المنشور

“كورونا” وصناديقنا السّياديّة

بالنظر إلى التداعيات والآثار التي أحدثتها جائحة ” كورونا”على مدى اكثر من سبعة عشر شهراً حتى الآن، وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية المختلفة، هناك أمور عديدة اتضحّ للجميع تقريبًا كم هي مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها او إهمالها بالنسبة لمختلف الشرائح الاجتماعية بغض النظر عن حجم الدولة او حتى امكانياتها، معالم ضعفها او قوتها.

فقد بات واضحا للجميع الآن وبشكل خاص للمتابعين للشأن العام المحلي كم هو مهمّ وحيوي أن تكون الدولة قادرة على إشاعة عوامل الاستقرار والثقة لدى مختلف مكوّناتها الاجتماعية والتدليل على قدراتها الفعلية في تجاوز المحن والتحديات والمصاعب وتقليل المخاوف من انفلات الأمور والفوضى.

لقد تابعنا جميعا الى اين يتجه الناس وإلى اين يرنو المزاج الشعبي بشكل عام في بحثه عن حلول واجابات لا تقبل الانتظار أحيانًا، وتحتاج إلى قرارات تنفيذية عاجلة، وكيف يبرز بشكل تلقائي دور القادة والنخب والهياكل الإدارية الكفؤة، وتختبر فاعلية السياسات والاستراتيجيات الوطنية، بعيداً عن الترويج الإعلامي أو حتي المزايدات السياسية التي قد تحدث أحياناً، نتيجة عوامل الشد والجذب المعتادة في المجتمع، بل كيف تتوحد الجهود الوطنية وتخبو التشنجات والانقسامات الحادة لصالح توجهات أكثر رشدًا ووعيًا للبحث عن حلول من شأنها ان تعزز عوامل الثقة وتعيد عوامل التلاحم المفتقدة للحفاظ على المكتسبات وبقدر ما تسمح به الظروف والتحديات القائمة.

بالنسبة لنا في البحرين، وبغض النظر عن الظروف الضاغطة بشدّة والتي عايشناها كما عايشها العالم من حولنا بصور شتى، فقد كان القاسم المشترك بالنسبة لنا في ظل عتمة الظروف الاستثنائية والخسائر المادية والبشرية المكلفة التي لازلنا نعيش فصولها بطرق مختلفة جراء تداعيات الجائحة، أن هناك الكثير من الأمور الإيجابية والوسائل الناجحة والتي أصبحت مجربة بشكل كافٍ، ولعلّ دور الدولة فيها كان جليا ومحوريا، ودلل على استطاعة الدولة، أي دولة، ان أرادت أن تقود مجتمعها إلى برّ الأمان بشيء من الحكمة والثقة وحسن الإدارة وتسخير كافة الإمكانيات للتغلب على كل ما يمكن ان يهدد استقرار وطمأنينة وتراجع مجتمعها.

فمنذ بروز مخاطر الجائحة بشكل جدي لدينا في البحرين لمس الجميع حجم الجهود التي قامت بها الدولة بكل مؤسساتها، وقام بها المجتمع أيضًا، في تحجيم التحديات التي برزت دون سابق انذار، والتي بالفعل كانت جديدة على المجتمع بأسره، على الأقل من زاوية كيفية إيجاد الحلول والتغلب على المصاعب وتوظيف الجهود والوسائل المتاحة، ورصد الأموال والميزانيات التي هي مقياس حقيقي يمكن مقاربته مع قدرات الدولة ووعي المجتمع والاستعداد الضمني لهياكل ومؤسسات المجتمع في شحذ الجهود وصهرها في بوتقة الدفاع عن المصالح الحيوية للوطن وأهله والمقيمين على أراضيه.

وبالفعل تابعنا كيف تشكّلت الفرق الوطنية الرسمية والأهلية، وفتحت أبواب التطوع على مصاريعها دون حواجز او قيود حتى انخرط في العمل اكثر من ثلاثين الف متطوع ومتطوعة ومن مختلف الشرائح والتخصصات وبنكران ذات ودون خوف او تردد، كما قامت الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية ومعها السلطة التشريعية بجناحيها النواب والشورى بعقد العديد من الاجتماعات التنسيقية والتشاور والمتابعة، وتمّ تمرير القوانين والتشريعات المطلوبة وبالتالي رصدت الميزانيات والحزم المالية والاقتصادية وعلى دفعات، وبعد اجراء الدراسات المطلوبة لرصد أماكن العوار والتراجع والعمل على اصلاح الوضع الاقتصادي باعتباره رافعة حقيقية للوضع الاجتماعي.

وكانت الأهداف بالنسبة لجلّ المشتغلين في هذه المهام الوطنية واضحة، لعلّ من أبرزها كيفية الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للأسر والأفراد في المجتمع وعدم السماح بإفلاس الشركات، وبالتالي عدم إيجاد مبررات لها للقيام بتسريحات غير مقبولة للعمالة الوطنية جراء تعطل غالبية الأعمال والشركات، إضافة الي استمرار برامج الدعم وبرامج الضمان الاجتماعي للأسر المحتاجة، علاوة على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة عبر حزمتي الدعم المالي والاقتصادي، الأولى والتي بلغت اكثر 4.3 مليار دينار والثانية التي أقرّت منذ اكثر من أسبوعين والتي بلغت 485 مليون دينار وما تبعهما من إضافات وحزم مالية وإجراءات وتوجيهات، كان هدفها الأساس هو كيفية الحفاظ على حالة الاستقرار في السوق والمجتمع مع توفير السيولة اللازمة والثقة لدى المواطن والمقيم والمستثمر في ظل الظروف القائمة.

ومن بين المؤشرات التي يسهل رصدها في ظلّ ما أحدثته الجائحة بدا واضحاً للعيان أن هناك حاجة ماسة لشرعنة ومراجعة بعض الأمو ر التي ارتبط بها نجاح البحرين في العبور حتى الآن بنجاح،رغم شحّ الميزانيات والقدرة المالية، ولعلي اذكر من بينها ضرورة مراجعة توجهات وبيع أصول الدولة عبر برامج الخصخصة والتي هي ضمانة لاستمرار حالة الاستقرار المجتمعي نتيجة عدة اعتبارات، كما برزت أيضا أهمية الصناديق السيادية وضرورة ابتداع طرق اكثر نجاعة للحفاظ عليها وتنميتها، فقد تابعنا الدور المحوري الذي لعبه صندوق التعطل بما وفره ويوفره من أموال طائلة تصب في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير السيولة المطلوبة لدعم الأجور والشركات وعدم السماح بإفلاسها لا سمح الله، علما أن هذا الصندوق بالذات قد تعرض أكثر من مرة لدعاوى تطالب بحله لأسباب غير وجيهة بالمرة، لكن نحمد الله ان تلك الدعاوى أصبحت جزءا من الماضي، وبالمثل عمل صندوق العمل تمكين وصندوق احتياطي الأجيال في دعم الدولة والمجتمع.

خلاصة القول، إننا أمام تجارب وعبر ودروس علمتنا إياها جائحة “كورونا” وعلينا ان نتعظ منها وهي كثيرة ومتعددة وتحتم علينا التبصر فيها جيداً والبناء عليها نحو مستقبل أفضل لوطننا.