المنشور

من دخل غرفتها فهو آمن

يصلني صوتها السبعيني الواهن عبر رسالة صوتية بالواتساب بين حين وآخر. تسألني عن حالي وحال أمي وعائلتي، وتخبرني عن حالها وحال أهل بيتها، وعمّن تزوج منهم ومن أنجب، وتختم رسالتها بالشكوى من كورونا الذي حرمنا اللقاءات والزيارات.
وعلى الرغم من أنها تحتفظ في هاتفها بأرقام هواتف معظم أفراد عائلتي إلا أنها لا تتواصل معهم كما تفعل معي! تساءلتُ بيني وبين نفسي عن السبب، واهتديتُ أخيرا إلى أنه: صورة البروفايل!
أمي أسما التي لا تجيد القراءة أو الكتابة تعرفني في قائمة جهة الاتصال من صورة بروفايلي التي أحرص أن تكون صورتي الشخصية، ولا أحد في عائلتي يضع صورته الشخصية عداي. تهتدي إليّ بسهولة وتفتح صفحة الدردشة بيننا وتكبس على تسجيل الرسالة الصوتية وتبعث بصوتها.
هذا الخاطر جعلني لا أغير صورتي الشخصية إلا بصورة شخصية أخرى. أخشى أن أفقد رسائلها الصوتية لو وضعتُ صورة قمر أو وردة.
أمي أسما هي جارتنا من الجهة الجنوبية، نشأنا أسرةً واحدة في بيتين. هكذا كنا نعتقد لفرط ما كنا نقتسم الحياة بيننا وبينهم. امرأة كبيرة أنجبت طوال حياتها ثلاث بنات وولدا وحيدا. ولكنها فقدت ولدها الوحيد (حمد) في حادث سير في عام 1991، وبعده بثلاث سنوات فقدت ابنتها بدرية وزوجها في حادث آخر، تاركة لها حفيدة لم تتجاوز شهورها الستة.
كابدت أمي أسما مرارات الفقد بالصبر وتلاوة القرآن. في نهارات رمضان كنا ندخل عليها غرفتها لنجدها تمسك بمصحفها على حاملِه، وصوت أبو بكر الشاطري يصدح من مُسجّل أسود كبير. تتتبعه بإصبعها حتى كدنا نصدّق أنها تجيد القراءة فعلا. سألتُ ابنتها مريم: هل تقرأ أمي أسما؟ قالت: لا، ولكنها تحب فعل ذلك.
كانت غرفة أمي أسما ملاذنا الآمن، وليس بيتها كله بالضرورة، فغرفتها كانت البيت بكامله لمركزيتها، وبابها المفتوح على الدوام، وفيها تستقبل زائراتها من النساء. في طفولتي كانت أكثر بقاع الأرض أمانا. نهرب إليها من عِصيّ أمي وأبي. تؤوينا خلفها وتدافع عنا بيدها ولسانها من دون أن تعرف الجرم الذي اقترفناه، ولكنها تتصرف بواجب الدفاع عمّن يلجأ إليها طالبا حمايتها. هكذا عرفنا أنّ كل العِصيّ تموت عند عتبة باب غرفتها، وترد على حامليها: (ما راضية عليك/ عليش تضربيها)، فتعود العصا كسيرة كأن لم تكن وحشا قبل قليل.
عندما تخرجتُ من الثانوية وقُبلت في الجامعة، ذهبتُ للسلام عليها قبل مغادرتي الأولى من البيت للإقامة في السكن الجامعي، فدسّت في يدي مبلغا من المال لم يسبق أن حصلتُ على مثله فيما مضى.
تقدّر أمي أسما المتفوقين، وتمنحهم اهتمامها وعنايتها، وتجود عليهم بما استطاعت. وقبل ما يزيد عن عقدين انتقلتْ مع أهل بيتها إلى داخل سمائل، وبقي بيتهم في الجهة الجنوبية من بيتنا شبه مهجور. تباعدت الزيارات بيننا، وقلّ التواصل، ولكن رسائلها الصوتية عادت مؤخرا لتعيد وصل زمان مضى. أعتذرُ منها في رسالتي الصوتية عن التقصير وقلة السؤال، فترد علي بصوت أتعبه الفقد: “مسموحة حبيبتي، أعرفكم مشغولين ما فاضيين. تراني عارفتنكم وعاذرتنكم”. فتزيدني من حيث لا تدري إحساسا بالذنب.
أُشفق على أمي أسما من حدّة ذاكرتها التي تحرص في كل مرة على إضافة تفاصيل جديد للأشياء والأسماء والمواقف، وكأنها تريد أن تثبت للحياة أنها لن تقدر على سلبها تفاصيل من أحبتهم وغادروها. ومن كرم تلك الذاكرة ترفُّعها عن العتب، فتخيط العذر لمن يستحقه ومن لا يستحقه بمقاس كرمها الواسع، وتسبغه على الجميع كما لو كان آخر ما باستطاعتها أن تمنحه للناس المنشغلين أبدا في شؤونهم.
يتعبها في زمن كورونا أنها ليست قادرة على زيارة الناس، ولكن ذلك لا يمنعها من التوصية بعدم الخروج إلا للضرورة. وعندما فاض بها الشوق إلى أمي، قدّرت أيهما أوهن صحة، وخمّن كرمها أن صحتها أفضل من صحة أمي، فقررت أن تأتي هي إليها: “أمش ما تروم توصل عندي صحتها ما سادتنها، أجيها أنا. حتى لو نجلس في الحوش كل وحدة في صوب. ما هاجِنّي عنها”.
ألحظ الآن أن رسائلها الصوتية لا تحمل إلا البشارات، أما أخبار المرض أو الموت فلا وجود لها. تزفّ لي بشارات المواليد والزواج، ولم يحدث أن أخبرتني عمّن مرض وعمّن تعثر. وإذا ما داهمها عارض يكفي أن ألحظ تأخر رسائلها؛ لأكتشف تاليا أنها كانت مريضة، أو أن أحدا من عائلتها ليس بخير، فأعرف أن قدري المستمر مع هذه المرأة أن أعالج على الدوام تقصيرا لا يُسد، وإحساسا بالذنب لا يزول. وتُجيد هي بنيَّتِها الصافية إلهابَه من حيث لا تدري إذ تردد: “عاذرتنش حبيبتي”.
أتخيّل أحيانا حزنها الشامخ وهي تُحكم لف “ليسو” صبرها عليه بإحكام حتى لا يتسرب إلى الآخرين. ولحسن الحظ لم أكن شاهدة على اللحظات الأولى لفقدها أبنائها واحدا تلو الآخر. ولسوئه أني شهدت لحظة وصلها نبأ وفاة أخيها قبلهم. كنتُ طفلة صغيرة تَعوَّدتْ أن تبدأ صباحها الباكر بالذهاب إلى بيت الجيران، وتصادفت لحظة دخولي إلى البيت مع لحظة تلقيها صدمتها تلك. رأيتها تبكي. وسمعتها تنشج. رأيتُ ذهولها عن كل أحد حولها بحزنها الداهم. عدتُ إلى البيت لأقول لأمي: “أمي أسما تصيح”. كنتُ غرابا ينقل الأخبار السيئة. لم أتعلّم من أمي أسما بعد أن الخبر السيئ يصل ولا يقال.
أفكر الآن: هل كانت أمي أسما قاسية في يوم؟ كانت قاسية في مبادئها التي لا تتنازل عنها، فهي ترفض بحدّة إذا رفضت، وتُقبل بسخاء إذا أقبلت. ثمة أشياء لا تقبل في عرفها القسمة على اثنين. ولا يضيرها إذا أوجعت أقرب الناس إليها في سبيل مبدأ لا تستطيع التغاضي عنه أو التساهل فيه، حتى وإن كان ما تراه مبدأً يراه الآخرون وجهة نظر.
مؤخرا، يخطر لي كثيرا أن أحفظ صوتها في قرص ممغنط، أن أنقله من صفحة الدردشة في الواتساب إلى حافظة أكثر أمانا. كمادة تُسمع في الطريق إلى العمل فتفرشه دعواتها بالتوفيق والتيسير. في إحدى رسائلها بعثت تقول ردا على رسالتي: “صوتش جميل ماه”، فأحببتُ صوتي. هل كانت أول من قال صوتي جميل؟ ولكني أصدّق أمي أسما. أصدّقها مذ كنت طفلة أندسّ بجوار أمي في زياراتهما المتبادلة، وأعرف لا شعوريا أن ما تقوله لا يمكن إلا أن يكون حقا.
أحمدُ للواتساب أنه استطاع بهذه الخاصية أن يضمن تواصل أمي أسما وغيرها من كبار السن، من دون أن تعيقهم عدم قدرتهم على القراءة والكتابة من أن يرسلوا أصواتهم هدايا وصال في زمن يضاعف المسافات بين البشر.