المنشور

الموازنة العامة للدولة ..رؤيـة نقديـة

 
مع بداية الفصل التشريعي الأول وبعد إستعادة الحياة النيابية، ناقش مجلس النواب البحريني ولأول مرة بعد إنقطاع دام قرابة الثلاثة عقود أول موازنة عامة للدولة، تلك كانت هي موازنة 2003-2004، حيث كان المجلس حينها  في بداية سنته الأولى مما يعني نقصا كبيرا في خبرات وتجارب أعضاءه بشكل عام وأعضاء لجنة الشؤن المالية والإقتصادية حديثي الخبرة بالحياة النيابية وبمناقشات الموازنات العامة بشكل خاص، إلا أن التجربة النيابية سرعان ما  رسخت لاحقا الكثير من التجارب والدروس التي فرضت على النواب والكتل سرعة تعلمها بحكم التعاطي اليومي مع الحكومة  وأساليب عملها  ونهجها  في التعاطي  مع الموازنة العامة كأهم ملف
 


الموازنة العامة للدولة ..رؤية نقدية
(ورقة مقدمة لندوة الجمعيات السياسية)
 التي أقيمت في مقر المنبر التقدمي
مساء الاثنين 29 ديسمبر 2008

بقلم: عبد النبي سلمان


 

مع بداية الفصل التشريعي الأول وبعد إستعادة الحياة النيابية، ناقش مجلس النواب البحريني ولأول مرة بعد إنقطاع دام قرابة الثلاثة عقود أول موازنة عامة للدولة، تلك كانت هي موازنة 2003-2004، حيث كان المجلس حينها  في بداية سنته الأولى مما يعني نقصا كبيرا في خبرات وتجارب أعضاءه بشكل عام وأعضاء لجنة الشؤن المالية والإقتصادية حديثي الخبرة بالحياة النيابية وبمناقشات الموازنات العامة بشكل خاص، إلا أن التجربة النيابية سرعان ما  رسخت لاحقا الكثير من التجارب والدروس التي فرضت على النواب والكتل سرعة تعلمها بحكم التعاطي اليومي مع الحكومة  وأساليب عملها  ونهجها  في التعاطي  مع الموازنة العامة كأهم ملف يمكن لأي مجلس نيابي أن يناقشه نظراً لأهميته الإستراتيجية بالنسبة لتوجهات الدولة وسياساتها المالية والإقتصادية والإدارية على مدى عامين كاملين وربما أكثر.  وبالفعل جاءت مناقشة الموازنة الثانية التي ناقشها المجلس وهي موازنة 2005-2006 لتؤكد  تطور اداء لجنة الشؤن المالية والإقتصادية الملحوظ في دراسة الموازنة العامة للدولة، وفي بقية الملفات التي أضطلعت اللجنة بمناقشتها لاحقا، مما إنعكس بشكل إيجابي على مجمل تلك الملفات، حيث عززت اللجنة بشكل واضح من قدرتها على كيفية التعامل مع الحكومة بمستشاريها وطواقمها المختلفة وآليات عملها وأساليبها الإلتفافية وحتى أرقامها المغلوطة أحيانا كثيرة في العديد من الملفات سواء تلك المتعلقة بالموازنة العامة للدولة أو غيرها من الملفات الأخرى. 

  من وجهة نظري، كان الأمر الأكثر إيجابية في الأمر برمته  هو إعتماد بقية أعضاء المجلس  بكتله المختلفة بشكل شبه تام تقريبا على ما ستطرحه اللجنة من آراء ومآخذ، وما ستجده من حلول وما ستعترض عليه أو ما ستصر عليه أثناء دراسة الموازنة بكافة تفاصيلها، نتيجة لتعزيز عامل الثقة في العناصر المخلصة من أعضاء اللجنة دون النظر الى كتلهم أو إنتماءاتهم.  حيث أعطى ذلك لأعضاء اللجنة ثقة أكبر ومساحة مناورة مهمة مكنتهم من الإستناد عليها في الرد أو الموافقة على ما قدمته الحكومة من معلومات وتفاصيل.

ومنذ البدء كان واضحا لجميع أعضاء اللجنة الأساليب المراوغة التي إتبعتها  الحكومة ممثلة في وزير ماليتها السابق وطاقمه التنفيذي، حيث تعمدت الحكومة تقديم مشروع الموازنة العامة من خلال  أوراق معدودة لا تتجاوز الست صفحات، وعلى شكل خطوط عامة، لا تتضمن أية تفاصيل يمكن الاعتداد بها، وكانت الحكومة بذلك تحاول جاهدة اللعب على الوقت وإضاعة وقت اللجنة من خلال إجتماعات مطولة تقدم في نهايتها بعض التفاصيل الهامشية، فيما تمتنع عن تقديم التفاصيل الهامة والأساسية مثل تكلفة إنتاج برميل النفط والعوائد الحقيقية لمبيعات النفط، وإستثمارات الدولة والإحتياطي العام وحجم المعونات الخارجية الحقيقي، وموازنات الدفاع والأمن الحقيقية، والكلفة الحقيقية لتشغيل مصفاة النفط في بابكو، علاوة على موازنة الديوان الملكي وموازنة المشاريع العامة.  وعلى الرغم من  تقتير وتلكؤ الحكومة في تقديم تلك المعلومات والأرقام المهمة، وعدم تقديمها لأية مبررات موضوعية حول تضخم موازنات بعينها كالدفاع والداخلية والحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني وموازنة ديوان سمو رئيس الوزراء والديوان الملكي، إلا أن كل ذلك قد شكل في حد ذاته تحديا من نوع آخر كان على اللجنة أن تتصدى له من خلال قلة من أعضاءها الذين  لحسن الحظ لم يواجهوا مقاومة تذكر في إقناع بقية زملاءهم الذين لم يولوا ملف الموازنة الإهتمام المطلوب الا بحسب بعض الملفات الداخلة فيه والمتعلقة بمصالح إنتخابية في معظمها، حيث فرضت تلك العناصر من أعضاء اللجنة بكفاءتها وإخلاصها وإصرارها ووطنيتها أمراً واقعاً على بقية أعضاء اللجنة ولاحقا على بقية الكتل وحتى على رئاسة المجلس ذاتها .

وحيث أن دراسة الموازنة العامة للدولة هي بمثابة الغوص في كافة تفاصيل إدارة الشؤون المالية والاقتصادية ودراسة مشاريع وتوجهات الدولة التنموية المختلفة على مختلف الصعد الإقتصادية والإجتماعية والتعليمية والصحية والرياضية وغيرها، وبالتالي فهي عمليا إسهام حقيقي في رسم سياسة وتوجهات الدولة على مدى عامين هما مدة الفترة الزمنية للموازنة العامة المراد إقرارها، من خلال ما يفترض أن تقدمه الحكومة من برامج ومشاريع وتوجهات تنموية مرفقة مع مشروع الموازنة العامة ذاته.  فقد ساعدنا ذلك الفهم المبكر نسبيا لأهمية ما أصبح حينها بين أيدينا من برامج ومشاريع وأرقام على مقارعة الحجة بالحجة والأرقام بالأرقام ومواجهة تخلف الأداء الحكومي في تنفيذ المشاريع باقتراحات جديدة على مستوى الإدارة العامة للدولة مثل سياسات التوظيف ومشاريع الخصخصة والأجور ومشاريع الكهرباء والماء والسياسات التعليمية والصحية والإسكانية والتوظيف وغيرها، وبالنسبة لغالبية أعضاء لجنة الشؤون المالية والإقتصادية في الفصل التشريعي الأول، ربما كان آخر شيء يهمنا هو إقرار الموازنة في الفترة المحددة التي تريدها الحكومة، نظرا لما لدينا من مبررات موضوعية للرد على من سيحاولون الضغط باتجاه إقراراها بأي ثمن، وهي في حدود الستة أسابيع منذ تسلمها رسميا من قبل الحكومة، حيث كنا  باستمرار نمتلك المبرر الموضوعي على نقص ما قدم لنا من معلومات وخلوها من التفاصيل المطلوبة، بل أننا أعلنَا ذلك للمجلس من خلال الجلسات العامة، والأهم منه أننا أحطنا الرأي العام علما منذ اليوم الأول بأن الموازنة لن تقر ولن تمرر طالما لم تقدم الحكومة المعلومات والأرقام الوافية المطلوبة، وهكذا كان، فبدلاً من الفترة المحددة لمناقشة وإقرار الموازنة وهي في حدود ستة أسابيع فاننا إستغرقنا  قرابة الستة أشهر، وكانت الحكومة حينها تحاول أن تؤلب الرأي العام على أعضاء اللجنة متهمة إياهم بالتسبب في تأخير زيادة الموظفين في القطاع العام وإضطرار الحكومة كما كانت تعلن دوما لصرف رواتب موظفيها مستخدمة آلية واحد على اثنتي عشر، كما أصطلح على تسميتها، والتسبب في تخلف الدولة عن البدء في مشاريع حيوية للناس من جسور ومحطات كهرباء وبيوت إسكان وإستملاك أراضي لإستصلاحها، أو بناء مدارس وعيادات صحية ومطارات وموانئ وغيرها، وكان ذلك مفهوما وواضحا لنا في لجنة الشؤون المالية، وفي الحقيقية لم نكن نجد ضغوطا تذكر من بقية الكتل، نظرا لما فرضته اللجنة من أمر واقع كان من الصعب تجاوزه حتى من قبل رئاسة المجلس عوضاً عن الكتل. 

                                    
وعلى الرغم من محاولات الحكومة المستمرة في عمل إختراقات من خلال بعض الكتل والأعضاء ذوي التوجهات المعروفة بممالأتها، إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا تحت إصرار المخلصين من أعضاء اللجنة على إستكمال مهمتهم بمسؤولية وضمير وطني، وقد كان سندنا الحقيقي  في أداء مهمتنا تلك بصورة مسئولة، هو تفهم الشارع بشكل عام لدورنا وأهميته والذي لعب فيه تواصلنا اليومي مع الناس والجمعيات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني والمجالس ووسائل الإعلام المختلفة دورا مهما، بدلا من الانزواء في نقاشاتنا اليومية مع الدولة داخل الغرف المغلقة، وكانت  تلك أسباب جوهرية لفشل كل محاولات الإختراق التي قامت بها الحكومة وبعض النواب.  وكان واضحا لنا من خلال مناقشة موازنتي 2005-2006 وكذلك 2007-2008 تعمد الحكومة وبسبق إصرار على تقديم معلومات مغلوطة أو ناقصة مستغلين عدم وجود طواقم إسناد من إستشاريين وغيرهم لعمل اللجنة، حيث ظلت رئاسة المجلس ترفض وباستمرار مناشداتنا نحن العاملين من أعضاء اللجنة بتوفير ولو مستشار مالي واحد للجنة متذرعة بعدم وجود موازنات لذلك، فيما كنا نشاهد بأم أعيننا كيف كانت توزع أموال طائلة من موازنة مجلس النواب على بعض الأسفار والمؤتمرات التي لا طائل من وراءها سوى رفاهية البعض للأسف، لكنني أقول لكم أن ذلك كان عامل تحد آخر، جعلنا نلغي ذواتنا ونعمل حتى ساعات متأخرة من الليل والنهار في سبيل إخراج الموازنة العامة  بالصورة الملائمة وبحسب مجهوداتنا وقدراتنا الفردية وبما يرضي ضميرنا الوطني قبل كل شيء آخر.

ومما يمكن أن يساق هنا على كيفية تلاعب الحكومة في أرقام الموازنة بشكل متعسف وغير مسؤول، يمكننا أن نعطي هنا أكثر من مثال على ذلك ، فقد قدرت الحكومة تكلفة إنتاج البرميل  في الموازنتين الأخيرتين على أنها 3 دولارات (ثلاثة دولارات للبرميل) ولكن اللجنة وبعد صراع طويل ومرير مع وزير المالية السابق وطاقمه وبعد تواصل قمنا به مع بعض أعضاء مجلس الأمة الكويتي وتواصل مع المعنيين في كل  من المملكة العربية السعودية والإمارات، إستطعنا أن نفرض على الحكومة التكلفة الحقيقية وهي 1,97دولار فقط، والفرق هنا كبير كما تلاحظون ويقدر بمئات الملايين بحسب حجم المبيعات اليومي والسنوي أيضاً، وتلك قضية يمكن الرجوع إليها من خلال أرشيف اللجنة ووسائل الأعلام التي تفاعلت معها بشكل كبير وأسهمت هي والرأي العام في إسنادنا لأننا كنا في حال تواصل وتواجد دائم معهم كما ذكرت سلفا.  وبالفعل اضطرت الحكومة لإزاحة وزير المالية السابق على خلفية قضيتين أساسيتين أثارهما بقوة مجلس النواب آنذاك وهما قضية تعذر تمرير الموازنة العامة نتيجة الخلاف  مع الحكومة حول تفاصيل تتعلق بالإيرادات النفطية وغير النفطية وإستثمارات الدولة في “البا” وتحديد تكلفة إنتاج برميل النفط والحسابات الأخرى، بالإضافة الى  قضية إفلاس هيئتي التأمينات والتقاعد وما شابها من تجاوزات رصدتها لجنة التحقيق البرلمانية  في تقريرها الضخم والذي ناقشته البحرين بأسرها آنذاك.   واللافت هنا أنه بعد إزاحة الوزير السابق وخلال الجلسة التالية مباشرة مع الوزير الجديد  وهو الوزير الحالي، فان نفس الطاقم الذي كان يبرر مراوغات وإلتفافات الوزير السابق جاء مع الوزير الجديد ليوافق دون عناء هذه  المرة على رأي لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، بل ويبرر ما أتفق الوزير الجديد بشأنه مع أعضاء اللجنة، الذي هو بالمناسبة رأي  الإدارة التنفيذية في بابكو  فيما يتعلق  بتقدير تكلفة وإنتاج برميل النفط وحجم المبيعات والإيرادات النفطية الحقيقية. 

   فقد كان هناك تفاوت واضح  كشفته اللجنة بين حسابات مبيعات النفط وإيراداته المدونة في حسابات وسجلات شركة النفط بابكو وبين حسابات  عائدات النفط لدى مصرف البحرين المركزي، من دون أن تقدم الحكومة ما يشفع لها من مبررات حتى تكشفت للجنة  الكثير من حقائق  عوائد النفط المغيبة والتي على أثرها استعادة اللجنة أكثر من مليار دولار في موازنة 2005-2006 وكذلك  هو الحال في موازنة 2007-  2008 لأن الحكومة عاودت ذات السيناريو مرة أخرى، وبالمناسبة مصادر أعضاء اللجنة المالية تتحدث مجددا عن تغييب رقم مماثل من إيرادات الدولة في الموازنة الحالية.

تلك كانت رؤية سريعة  لابد منها لكي نستطيع أن نفهم سويا كيفية تعاطي الحكومة والذي أرى أنه لازال مستمرا حتى اليوم من خلال متابعاتنا لتعاطي الحكومة مع ملف الموازنة العامة للدولة، وهو أهم ملف كما ذكرت  يمكن أن يناقشه أي برلمان في العالم، وعلينا  بعد ذلك أن نقيس ونمحص كيفية تعاملها مع مختلف الملفات الأساسية والتي لا تقل  أهمية بأية حال عن الموازنة العامة للدولة.
نخلص من كل ذلك إلى أن  دراسة الموازنة العامة للدولة لا يجب أن يجر فيها مجلس النواب ومن بعده المجتمع بأسره لنقاشات تحصر في مجرد إقرار أرقام صماء، كعدم إقرار علاوة الغلاء أو حتى مجرد إقرار موازنة  المدينة الشمالية على سبيل المثال من عدمه، أو زيادة ميزانية مشروع البيوت الآيلة للسقوط الذي أستهلك كثيرا أو زيادة إيرادات شكة ممتلكات أو غيرها،  كما يحصل الآن من حوارات مضيَعة للوقت في أغلبها، فذلك بالضبط ما تريده الحكومة لتخلي مسؤوليتها من مناقشة أكثر عمقا نحو توجهات الدولة الحقيقية على مستوى التعليم والإسكان والصحة وتقليص النفقات الأمنية المتضخمة، دون  مبرر وغيرها من  المشاريع الخدماتية، حيث يجب أن تنصب مناقشة ومواجهة و توجيه سياسات الدولة تلك بما هو أشمل من ذلك بكثير دون إجتزاء، حتى يكون  إقرار الموازنة العامة هو عبارة عن إقرار لخطة الدولة التنموية الشاملة فيما يتعلق بقضايا أساسية وإسترتيجية، وتوجه الدولة بالإتفاق مع المجلس الوطني من خلال ذلك لتحسين الأوضاع المعيشية والإقتصادية للمواطنين، وكذلك التعاطي مع عوامل زيادة التضخم  والغلاء والتوظيف، وخططها على مدار فترة وعمر الموازنة العامة على الأقل لحلحلة ملفات كبرى كالإسكان والتعليم والصحة والكيفية التي تقترحها لمعالجة وتغطية العجز في الموازنة كما فعلت المملكة العربية السعودية مؤخرا وبشكل واضح ومعلن على لسان وزير ماليتها مؤخرا، وكذلك هو الحال مع سياساتها وخططها لتنويع مصادر الدخل ومعالجة  بقية الأوضاع الرديفة للأوضاع الإقتصادية والمعيشية كانقطاعات الكهرباء المزمنة، والإسكان والبنية التحتية، وكذلك رؤية الدولة في قدرة الإقتصاد الوطني على توفير فرص عمل متزايدة للأعداد الضخمة المنتظرة من الخريجين القادمين لسوق العمل، والزيادة المضطردة في السكان والتي تزيدها تعقيدا سياسات التجنيس المنهجية التي لا يبدو أن الدولة بعازمة على وقفها قريبا، وكذلك مراجعة وتمحيص توجهات الدولة الإقتصادية  لتحفيز الإقتصاد، وهنا مثلا لا يكفي أن تقدم الدولة ما أسمته بالرؤية الأقتصادية الأستراتيجية حتى 2030 والتي  طرحت منذ أقل من شهرين، ليتضح بعدها بأسابيع قليلة، وذلك من خلال تصريحات المسئولين المتكررة حول ضرورة إعادة دراستها مجددا، وضرورة التأكد من  أنها – أي الرؤية الاقتصادية-  ستكون  قادرة على التفعيل على الأرض.   ثم أن الأمر الأكثر إثارة هنا هو كيف يستقيم أن تضع الدولة رؤية اقتصادية إستراتيجية طموحة يمكنها أن تتعاطى مع وضع التنمية الشاملة في الوطن في ظل تقديم الدولة بالتوازي معها لموازنة تاريخية ومتضخمة جدا للدفاع والأمن، هذا القطاع  غير المنتج إقتصاديا والمتضخم حد التخمة، لتبلغ موازنة الدفاع والأمن (المعلنة) لعامي 2009-2010 أكثر من مليار دينار بحريني لوحدها والتي بلغت نسبتها أكثر من 24% من حجم الموازنة العامة للدولة  وبزيادة بلغت أكثر من 21% عن موازنة 2007-2008 بعد أن أضيفت اليها  موازنة هيئة أمنية مستحدثة هي الأمانة العامة لمجلس الدفاع الأعلى، كدليل آخر على التضخم الإداري غير المبرر! وبطبيعة الحال تبقى موازنة التسليح مستثناة من ذلك،وعلينا أن نتخيل حجم موازنة الدفاع والأمن الحقيقية بعد ذلك! في حين ترد وزارة المالية حول عدم تضمينها لعلاوة الغلاء بأنها تشكل عبئا  مستمرا على الموازنة العامة للدولة! وترفض الرد بالإيجاب حول المطلب الشعبي الملح برصد ميزانية للشروع في بناء المشروع الإسكاني الإسترتيجي في المدينة الشمالية! أو حتى بزيادة ميزانية البيوت الآيلة للسقوط.

وقد تابعنا على صفحات الجرائد الأسبوع الفائت طلباً من الحكومة للنواب بتوفير  ما مقداره 5 ملايين دينار سنويا لإستكمال التزاماتها خلال العامين القادمين بالنسبة لمشروع البيوت الآيلة للسقوط، كما تابعنا أيضا التوجه الآخر الأكثر مفارقة والذي سربته الحكومة لوسائل الإعلام المحلية كنوع من جس النبض وذلك بعد إجتماع الحكومة منذ أسبوعين، بالدعوة لشد الأحزمة وإلغاء الترقيات ووقف الساعات الإضافية، كدليل آخر على الكيفية التي تنوي الحكومة معالجة العجز المتوقع في الموازنة العامة، وهنا يسهل الربط بكل يسر بين طلب الحكومة هذا وعدم تقديم الحكومة لمبررات موضوعية مقبولة لزيادة الإنفاق العسكري والأمني والذي جله يذهب للباب الأول من المصروفات المتكررة التي فاقت نسبة الزيادة فيه عن ال 50% كما هو الحال في ميزانيتي الحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني ، وكذلك  نحتاج لمبررات حول زيادة ميزانية ديوان سمو رئيس الوزراء بمقدار 937و9 مليون دينار عن سابقتها في 2007-2008 أضف إلى ذلك أننا لا نعلم حتى اللحظة كم هو حجم وزيادة موازنة الديوان الملكي، وفي المقابل أيضا نشهد تناقضا فاضحا لا تخفيه الأرقام المقدمة في مشروع الموازنة العامة وهو أن الحكومة وهي تطرح رؤيتها الاقتصادية حتى العام 2030 تحاول أن تركز على التعليم كمحور أساسي للنهوض بمخرجات التعليم فانها لم تعكس ذلك حقيقة في ما رصدته من موازنة  لمشاريع وزارة التربية والتعليم والتي على العكس من ذلك  قد قلصت بأكثر من 17% لتبلغ 13,715 مليون دينار بعد أن كانت 16,557 مليون دينار، خاصة بعد الإعلان الرسمي مؤخرا عن أن تدني جودة التعليم بلغت أكثر من 70% ، كما خفضت هي الأخرى موازنة المشروعات الصحية التي تعاني من نقص حاد  أصلا بنسبة تزيد على  28% لتبلغ 34,440 مليون دينار للعامين 2009-2010 بعد أن كانت 48,387 مليون دينار في الموازنة الماضية، على الرغم من الإحساس العام بنقص الخدمات وتراجعها كثيرا عن ما كانت عليه سابقا.
أمر آخر يمكننا أن نتساءل حوله، وهو المتعلق بتوجهات الدولة القادمة وخلال العامين القادمين على وجه التحديد فيما يتعلق بمشروع الخصخصة، حيث لم تعلن الحكومة حتى هذه اللحظة عن نيتها التوقف عن المضي قدما في ذلك، بالرغم من فشل تلك السياسات واليقين بعدم جدواها، كما لم تسأل اللجنة المالية الحكومة عن توجهاتها في هذا المجال، ولم نقرأ ما يفيد بمواجهة اللجنة المالية والإقتصادية للحكومة حول سياساتها المالية وإلإقتصادية القادمة في ظل ما يجري حولنا من تحولات مالية وإقتصادية جارفة لن توفر أحدا.

كما أن علينا أن نعيد النظر في كيفية التعايش مجددا مع عجز الموازنة القادم للعامين القادمين الذي قدَرته الحكومة اعتمادا على السعر المتفائل  لبرميل النفط والذي اقترحته في حدود 60 دولارا للبرميل والذي سيبلغ أكثر من 429,483,000 مليون دينار، وبعد أن تم أمس تغيير السعر المقترح إلى 40 دولار يتوقع أن يبلغ العجز في الموازنة أكثر من 700 مليون، في حين ترد  الحكومة بصعوبة الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية جراء الأوضاع الاقتصادية والمالية العالمية الراهنة، فما هي الخيارات المتاحة أمامنا إذاً؟! فهل الاقتراض وزيادة الدين العام مجددا بعد تخفيضه هي الخيار الأوحد؟، مع العلم أن خدمة الدين العام لوحدها تبلغ الآن  فقط 50 مليون دينارا عن كل عام ولا تجد الحكومة ضررا فيما لو تمت زيادة ذلك بما يبلغ 20 مليون دينار أخرى! أم هل علينا أن نقبل بما يسوقه لنا أيضا بعض الأخوة النواب بالقبول بتمرير الموازنة كما هي نزولا كما يقولون عند سرعة التعاطي مع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية؟! وكذلك اقتراحهم بتمرير ميزانية الديوان الملكي عن طريق مرسوم ملكي، لنفتح بذلك مخارج أمام الحكومة يصعب مستقبلا إغلاقها وهي التي لا تحتاج إلى مخارج أصلا .

تلك إذا كانت مداخل حيوية لا سبيل أمامنا كمعارضة إلا أن نلج منها لإحداث مناقشات موضوعية مستفيضة ومسئولة حول رؤيتنا كجمعيات سياسية لمناقشات الموازنة العامة للدولة، بدلا من القبول بإقرار الموازنة بشكل متسرع، والدعوة من خلالها لإجراء إصلاحات هيكلية في بنية الموازنة العامة للدولة وتنويع مصادر الدخل، والدعوة لزيادة الإنفاق وعدم تقليص موازنة المشروعات إلى الحد الأدنى، والعمل على تحفيز الاقتصاد الوطني وضخ مزيد من السيولة والحيوية فيه اعتمادا على ما توفر من فوائض مالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير منذ العام 2002 تحديدا وكذلك الدعوة الصريحة والمباشرة لتقليص  التضخم في الإنفاق على الأمن والدفاع من دون مبررات موضوعية، وتحويل تلك الأموال إلى المشاريع الخدمية من تعليم وصحة وإسكان وبنية تحتية، والتي بدونها ستكون أعباء وتبعات إقرار الموازنة كما تريدها الحكومة وجزء غير يسير من الكتل والنواب  مكلفة وبعيدة المدى على الناس والاقتصاد  الوطني برمته لسنوات قادمة.