المنشور

ازدواجية السياسات الأمريكية من حقوق الانسان

في العام 2004 تلقيت دعوة لزيارة الولايات المتحدة في إطار برنامج قيادة للزائر الدولي من الشرق الأدنى وشمال افريقيا، وهو برنامج معد من قبل أكاديمية التنمية التعليمية وبرعاية مكتب الشئون التعليمية والثقافية بوزارة الخارجية الامريكية.

بدأ البرنامج في الاول من يونيو 2004 واستمر حتى الثامن عشر منه، وكان همنا آنذاك ان نتعرف على مختلف المؤسسات المدنية والرسمية لمعرفة ما يدور في هذه المؤسسات وطريقة التفكير والمعلومات التي يحصلون عليها، وماهي نظرتهم للعرب والمسلمين وما هو موقفهم من سياسة الإدارة الأمريكية، آنذاك، في حربها على العراق ودعمها الدائم لإسرائيل، وكانت الفرصة سانحة لطرح هذه الأسئلة والتساؤلات على أعلى المستويات كاللقاء الذي تم مع نائب وزير الخارجية آنذاك مايكل كوزاك، إضافة لمؤسسات اخرى قمنا بزيارتها.

كما سنحت لنا الفرصة في الاجتماع مع منظمات حكومية وغير حكومية، ومع نشطاء عاملين في مجال حقوق الانسان، إضافة إلى محامين وصحافيين وقضاة وكذلك باحثين يعملون في مجال زيادة الوعي بحقوق الانسان.

وفي إطار البرنامج المذكور زرنا الجامعة الامريكية وكان لنا لقاء مع أساتذة عرب أمريكان وغيرهم من الأعراق الامريكية يتقدمهم د. عبدالعزيز سعيد، د. مبارك عِوَض، د. إدموند غريب، د.جو البرج، د. عائشة حيث اشتركوا معنا في نقاشٍ لا يخلو من الطرافة بسبب انتقاداتهم الشديدة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وموقفها المزدوج والمخاتل من حقوق الإنسان ومن دعمها للأنظمة الدكتاتورية على حساب الشعوب في ظل الحرب الباردة والموقف من الصراع في الشرق الأوسط وانحيازها الدائم لإسرائيل.

فالهيئة التدريسية المدعوة للقاء معنا بادرت بإعطاء لمحة عن السياسة الخارجية الأمريكية والدور الذي تلعبه في بلورة مفاهيم مزدوجة لحقوق الانسان، وكيف أن الإدارة الأمريكية سعت، كما ذكر د. جو البرج، إلى تسييس حقوق الانسان إثناء الصراع مع الإتحاد السوفيتي، وبدا ذلك واضحاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية والمعسكر الشرقي.

كما بدا ذلك واضحاً، أيضاً، من خلال علاقة الولايات المتحدة بالبلدان الأخرى بالسكوت عن الإنتهاكات التي تحدث فيها، وغض النظر عنها والدخول في صراع مع دول أخرى كالعراق وغيرها تحت شعار الدفاع عن حقوق الأنسان ونزع أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي نجد أن الأحداث أظهرت بأن التزام الولايات المتحدة بحقوق الإنسان كان بلاغياً، بل أستخدم كسلاح انتقائي لردع الدول التي تختلف مع الهيمنة الامريكية.

فكثيرا ما أدت سياسة حكومة الولايات المتحدة إلى التضحية بحقوق الانسان من أجل مصالحها السياسية والإقتصادية والعسكرية، فخلال الحرب الباردة قتل عدد كبير من المدنيين العزل على أيدي قوات دربتها ومولتها وسلحتها او أشرفت عليها الولايات المتحدة بصورة سرية أو علنية وكما يحدث حاليا مع داعش وغيرها من المنظمات الإرهابية.

واستمرت كذلك في استخدام القانون الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية لتحقيق مآربها السياسية وكيف أن الادارة الأمريكية لا تأبه لتلك المنظمات بل لا تعيرها إهتماما وتدينها عندما ترى في ذلك تعارضاً مع مصالحها.

كما أوجز د. عبد العزيز سعيد البرنامج الخاص بحقوق الإنسان في الجامعة وعرج د. مبارك عِوَض على الحقوق الفردية التي حصل عليها المواطن الأمريكي بخلاف ما يحدث في بلداننا العربية، كما أن المعلومات متوفرة لهذا المواطن بشكل كبير لتساعده على تأسيس وتكوين قاعدة معرفية للمضي به قدما نحو عالم الإبداع والازدهار.

وعلى هذا الأساس توجد شبكات واسعة وعديدة ومتنوعة من نشطاء حقوق الانسان في الولايات المتحدة وهنالك العديد من المدافعين الذين كرسوا جل حياتهم لهذه المهمة ومن تلك المؤسسات ما هو قديم تأسس منذ مدة طويلة ومنها ما هو حديث العهد، والبعض منها ديني والآخر علماني وهي شبكات محلية أو على مستوى الولاية أو على مستوى البلاد بأسرها والكثير من هؤلاء النشطاء يعملون على تحسين الأحوال المعيشية للفئات المحرومة بينما يركز آخرون على تعزيز الحماية القانونية للذين يتعرضون للتمييز والانتهاكات.

كما أن كثيراً من المنظمات تعمل على حماية حقوق المرأة والأقليات العرقية والإثنية والجماعات الدينية والفقراء والمعوقين والأطفال والجانحين الأحداث والمهاجرين واللاجئين، وتقوم هذه المؤسسات بدور كبير وحيوي في ضمان الحقوق من خلال إقامة الدعاوى والدفاع عن تلك الحقوق إضافة لزيادة الوعي لدى المواطنين وافهامهم بحقوقهم ولمجمل قضايا حقوق الانسان.

في الثاني من يونيو كان هذا اللقاء الأهم مع السيد مايكل كوزاك النائب الرئيسي لمساعد وزير الخارجية، من حيث انه أرفع مسؤول نلتقي به، ومن حيث الموضوع المطروح المتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وعلاقتها بحقوق الإنسان.

طرحنا علية عدة أمور تتعلق بالسياسة الأمريكية في مختلف البلدان وبالأخص الشرق الأوسط، خاصة في فلسطين والعراق ومعتقلي غوانتنامو والاتفاقيات الدولية التي لم تقم الولايات المتحدة بالتوقيع عليها. وذكرناه بالمعايير المزدوجة للولايات المتحدة حول الحماية الدولية لحقوق الإنسان من خلال رفضها الاعتراف والاذعان لتحقيقات أجهزة الامم المتحدة وبتباطئها في الموافقة على المعايير الدولية لحقوق الإنسان وعدم مصادقتها على الإتفاقيات الدولية العديدة كاتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتجاهل بنود في الاتفاقيات والموقف من إنشاء محكمة الجزاء الدولية.

كما ذكرناه أيضا بكيفية تقويض الولايات المتحدة الأميركية للمعاهدات من خلال إضعاف قوتها بالتحفظات والتفسيرات التي توضع على هذه الاتفاقيات مما يُحد من الحماية التي توفرها، كما أن الولايات المتحدة قد أعلنت بأنها ستقوم بتطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب ولكن إلى الحد الذي تسمح به القوانين الوطنية، الأمر الذي يجعل مثل هذه الاتفاقيات غير ذات جدوى في مجال تعزيز حماية حقوق الانسان.

كما ان الولايات المتحدة قد تحفظت على المادتين (6،7) للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمتعلقة بالإعدام والمواد (1،3،16) من اتفاقية مناهضة التعذيب.

وكان اللقاء مع وزارة العدل، بالنسبة لنا نحن المحامين من اللقاءات الضرورية والمهمة لما للجانب الاختصاصي من أثر نحتاجه في عملنا القانوني، موضوع هذا اللقاء كان حول الحكومة الفيدرالية وحماية الحقوق المدنية، حيث قدمت لنا لمحة عامة عن بعض آليات النظام القانوني الأمريكي لحماية الحقوق المدنية وحقوق الانسان للمواطنين وكيف أن دائرة الحقوق المدنية بوزارة العدل تم تأسيسها بناءً على خشية الوزارة من عدم التبليغ عن حالات التمييز في الولايات المتحدة بسبب عدم معرفة المجني عليهم لحقوقهم أو خوفهم من تقديم شكوى للحكومة ولمواجهة ذلك أسست هذه الدائرة مجموعة من المواطنين من اجل مساعدة الآخرين من المهاجرين وغيرهم لمعرفة حقوقهم الشرعية.

ودور هذه الدائرة هو الكشف عن مواطن التمييز في مجالات التربية والتعليم والتوظيف والعمل والسكن والإقراض والخدمات العامة وسوء المعاملة من قبل الشرطة والجهات المختصة في تنفيذ القوانين.

كما ان هذه الدائرة تأخذ على عاتقها تطبيق القوانين التي تمنع التمييز بسبب العجز وتحمى حقوق الأشخاص الذين هم تحت رعاية بعض مؤسسات الدولة على الصعيد المحلى أو الولاية، كما ان لها دور في المحاكمات التي ترتكب بسبب العرق أو اللون او الموطن الأصلي للمجني عليه.

في الثالث من يونيو اخذنا الي مؤسسة السوق الحرة التابعة للمعهد الاسلامي، حيث استقبلنا من قبل السيد خالد صفوري عضو مجلس الادارة ليحدثنا عن “الجالية الإسلامية الأميركية والمشاركة السياسية”، والسيد صفوري هو بالمناسبة من أصول فلسطينية أخذته الحياة في الولايات المتحدة وانتماؤه للحزب الجمهوري عن علاقته بموطنه الأصلي ليدافع بكل قوة عن سياسات الإدارة الأميركية في السراء والضراء وكان وقع ذلك سيئا على الكثير من الوفود العربية للطريقة التي بدا فيها ملكياً أكثر من الملك.

تأسست هذه المؤسسة في العام 1988 وهي مؤسسة غير ربحية وأهدافها تتمثل في توفير فهم أفضل بين الجالية الإسلامية الأميركية والقيادة السياسية، وتوفير برنامج للترويج للمنظور الاسلامي حول قضايا محلية اجتماعية ومالية وزيادة مشاركة الجالية الاسلامية في العملية الانتخابية وتعريفهم بالقيم الأميركية التقليدية وصانعي القرار بالقيم والتعاليم الاسلامية التقليدية.

في الخامس من يونيو 2004 حطت بِنَا الطائرة في مطار جاكسون مسيسبي وللوهلة الأولى اتضحت لنا الفروقات بين واشنطن وهذه الولاية من حيث التقدم في مختلف المجالات ليخال إليك بأنك في دولة اخرى.

فهذه المدينة سُميت على اسم الجنرال أندرو جاكسون الرئيس السابع للولايات المتحدة الأميركية وهي منطقة تجارية أسسها الفرنسيون وهي العاصمة لهذه الولاية وفِي هذه المدينة تطورت الملاحة والصناعة والتعليم وأصبحت مركزا هاما للسكك الحديدية.

وبرنامج جاكسون هو عبارة عن دراسة لحالة حركة حقوق الانسان والحقوق المدنية في الولايات المتحدة وتحديدا حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين، حيث أن البرنامج في هذه الولاية يؤكد على دور المجموعات والمنظمات المختلفة في الترويج التاريخي والمعاصر للحقوق المدنية وحقوق الانسان من حيث ان البرنامج يشتمل على الأدوار التي تقوم بها الولاية والحكومة المحلية والنساء والمنظمات الدينية، والشركات، والمنظمات الشعبية في ضمان حماية الحقوق والفرص المتكافئة لمختلف الفئات.

كما إن البرنامج الدراسي في هذه الولاية سيوضح لنا أهمية حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وفِي إطار سياسات الحقوق المدنية وحقوق الانسان وكيف يمكن لهذه السياسات ان تؤثر على السياسة الخارجية الأميركية العامة فيما يتعلق بمختلف القضايا التي تمس حقوق الانسان.

كان اللقاء الاول في هذه الولاية مع البرفيسور ايدل كنج  وهو مناضل أبيض تعرض كثيرا للمضايقات والاعتقالات بسبب دوره البارز في حركة الحقوق المدنية والدفاع عن السود والملونين في الولايات المتحدة حيث اعطانا فكرة تاريخية عن نضال السود في محاربة الفصل العنصري والعبودية والفقر، وكيف انهم استطاعوا أن يقضوا على نظام الفصل العنصري في المداس  وغيرها  من خلال  النضال  السلمى والمطالبة المستمرة بالحقوق ومن خلال المحاكم وكيف أن للسود حاليا مشاكل عديدة في مجال التعليم والصحة والفقر والمخدرات وغيرها من المشاكل وأهمية التغلب عليها من خلال الحاجة إلى عمل شبكة دعم وطنية ودولية للتخلص من هذه المشاكل .

واللقاء الثاني في هذه الولاية مع رابطة النساء الناخبات، وهذه الرابطة لها رئيستان كان لنا لقاء مع إحداهن وهي السيدة Fran Labor التي شرحت لنا طريقة عمل منظمتهن من حيث أن النساء قد حصلن على حق التصويت في العام 1920 وينصب عملهن تثقيف الناخبين وذلك عن طريق تسجيلهم في الدوائر الانتخابية وإصدار الكتيبات والنشرات ومن خلال الانترنت، كما أن لهذه المنظمة دور في دعم النساء للترشح والعمل ومساواتها مع الرجل في مختلف الميادين وبالخصوص العمل على مساواة المرأة بالرجل في الاجور.

وهذه المنظمة تطوعية يبلغ عدد أعضاؤها حوالي 120 ألف عضو ويحصلون على الدعم من مختلف المؤسسات وهي ليست مرتبطة بأي من الأحزاب.

كما ان الدور الأساسي لهذه المنظمة هو ضمان الحقوق المدنية وحقوق الانسان للمرأة وحشد وتمكين النساء عن طريق تشجيعهن على الانخراط في السياسات المحلية والتصويت.

ثم التقينا بالسيدة Benita Burt   مديرة رابطة جاكسون المدنية وهذه المنظمة غير تطوعية تحصل على الدعم والتمويل من الحكومة الفيدرالية من خلال قيامها بالترويج للبرامج التي تساعد السود في الحصول على المسكن وعمل برمج للشباب الذين ليس لديهم مهارات أو وظائف، وكيفية التعامل مع المشاكل الصحية التي تواجه السود.

وهي رابطة من مجموع 114 رابطة في مختلف الولايات المتحدة وقد بدأت العمل منذ العام 1910 عندما هاجر السود للمناطق الصناعية في الولايات المتحدة وبروز المشاكل العديدة لهم اثناء هذه الهجرة.

ومن أهم اللقاءات التي حصلت كانت مع النائب فريزر وهو من السود المناضلين والمسؤول الأول عن إعداد الموازنة الخاصة بالولاية والذي قام باطلاعنا على تجربتهم في الحصول على الحقوق من خلال النضال السلمي وكيف أن سياسة الفصل العنصري كانت تُمارس حتى العام 1954 حتى استطاعوا ومن خلال المحاكم أن يحصلوا على أحكام تمنع التمييز في المدارس والمرافق الاخرى.

كما شرح لنا الدور الذي قاموا به في تعديل دستور 1890 والذي بموجبه منع السود من المشاركة في الانتخابات  بسبب العراقيل العديدة التي وضعت لهم للترشح كعدم تمكنهم من القراءة والكتابة، إضافة لعدم إمكانياتهم في الحصول على الأموال اللازمة لدعم حملاتهم الانتخابية وبالتالي حتى العام 1967 لم يترشح أي من السود في برلمان الولاية بسبب سياسات  الحكومة الفيدرالية والحكومة المحلية للولاية والمظاهر غير العادية التي تعرض لها السود من حيث الرعاية الصحية والتعليم والبيئة الاجتماعية مما ساعد على الارتفاع الاستثنائي في معدلات الوفيات بينهم .

بخلاف ما حدث من تطور ففي الولاية اليوم ١١عضواً اسود من أصل 52 في مجلس الشيوخ و37 عضوا في مجلس النواب من أصل 122 عضو.

كما شرح لنا الدور الذي قاموا به في التقدم بمشاريع قوانين للمصادقة على التعديل في الدستور في العام 1994 في حظر العبودية، وإصدار تشريع باعتبار يوم ميلاد لوثر كينج  كيوم اجازة رسمية .

كما قاموا بدور كبير في إصدار قوانين تحضر الفصل العنصري في المدارس وإلزامية التعليم وتحويل المدارس بشكل متساو، والضغط على المشرعين الفيدراليين في إصدار قوانين لمصلحة السود وحذف القوانين التي تضمن للبيض معاملة مختلفة.