المنشور

نعال النوخذة المقتطع من تاريخ الغوص

على نهج “تشيخوفي” في حدث صغير، عادي، ومكرر، وقد يحدث كل يوم في أي مكان، يتنامى إلى أن يصبح حدثاً رئيسياً كبيراً، يبدأ عرض “نعال النوخذة” من عائلة بو يوسف (حسن العصفور)، الذي تلحّ عليه زوجته بالاقتراض من النوخذة بوسالم (عادل شمس) من أجل إكمال إجراءات زواج ابنهما. يتردد بو يوسف في مسألة طلب المال، ويماطل زوجته، حتى يلجأ إلى التحجج بعدم وجود “نعال” مناسبة ليقابل بها النوخذة ويطلب منه ما أراد، ويتطور الأمر إلى سرقة نعال من المسجد.
في الجهة الأخرى، هناك النوخذة الجشع (بوسالم)، الذي يفتقد وجود العمالة المناسبة لسفينته، حيث دخل (الغاز) البترول، وانخرط الكثيرون ممن كانوا يمتهنون البحر -برزقه المتعثر وعبوديته المميتة- إلى فضاء العمل ذي الدخل المنتظم. الرابط بين هذين الحدثين: أن “النعال” المسروقة هي نعال النوخذة الذي أتي من الجنوب إلى الشمال من أجل إقناع الناس هناك بدخول البحر، مستخدماً أية سلطة وحيلة تمكنه من نيل مطلبه، وقد كان بالفعل، حين استغل حادثة سرقة نعاله من أجل إحالة الموضوع إلى فعل متآمر من أهل الجنوب عليه شخصياً.
ما يميز عرض “نعال النوخذة”، إضافة إلى كونه بات شكلاً غريباً لتقديمه الشكل الشعبي، في مجمل عروض مسرحية تتخذ أشكالاً أخرى، أن له خصائص خليجية مشبعة ومعتنى بتفاصيلها، سنأتي على أبرزها لبيان أهمية أن يكون العرض المحلي محل تقدير ومنافسة بهويته وهيئته أيضاً. وأول ما يمكن ملاحظته في هذا العرض: كتابة الشخصيات بتفرّد مرسوم، يسرد للمتلقي تاريخ الشخصية، بغض النظر عن الفعل على الخشبة. فالنوخذة -على سبيل المثال- هو مالك السفينة، أو قائدها، أو الاثنان معاً، وبكل الأحوال هو مالك لسلطة كبيرة يخنع لها البحارة، الذين يقضون وقتاً طويلاً من أعمارهم في خدمته، والحصول على فتات ما يجلبونه من قاع البحر.
لذلك قامت الدراما بشكل عام بتصوير صورة النوخذة بصفتها الشخصية المتسلطة الجشعة، والتي تعيش على بسطاء الناس، وتورث أولادهم الديون والعبودية المبطنة أيضاً. ورغم أنها صورة عامة، إلا أنها مكتسحة، لذلك لن يبذل النوخذة جهداً كبيراً، إلا ما يعادل الدلالات المؤكدة على هذه السيرة، وقد كان. لم تحتج شخصية “بوسالم” إلى توضيح توجهها للمتلقي كثيراً. فالحوار الأول، الدائر بينه وبين خادمه “مرزوق”، يبين حاجته لعودة البحارة إلى سفنه الراكدة أمام شاطئ البحر دون تشغيل، لاتجاه العمالة نحو الجبل/البترول. أيضاً، في شخصية الخادم “مرزوق”، راشد العازمي، ذي البشرة الداكنة، الذي صنفه المجتمع في هذه الطبقة، ولازال البعض يفعل ذلك، وهو الخادم النمطي، المستعد لفعل أي شيء يرضي به سيده، حتى لو كان على حساب نفسه. وبينما يتعامل الجميع معه على أساس تبعيته للنوخذة الكبير “بوسالم”، تأتي شخصية “مجدم” (أمين الصايغ)، المثيرة للجدل، لتعامل مرزوق بشكل طبقي حاد، مكنونه عنصري، وغير متخفٍّ، بدليل تكرار الجمل الدالة على ذلك، مثل:
“مرزوق: عندكم بعد من مدة أسبوع واحد من أهل سترة
مجدم: (مقاطعاً) ههههه أي.. اللي طاح في البالوعة.. هذي سلمكم الله..
بو عيسى: (مقاطعاً): الله يهديك يا مجدم، خل الرجال يكمل سالفته.
مجدم: أي رجال يا بو عيسى.. هذي إلا مرزوقوه” (1)
كما ورد أيضاً في حوار سابق موضوع العبودية الذي يتكلم فيه مجدم على مرأى ومسمع من الجميع، الذين لا يوافقونه –كما يتبين من العرض- ويأتي كالتالي:
“ملا راشد: اسكت يا مجدم، وخل سالفة لنعال اللي شفتها لي بعدين. (لمرزوق) علمنه إيش صاير يا مرزوق؟
مجدم: أوه أوه.. بعد العبيد لهم كلمة في ميلس الرجاجيل
ملا راشد: اذكر الله، وصل على النبي يا مجدم,, كلنه عبيد الله يا مجدم”.
واستخدم مجدم لفظة “مرزوقوه” و”العبيد” كمرادف للتحقير والتصغير المتعلق باختلاف لون البشرة، دون أن تكون هناك أية إشارة على وجود خلاف شخصي أو مشكلة تستدعي الإهانة بهذا الشكل الصريح، إلا محاولة إثبات أنه أفضل منه طبقياً، كما يوجد أفضل من مجدم نفسه طبقياً، ويعامل بذات الأسلوب الذي يعامل به الخادم، ولا يبدو أن مجدم يكيل التهم لشخص مرزوق بذاته، حيث يخاطب حميد (السكران) بذات الاعتزاز غير المبرر. ومن طريقة الحديث في المجلس ما قبل الصلاة، تتضح ملامح هذه الشخصية التي تودّ أن تتصدر أي حديث، مهما كان، لتبين المعرفة والأفضلية، وتصنع لنفسها صورة غير واقعية لتعويض نقص ما، كحواره مع حميد في مجلس بو سالم:
“حميد: آنه شمجيبني حق هالرجال.. آنه ويني او وينه؟
مجدم : صدقت يا حميدو ,, إنت وينك او وين بو سالم ..أنت كفو تجلس في ميالس لكباريه ,, إنت حدك البراحة
حميد: يعني اللي الحين يسمعك يقول هالرجال ما يجلس الا معا الخديوي الشاهنشاه.. إنت حدك عتبة القهوة.
مجدم: لعلمك (باعتزاز) آنه ما اجلس الا معا الرجاجيل السنعة، وسوالفي ما أقولها إلا حق الكفو منهم، وإلا الطرطنقيه اللي إنت واحد منهم ما لهم أي اعتبار عندي”.
وتعد شخصيات: مجدم، ومرزوق، وبوسالم، وبويوسف، وبوراشد أيضاً نماذج تمثل أنماطاً مجتمعية موجودة، تعامل معها العرض كما هي دون الحاجة إلى تطويرها. فالخادم المحبوس داخل لونه وتقييم المجتمع له، لا يحاول إلا الإمعان في خدمة سيده، محاولاً تهيئة أي سبل ترضيه، مثل استدعاء شهود زور، أو تلفيق تهمة لمجدم وشخص آخر على سبيل الانتقام من سوء معاملته من قبل الأخير، إضافة إلى تبديد غضب بوسالم. ولن نجد رجل الدين، الملا بوراشد (محمد الصقر)، يقوم بدور مخالف من السكينة والهدوء وضبط النفس، بالإضافة إلى الشكل الخارجي الملتحي، الورع، لنموذجه.
وبهذه الشخصيات الحاضرة/الجاهزة في الوعي العام، شابك النص بينها لخلق حدث، جدل بعناية في أداء تمثيلي أخذ قالبه في كل الشخصيات التي قدمت؛ (حسين العصفور) هذا “الجوكر” في دور بو يوسف، القادر على التوغل في كل الشخصيات التي يؤديها باقتدار، كأنّ الشخصية مرسومة له بذاته، ومجدم (الصايغ) الذي يبتكر نبرة الصوت المناسبة لشخصية المدعي، المضطرب، والمتصدر بنفس الوقت، والنوخذة (شمس) الرأسمالي، المتضرر من الوضع الجديد، وهو خارج الشخصية الشريرة المكررة النمطية، رغم الأفعال غير المستساغة منه، ومعظم ممثلي هذا العرض، بما فيهم المجاميع، لم يغرد أحدهم بعيداً عن الكتلة المجتمعة لإبراز قدراته التمثيلية، إلا بالشراكة مع الآخرين.
أما المسألة الرئيسية التي اتكأ العنوان عليها، فهي في رمزية “النعال” الحذاء/المداس، الذي يقال – أدباً واحتراما – للمخاطب به في جمل اعتراضية مثل: أعزك الله/ حاشاك، بينما هو قطعة هامة تلبس مكملة للملابس، لكن لكونها تلامس الأرض عند المشي، وتقارب التراب والقذارة، كما تقارب باقي الأشياء، أقرنت بالتحقير، ودلالة هبوط المستوى، ونزول المكانة. أما ارتباط لفظة النعال بالنوخذة، فتحمل –فرضياً- النقيضين؛ بين وضاعة وفخامة. حشد المؤلف في متن نصه استناداً لعنوانه مضامين حية مثل: الرأسمالية المتمثلة في النوخذة بوسالم، التكافل الاجتماعي والحفاظ على المصلحة العامة، خاصة تلك المربوطة بالمصائر الجمعية، الطبقية التي يمارسها النوخذة على الجميع، ويقوم الأفراد باستعمال نفس الحق، ولكن بشكل مصغر، كما شخصية مجدم مع الآخرين.
وكذلك أيضاً الدلالات التي منحها العرض منذ البداية، وهي أن الحدث في بيئة خليجية، إذ يستدل على ذلك باللهجة، والزي، وطبيعة العلاقات. أما الفترة الزمنية، فتقع في بداية الثلاثينات، مع اكتشاف النفط الذي سيطر على الأيدي العاملة، ونقلها من حياة البحر، والغياب الطويل، والمخاطر إلى مثلها، ولكن بظروف فضلها الكثيرون. لكن العرض كذلك يمنح مفارقة تدعو إلى التأمل. فبينما يسمي المكان والمنطقة الجغرافية، وهي البحرين، عبر ذكر جزيرة سترة وأهل سترة، وماعدا ذلك فكل الإشارات مشتركة خليجياً: الغاز (البترول)/ تحول العمال من البحر للجبل/ اللهجة المتقاربة/ الزي المتشابه/ وغيرها من العلامات التي لا تضع مكاناً للشك في المكان، ويتحدث بالإشارة إلى أهل الشمال والجنوب، وكان من الأولى -إخراجياً- التنبه لهذه الدلالة، بالذات أن مفردة سترة لم تذكر في سياق مهم أو خاص بها، وكان يمكن الاستعانة بأي اسم رمزي، كما كانت الإشارات السابقة لأهل المناطق المسمية بالجهات. يحسب للرؤية الإخراجية للعرض أيضاً: العمل على تداخل اللهجات بسلاسة لا تحتاج لتبرير، طالما أن العمل بحريني، ومعروف تعدد اللهجات في الدولة بحسب المناطق.
فاستثمار اللهجة الأصلية لبو يوسف وأم يوسف (عبير مفتاح) أحدث كوميديا نابعة من الاختلاف، دون الالتفات بعمق إلى ما وراء هذا الاختلاف، والتركيز في الموضوع الأساسي، وهو توفير مهر يوسف لتسريع زواجه بابنة خاله. في هذا السياق، يلاحظ المتلقي اختلاف نطق اسم مجدم إلى “ميدم” أو “مقدم” حسب المنطقة، وهي إشارة ثانية إلى تنوع اللهجات في البحرين، مما يعيدنا إلى مسألة إصرار النص، والعرض لاحقاً، على استخدام الإشارة في توصيف ناس الجنوب وناس الشمال، الذين يمكن تسميتهم بالمناطق حسب الخريطة، وحسب جهة سكنهم المشار إليها. ويستخدم عرض “نعال النوخذة” أيضاً الثيمة الخليجية لتكبير وإجلال المنادى عليه، من خلال عدم معرفة أسماء الشخصيات، إلا بإقرانها باسم الابن الذكر الكبير، مثل: بوسالم، أو بو يوسف، مع الإشارة إلى أن هذا العرف لا يخضع للحالة المادية، أو الاجتماعية، للفرد.
لابد من الإشارة أيضاً للدور الذي لعبته السينوغرافيا، بكل مكوّناتها، في التنقل السلس من حي الجنوب وحي الشمال، إلى بيت بو يوسف بطل الحدث، عبر قطع ديكور، وموسيقى، وأزياء، تهيئ المناظر واحداً تلو الآخر للحقبة الزمنية المقصودة، وفي انتقال سلس، ومستغل بشكل جيد، مع تظافر أكثر العناصر في العرض لإظهاره بشكل شعبي قريب للشكل الجماهيري، الصالح، والمهيأ لكل الفئات العمرية التي تخوله لليالي عرض أكثر من عرض الليلة الواحدة في مناسبة مسرحية، كما عرف بها مسرح أوال منذ التأسيس في بداية السبعينات، وحتى انتعاشه الكبير في الثمانينات، وبداية التسعينات من القرن الماضي، وحتى الآن.

(**) لمشاهدة العرض كاملا

_ حصد “نعال النوخذة” على جائزة أفضل عرض في مهرجان البحرين المسرحي الأول 2019 وهو من تأليف يعقوب يوسف وإخراج جمال الغيلان

اقرأ المزيد

مفاهيم لحماية الحركة النقابية

هناك ضرورة لتصحيح أوضاع الحركة النقابية بشيء من العمل المنظم في صفوف العمال والمهنيين لمنع الأمراض التي تعاني منها، جراء تغلغل صنوف الإنتهازية في صفوفها، ما يتطلب العمل على إيجاد أرضيّة لتثقيف العمال وحثهم على ضرورة الإنخراط في في العمل النقابي.
ومن المهام الأساسية لحماية الحركة النقابية من التفكك والتشرذم، توعيّة العمال بضرورة العمل والنشاط لتحقيق المطالب العماليّة، خصوصاً الضرورية منها، ذات الصلة بالحياة المعيشية والاجتماعية، مثل رفع الاجور وتحسين ظروف العمل وحماية الحقوق لكافة منتسبي النقابة من القمة للقاعدة، لأن النقابة هي التنظيم الأساسي لحماية العمال في وسط المصنع أو المؤسسة، وعلى عاتقها تقع مهمة العمل من أجل ذلك في كل الظروف، خصوصا إذا تعرضت النقابة لخطر تغيير المسار الصحيح، لتغليب ميول انتهازية أو فوضوية أو طائفية وفئوية.
يتطلب هذا خوض مناقشات بناءة على أساس من الحوار البناء الديمقراطي الجاد المثمر للوقوف بحزم ضد كل الممارسات التي تؤثر سلباً على العمال ومصالحهم وعلى حركتهم النقابيّة، والسعي لتمكين العناصر والشخصيات العماليّة التي أثبتت التجارب بأنها قادرة على إدارة الحركة النقابية، لا ترك الحبل على الغارب لمن لا يملكون الخبرة ولا الكفاءة ولا معرفة أساليب بناء النقابات وقيامها بدورها المطلبي والتنظيمي.
المفاهيم النقابية السليمة تؤكد على أنه لا يجب أن تترك الحركة النقابية للمجهول، خصوصا في ظل الخلافات في الوسط النقابي، وهيمنة عناصر لا تمت للعمل النقابي بصلة، ما يوجب على الكوادر النقابية الواعية والمخلصة ضرورة وضع الكادر النقابي المخلص في المكان المناسب لقيادة النقابات أو الاتحادات النقابية، بعيداً عن المجاملات والمحسوبية والمصالح الشخصية، وبعيداً عن انتظار الحلول من كل القوى المعادية للأنشطة النقابية، خصوصا تلك التي تسلب من القرار العمالي الاستقلاليّة والمهنيّة.

اقرأ المزيد

سحر الكلام

قبيل أيام شاهدت بالصدفة لقاء تلفزيوني قديم بُث على قناة دبي زمان، استضافت فيه الإعلامية بروين حبيب الممثل السوري أيمن زيدان، شدّني اللقاء وتابعته حتى النهاية، ذُهلت حقا من براعة ضيفها في الكلام، وتمكنه من الإجابة بمنتهى الرشاقة على كل سؤال ُطرح عليه. بدا كمن يصد السهام عن نفسه دون أن ترمش له عين. اللافت في أجوبته الواثقة هو أنها إما ذات قيمة معرفية، أو بها إشارة ثقافية فنية أو تاريخية مهمة، حتى وإن وجه إليه سؤال شخصي عن طفولته وذكرياته كان يجيب عليه بشكل أخاذ.
بعيد هذا اللقاء رحت أستذكر بعض المقابلات التي شاهدتها على مدى أعوام وماهي الانطباعات والأقوال التي ظلت في ذاكرتي لتلك الشخصيات. وهذا شأن الذاكرة ولا دخل لي بذلك، هي تخلد ما تختار وتحذف ما لا تجده مثيراً! تأملت كيف كان الكلام يتسلل من أفواه الفنانين أو الشعراء أو الأدباء أو حتى بعض السياسيين.
إن اللقاءات التلفزيونية الحوارية والتي تتم وجهاً لوجه، كلاسيكية وقد لا تثير أبناء هذا الجيل، لكنها تبقى وسيلة تواصل مهمة بقدر ما تكشف عن جوانب، نوايا، ومعلومات تسكن فكر ووجدان المرء، معلومات قد لا تلمسها في الكتب، لكنها تنساب من بين أطراف الكلام.
لطالما وجدت متعة كبيرة في مشاهدة الحوارات مع العديد من الشخصيات باختلاف توجهاتها ومستوياتها الفكرية. حوارات تكاد تنقرض في عصرنا الراهن، مما يضطرني الأمر للتفتيش عنها عبر اليوتيوب أحياناً. وكم أستأنس حينما أقود السيارة وحدي، ويبث صدفة حواراً قديماً عبر البي بي سي الإذاعية.
بالرجوع لزيدان، استطعت مثلا أن ألتمس مدى اطلاعه وخبرته في مجال الفن والحياة بشكل عام. وبهذا بدا لي أكثر اقناعا كفنان لأن دوره لا يتمثل في تقمص الأدوار المسنده إليه فقط، بل في كونه يفهمها جيداً، ويدرس ظروفها وما يحيط بها اجتماعياً وسياسياً، معتبرا كل دور أداه بمثابة رسالة هامة يجب أن تصل المشاهدين وتؤثر بهم.
في أحد ردوده قال زيدان متهكماً: (نعم، لم يلق مسلسل “أخوة التراب” سيطاً واسعاً لأنه يبدو أن الناس غير مهتمة بقضايا التاريخ العربي، لكنهم وجدوا أموراً أكثر أهمية لعرضها على الشاشة). وفي تحدثه عن نشأته قال: (أنا تربيت ونشأت ضمن نسيج اجتماعي بسيط، حياتنا كانت تتسم بالبساطه، لدرجة أنه عندما فتح محل لبيع الساندويشات في الحي الذي كنت أقطنه، اعتبر أهل الحي هذا أمر جلل، فإذا تمّ ضبطك تشتري ساندويشه من ذاك الكشك المغطى بالستائرفأنت في عداد المتكبرين.. وروايتي لهذه القصة ليست غزلاً في الماضي لكن بي حنين شديد إليه).
لا شك أن كلاماً كهذا يجعلك واقعاً في شباك هذا الفنان، وستحظى أعماله عندك باحترام وفضول كبيرين. يحضرني أيضا هذا القول من إحدى مقابلات المفكر إدوارد سعيد قال فيه: (أنا أعيش في أمريكا منذ أكثر من خمسين عاماً، لكني لا زلت لا أشعر بأي انتماء لهذا المكان). لعلي نسيت جزءاً كبيراً من هذا اللقاء لكني احتفظت بهذه العبارة، وكما أشرت سلفاً ذاك شأن الذاكرة.
من بين اللقاءات الجميلة التي لا تمل كانت مع الفنان الراحل عمر الشريف، حوارات صريحة بلا تزييف أو مبالغة في القلق من الكلام، يتحدث بكل شفافية عن تجربته ولا يتوانى في ذكر بعض قصصه الشخصية بشكل كوميدي خفيف بلا أي تصنع، وتبرز (مصراويته) في أغلب لقاءاته رغم إنه فنان عربي نجح في بلوغ هوليود، لكنه لا يتوانى أبدا في الحديث عن مصر الأم ومدى فخره، وولعه بها. كما أستذكر حواراً قديماً للشاعر الأمريكي الراحل بيكوفسكي، سألته فيه المذيعة: “ماهو الحب؟”، فرد قائلاً: (الحب: هو الضباب الذي تلمحه في السماء قبل شروق الشمس، لكنه يحترق، يختفي ما إن يظهر أول ضوء في الصباح).
على ضفة أخرى هنالك لقاءات مخيبة للآمال، تحوّلت شخصياتها عندي لحالات غير مقنعة بعد الكلام. في أحد اللقاءات قال الفنان الراحل ملحم بركات عندما سألته المذيعة عن المرأة وكيف لها أن تحافظ على علاقتها بزوجها، ردّ بنبرة متعصبة وساخرة: (المرأة هي التي تحافظ على جمالها وتعمل رياضة وتنظف ورا أذنها، نعم المرأة هي نظافة وجمال!!) وكأنه بهذا الرد مندوباً يعمل لصالح شركة صابون الجسم.
وفي ردّ مستفز آخر أجابت الفنانة نجوى كرم عن سؤال حول حقوق المرأة فقالت: (أيه ما لازم حقوق المرأة تزيد عن حدها، المرأة الحقيقية هي اللي بتنظف البيت وتشتغل ببيتها وتطبخ لزوجها وتلبي طلباته وتشوف الأولاد!). والحق يقال إني لا أستطيع تجاوز هذا النوع من التصريحات، ولا فصلها عن شخصية الفنان الذي يغني مزهواً بنفسه على المسرح لكنه يعاني خواء على المستوى الفكري. عندي هو سبب كافي لأن يتجرد هذا الفنان من رداء الفن.
وكما قال سقراط: (تكلم حتى أراك).. نخلص إلى القول بأن أهمية الكلمة تبرز في ترسيخ مكانة الفرد، سيّما إذا ما أراد لنفسه أن يكون فناناً أو شاعراً أو أديباً. ما يعني أنه سيكون فريسة سهلة للانتقاد، كل جملة سيتفوه بها قد تخلق انطباعا حسناً أًو سيئاً عنه، وعليه أن يدرك كيف له أن يستغل موقعه في التأثير بالكلام. هذا الكلام الذي قد يرفع من شأنه، ويعزز صورته الإعلامية.
الحقيقة أن مشاهدة الحوارت رافد ثقافي جيد للتعرف على شخصيات كثيرة عن قرب، سيما حين لا تتيح لك انشغالات الحياة مجالا كافياً لقراءة الكثير من الكتب. تلك محاولة لقراءة وفهم تفكير شخصيات متنوعة، التعرف على فلسفتهم في الحياة، أرائهم حول قضايا واعتبارات تجري على الساحة. لكن الحديث مهارة، والكلمة قوّة، ولعل سبب عزوف بعض الشخصيات عن إجراء حوارات هو الجهل أو الخوف من سحر الكلام.

اقرأ المزيد

حول حجب صور المتفوقات

العصا (المثنى عَصَوَان؛ الجمع عُصِيّ وعِصِيّ) هو عود من الخشب يتوكأ عليها ويهش بها على الغنم، تلعب العصا دوراً كبيراً في حياة الناس ففي صغرهم يكون دورها للتباهي أو لإظهار القوة وللدفاع عن النفس، وغير ذلك من الاستعمالات.

يستخدم العديد من الإسلاميين في حواراتهم ونقاشاتهم مع التابعين لهم أو المختلفين معهم في الثقافة والفكر الدين/ الشرع (القرآن والسنة النبوية) كعصا غليضة تُرفع في وجه من يُحاججهم ويتباين معهم حول مسائل عديدة في الحياة.

على سبيل المثال، عندما يكون النقاش حول شكل النظام السياسي للدولة ويطرح الكثيرون رأيهم بضرورة اللجوء إلى النظام الديمقراطي يخرج علينا رجل دين يرعد ويزمجر بوجوب تطبيق النظام الإسلامي وليس لكم خيار في ذلك لأن هذا ما دعا له الله سبحانه وتعالى. لكن في الواقع أي شرع ونظام حكم إسلامي سيُطبق؟ هل هو نظام حكم الأخوان أم نظام حكم ولاية الفقيه أم نظام حكم السلف أم نظام حكم طالبان؟!

هكذا أيضاً في مثال آخر، عندما يدور النقاش حول لباس المرأة وإبراز أجزاء من جسدها يأتي رجل دين ويطرح خطاب يريد فيه إجبار النساء بلبس غطاء الوجه أو لبس العباءة السوداء أو لبس الجوراب لليدين والقدمين أو يرى حرمة وضع المساحيق على الوجه، وعندما يختلف مع أحدهم يقول له: هذا ليس رأيي ولا وجهة نظري، إنما هذا كلام الشرع وكفى.

العقليتان الدينية – المتشددة – والأبوية الذكورية المتخلفة تتقاطعان في النظر إلى المرأة كجسد وكعورة بالكامل، ولذلك يجب حجبها عن الرجال والمجتمع العام بقدر الإمكان. فمن الأفضل أن تقبع في بيتها خدمةً لزوجها وأولادها، أو أن يُختزل وجودها في المحيط النسوي الخالص. من هذه العقلية تنطلق الدعوات باسم الدين والشرع في منع نشر صور المتفوقات في وسائل الإعلام المختلفة. فالمرأة التي أصبحت وزيرة وقاضية ومعلمة ومهندسة وتشارك الرجل في العمل على نهضة المجتمع في كافة مجالات الحياة ليس لها الحق في نشر صورتها كمتفوقة في دراستها!

في الواقع مفردة الشرع هنا تخضع للفهم البشري للقرآن والسنة النبوية وهي متعددة بحسب مستويات عقولهم وأفهامهم وتنوع بيئاتهم واختلاف مراحلهم التاريخية. لذلك ليس من الموضوعية أن يأتي أحد رجال الدين أو الإسلاميين حين يُريد إقناع الآخرين في مسألة ما بقوله أن ما يطرحه هو الشرع ذاته وعينه وليس هو رأيه وفهمه.

علينا أن نُدرك جيداً أننا نعيش في مجتمعات متنوعة على المستوى العرقي والديني والاجتماعي والثقافي، حتى في دائرة الدين والمذهب الواحد توجد تباينات من الناحية الفكرية، فكيف إذاً خارج هذه الدائرة. إننا حين ندعو ونناضل من أجل نشر الديمقراطية والحريات السياسية والدينية والفكرية والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان الدولية، ونقف ضد الاستبداد والظلم، علينا أن نكون منسجمين مع مطالبنا وشعاراتنا اتجاه أنفسنا واتجاه الآخر المختلف معنا.

اقرأ المزيد

عن الحب المطلق

أغلب الأدباء أوفياء لطفولتهم، إنها مخزن كبير لتغذية أعمالهم الأدبية، وهي المكان الفريد الذي يجعلهم يشعرون بفرادتهم عن غيرهم، خارج تلك الطفولة تلتقي دروبهم في محطّات متشابهة، وإن اختلفت في بعضها، فإنّها تمضي في طريق مشتركة يسلكها البعض معا، لكنّ المتفق عليه، أن فضاء الطفولة ذاك، يبقى مثل أرض خصبة تكلّله الأمهات بعنايتهن وطيبتهن، وتضحياتهن وسلوكهن الذي يقرر مصائر أبنائهن.
لنقل إنه الحب الأول والدّائم والأخير لكل كاتب وشاعر وفنان. وهو حب لا يمكن اختصاره في النصوص المراهقة التي تشهد على تغيرات أجسادنا لدخول مرحلة البلوغ. حب الأم وما يحيط بها من مكوّنات الطفولة يصبح درعنا الحقيقي وربما الوحيد لمواجهة حياة بأكملها.
يختلف الأمر حين يعيش الشخص في كنف أمّه وعالمها، عن العيش في عالم بعيد عنها. كُتّاب كثر ظلّوا في طفولتهم وهم في عمر متقدم، وكتبوا نصوصا طويلة تكريما لأمهاتهم، خاصة عند اصطدامهم بالشعور باليتم وقد تجاوزوا الخمسين أو حتى السبعين.
الأكيد أن ارتباط الأدباء بأمهاتهم فيه سرُّ كبير معقّد، بيولوجي وروحي. وحين يكتبون في هذا الموضوع فإنّما يعيدون النظر في ماضيهم، يفكّكون شيفراته، ويحاولون فهم كل ما حدث لهم في تلك المرحلة المبكرة من حياتهم، ومن الغرابة أن خبايا كثيرة تطفو على السطح، وتصبح واضحة ومفهومة، حتى أن بعضهم يتحرّر من سطوة طفولته عليه، فيخرج من معتقله الطويل بعد عملية الكتابة تلك. البعض الآخر يجد مواساة لنفسه، فيما قسم كبير يرمم خساراته وفق ما عاشه من حياة مشتركة مع تلك الحبيبة الأولى …
ثمة اعتبارات مختلفة للكتابة عن الأم والطفولة العميقة. إنّها تمرين غير عادي لخوض الكتابة، أو لنقل أقسى تلك التمارين على الإطلاق. وأستعيد هنا تجربة الكاتب النسماوي بيتر هاندكه، التي أودعها في روايته “الشقاء العادي” (ترجمة بسّام حجار)، في خريف 1971 تبلّغ الكاتب خبر وفاة والدته انتحارا، كان في التاسعة والعشرين من عمره، وكانت في الواحدة والخمسين. انتحرت بعد حياة من الكدّ والوحدة. إبنة مزارعين سلوفينين متواضعين، حلمت بالتعلّم، ولكن الأقدار رمتها في مطابخ أحد الفنادق.
عدة أسابيع موت موتها، جلس هاندكه إلى نفسه، وأعاد بناء حياتها البسيطة. كانت تلك أولى محاولاته لمنحها صوتا هي التي عاشت حياتها عاجزة عن الكلام والتعبير. ما جعل الشعور بعدمية وجودها يلازمها إلى لحظة إنهائها حياتها.
تركت رسالة مؤلمة تقول فيها: “أنا أتحدّث إلى نفسي لأنّه بخلاف ذلك لا يمكنني قول أي شيء لأيّ شخص…” ويبدو أن للأمّ لغة أدبية جميلة، وما كل عجزها عن التعبير شفهيا سوى أحد أسباب تفوقها في الكتابة، وهي البذرة التي زرعتها في ابنها، وأثمرت بشكل فاق توقعه.
في مقطع آخر تقول: “أحسّني وحيدة لا رفقة لي سوى الأفكار المحبطة، كنت أودّ أن أكتب عن أشياء أكثر جمالا ولكني لا أعثر على أثر منها”.
ولكي يتوضّح جانب من صورة هذه الأم علينا أن نرى طفولة هاندكه في بيت تتجاذبه الطّاقة السلبية لزوج أمه القاسي في غياب تام لأي حضور لوالدته. جوٌّ عائلي ثقيل غير محتمل، يليه انتقال إلى مدرسة داخلية، ومكتبة فتحت آفاقا مضيئة له.
اهتمام هاندكه بشخصيات الهامش له مرجعية وثيقة بوالدته، بل إن وقوفه ككاتب في المشهد الأدبي أوحى طويلا لقرائه ونقاده ومنتقديه أنّه هو نفسه على الهامش، هذا قبل أن يعيد ترتيب العالم في أدبه وفق وجهة نظره، ويمنح لنفسه ولشخصياته أمكنة مرموقة ذات سلطة قوية فرضت نفسها فرضا.
على عكس والدة هاندكه، كانت والدة رومان غاري لا تكفُّ عن إلقاء دروس النجاح لطفلها، كونها كانت خبيرة في الفشل، وعرفت جيدا كيف يتنكّر للحالمين ويقطف ثمار أحلى فترة من عمرهم.
كل ما أملته من تعليمات لإبنها قبعت في رأسه، وتحوّلت لخارطة طريق، لكن عكس هاندكه تماما، انتحر غاري وليست والدته. وصف حبّه لوالدته بالحب المطلق، في كتابه “وعد الفجر” والذي كتبه لوضع نهاية للماضي الذي رافقه طيلة حياته مع عيني والدته، التي كتب عنها قائلا:” كانت لديها عينان حيث كانت الحياة جيدة لدرجة أنني لم أعرف إلى أين أذهب منذ ذلك الحين”
الكتاب الذي كرّسه لسيرته مع والدته وكفاحها الشرس للصمود رغم قساوة الظروف، حوّله المخرج الفرنسي إيريك باربييه العام 2017 إلى فيلم من أروع الأفلام التي شاهدت.
“مينة” أو “نينا” كما يسميها الفرنسيون، يهودية من أوروبا الوسطى، أفنت زهرة شبابها من أجل تربية ابنها بمفردها، امرأة طريفة، مضحكة أحيانا وساخطة أخرى، مزاجية، ناقدة لاذعة، حققت كل أحلامها بشأن ابنها رومان، فقد تمنت أن يكون كاتبا بحجم فيكتور هيغو، وبوشكين، ونيغينسكي، وسفيرا وبطلا وكان كل أولئك، حتى أنه ابتكر أسماء مستعارة وقّع بها وحقق النجاح نفسه في كل مرة.
عظمة هذه المرأة لا يمكن استخلاصها حتى من خلال المشاهد المؤثرة في الفيلم. بدون أدنى شك كانت في الواقع أكثر عظمة. عانت من مرض السكري، وقبل موتها بفترة كتبت له 250 رسالة ليتلقاها تباعا كما لو أنها حية، إلى أن عاد فعرف أنها ماتت منذ أكثر من ثلاث سنوات” من بين الجمل المؤثرة التي قالها:” في كل مرة تعانقك فيها امرأة يكون ذلك مجرّد عزاء لفقدانك أمك” .
يمكنني الآن أن أنتقل بكم إلى الضفة الأخرى ضفّة أدبنا العربي، حيث الجنّة تحت أقدام الأمهات، وحيث الأم وطن، والأم مدرسة إن أنت أعددها أعددت شعبا طيب الأعراق…
تقريبا نجد الصورة نفسها، وكأن الأمهات صُنعن وفق قالب واحد، فخرجن مثل الدمى متشابهات. من المعرّي إلى كتابنا الشباب، ووصفهن أو توظيف شخصياتهن في السرديات والنصوص الشعرية، كأنّه مُتفق عليه سلفا، خال من أي اقتران بتجراب الطفولة.
تنطبع في ذاكرتنا الصورة الدرامية المقدمة في السينما العربية، بدون تفصيلات، غير تفصيل مشترك “الأبناء يذاكرون والأم تحضر لهم الشاي والساندويتشات”.
تسقط سهوا سنوات طويلة من علاقة وطيدة تربط الفرد منا بأمه وطفولته. ربما تعددت الأسباب لإخفاء هذه المرحلة الحساسة من حياة أدبائنا، لكن نادرون من توقفوا عند تلك العلاقة، حتى في أسوأ صورها.
تروي مارغريت دوراس حكايات عن أمها يستحيل أن يرويها كاتب عربي. إذ يتبيّن لنا ونحن نقرأ نقمتها على أمها، وكراهيتها لها، أنّها دنّست إحدى مقدساتنا. وأذكر في حديث عابر أن أحد الشعراء العرب عبّر لي عن تحوّل حبه لأدب دوراس إلى كراهية منذ قرأ وصفها لوالدتها.
اختصرت دوراس والدتها في أربع كلمات: “مصيبة، حب، ظلم، رعب”. حياتها معها هي وأخويها كانت تدريبا شاقا. وقد انتهت حين أصيبت بالجنون. آني إيرنو تقريبا كتبت شيئا مشابها في كتابها “امرأة”، تجاوز دوراس في وصف بشاعة والدتها. إيرنو وصفت أمها بالخنزيرة، والمتسخة، والمقرفة.
وفيما نقرأ تلك الأوصاف نصاب بألم يخترق قفصنا الصدري ويستقرُّ في قلوبنا. أمهاتنا لسن هكذا، فهناك شيء سحري يحوّل قسوتهن إلى أمر قدري مقبول، طيبتهن تأخذ أشكالاً هلامية يصعب تحديدها، سذاجتهن لا توصف، جهلهن تفصيل في الغالب يغذي قصصنا الفكاهية. أنيقات في الأعراس والمناسبات العائلية، “مبهدلات” كثيرا باقي أيام السنة، يطبخن وينفخن ويسهرن على تنظيف وترتيب البيت وأهل البيت، فيما لا يجدن وقتا لأنفسهن. كنا سببا مباشرا لشقائهنّ. يا للحسرة !
هل سُرقت طفولتنا؟ أم أمومتنا؟ أم أنّ إنسانيتنا شوهت في مجتمعاتنا والسلام؟

اقرأ المزيد

وضَّاءَة

أُحدِّثُها..
وضَّآءَةً أينمَا سَرتْ
وأسْألُها..
والشوقُ عَن جَانبيْ يسعى
وفي كفِّها رُوحيْ..
كمَا الطفلُ..
ناعسٌ بريءٌ..
وفي أحَلامِهِ أملٌ يرعى
وفي الأُفقِ نورٌ..
من سَناهَا تحدَّرتْ..
سنابِلُه الخضْراءْ..
فوق الدُّنا شمْعَا
شرابُ يديها..
من جَناها مُعتَّقٌ
وأوتارُها تنسَابُ..
من رِقَّة طوْعَا
وفي كلِّ خيطٍ..
من جدائِلِ شعرِهَا
طيورُ تغنِّي..
تبتغي الزّهرِ والنبعَا

اقرأ المزيد

«المادة السوداء».. عوالم رباعية الأبعاد

أعادت لي رواية «المادة السوداء» للأمريكي بليك كراوتش، مشاهد أثيرة من فيلم «عقل جميل»؛ لا سيما بعد أن أسدلت الصفحة الأخيرة.. رأيت جنيفر كونيلي تمسح وجنة رسل كرو -يلعب دور عالم الرياضيات جون ناش- حاملة يده إلى موضع قلبها لتطمئن قلقه بهمسة آمنة: «هذا حقيقي»!

من خلال الاتكاء على الكثير من الصور الرمزية، يشير كراوتش بشكلٍ ما إلى أهمية تقدير قيمة الأسرة في المجتمع، فعلى الرغم من التقدم العلمي لا ينبغي الإغفال عن إخماد روح الدفء والحميمية بين أفراد البيت الواحد بفعل التطور والتكنولوجيا اللاهثة.

على نحو سيريالي وغرائبي في الوقت ذاته؛ تدور أحداث الرواية حول حادثة اختطاف عالم فيزياء وأستاذ في كلية صغيرة، يدعى جيسون ديسين. إذْ أجبره مجهول على قيادة سيارته، وظل يصوّب مسدسه تجاه مؤخرة رأسه ملقياً به في حظيرة طائرات! وبعد حقنه بعدد من الأمبولات يدخل في حالة من التشويش الذهني قبل أن يلتقيه عاملون في محطة علمية تقوم بأبحاث عن اختيارات الإنسان، تحمل اسم «فيلوسيتي»، وما يلبث أن يستعيد وعيه حتى يستوعب محاولتهم في إعطائه شخصية وحياة كاملة لشخص آخر! يرفض جيسون هذا الجنون ويقرر الهرب بصحبة طبيبة المحطة، ومن هنا تبدأ فصول عودته لأسرته عبر رحلة خطرة محفوفة بالبؤس والتشرد ومشادات درامية حادة بين الشخصيات المستمدة منه، تحمل اسمه وترفض واقعها.

وعبر حركة السرد تتفاعل أحداث الرواية وتتحرك هذه الكائنات المتشابهة اللا محدودة متوهمة بأنها تعيش في شخصية عالم الفيزياء، الكيان الهارب منها. يتوسم جميعهم ملامح تعيسة؛ يطمعون في خوض حياته واستلام وظيفته والاستيلاء على أسرته التي كوّنها في 15 عاماً بعد أن تنازل عن أحلامه الأكاديمية والمجد والثراء.

تتشابه الشخوص الروائية وكذلك الأرجاء والفنادق والنوادي الليلية، يتجلى بعضها مدمراً بلا حياة. إذُ يريد الكاتب أن يوحي بأن الخراب حين يطال الأنفس يلوّن بقتامته أماكنهم ومآويهم. ولا يوجد لهذا الخراب الذي يخيّم على فصول الرواية من مفارقة استثنائية عدا ريان هولدر -صديقه جيسون القديم- وهو الشخص الوحيد الذي أكمل طموحه العلمي ونال جائزة مرموقة، لكنه لا يظهر في غمار الأحداث سوى في مناسبتين، الأولى قبل اختطاف صديقه والثانية بعد اختفائه بعد أن حاول إقامة علاقة غرامية مع واحدة من شبيهات دانييلا – زوجة جيسون – .

في هذا العالم الشائب بالغموض تتعدد الرموز مثل الصندوق المظلم الموجود داخل مؤسسة فيلوسيتي، وهو ببوابات متعددة كل منها يذهب بمن يفتحها في طريق ويُلقى به في مكان غير مألوف لديه، وربما هو إيحاء من الكاتب لمصائر الشخص المتاحة التي تفرض عليه ليسلكها باختيار واحدة فقط.

في السرد مفاتيح يمكن من خلال متابعتها وتحليلها فك ألغاز مجرى الأحداث، لعل أعمقها أثراً تلك العبارات التي جاءت على لسان -جيسون- بطل الرواية وهو يدخل غرفة الطعام: “تقع نظرتي على النجفة المكعبة رباعية الأبعاد فوق مائدة الطعام. قدمتها إلى دانييلا في عيد زواجنا العاشر. أفضل هدية على الإطلاق!” فهنا يستبين لحظة فارقة، أخال أن كراوتش استرأى نحتها في مخيّلة القارئ بدلالاتها لفك بناء الرواية وهضم مرواغتها وطعمها السيريالي. ويعود مجدداً مقارباً حياة البطل في «فيلوسيتي»، ليشير إلى أن حياة الإنسان قد تكمن في 4 أبعاد: «ندرك محيطنا في ثلاثة أبعاد منها، لكننا لا نعيش بالفعل في عالم ثلاثي الأبعاد. علينا أن نضيف بُعداً رابعاً لنبدأ في وصف طبيعة وجودنا، لا يضيف الضلع الرابع بُعدا مكانياً. إنما يضيف بُعداً زمنياً. وهذا هو تفسير العوالم المتعددة الذي تقدمه ميكانيكا الكم، ويفرض أن كل نسـخ الواقع الممكنة موجودة. وأن كل شيء لديه إمكانية الحدوث، يحدث بالفعل. لكن في كون آخر»..

يتعمد الفنان التشكيلي أحياناً، إحداث صدمة بصرية بمزاوجة اللونيْن الأبيض والأسود، لكني أخال كراوتش رسم هيكلاً لخيال علمي كاتباً تساؤلات واقعية بلون أسود عريض حول خياراتنا في الحياة وقرارتنا وعثراتنا. إنها رواية قد تجعلك تستيقظ ليلاً تفكر في المحيطين بك وبالعادي البسيط الذي قد تجحف قيمة وجوده.

اقرأ المزيد

“التقدمي” ينعى المناضل يوسف العجاجي

ينعى المنبر التقدمي إلى جماهير شعبنا الشخصيّة الوطنيّة البارزة المناضل يوسف حسن العجاجي، أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني في البحرين في العام 1955، الذي وافته المنيّة هذا اليوم السبت الموافق 24 يوليو 2021، وبرحيله فقدنا أحد وجوهنا الوطنيّة البارزة التي ساهمت بدور كبير في وضع أسس التيار التقدمي والوطني في وطننا، وعملت على تطوير وتعزيز مساره.

ولد الفقيد في العام 1939، في المنامة، وانخرط منذ شبابه في العمل الوطني، وجمعه الدرب النضالي المشترك مع رموز وطنيّة بارزة في تاريخنا، بينهم القائد الوطني المرحوم أحمد الذوادي، وبسبب دوره الوطني أعتقل أول مرة في العام 1961 ونفي إلى الخارج، كما أعيد اعتقاله في العام 1966، ونفي ثانية خارج البلاد، حيث بقي في المنفى حتى قيام الحياة النيابية الأولى في مطالع السبعينات، حين عاد إلى الوطن في ذروة النهوض الوطني والعمالي يومها.

اعتقل يوسف العجاجي مرة أخرى في يونيو 1974، بعد شهور فقط من عودته من المنفى، في إطار حملة الاعتقالات التي شملت مجموعة من النشطاء الوطنيين والنقابيين، وكان واحداً من أول مجموعة طبّق عليها قانون أمن الدولة سيْ الصيت، ومكث في السجن عدة سنوات.
يتقدّم المنبر التقدمي إلى أبناء فقيدنا الغالي وأشقائه وكل أفراد عائلته، وكل رفاقه واصدقائه بصادق العزاء، فلروحه االسلام، وسيظل دوره الوطني البارز في الظروف الصعبة التي مرّت بها البحرين، والتضحيات التي قدّمها هو ورفاقه ملهماً لنا جميعاً وللأجيال القادمة.
المنبر التقدمي
البحرين 24/ 7/ 2021

اقرأ المزيد

اللجنة المركزية للمنبر التقدمي: المؤتمر العام للتقدمي في مارس القادم دعوة الى تبني الخيارات الصائبة التي تثري الحياة السياسية ورفض أي تضييق على حرية الرأي

دعا المنبر التقدمي عبر لجنته المركزية إلى تعزيز مسيرة العمل الوطني وتبني الخيارات الصائبة التي تثري الحياة السياسية في المرحلة المقبلة، وترفض أي تضييق على حرية الرأي والتعبير، وتدفع نحو الواقع الأفضل دوماً، كما دعا إلى إيجاد الخطط والبرامج المدروسة التي تخدم هدف إيجاد خطة اقتصادية إنمائية تحقق العدالة الاجتماعية وتخلق فرص عمل نوعية للمواطنين ورفع مستوى دخولهم، وتأهيل العاطلين وتنفيذ برامج لإحلال العمالة الوطنية بوتيرة أفضل مما هي عليه الآن. وجدد التقدمي رفضه المساس بصندوق التعطل وصندوق التأمينات الاجتماعية وصندوق الأجيال، ولأي سياسات تمس جيوب المواطنين وتحمّلهم المزيد من الأعباء، أو تمس بعض أشكال الدعم الاجتماعي المقدمة لبعض الفئات منهم، كما رفض الانتقاص من حقوق وامتيازات المواطنين التقاعدية بأي ذريعة كانت، وأشار التقدمي إلى أهمية تعزيز أوضاع النقابات العمالية والمهنية وتمكينها من تجاوز المراوحات وتحقيق الأهداف المنشودة.

وكانت اللجنة المركزية للمنبر التقدمي قد عقدت اجتماع دورتها السابعة مساء يوم الثلاثاء الموافق 13 يوليو 2021 برئاسة الأمين العام خليل يوسف، وقد تم خلال الاجتماع بحث الأوضاع العامة في البلاد،
والمستجدات الإقليمية والعالمية، وآفاق العمل المشترك للتقدمي في إطار تنسيقية الجمعيات السياسية، كما ناقشت تداعيات جائحة كورونا على الأنشطة العامة للتقدمي وعلى الوضع العام في البلاد في الفترة الماضية والتي تم على ضوئها تأجيل المنتدى الفكري السنوي للتقدمي والذي كان مقرراً عقده في فبراير الماضي. وإلى جانب ذلك توقفت اللجنة المركزية أمام الأداء البرلماني، وفي الوقت الذي أبدت تقديرها لأداء كتلة تقدم البرلمانية فإنها أكدت على الحاجة الملحة والضرورية للإرتقاء بأداء البرلمان وتوسيع صلاحياته التشريعية والرقابية .

كما ناقشت اللجنة المركزية التحضيرات الأولية لعقد المؤتمر العام القادم للتقدمي بعد أن أقرت عقده في أوائل مارس 2022 وتم تشكيل لجنة للتحضير للمؤتمر، ومتابعة اشتراكات الأعضاء.

المنبر التقدمي – البحرين
15 يوليو 2021

اقرأ المزيد

في ذكرى رحيله: أحمد الذوادي باقٍ

في الثامن شهر يوليو/ تموز الجاري تمرّ الذكرى السنوية لرحيل القائد الوطني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، وأول أمين عام للمنبر التقدمي الذي قاوم الاستعمار والظلم والاستغلال والتخلف، من أجل أن يرى البحرين التي كرّس حياته في سبيلها، وقد غدت حرّة، متقدّمة وديمقراطية.

كان أحمد الذوادي من المعدن النادر من الرجال الذين قدّمهم شعبنا، الذين صنعوا وجه البحرين المشرق، وجه التقدم والحداثة والفكر النيّر، وواصلوا التراث المجيد للحركة الوطنية ذات التقاليد العريقة في البلاد، فاكسبوها محتوى جديداً قائماً على المعرفة والعلم وإدراك قوانين التطور، وحوّلوها من حركة عفوية إلى حركة منظمة غير موسمية، إلى حركة ذات برنامج واضح، وأفق سياسي وفكري تقدمي منحاز إلى قيم العصر وموجه إلى المستقبل.

علينا أن نتصور وضع البحرين في خمسينيات القرن العشرين، بعد أن انقضّت السلطات البريطانية على حركة هيئة الاتحاد الوطني، فنفت ابرز قادتها إلى جزيرة سانت هيلانة وسجنت الآخرين في جزيرة جدا، وأشاعت في البلاد جواً من الإحباط واليأس. في مثل هذه الظروف الصعبة انطلق أحمد الذوادي الشاب ورفاقه في مسيرتهم التي لا تقطع مع التاريخ السابق المنجز، إنما تنطلق منه ومن دروسه وخبراته وتبني عليها، وتؤسس لتاريخ جديد متصل مع ما سبقه وواصل لما يمليه، ليغدو بعدها هذا الشاب المتحدر من أسرة فقيرة قائداً لتنظيم من طراز جديد لن يمكن كتابة تاريخ البحرين على مدار نصف القرن المنصرم وأكثر دون التوّقف أمام دوره المحوري في النضال الوطني وفي الذود عن مصالح الطبقة العاملة وعموم شغيلة اليد والفكر.

وكما في ظروف العمل السري الصعبة التي كان خلالها يدخل السجن ويخرج منه إلى المنفى، أو يعود من المنفى ليدخل السجن واصل أحمد الذوادي عمله الوطني بكل مسؤولية ونضج في مرحلة ما بعد ميثاق العمل الوطني، وتحوّل العمل الحزبي إلى العلنية، وأصبح رئيساً للمنبر التقدمي، رغم وضعه الصحي الحرج، الذي حال دونه ومواصلة دوره على رأس المنبر، لكنه ظلّ ناشطاً في هيئاته ولجانه وفعالياته، حتى تدهورت صحته كثيراً، وغادرنا في العام 2006، تاركاً فراغاً كبيراً، ولتفقد البحرين واحداً من أخلص رجالاتها وأصلبهم.

اقرأ المزيد