المنشور

القراءات التأشيرية والقراءات التهويمية


استمعت مؤخرا لحوار أجرته احدى المحطات الاذاعية الأجنبية الناطقة بالعربية مع نخبة من الخبراء السياسيين المصريين على هامش استعدادات مصر لخوض الجولة الأولى من أول انتخابات رئاسية مصرية تُجرى بعد تنحية الرئيس السابق حسني مبارك. وقد تم تكريس الوقت المخصص للبرنامج لاستعراض ومقارنة ثلاثة عهود من الحكم تعاقبت على مصر منذ اطاحة الملكية في عام 1952..عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وعهد الرئيس الراحل أنور السادات وعهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومحاولة عقد مقارنة بين العهود الثلاثة، وما الذي يمكن أن يخبئه العهد الرابع القادم لمصر في ضوء ما انتهت اليه تداعيات الأحداث منذ “الخروج الشعبي الكبير” من خيارات انتخابية، وترتيبا تنموية مصيرية، سوف ترسي في نهايتها على أحدها الذي سيؤسس للعهد المصري الجديد أو الجمهورية الرابعة ان شئتم (اسقاطا على تسميات العهود الرئاسية في فرنسا).
 
ومع ان المقارنات كانت معقولة في تقييماتها للمظاهر المعروفة لما أنتجه كل عهد من العهود الثلاثة، الا ان مداخلة أحد المشاركين في الحوار هي التي كانت لافتة، ربما بسبب اصرار صاحبها على اسلوب تقرير “الحقائق” دون مساءلتها وتكرار ذات العبارات التقريرية المقررة بصورة حاسمة بأن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لم يكن يملك مشروعا بقدر ما كانت لديه طموحات!
 
وكان يمكن لهذا القول التقريري القاطع أن يكون مقنعا لو أن مردده قد أقرنه بقرائن ثبوتية، أما وقد اكتفى صاحبه بترديده باصرار عجيب، فهو لا يعدو أن يكون كلاما مرسلا ليس له ما يسنده لا من الواقع ولا من زاوية المنهاج العلمي في تقصي الظواهر والحالات والمواضيع المدروسة وتحليلها.
 
والحال ان التقييم كان شخصيا أكثر منه تقييما لتجربة تنموية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية امتد بها العمر في الحكم ثمانية عشر عاما. وحتى مع التسليم بالطابع الفردي للحكم الناصري، فان التقييم الشخصي في هذه الحالة سوف يصبح مقبولا ومعقولا جدا لو أن المقيِّم تحرى الموضوعية في استعراض ايجابيات الشخصية محل التقييم بجانب سلبياتها وليس اللجوء للتعسف في بناء الموقف الرغائبي المسبق والذي لم يكن خلوا من الكيد بالمطلق.
 
على أية حال، لندع هذا جانبا ونحاول البحث عن اجابة على السؤال البالغ الأهمية والتي تستزيدها أهميةً، الأحداث التي تغلي بها الساحة المصرية منذ فجر العام الماضي، وهو: هل كان لدى جمال عبدالناصر ما يمكن ان نطلق عليه، ليس اعتباطا وانما علميا، مشروعا يمكن الاستدلال عليه وعلى أوجه تجليه؟
 
أعز الله وأمد في عمرك يا أستاذنا الفاضل علي الشيراوي، البحريني والعربي القومي الأصيل، فلقد كنت باخلاصك وتفانيك الوطني كمدرس لنا في مادة التاريخ، سببا في تشكيل وعينا الخام وفهمنا لتاريخ أمتنا الحديث بكل ايجابياته وسلبياته وبضمنه المبادىء أو الأهداف الاساسية لثورة 23 يوليو التي فجرتها مجموعة من الشباب الغاضب في الجيش المصري على فساد مؤسسة الحكم الملكي توافقت فيما بينها وشكلت تنظيما سريا أطلقوت عليه تنظيم الضباط الأحرار، والأهداف كما نتذكرها الى اليوم هي: القضاء على الاقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، اقامة حياة ديمقراطية سليمة، اقامة جيش وطني قوي، اقامة عدالة اجتماعية.
 
وكما هو واضح، فان أولئك الضباط الشباب لم يكونوا سُذّجا ولا مجرد مغامرين اعتباطيين مغرر بهم عندما خططوا ورسموا ونفذوا تحركهم للاستيلاء على الحكم. ومع ان أهدافهم تلك لم تكن عادية بالمطلق وانما انطوت على فعل وتحول ثوري جذري في البنى التقليدية السياسية والاقتصادية وموازين القوى الاجتماعية والثقافية في مصر، الا انهم استطاعوا بشجاعتهم واقدامهم ان ينفذوها بنسبة 70% تقريبا. وهذه هي المؤشرات الكمية والنوعية، اعتبارا بأن أي عملية، مهما كان نوعها، غير قابلة للقياس، لا يمكن الاعتداد بصحتها سوى بالكلام المرسل لا على التعيين:
 
-         اجلاء قوات الاحتلال البريطاني من مصر، وامتلاك القائد الحقيقي للثورة وزعيمها المتوج فيما بعد، وهو جمال عبدالناصر، من جرأة تحويل مسار وصناعة التاريخ ما أهله للتقدم لانهاء سيطرة رأس المال البريطاني والفرنسي على أهم مرفق مائي في العالم وأكثرها حيوية واستراتيجية من الناحيتين الاقتصادية والأمنية ونعني بذلك قناة السويس، واعادة ملكيتها الكاملة لأول مرة منذ أن حفرتها سواعد المصريين، الى  الحيازة المصرية الخالصة، وهو ما أدى الى قيام بريطانيا وفرنسا ومعهما اسرائيل لشن عدوان 1956 على مصر الذي لم يسفر سوى عن تثبيت سيادة مصر النهائية على مرفقها المائي. واليوم فان قناة السويس تشكل ثاني أهم مصدر من مصادر ايرادات الخزينة المصرية بعد الهيدروكربون (الغاز الطبيعي أساسا) بايرادات بلغ اجماليها في عام 2011 5.22 مليار دولار بزيادة حوالي نصف مليار عن عام 2010 وفقا لرئيس مجلس ادارة القناة أحمد فاضل (وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية 15/1/2012). ولك أن تقارن من زاوية اقتصاديات التكاليف بين هذا الايراد المالي ذي المصدر المتجدد والمستدام (Renewable and sustainable financial revenue) وبين اجمالي التحويلات المالية السنوية للعمال المصريين في الخارج الى بلادهم والمقدرة بحوالي 7.8 مليار دولار! وانه حتى لو استبعدنا الكلفة الباهظة جدا لحصد هذا الايراد ببيع قوة عمل ضخمة جدا قوامها حوالي 2.7 مليون مهاجر مصري (احصاء 2009)، فانه لابد من التوضيح بأن هذا الايراد لا يدخل خزينة الدولة ولا يشكل جزءاً ثابتا ومضمونا منها على عكس دخل القناة، ولكن مع الاستدراك أيضا بأن تحويلات العاملين في الخارج تشكل ركيزة أساسية لدعم ميزان مدفوعات الدولة.
-          
-         اصدار قانون الاصلاح الزراعي في 9 سبتمبر/أيلول 1952، حيث تم بموجبه تأميم أراضي كبار الاقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين. ويندرج في هذا الاطار القرار الذي لا يقل جرأة واقداما عن قرار استعادة مصر لملكيتها الكاملة على مرفق قناة السويس، والذي اتخذه جمال عبدالناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة، وهو المتعلق بالسير قدما في انشاء سد أسوان العالي أو السد العالي بمساعدة 400 خبيرا من الاتحاد السوفييتي والذي شطب ثلث قيمة هذا المشروع التنموي الاستراتيجي الحيوي التي بلغت مليار دولار، بعد رفض البنك الدولي تمويل المشروع. وبخلاف زيادته للرقعة الزراعية أفقيا ورأسيا وتمكينه القطاع الفلاحي المصري من زراعة محاصيل أكثر وبواقع ثلاث زرعات كل سنة نتيجة توفيره المياه، ومساهمته في زيادة طاقة توليد الكهرباء للاقتصاد المصري، فقد عمل السد على حماية مصر من الفيضانات والجفاف أيضا نتيجة لتقليل بحيرة ناصر من اندفاع مياه الفيضان وتخزينها عوضا عن ذلك للاستفادة منها في سنوات الجفاف.
-          
-         تعميم التعليم المجاني الذي استفادت منه الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري، وهو ما أسهم في خلق مئات آلاف الكوادر التي تنعم بها مصر اليوم في جميع حقول العلم والمعرفة تقريبا.
 
-         وللحديث صلة   -أان