المنشور

المعونات والسياسة الخارجية المصرية الجديدة


كتبنا في مقال الأسبوع الماضي (الجمعة 8 إبريل/ نيسان 2011) مقالاً تناولنا فيه السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير، التي توحي إشاراتها الأولى بأن تغيراً ملحوظاً سوف يطرأ على توجهاتها العامة المنطلقة من صميم مصالح مصر الوطنية والقومية المتسمة، حتى الآن، بالحيوية والجدية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، قرار النظام الجديد بإعادة النظر في سعر الغاز المصري المباع ل “إسرائيل” بسعر تفضيلي يقل كثيراً عن أسعار الغاز المباع داخل السوق المصرية وبالتأكيد أقل من أسعار الغاز العالمية، وهو سعر تعاقد عليه مع “إسرائيل” النظام السابق وتسبب فيه بخسائر فادحة للاقتصاد المصري .
 
وإذا ما واصل النظام الجديد في مصر السير على هذا النهج، وهو ما توحي به توجهات السياسة الخارجية المصرية حتى الآن، فإنه، وبسبب اتصال وتداخل شبكة المصالح الدولية المتصلة خصوصاً بمواضيع التجارة الدولية في السلع والخدمات والاستثمار والتمويل ونقل/ نشر التكنولوجيا، وبسبب الحضور الطاغي لهذه المصالح الدولية في السوق المصرية واقتصادها المستوعب لكل قضايا العلاقات الاقتصادية الدولية المنوه عنه، جراء عمليات التربيط والتشبيك لعلاقات مختلف أفرع الاقتصاد المصري مع أسواق التصدير والتوريد للقوى الاقتصادية الكبرى الرئيسية والتي تمت وتكرست منذ تطبيقات ما سمي بسياسات الانفتاح الاقتصادي منتصف سبعينات القرن الماضي  نقول إذا ما واصل النظام الجديد في مصر نهجه النابع من مصالح مصر العليا، فلسوف يكون مضطراً في أحايين عدة إلى تصحيح مسار علاقات مصر الخارجية هنا وهناك، ما قد يضعها في مواقف متضادة مع تلك القوى العظمى التي تتمتع بأفضليات مكتسبة في السوق المصرية، خصوصاً مع الولايات المتحدة التي تتمتع فعلاً بهذه الأفضليات التي اكتسبتها وأمنتها من خلال نظام المعونات والمساعدات التي تقدمها لمصر سنوياً .
 
هذه الإشكالية تطرح تساؤلاً بشأن كيفية تعامل النظام الجديد في مصر معها، هل يتعين عليه الاستغناء عن هذه المعونات والمساعدات؟ وهل بوسعه فعلاً الاستغناء عنها وقد غدت جزءاً لا يتجزأ من الإيرادات الثابتة للموازنة العامة المصرية وعنصر دعم وتوازن لميزان المدفوعات المصري؟
 
إن حجم هذه المعونات والمساعدات لا يستهان به، فهو إيراد ريعي لا يقل شأناً عن بقية الإيرادات الريعية الرئيسية للخزينة المصرية مثل دخل قناة السويس وإيرادات مبيعات المنتجات الهيدروكربونية (النفط والغاز) ونحوها . ففي إطار صفقة اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات بالنيابة عن مصر ووقعها رئيس الحكومة “الإسرائيلية” مناحيم بيجن في عام ،1979 تقدم الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية لمصر بواقع حوالي 1،8 مليار دولار سنوياً، ما يجعل مصر ثاني أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية في العالم بعد “إسرائيل” . في العام الماضي فقط قدمت واشنطن لمصر 1،3 مليار دولار لتقوية الجيش المصري و250 مليون دولار لدعم اقتصادها و1،9 مليار دولار للتدريب على تقوية التعاون العسكري الأمريكي، إضافة إلى تسليح مصر سنوياً بمعدات عسكرية فائضة عن حاجة البنتاغون تساوي قيمتها مئات ملايين الدولارات . وقد طلبت إدارة الرئيس باراك أوباما من الكونغرس اعتماد نفس مخصصات هذه المساعدات لعام 2011 .
 
من غير المنطقي، والحال هذه، أن تتخلى مصر عن مثل هذه الامتيازات والمعاملة التفضيلية التي توفرها العلاقة الخاصة التي تربط مصر بالولايات المتحدة . فلسوف يتطلب الأمر إدارة حاذقة وماهرة للتعامل مع هذه الإشكالية بما يوازن بين أخذ مصالح مصر الوطنية والقومية في توجهات سياستها الخارجية (والداخلية بالضرورة) وبين الأخذ في الاعتبار خصوصية علاقة مصر بواشنطن . هذا على المدى القصير والمتوسط . وعلى المدعى الأبعد سوف يتعين على مصر التفكير في العمل التنموي المستقبلي بعيداً عن تلك المعونات والمساعدات .
 
ثم إن الكونغرس الأمريكي سوف يتابع ويراقب اتجاهات السياسة الخارجية المصرية في عهدها الجديد، وسوف يلوح بسلاح المعونات والمساعدات كلما اقتضى تنبيه النظام الجديد في مصر إلى عدم موافقته عليها، بل إنه من الراجح جداً أن يعمد إلى تقليصها كلما نوقشت بنود الموازنة العامة الأمريكية في الكونغرس .
 
خالص القول إن النظام الجديد في مصر ليس مطالباً على الإطلاق بالابتعاد عن العلاقات المتينة التي تربط مصر بالولايات المتحدة، فمصر بأمس الحاجة لهذه العلاقات ولهذه الدولة العظمى الأولى في العالم، ولكن في استطاعة النظام المصري الجديد أن يستفيد من نماذج الهند والصين والبرازيل التي تحتفظ بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وفي الوقت ذاته تحتفظ لنفسها بهامش من الاستقلالية الحصيفة الذكية . ويعتقد أن مصر تتوفر على رصيد كبير من الحنكة السياسية التي تؤهلها للقيام بهذا الدور .