المنشور

تبادل المقاطعة أو تبادل الانتحار


أن يتحدث سمو ولي العهد أمام جمع من التجار وأصحاب الأعمال عن كراهة المقاطعة الحاصلة في البحرين بين أبناء الشعب الواحد تجاه بعضهم البعض؛ فهذا يعني أن الأمر تعدى مسألة السكوت على أمل أن يثوب الناس إلى رشدهم… الأمر تعدى كل الحدود بالفعل حتى بات في أقصى درجات القبح على كافة الأصعدة.

فمنذ أشهر ودعوات المقاطعة وقوائم المحلات تدور بين الناس، للحث عن عدم الشراء والتعامل مع من لا يتفقون معهم في التعبير أو الرأي السياسي المرتبط – في الغالب – بشكل طائفي، وذلك بقصد فرض طوق من الحصار الاقتصادي على المحلات التجارية والمصالح المختلفة التي يديرها الفريق الآخر، بحسب موقع الفرد من أيٍّ من الضفتين. وفي النهاية إزاحة الطرف المتضرر من السوق، وهذا هو – بحسبهم – النصر المبين.

وربما يدري، أو لا يدري أن من يُعدّ قائمة بأسماء الأشخاص والمحلات والخدمات التجارية والصحية والتعليمية والتدريبية والتجارية بشكل عام، ويعد أيضاً قائمة يدعو فيها إلى التركيز على من يقابلهم من طائفته التي هي في الغالب من أهل رأيه السياسي، وإكثار الشراء منهم حتى يقوى عودهم في الوقت الذي تلين فيه شوكة “الألدّاء”؛ أنه بذلك يعد القائمة للطرف الآخر الذي يجدد بها قائمته المعاكسة للمقاطعة والممالأة، فكلٌّ يغذي الآخر بالجنون والتمادي والعمه في هذا الضلال.

منذ أيام كتب أحدهم على صفحته في فيس بوك نقلاً عن رجل معتبَر يتحدث عن تاجر أنه يفاخر بأنه دعم أحد التوجهين بقوة، وأنه لن يتراجع في دعمه حتى لو أتى ذلك على تجارته وماله وكل ما يملك. ومع كل التحفظات على العنتريات أياً كان مصدرها، فقد سألته: وما اسم هذا التاجر؟ لماذا لم يصرح به الناقل؟ لأنه من أسهل الأمور أن يُنسب الخبر إلى مجهول، كما اعتاد المتحمسون في السنوات الأخيرة على القول “أثبت الطب الحديث..” أو “جاء في آخر الاكتشافات…”، ولا أحد في الغالب يسأل عن المصدر إن كان صحيحاً وموثوقاً أم لا. ففي حالة هذا الرجل الناقل، كان حرياً أن يتحلى بالجرأة والصراحة ليقول لمستمعيه اسم التاجر الذي قال ما قال لأنه في النهاية لم يقل سراً، بل صرح به على الملأ، وهذا ما جعل جانباً من الناس يأخذون منه موقفاً، ويصدون عنه صدوداً، وينفضّ بعضهم عنه وعما يتاجر به، إما نفوراً والتزاماً مبدئياً بالمقاطعة، وإما حياءً من الآخرين واتقاء للقيل والقال ودرءاً لأية شبهة كانت. فكان إطلاق هذا الخبر على عواهنه واحدا من الكثير من الطلقات التي لا تتوقف في التبادل.

كما كتبت إحدى الزميلات قبل أيام أيضاً، وعلى الموقع نفسه، تحث على مقاطعة “الخونة” لإضعافهم وخنقهم، وكان حرياً طرح السؤال: إن كانوا هؤلاء التجار البحرينيين خونة، فلم لا يحاسبهم القانون؟ لماذا هم إلى الآن طلقاء؟ هل هذا قصور في القانون إذ لم يشملهم، أم ضعف في التطبيق الذي لم يطلهم؟ ذلك لأن مثل هذه الألفاظ، وهي أيضاً كثيرة، كمرتزقة، وخونة، وصفويين، و بلطجية، وغيرها كثير مما يعاب قوله، ولا يسمح قانون المطبوعات بسرده، بل ويترفع الإنسان السوي عن النطق به؛ طغى ترديدها في الشهور الأخيرة، وباتت من المفردات اليومية خصوصاً لدى الذين تحمسوا فوق المعتاد والطاقة. والمعروف أن كل شيء يتكرر ويكثر تردده وترديده، يفقد قيمته ومعناه، فيمكن تسميته هنا بـ “ابتذال اللفظ” حتى يغادر المصطلح مجاله ويتحول إلى مسخ لفظي ولا يعود له وجه.

ربما جهلاً مني أو قلة اطلاع عندما أقول بأنني قرأت عن أشكال كثيرة من المقاطعة، يقوم بعضها على أساس دولي، كمقاطعة الكثير جداً من دول العالم النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا، أو لأساس قومي سياسي كمقاطعة الدول العربية (سابقاً) للكيان الصهيوني، أو كما يحدث في مواسم أن تقاطع الولايات المتحدة إن طفح الكيل وزاد الماء على الطحين في العربدة الصهيونية وحماية البيت الأبيض لها، أو المقاطعة الاقتصادية كما حدث في اليابان شعبياً مع المنتجات غير اليابانية لتشجيع الصناعات المحلية، ولكن أن يقاطع شعب نفسه وبهذا الشكل الواسع والممنهج، فهذا لعمري أسمعه لأول مرة في حياتي، وإنه لمن الصاعق حقاً إلى حد الشلل أن يشهد المرء المجاهرة بالمقاطعة البينية، وتبريرها، والترويج لها بخفة ورعونة ما سبقتنا إليها أي من الأمم، وإن سبقتنا إحداهن، فليس من الحصافة والنضج تقليد السيء والمنحرف من النماذج والتجارب والأفكار.

لنمضي شوطاً في الجنون الأعمى الذي يقود البعض، ونأتي إلى ما بعد “النجاح” المفترض لهذه المقاطعة، ولنقل أن إحدى الطائفتين (لا قدّر الله) انتصرت وأفقرت الأخرى، ما الذي ينتظره المجتمع؟ أن تعيل الطائفة المنتصرة الأخرى المندحرة؟ أن تجر طائفة الأخرى إلى القاع معها وتعطلها، بمعنى أن تعطل البلاد كلها عن النمو والازدهار والتقدم الذي نعد أنفسنا به؟ هل تنتظر الطائفة المنتصرة من المُفقر إلا أن يثور عليها، وأن تتجاوز ردود فعله الدمدمة والهمهمة و”التحلطم” إلى العنف الحقيقي، والسرقات والنهب والازدراء وبث الخوف والرعب في القلوب؟ هبْ أن نصف البحرينيين أصبحوا فقراء، فهل سيُسعد هذا تجار النصف الآخر حينما يفقدوا نصف سوقهم المتوقعة؟ هل كتب علينا أن نعيش تجارب الأمم التي سبق لها أن تجاوزتها منذ عقود، وأسمتها اليوم بالأفكار القديمة البالية، تلك التي تريد أن تأخذ كل شيء ولا تترك للآخرين شيئاً لأن ذلك سلاح يرتد على صاحبه؟ إذ كانت الدول الاستعمارية في سالف القرون تنهب خيرات الدول المستعمرة وتكدسها في عواصمها الثرية، حتى أتخمت الدول الغنية ولكن الأموال لا تدور إذ لا أسواق تدور فيها، فعادت بعد قرون إلى تحسين معيشة الدول الأقل غنى وثراء، وتحاول أن ترفع من قدراتهم في كل المجالات ليصبحوا في النهاية قادرين على أن يمتلكوا ما وراء قوت يومهم ليشتروا من تدور من أجله المصانع بمختلف أشكالها، من الصناعات الأساسية إلى سلع الترفيه المتنوعة.

جلست قبل أسابيع قليلة إلى ناشط سياسي معروف بحراكه وحدته في المواقف، فزفر قائلاً “كنت أتمنى لو أن الله أخذ أمانته قبل أكثر من ثلاثين سنة لكي لا أعيش هذا الواقع”… اليوم عندما نرى ما نحن عليه نتذكر أن قرار مقاطعة “إسرائيل” كان قرار الدول العربية. وفي 1982 كانت هناك دعوة للمقاطعة على المستوى الشعبي للبضائع الأميركية إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عاد العرب للمقاطعة في الانتفاضات المتلاحقة، ولو لبضعة أيام أو أسابيع، قاطعوا المنتجات الدانمركية بعد الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم واليوم البحرينيون يقاطعون بعضهم لانقسامهم السياطائفي، أو بالأصح: “الطائياسي”…ما أبعد الله عن البارحة… ما أتعسنا. 
 

جريدة البلاد 13 أكتوبر 2011