة كل العصور كما كانت تسمى واستاذة الزمان كما توصف، بعد أن قُتلت شرّ قتله على أيدي الرعاع والصعاليك من الكنيسة المرقسية في الإسكندرية بسبب آراؤها الفلسفية ونبوغها في الرياضيات وعلوم الفلك.

يقول يوسف زيدان على لسان هيبا: (أراها أمامي وقد وقفت على منصة الصالة الفسيحة، وكأنها كائن سماوي هبط الى الأرض من الخيال الإلهي ليبشر الناس بخير رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوما ليسوع المسيح، جامعة بين الرقة والجلال. في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية. في جبهتها اتساع ونورسماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها، وقار يماثل ما يحفّ بالالهة من بهاء..)، فهيباتيا باللغة اليونانية تعني السامية، وهي مصداق لمعنى اسمها، فسمو الاخلاق والنبوغ والقدرة على الإقناع والعلم الموسوعي هي من صفاتها، وهي التي تقول: (الحقائق التي نصل إليها بالمنطق والرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا، فسوف تظلّ حقائق باردة، أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها).

قتلت هيباتيا العالمة الجميلة في العام 514م وسحلت جثتها ومُثّل بها وأحرقت بسبب اتهامها بالسحر، وبصناعة الآلات الفلكية لأهل التنجيم والمشعوذين ولهذا ناصب العداء لها بابا الإسكندرية كيرلس آنذاك، وشجّع على قتلها من خلال خطبه الحماسية الرنانة ليقوم بطرس القارئ وأعوانه من الرهبان وصعاليك المسيحيين المتوحشين بهذه المهمة الشريرة.

ماتت هيباتيا أستاذة الزمان النقية القديسة، كما يذكر زيدان في الرق التاسع من روايته (عزازيل)، وهي الربة التي عانت آلام الشهيد، وفاق عذابها كل عذاب، وفي كل عصر وزمان، وفي كل الأديان، وكما في كل مكان يقتل العلماء والمفكرون ويتهمون بالهرطقة والزندقة والكفر والالحاد عندما يختلفون ويشذون عن طوق الحاكم أو من من يعتبرون أنفسهم ممثلي الله على الأرض من أصحاب الديانات المختلفة.

كاد الراهب هيبا بعد ما هاله من فزع ورعب بعد مقتل هيباتيا أن يهجر الرهبنة ويعود إلى بلدته نجع حمادى الواقعة بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، “فالاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني، والخصام والنزاع يسودان كل مكان”، كما يقول.

الراهب المصري الأصل في رواية “عزازيل” يقوم بتدوين سيرة حياته القلقة، وتاريخ تلك الأحداث وتقلبات زمانه المضطرب بعد تمكنه من ترجمة الرقوق الواردة إليه من شمال غرب حلب، وهي في حالة جيدة ومكتوبة باللغة السريانية القديمة (الأرامية) إلى العربية، وكان ذلك في القرن الخامس الميلادي وعلى وجه التحديد في العام ١٥٥٥م كما ورد في مقدمة المترجم. وكما يقول زيدان عن لغة الراهب هيبا: (تعبيراته الرهيفة، البليغة والصور الإبداعية التي تتوالى في عباراته، مؤكدة شاعريته وحساسيته اللغوية، وإحاطته بأسرار اللغة السريانية التي كتب بها)، كما أن هذه الرقوق كما ورد في الرواية ثلاثين رقاً، وهى متفاوتة في الحجم، في الطول أو القصر.

وكثيراً ما راود هيبا الاحلام في تطوافه، فكما يقول أمبرتو إيكو في روايته الجميلة “اسم الوردة”: (الحلم كتابة، والكثير من الكتابات ماهي الا أحلام)، فقد دوّن الراهب هيبا هذه السيرة في العام ٤٣١م وهى السنة المشؤومة، كما يطلق عليها، بسبب حرم وعزل الأسقف نسطور نتيجة للخلافات شديدة الوقع بين الكنائس، حيث كان اللقاء بينه والأسقف نسطور في أورشليم. فنسطور المبجل كما يشير إليه في أكثر من موضع هو المعلم والملهم والناصح والحامي والصديق لهيبا الراهب، فلا غضاضة أن يدافع عنه وعن أفكاره في خلافه مع الكنيسة المرقسية في الإسكندرية والاسقف كيرلس الذي عمل جاهدا لعزله عن اسقفية إنطاكية ومن ثم حرمانه من الرعاية الكنسية وتحقق له ذلك بعد أن أقرّ المجمع المقدس برئاسة الامبراطور، بإعادة كيرلس لرتبته الأسقفية وأقرّعزل نسطور ونفيه بعد أن تخلى عنه الأساقفة المناصرين لآرائه، مما هيأ للمجمع المقدس أن يصيغ قانونا جديدًا للايمان فيه إضافات على القانون الذي أقرّ قبل مائة عام في نيقية، كما ورد في الرق التاسع والعشرين .

في رحلته المريرة من بلدته نجع حمادي إلى الإسكندرية ومن ثم أورشليم القدس واستقراره النهائي ومحطته الأخيرة بعد أن تعب من الترحال الدائم، التقط أنفاسه في الدير الواقع شمال حلب، لأنه يقع في منطقة خضراء هادئة، في أعالي تلة ويعود بنائه إلى ما قبل الرومان، كما يذكر الراهب هيبا، وكان مبنى الدير معبداً في الزمن الغابر لإله الخصب والمراعي ولربة الحقول، (كانت أيامي الأولى في الديرهادئة، هانئة أمضيت أوقاتي في القراءة والعبادة، فسكنت روحي).

وكما يقول يوسف زيدان في روايته المبهرة “فردقان”: (الرجال مهما كانوا حكماء فإنهم لايبرءون من الطيش الطفولي، فإن الراهب هيبا كانت له مغامراته البريئة أيضاً، فمنذ أن وطأت قدماه الإسكندرية وتحت غوايات أوكتافيا وقع في المحظور ليقول عنها: أنا ما رأيت قبلها أجمل، ولا أرق، ولا ألطف. أوليست وهي الوثنية، أنقى قلبا وأصفى روحاً من أغلب المسيحيات اللواتي عرفته؟).

فعلى الرغم من حلمه الكبير في النبوغ في الطب واللاهوت، إلا إن مشروعه كاد أن يتعثر بسبب تلك المرأة وغواياتها له (كان جانبا مني يريدها، ويحب ذكاءها ورائحة جسمها. نعم كانت أوكتافيا ذكية، زكية، شهية. لكنني ضيعتها وضيعتني، مرتين ..)

وبقدرة قادر تخلّص من أوكتافيا ليواصل مشوارة وهدفه، رغم تلك العثرات والمطبات، ليسقط مرة أخرى في مستنقع الغرام ويحترق بنار مرتا اللاهبة.

مرتا كلمة قديمة تعني السيدة: (شعرها بحسب ما بدا من أطرافه المنفلتة من غطاء رأسها، كحاجبيها فاحم السواد، ولامع براق ٠٠مرتا آية من آيات الجمال الإلهي في الكون، في وجهها طفولية ونزق، وفيه بهاء صورة العذراء ، غير أن نظرتها جريئة جداً، ومربكة لمن هو مثلي، لسعتني نظرتها، وروعني جمالها، حتى كاد يغمى على من جلال الجمال ٠٠).

كاد أن ينهي مشواره وينتهي مع تلك المرأة لولا تشدد التعاليم الدينية لمن يود الرهبنة، فانتهى لمقولة من إنجيل متى: “من يتزوج مطلقة، فهو يزني”، وبذك فرّت منه رغم حبها الجارف له، وأصبح في وضع مزرٍ، لاحقته الهموم وعصفت به الأقدار بعد عزل نسطور ونفيه.

عزازيل …أي أبليس، الشيطان، أهريمان، يلعزبوب، بلعزبول، كلها مترادفات تعني نقيض الله المألوه الذى عرفناه بالخير المحض، فعزازيل مبرر الشرور.

من لم يقرأ هذه الرواية قد يعجز عن فهم ما يجري داخل الكنائس المسيحية من خلافات، وما يحدث فيها من نقاشات وصراعات، ففيهم القديسون الأتقياء، والهراطقة الممسوسون، فيهم الاتقياء النجباء وفيهم الأدعياء، الصادقون والمكذوبون، النافعون والمخلصيو لديانتهم والمتكسبون من تدينهم، والصالحون والطالحون، كما هي حال كل الأديان والاعتقادات لا تخلو من هؤلاء وأولئك، ويبقى الانسان حمّال أوجه، ويبقى هيبا الطبيب الشاعرصادقاً قبل أن يكون راهباً.

اقرأ المزيد