المنشور

عميد الأدب الروسي بوشكين.. وتراثنا العربي (1-2)

في المقال المنشور في هذا المكان تحت عنوان “المبدعان الروسيان.. جوجول وبوشكين” الذي تناولنا فيه المكانة التي يتبوأ بها كل من هذين الاديبين الروسيين في الانتاج الابداعي الادبي الروسي منذ بواكير النهضة الثقافية الابداعية الروسية في العصر الحديث قبل قرنين ونيف، خلصنا إلى أن ما يطبع جانبا كبيرا من ابداعات ونتاجات الشاعر الروسي بوشكين هو تأثره بالتراث الادبي العربي – الاسلامي إلا أن الدارس المتفحص لانتاجات بوشكين الابداعية يلحظ جيدا مزاوجة الشاعر في تأثره بالتراث الأدبي الانساني العالمي بين التأثر بالتراث الاوروبي الغربي والتراث الشرقي وعلى الاخص العربي – الاسلامي.
وهذه الميزة هي التي تطبع بالضبط تقاليد روسيا وثقافتها الشعبية التي تعكس موقعها الجغرافي الواقع في منطقة وسطى بين الشرق والغرب، أو بين الشمال الاوروبي من جهة والشرق العربي والاسلامي الآسيوي الجنوبي من جهة اخرى، وهذا ما ينعكس أيضا على الطابع القومي الوسطي لهذا الشعب المحافظ باعتدال من دون تزمت وتحجر والمنفتح على تطورات المدنية المعاصرة ومباهج الحياة باعتدال ايضا من دون تطرف او الوقوع في براثن الانحرافات الاخلاقية الطاغية بفجاجة مشوهة لروح وسمو القيم الانسانية المشتركة بين كل الثقافات والديانات.
ان بوشكين في انتاجاته الادبية الابداعية يمثل موضوعيا بالضبط هذه النزعة الوسطية التي طبعت تقاليد وسلوك الشعب الروسي حقبا طويلة متعاقبة. على أن بوشكين يستمد مكانته في الثقافة الروسية من الدور الفائق الاهمية في إثراء هذه الثقافة وفي تطوير الادب الروسي في بواكيرهما المعاصرة منذ نحو قرنين، ولقد نظر كبار النقاد إلى بوشكين بأنه مؤسس الادب الروسي الحديث او ما يمكننا ان نطلق عليه “عميد الادب الروسي” مقارنة بما كان العرب والمصريون، على وجه الخصوص، يلقبون طه حسين بـ “عميد الادب العربي” لدوره ولما قدمه من اسهامات بحثية ودراسات مهمة حول هذا الادب وتاريخه ونقده.
واذا كنا في واقع الحال لا نجد سوى شذرات قليلة من دراسات تركها لنا طه حسين فيما يتعلق بحال اللغة العربية وسبل وآفاق تطويرها لتواكب تغيرات العصر وانتشالها من حال الجمود التي هي عليها منذ قرون فإن مأثرة عميد الادب الروسي في اللغة والادب الروسيين الكسندر بوشكين تتجلى في ارتقائه بهما من الجمود إلى الحيوية الجمالية المتدفقة المتوائمة مع العصر والثقافات الانسانية المعاصرة من دون ان يخل بخصوصية وهوية الادب الروسي. وعلى خلاف المشكلة التي ما انفكت الثقافة العربية تعانيها فيما يتعلق بالانفصام بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية، أو بين اللغة العامية واللغة الفصحى، فان بوشكين يرجع إليه الفضل الأول في تضييق الفجوة بين لغة النخبة الادبية ولغة الشعب الدارجة، ومن ثم فان بوشكين يعد بحق من رواد تحديث اللغة الادبية الروسية، وبخاصة إذا ما علمنا بأن المؤلفات الادبية كانت تكتب باللغة السلافية الكنائسية القديمة وهي لغة نخبوية دينية منفصلة عن اللغة الروسية الشعبية الحية، ولم يتم التقريب بين اللغتين إلا خلال القرن الثامن عشر في عهد لومونسوف.
واذا كانت تلك هي اسهامات بوشكين العظيمة في تطوير اللغة والادب الروسيين خلال عمره القصير فلنا ان نتخيل كم هي اسهاماته لو لم تنته حياته بتلك النهاية التراجيدية الفاجعة حينما سقط صريعا في تلك المبارزة التي دفع إليها بتدبير من القيصر وحاشيته الذي كان يرى أفكاره وكتاباته المفعمة بحب العدل والمساواة وتعرية الظلم تشهيرا بحياة القيصر ونهجه الاستبدادي في الحكم.
ومع ان الروائي الروسي الكبير جوركي جاء بعد عصر بوشكين بنحو قرن إلا ان تراث هذا الأخير الادبي الذي ظل نابضا بالحياة رغم رحيل صاحبه دفع جوركي الذي تأثر به لوصف بوشكين بأنه “أكبر فخر لروسيا” فيما وصف الاديب الروسي ف. ابراموف عبقرية تراثه بأنها مازالت “مستمرة في النمو والتعمق واكتناز القوة”. اما المبدع الروسي الكبير دستوفيسكي فلم يتردد في الجزم بأن “كل الكوكبة الحالية من الادباء تعمل على هدى بوشكين، ولم تصنع الجديد من بعده، فكل البدايات كانت منه”.
لقد كان بوشكين بحق فنانا موسوعيا مبدعا في مختلف الاجناس الادبية، فإلى جانب ابداعه المتميز في نظم القصيدة العاطفية والحماسية فقد كتب أيضا القصة الشعرية الرومانتيكية، والمسرحية القصيرة، والقصة والرواية الشعرية.. وعكس انتاجه التطور الذي قطعه التيار الادبي في روسيا خلال ثلاثينيات القرن الـ 18م.
ومع ان مكانة بوشكين في الخلق الادبي الابداعي ما كانت تنبغي ان تقتصر على بلاده، وذلك بالنظر إلى ما اتسمت به جوانب من تراثه الابداعي من تأثر واضح بالتراث العربي – الاسلامي يعكس في ذات الوقت احترامه واجلاله الكبير للاسلام ونبي الاسلام محمد (ص)، إلا ان تراث هذا الاديب الروسي العالمي يكاد يكون للأسف مجهولا في مناهجنا الدراسية العربية ناهيك عن مكتباتنا.

صحيفة اخبار الخليج
27 يونيو 2009