المنشور

مساومات النواب..!

مؤسف حقاً أن لا نقف بالانتباه اللائق والتركيز الواجب والاهتمام المفروض إزاء موقف بعض النواب حينما هددوا وتوعدوا الحكومة بأنهم سيفتحون الملفات المرتبطة بإيرادات الدولة والمال العام في حال اصرار الحكومة المضي على طريق رفع أسعار البنزين..!!
هذا الذي قاله النواب ومن دون الوقوع في فخ التعميم، موثق ومنشور ويمكن الرجوع إليه في أرشيف أي جريدة، ولم يكن كلام جرائد وفق ما يقال حين يريد البعض التنصل من تبعات تصريحاتهم ونفي ما جاء على لسانهم .
لم تكن هذه التصريحات من هذا النوع، بل ما قاله النواب المعنيون صحيح ودقيق 100% بدليل أن أحداً لم ينف أو يكذب أو يفسر ما نسب إليه لا في اليوم التالي ولا بعده ولغاية الآن، وعلى هذا الأساس نتعامل مع هذه التصريحات بجدية ليس لأننا على استعداد لتصديق ما نشر، وإنما لأن الأمر ما كان ينبغي أن يمر مروراً عابراً، ولأن هذا الذي قاله النواب يغري بالكثير من الكلام تفسيراً وتحليلاً وتوقعاً واجتهاداً واستنتاجاً وهو حقاً يستحق كل ذلك.
لم يكن الغريب فيما أفضى به النواب رفضهم لمبدأ الزيادة في أسعار البنزين واعتراضهم لأي توجه برفع الدعم عن السلع الأساسية، بل إنهم في هذا الخصوص تحديداً قالوا كلاماً طيباً يحسب لهم، خلاصته رفض أي زيادة واعتبار ذلك خطاً أحمر في موقف ظهر فيه النواب ربما لأول مرة متحدين على موقف، ولا شك أن المرء يرتاح نسبياً حين يجد نوابنا بكتلهم وتوجهاتهم قد أجمعوا على موقف يخلو من النكهة الطائفية ولكن القلق لا يلبث أن يعاوده من جديد لأسباب عدة نحسبها معلومة.
ولكن الغريب حقاً هذه المقايضة الجلية والفجة التي ذهبت الى حد التلويح بالتهديد الذي لا يحتمل أي التباس، ومؤداها بأنه سيتم استخدام جميع الأدوات البرلمانية في حالة إصرار الحكومة على توجهها بالزيادة، ومن هذه الأدوات الاستجوابات، والكلام حتى الآن لا غبار عليه بل ومرحب به، ولكن من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات لابد أن يستوقفهم الربط بين الاستجوابات كقيمة من قيم المساءلة والمحاسبة وبين فتح الملفات المرتبطة بإيرادات الدولة والمال العام اذا أصرت الحكومة على رفع أسعار البنزين..!! وهي خلاصة لا يجوز القفز من فوق خطوة دلالالتها وكان يفترض أن تلقى نصيبها من الرفض والإدانة.
ماذا يعني ذلك ؟!
هل يعني بأن النواب في جعبتهم ملفات تتصل بإيرادات الدولة والمال العام، التي ومن دون أن نتحدث في الكلام الكبير الذي قد يتجاوز السقوف المتاحة، نفهم جيداً ما تعنيه هذه الملفات، ولكنهم أي النواب على أتم استعداد وبرحابة صدر وامتنان بأن يصرفوا النظر في طرح وإثارة هذه الملفات واهدار قيمة المساءلة والمحاسبة وجعلها ضحية هدنة غير معلنة فقط اذا ما تخلت الحكومة عن رفع أسعار البنزين”..!!
هذه المساومة نتحفظ عليها بطبيعة الحال وليست في محلها وليس من حق النواب أن يفرضوا علينا قبولها أو التسليم بصحتها حتى وأن صرفت الحكومة النظر مؤقتاً أو نهائياً عن رفع سعر البنزين، فذلك يأتي على حساب تغييب أدوات رقابية كفلها الدستور لمحاسبة المسؤولين.
ندرك بأنه لا غضاضة في أن يكون لهذا النائب أو ذاك، أو للنواب بأكملهم، بكتلهم وأطيافهم حسابات في التعامل مع أي قضية، ولكن يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة المعايير التي تقوم عليها تلك الحسابات، وطبيعة المصالح المتوخاة من هذه الحسابات، وعلى هذا الأساس يحق لنا أيضاً أن نتساءل عما اذا كان من حق النواب ضمن هذه الحسابات أو حتى خارج دائرتها أن يخضعوا قضايا الناس الجوهرية لمساومات تجري تحت الطاولة!
إن تعطيل حق المساءلة وإعاقة الدور الرقابي لمجلس النواب رغم ما عليه أصلاً من ملاحظات ومآخذ، يأتي في الوقت الذي يرنو فيه المواطن الى جعل ملف الفساد بكل أشكاله وبكل تشابكاته وتعقيداته في قمة أولويات المجلس، وبالتالي فإن أي محاولات أو دعوات أو إيحاءات أو تلميحات أو اشارات من نواب تنبئ عن تقبل واستعداد مهما تكن الذرائع عن تنازل يغلق الباب أمام هذا الملف رغم ان اللغط الكثير حول محتواه أمر يطلق العنان لتأويلات شتى لا يستسيغها النواب خاصة ونحن نعلم أن الشهور المقبلة ستكون مكرسة لحملة الانتخابات القريبة.
لا نتجنى على النواب، وليس وارداً في الذهن والحسبان أن نمارس أي شكل من أشكال التجني على أي منهم، ولكن ما قالوه وهو منشور وموثق يستحق التفكير والتأمل والمراجعة ويبعث على الأسى والقلق بقدر ما يتطلب تفسيراً من النواب إياهم.. !
 
صحيفة الايام
30 يناير 2010